موسوعة الفقه الاسلامی المقارن المجلد 2

اشارة

سرشناسه:مکارم شیرازی، ناصر، 1305 -

عنوان و نام پدیدآور:موسوعه الفقه الاسلامی المقارن / تحت اشراف مکارم الشیرازی.

مشخصات نشر:قم: دارالنشرالامام علی بن ابی طالب علیه السلام، 1390 -

مشخصات ظاهری:ج.؛ 21×29 س م.

شابک:دوره 978-964-533-150-2 : ؛ ج. 1: 978-964-533-164-1

یادداشت:عربی.

موضوع:فقه تطبیقی

رده بندی کنگره:BP169/7/م73م8 1390

رده بندی دیویی:297/324

شماره کتابشناسی ملی:3235439

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

تمهید

بسم اللّه الرحمّن الرّحیم

نظرة سریعة لمضمون الکتاب

إنّ المسائل الاقتصادیّة فی المجتمعات البشریّة کانت دوماً لها الأولویّة فی المجتمع البشری، والکثیر من الحوادث التاریخیة: الحروب، الصلح، الاتحاد، الانفصال، وحتی اتّجاه العلوم والمعارف والفلسفات البشریّة تتوجه فی حرکتها باتّجاه المسائل الاقتصادیّة، حتی أنّ بعض المدارس المادیّة سلکت فی خط الإفراط فیها وقررت أنّ المحرک لجمیع الحرکات الاجتماعیّة للبشریّة علی إمتداد التاریخ یکمن فی الاقتصاد، وأطلقوا علیه اسم: القوّة المحرکة للتاریخ.

وفی عصرنا الحالی نری أنّ تأثیر الأمور الاقتصادیّة علی حرکة التاریخ تزداد وتتعمق أکثر فأکثر، لأنّه من جهة فإنّ مظاهر الحیاة المادیّة صارت أکثر تنوعاً وجاذبیة، ومن جهة أخری، فإنّ الارتباط الشدید والعلاقة الوثیقة بین الشعوب والمجتمعات البشریّة زادت من حدة المنافسة فیما بینها، ومن جهة ثالثة، فإنّ البشر وبسبب غلبة التفکر المادی بات أکثر حرصاً وتعلقاً بالدنیا.

وفی هذا المجال فإنّ الاقتصاد الإسلامی بخصوصیاته ومعطیاته من شأنه الدخول فی معترک الصراع للمجتمعات البشریّة فی العالم وتقدیم اطروحة جدیدة ورسالة حضاریّة لجمیع الشعوب فی العالم والتی تقوم علی الاسس التالیة:

1. إنّ الاقتصاد المادی فی العالم المادی قد وصل إلی طریق مسدود، وتتبیّن آثار إخفاقه وفشله فی إدارة المجتمع البشری یوماً بعد آخر، ولیس فقط الشعوب الضعیفة تأثرت بنتائجه السیئة، بل إنّ الدولة المتقدمة أیضاً وقعت فی ورطة کبیرة داخل هذه البلدان.

2. إنّ الاقتصاد الحالی لا یصل إلی نتیجة متوخاة مع سحق جمیع القیم الأخلاقیّة والمثل الإنسانیّة، بل إنّ السبب فی فشله الذریع یعود إلی هذا العامل أیضاً.

3. إنّ الأصول الحاکمة علی الاقتصاد العالمی تشکل عاملًا أصلیاً فی غالبیة الحروب وسفک الدماء

ص: 6

والاضطرابات السیاسیّة فی عصرنا الحاضر، ومع استمرار هذا الاقتصاد ودوامه، فإنّ العالم لا یعیش حالة الاستقرار والإزدهار أبداً، ویتجلّی فی هذا المورد معنی الحدیث الشریف:

«حبُّ الدّنیا رأسُ کلِّ خطیئةٍ».

4. نحن نعتقد بأنّ الاقتصاد الإسلامی مقترن فی هیکلیته وأبعاده وتفاصیله بالمسائل الأخلاقیّة وقیم الفضیلة، حیث یشکل عنصر العدالة الأساس والمحور لهذا الاقتصاد وبالتالی یمکنه الخروج من هذه المآزق وکسر هذه الأطواق وإعادة الصلح والأمن إلی أجواء المجتمعات البشریّة بعیداً عن کلّ أشکال الاضطرابات وعدم الاستقرار فی واقع الحیاة.

وللأسف فإنّ الکثیر من البلدان الإسلامیّة ترکت تعالیم الإسلام فی المسائل الاقتصادیّة وتحرکت بصورة عمیاء خلف المدارس والتیارات الاقتصادیّة الغربیة المادیّة بکلّ ما فی الکلمة من معنی، وبالتالی تعرضت دعائم اقتصاد هذه الدول الناشئة لضربات شدیدة، ومن هذه الجهة عاشت التبعیة الشدیدة للبلدان الأجنبیة، وهذه التبعیة الاقتصادیّة، والتی تمتد فی جذورها إلی التبعیة الثقافیّة والسیاسیّة، هی فی الحقیقة نوع من العبودیّة للأجانب، وهذه الحالة تعد مصیبة کبیرة وجرح عمیق وتحدٍّ سافر یواجه علماء الإسلام.

5. إنّ النظام الاقتصادی فی الإسلام یقوم علی أصل أساسی وهو مواجهة الفقر، والطریق للوصول إلی هذا الهدف یکمن فی مواجهة إکتناز الثروات من جهة، وتجسید الزهد الإسلامی بمعنی الحیاة البسیطة واجتناب الترف والمعیشة التجملیة من جهة أخری، والتصدی لکلّ أشکال الإسراف والتبذیر من جهة ثالثة، والحرکة الجادة والمبرمجة فی مجال تحقیق العدالة وتقلیل الفواصل الطبقیّة من جهة رابعة، وهذه هی الأصول التی لا یعترف بها الاقتصاد المادی فی الغرب بل یتحرک فی الخط المقابل لها ویسبغ علی حالات الانحراف لباس القانون أیضاً.

6. ومن خصوصیات الاقتصاد الإسلامی، هو أنّه لا یبیح کلّ نشاط اقتصادی علی أساس من الحریة المطلقة وبدافع من «الربح الأکثر» و «الجهد الأقل»، وبأخذ الضرائب من المراکز الرسمیّة للقمار والفحشاء وأمثالها فیما یضعها تحت حمایته ورعایته، ولیس هو من قبیل الاقتصاد المغلق الذی یجعل جمیع مصادر الإنتاج ومنابعه تحت اختیار الحکومة ویری أنّ جمیع أفراد المجتمع بمثابة العبید للحکومة.

7. إنّ القدرة الاقتصادیّة فی الاقتصاد الإسلامی تتمحور حول مقولة خدمة المجتمع علی أساس:

«وَابْتَغِ فِیمَا آتَاکَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِیبَکَ مِنَ الدُّنْیَا وَأَحْسِنْ کَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَیْکَ»

وهذا لیس فقط لا یشکل عیباً للاقتصاد الإسلامی بل یعد افتخاراً له أیضاً، فی حین أنّ إکتناز الأموال وتراکم الثروات المقترن بالبخل، یعتبر بحکم الآیة الشریفة:

«وَالَّذِینَ یَکْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا یُنفِقُونَهَا فِی سَبِیلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِیمٍ»

عیباً کبیراً ومعصیة موبقة، قد ورد الوعید الإلهی بالعذاب الشدید علیها.

ص: 7

8. إنّ التنمیة الاقتصادیّة، بالمدارک والمستندات المهمّة الموجودة فی هذا الکتاب، مطلوبة ومحبذة وهی مورد اهتمام الإسلام، ولکن مع أی قیمة؟ وبأی کیفیة وبأی صورة؟ هل مع هدم اقتصاد الآخرین ونهب ثرواتهم واستعمارهم، وصیرورة قسم کبیر من العالم أسیراً بید قسم صغیر منه؟ أو من خلال الحرکة فی خط التعاون والتکاتف بین البلدان والشعوب المختلفة علی أساس

«تَعَاوَنُوا عَلَی الْبِرِّ وَالتَّقْوَی».

لا شک فی أنّ الإسلام یختار الطریق الثانی، ویری بأنّ الطریق الأوّل مخالف لجمیع القیم الأخلاقیّة والمثل الإنسانیّة وهو جریمة کبیرة ووحشیة فی حقّ الشعوب الأخری وخلافاً لما یتصوره البعض فإنّ رعایة القیم الأخلاقیّة، لیس فقط لا یقف أمام التنمیة الاقتصادیّة، بل یزیدها عمقاً وإزدهاراً وثباتاً، کما سنری فی معالم هذا الاقتصاد فی هذا الکتاب.

9. إنّ تشیید البناء الثقافی من أجل الوصول إلی اقتصاد مطلوب ومبتنی علی أصول العدالة والأخلاق، یعتبر من جملة الأمور التی أخذها الإسلام بنظر الاعتبار،: لأنّه من دون إشاعة هذا الجو من الثقافة السلیمة فإنّ تحقیق ذلک الهدف الکبیر عسیر جداً وغیر ممکن، وطبعاً سنبیّن هذه الحقیقة فی هذا الکتاب مع تقدیم الأصول الکلیّة الحاکمة علی الاقتصاد الإسلامی.

10. أحیاناً یتصور البعض، من الذین لا یحیطون علماً بحدود وثغور التعالیم الإسلامیّة فی مجال المسائل الاقتصادیّة، وبذریعة أنّ الاقتصاد الإسلامی جاء لمجتمع ساذج وبدائی مثل مجتمع صدر الإسلام الذی یقوم علی أساس الزراعة والرعی، إنّ مثل هذا الاقتصاد یفقد فاعلیته فی الاقتصاد الجدید المعتمد فی البلدان الصناعیّة المعقدة فی العالم المعاصر، وبذلک لا یجدون میلًا لمطالعة قوانین الإسلام الاقتصادیّة، ویتوجهون نحو المدارس والمذاهب الاقتصادیّة الغربیة.

وهذه الجماعة، وهم فی الغالب ممن تعلموا فی الجامعات الأوربیّة والأمریکیّة وعاشوا الإنبهار بالتقدم الصناعی والغول التکنولوجی لهذه البلدان، فلم یجدوا فی أنفسهم رغبة فی بذل الجهد لمطالعة آثار علماء الإسلام فی مجال المسائل الاقتصادیّة الإسلامیّة، ومقارنتها بالاقتصاد المادی فی الغرب وما ترتب علیه من آثار سیئة ونتائج وخیمة.

ومن جهة أخری فهؤلاء تصوروا أنّ المسائل المستحدثة، التی تقع فی قالب عدد کبیر من أنواع الشرکات والمعاملات الجدیدة والمبادلات الاقتصادیّة الحدیثة، خارجة عن دائرة الأحکام الاقتصادیّة فی الإسلام، وأنّ الفقه الإسلامی لا یملک جواباً علی هذه المسائل الجدیدة التی لم تکن فی عصر نبی الإسلام صلی الله علیه و آله ومن هنا یتهمون الفقه الإسلامی بالقصور عن إیجاد الأجوبة والحلول للمسائل الاقتصادیّة الجدیدة.

إنّ بحوث هذا الکتاب تشیر إلی هذه الحقیقة، وهی أنّ هؤلاء یتحرکون فی خط الوهم والخطأ وأننا نستطیع وعلی أساس الأصول والقواعد المحکمة والمستنبطة من الکتاب والسنّة، وعلی أساس من کون الإسلام دیناً

ص: 8

خالداً وعالمیاً وشاملًا لکلّ زمان ومکان، من تقدیم الأجوبة والحلول لهذه المسائل وحتی المسائل الجدیدة الأخری التی ستقع فی المستقبل فیما یتصل بالعلاقات والمعاملات الاقتصادیّة.

وکما أشرنا فی الجزء الأوّل من هذا الکتاب أنّ بحوث هذا الکتاب تقوم علی أساس الفقه المقارن، وناظرة إلی فتاوی وآراء الفقهاء فی المذاهب المختلفة ولا تبحث هذه المواضیع من وجهة نظر فقهاء الشیعة فقط، رغم أنّ کتّاب هذه الموسوعة والقائمون علیها هم من علماء وفقهاء الشیعة.

*** والتذکیر بهذه النقطة ضروری أیضاً، وهی أنّ مواضیع المجلد الحاضر (الجزء الثانی لدائرة المعارف للفقه المقارن) هی فی الواقع کلیات ومقدمات للورود إلی جزئیات المسائل الاقتصادیّة، وسنتحرک إن شاء اللَّه فی الجزء الثالث نحو المعاملات الممنوعة والمحرمة والروابط الاقتصادیّة غیر السلیمة فی نظر الفقه الإسلامی، کما یصطلح علیها ب «المکاسب المحرمة»، وطبعاً بصورة أوسع بکثیر ممّا ورد فی الکتب الفقهیة القدیمة، لأنّ المسائل المستحدثة فی هذا الباب کثیرة جدّاً، نأمل أن تکون المبانی والأصول الکلیّة المتعلقة بالمسائل الفقهیة، والتی وردت فی الجزء الأوّل من هذا الکتاب، والأصول الکلیّة الناظرة فی خصوص المسائل الاقتصادیّة المذکورة فی هذا المجلد، مفتاحاً تفتح الطریق بشکل کامل للورود إلی دائرة المسائل المذکورة وتسلیط الضوء علیها لفتح آفاق جدیدة للقراء الأعزاء لدراسة المسائل المستقبلیة.

وعلی أمل التوفیق أکثر لجمیع القراء الأعزاء ومع تقدیم الشکر لجمیع الکتّاب والمعاونین الفضلاء والعلماء الذین ساهموا فی إخراج هذا الکتاب بالشکل المطلوب وتحملوا فی هذا السبیل متاعب کثیرة.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنا لِما تُحِبُّ وَتَرْضی وَسَهِّلْ لَنا ما نَخافُ تَعْسِیرَهُ فَإِنَّ ذَلِکَ عَلَیْکَ سَهْلٌ یَسِیرٌ وَانْتَ عَلی کُلِّ شَیْ ءٍ قَدِیرٌ وَبِالْإِجَابَةِ جَدِیرٌ.

قم- الحوزة العلمیّة

ناصر مکارم الشیرازی

شهر جمادی الثانی 1431 ق

ص: 9

القسم الأوّل: الکلیّات

اشارة

البحث الأوّل: التعاریف

البحث الثانی: أهمیّة الاقتصاد والقدرة المالیّة فی نظر الإسلام

البحث الثالث: الاقتصاد العالمی بین الأزمات والطرق المسدودة

البحث الرابع: المسائل المستحدثة فی الاقتصاد الإسلامی

ص: 10

ص: 11

(1). التّعاریف

اشارة

1. الاقتصاد

2. علم الاقتصاد

3. النظام الاقتصادی

4. المذهب الاقتصادی

5. المذهب، والنظام الاقتصادی فی الإسلام

6. علم الاقتصاد الإسلامی

ص: 12

ص: 13

التعاریف

1. تعریف الاقتصاد

إنّ مفردة «الاقتصاد» فی اللغة العربیة تعنی الإعتدال، الاقتصاد(1) وکلمة «مقتصد» وردت فی آیات من قبیل:

«فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَی الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ»(2)

و

«فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ

وَمِنْهُمْ سَابِقُ بِالْخَیْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ»(3)

وتعنی «المستقیم» وهو ملازم للوسطیة والاعتدال.

2. تعریف علم الاقتصاد

قالوا فی تعریف «علم الاقتصاد» والذی یعبّر عنه ب «الاقتصاد التحلیلی» أیضاً، ما یلی:

أ) «علم الاقتصاد عبارة عن دراسة الأسالیب والمناهج التی یستخدمها البشر بواسطة المال أو بدون واسطته لغرض استثمار المنابع القلیلة فی إنتاج وتوزیع البضاعة والخدمات»(4).

ب) «علم الاقتصاد هو العلم الذی یفسر الحیاة الاقتصادیّة فی المجتمع ویبیّن الظواهر الاقتصادیّة وحالاتها، وکذلک علاقة هذه الظواهر والتجلیات مع الأسباب والعوامل الکلیّة الحاکمة علیها»(5).

ج. «علم الاقتصاد أو الاقتصاد التحلیلی، هو العلم الذی یدرس سلوکیات البشر فی مجال الإنتاج، والتوزیع والمصرف لبیان قدرة الظواهر الاقتصادیّة والتنبؤ بها»(6).

وتبیّن من مجموع هذه التعاریف أنّ الاقتصاد هو أحد العلوم الاجتماعیّة الذی یهتم بدراسة وتحلیل النشاطات الفردیّة والجمعیّة المتعلقة بانتاج ومبادلة واستهلاک أنواع البضاعة والخدمات، یعنی أنّ مهمّته


1- انظر: المعجم الوسیط، المفردات« قصد».
2- سورة لقمان، الآیة 32.
3- سورة فاطر، الآیة 32.
4- الاقتصاد، بل ساموئلسن، ج 1، ص 6.
5- اقتصادنا، الشهید الصدر، مطبعة مکتب الإعلام الإسلامی، 1375 ش، ص 44.
6- مقدمة علی الاقتصاد الإسلامی( درآمدی بر اقتصاد اسلامی» بالفارسیّة، مکتب التنسیق بین الحوزة والجامعة، مطبعة سلمان الفارسی، 1363 ه ش، ص 11.

ص: 14

تهدف لبیان المظاهر والسلوکیات الاقتصادیّة وتفسیر الحالة الاقتصادیّة الموجودة أو تفسیر الحالة التی ستقع فی المستقبل بدون الحکم علی حسن أو سوء هذه المظاهر، مثلًا یبیّن ما هی العوامل التی تتسبب فی البطالة أو التضخم، أو ما هی النتائج المترتبة علی البطالة فی المجتمع.

3. تعریف النظام الاقتصادی

ذهب البعض إلی أنّ النظام الاقتصادی (أو المنظومة الاقتصادیّة أو المذهب الاقتصادی طبقاً لبعض التراجم (1)) یتکوّن من مجموعة من المبانی (2)، والأصول والقواعد الاقتصادیّة المختصة بنظام اقتصادی معین، والناظرة إلی أهداف معینة، مثل أصل الملکیّة الخاصّة، النفع الشخصی، الحریة الاقتصادیّة فی النظام الرأسمالی، أصل الملکیّة المختلطة من الجانب القطاع الخاص والحکومی، وبعبارة أخری الملکیّة الخاصّة المحدودة، والحریة المحدودة فی النظام الإسلامی (3).

وعلی حدّ تعبیر العلّامة الشهید محمّد باقر الصدر قدس سره، فإنّ النظام الاقتصادی (فیما لو کان مرادهم من المذهب هو النظام) عبارة عن الطریقة والاسلوب الذی یتخذه المجتمع فی حیاته الاقتصادیّة ویتحرک علی أساسه فی حلّ المعضلات العملیّة فی المجال الاقتصادی، ومن هذه الجهة لا یمکن أن نتصور وجود مجتمع بدون مذهب اقتصادی، لأنّ کلّ مجتمع فی عملیّة إنتاج الثروة وتوزیعها لابدّ له من اتّخاذ اسلوب معین لیتسنی له بواسطته تنظیم عملیاته الاقتصادیّة(4).

وعلی قول بعض آخر: «إنّ النظام الاقتصادی هو مجموعة من المعاییر السلوکیة التی تهدف إلی تنظیم ورسم أهداف معینة علی أساس المبانی الاعتقادیّة والقیم المشخصة، والتی تقوم علی ربط المشترکین فی هذا النظام مع بعضهم البعض ومع المنابع فی دائرة الاقتصاد»(5).

ولعل العبارة الأدق والأبلغ أن نقول: إنّ النظام


1- ورد تعبیر ب« المذهب الاقتصادی» فی کلمات الشهید الصدر رحمه الله ومترجم کتاب اقتصادنا( محمّد کاظم الموسوی) والدکتور حسین النمازی( انظر: الأنظمة الاقتصادیّة( نظام های اقتصادی)، ص 223) حیث ترجموها إلی« النظام الاقتصادی»، وسیأتی أنّه ربّما کان مراده من المذهب الاقتصادی هو النظام الاقتصادی.
2- ذهب البعض إلی أنّ المراد من المبانی فی هذا التعریف لیس بنایة المصانع والإدارات أو مراکز مبادلة السلع والبورصة وأمثال ذلک، بل المراد شکل خاص من النسق فی العلمیات الاقتصادیّة التی تربط المشارکین فیما بینهم، مثلًا السوق، الملکیّة الخاصّة، الهدیة، القرض، الضرائب، تعتبر من الأنساق الاقتصادیّة التی یجری تکریسها فی بنیة المجتمع عبر القواعد القانونیّة، والعقوبات الاجتماعیّة، والمنظومات العقائدیّة والثقافیّة( انظر: الفصلیة التخصصیة الاقتصاد الإسلامی( فصلنامه تخصصی اقتصاد اسلامی)، بالفارسیّة، السنة الاولی، العدد 3، ص 94، مقالة الإسلام والنظام الاقتصادی( مقاله اسلام ونظام اقتصادی) بالفارسیّة، السید حسین میرمعزّی). ویبدو أنّه لا ینبغی اعتبار الملکیّة الخاصة أحد السلوکیات، بل أحد الأصول التطبیقیّة فی بعض الأنظمة.
3- انظر: مبانی وأصول علم الاقتصاد( مبانی واصول علم اقتصاد)( بالفارسیّة)، الدکتور یداللَّه دادگر، الدکتور تیمور الرحمانی، مرکز انتشارات مکتب الإعلام الإسلامی، 1380 ه ش، ص 38.
4- اقتصادنا، ص 44.
5- الفصلیة التخصصیة( فصلنامه تخصصی)، الاقتصاد الإسلامی، اقتصادنا، ص 94.

ص: 15

الاقتصادی عبارة عن مجموعة من السلوکیات والعلاقات الاقتصادیّة التی تبتنی علی أصول عملیّة خاصّة ومبانی فکریّة وأخلاقیّة معینة وأهداف مشخصة، فالأصول والمبانی والأهداف تتولی ربط هذه السلوکیات والعلاقات الاقتصادیّة فیما بینها، کما أنّ تلک السلوکیات والعلاقات الاقتصادیّة تربط الأشخاص الحقیقیین والعناوین الحقوقیة الموجودة فی ذلک النظام (یعنی أعم من آحاد الناس والحکومة وسائر العناوین الحقوقیة) مع بعضهم البعض ومع الأموال والمنابع المقررة(1).

وبهذا البیان یتبیّن بشکل جلی المفتاح للمصطلحات والعناصر الأصلیّة فی تعریف النظام الاقتصادی، وهی عبارة عن:

أ) القواعد والاصول التطبیقیّة.

ب) المبانی الاعتقادیّة والأخلاقیّة.

ج) الأهداف والغایات.

د) السلوکیات والعلاقات الاقتصادیّة والتی یعبرّ عنها أحیاناً بالأنساق، وأحیاناً أخری بالنماذج السلوکیة العلائقیة، والتی تستوعب فی دائرتها السوق، بجمیع عقوده ومعاملاته، الهدیة، القرض، الضرائب وکذلک السلوکیات الاقتصادیّة الأخری من قبیل الإدّخار، المصرف، العمل، والإنفاق و ....

وما یشکل بنیة النظام الاقتصادی هو العنصر الرابع، یعنی السلوکیات والعلاقات الاقتصادیّة، هی التی تتمتع بالقواعد والأصول التطبیقیّة من جهة، وکذلک المبانی والأهداف من جهة أخری.

وجدیر بالذکر أنّ المراد من السلوکیات الاقتصادیّة لا یقتصر علی السلوکیات الاقتصادیّة للناس مثل المصرف، الإدّخار، العمل، والإنفاق، بل یشمل السلوکیات الاقتصادیّة للحکومة أیضاً، من قبیل التحقیقات والمطالعات، الصادرات والواردات للبضائع، السیاسات الاقتصادیّة العامّة، البرنامج والتخطیط، وضع القوانین، التدخل فی مسألة العرض والطلب فی السوق، جمع العوائد والضرائب کالأنفال، الخمس، الزکاة، الخراج، الجزیة، والضرائب الحکومیة.

4. تعریف المذهب الاقتصادی

یتبیّن من تعریف النظام الاقتصادی، تعریف «المذهب الاقتصادی» أیضاً، لأنّ المذهب الاقتصادی لیس سوی العنصر الثانی من العناصر الأربعة المذکورة آنفاً (المبانی الاعتقادیّة والأخلاقیّة)، لأنّه وخلافاً لما ذهب إلیه بعض مترجمی کتاب «اقتصادنا» وبعض علماء الاقتصاد، فإنّ المذهب الاقتصادی، کما ورد فی کلمات الشهید الصدر، لیس سوی العنصر الأوّل من العناصر الأربعة (یعنی القواعد والأصول التی تعین السلوک فی قالب اسلوب اقتصادی معین)، یقول الشهید الصدر: «ولا شک فی أنّ اختیار طریقة معینة لتنظیم الحیاة الاقتصادیّة لیس اعتباطاً مطلقاً، وإنّما یقوم دائماً علی


1- الفرق الیسیر بین هذا التعریف والتعریف السابق واضح، لأنّه لم یرد فی ذلک التعریف بنحو شفّاف بیان العلاقة بین الروابط والسلوکیات، مع الأصول والأهداف والمبانی.

ص: 16

أساس الأفکار ومفاهیم معینة، ذات طابع أخلاقی أو علمی أو أی طابع آخر، وهذه الأفکار والمفاهیم تکون الرصید الفکری للمذهب الاقتصادی القائم علی أساسها»(1).

ومرادنا من «المذهب الاقتصادی» هو ما ورد فی الأفکار والمفاهیم المقررة والتی هی بمثابة المراحل والعقبات الفکریّة لنظام اقتصادی معین، وهذه الأفکار والمفاهیم التی نعبّر عنها بالمذهب الاقتصادی، هی التی تشخص لنا صحة أو عدم صحة الحالة الاقتصادیّة، وتناسقها أو عدم تناسقها مع العدالة الاجتماعیّة، وفی نهایة المطاف تعیین ما ینبغی وما لا ینبغی فی مجال الاقتصاد، مثلًا تبیّن أنّ الملکیّة الخاصّة صحیحة ومؤثرة فی تأمین العدالة الاجتماعیّة، إذاً لابدّ من مراعاتها، أو أنّها سیئة وغیر منسجمة مع العدالة الاجتماعیّة إذاً یجب حذفها وإلغاؤها.

*** وهکذا یتبیّن ممّا تقدّم أنّ ما ورد من المذهب الاقتصادی (طبقاً لتعبیر الشهید الصدر) وهو مورد البحث، ناظر إلی حقیقة الأصول من قبیل: الملکیّة الخاصّة، والحریة الاقتصادیّة فی النظام الرأسمالی، إلغاء الفائدة، وتأمیم وسائل الإنتاج و ... فی النظام الاشتراکی، تجانس أو عدم تجانس هذه الأمور مع العدالة الاجتماعیّة والقیمة المعینة لها، قیمة وتعیین مطلوبیة وعدم مطلوبیة هذه الأصول، کلّ ذلک یرتبط بالمدرسة الاقتصادیّة التی تعتبر رکیزة أساسیة للمذهب الاقتصادی.

ومن هنا یتبیّن أیضاً التفاوت والفرق بین علم الاقتصاد والمذهب الاقتصادی والمدرسة الاقتصادیّة، مثلًا: یتبیّن أنّ القوانین مثل العرض والطلب، والسیر النزولی فی الإنتاج و ... تعتبر من قوانین علم الاقتصاد، لأنّها هی مظاهر وحقائق خارجیة یدرسها العالم الاقتصادی ویبیّن أسبابها ونتائجها.

أمّا عن القواعد والأصول من قبیل: الملکیّة الخاصّة، الحریة الاقتصادیّة، إلغاء الفائدة و ...، تبحث فی المذهب الاقتصادی وکذلک فی المدرسة الاقتصادیّة، أمّا فی المذهب الاقتصادی فیتمّ البحث عن حقیقة وماهیة هذه الأصول، وفی المدرسة الاقتصادیّة یبحث عن تناسق أو عدم تناسق هذه الموارد مع العدالة الاجتماعیّة وسائر القیم الأخری.

5. تعریف المذهب، المدرسة الاقتصادیّة والنظام الاقتصادی فی الإسلام

ممّا تقدم یتبیّن تعریف ثلاثة عناوین: (المذهب الاقتصادی الإسلامی، والمدرسة الاقتصادیّة الإسلامیّة، والنظام الاقتصادی الإسلامی»، لأنّه قد تبیّن أنّ المذهب الاقتصادی الإسلامی یطلق علی الطریقة والمنهج الذی یتخذه الإسلام لتنظیم الحیاة الاقتصادیّة وحل المعضلات العملیّة، وبتعبیر بعض العلماء: هو الأصول الکلیّة الاقتصادیّة المستخرجة من


1- اقتصادنا، ص 45.

ص: 17

القرآن الکریم والسنّة الشریفة(1)، ومن ذلک الأصول الناظرة إلی الملکیّة المختلطة من القطاع الخاص والعام والحکومی وإلغاء الفائدة وحرمة الربا.

أمّا المدرسة الاقتصادیّة الإسلامیّة فتطلق علی تلک الاسس الفکریّة والمبانی العقائدیّة والأخلاقیّة المستوحاة من الکتاب والسنّة وتفسر الأصول والقواعد للمذهب الاقتصادی فی الإسلام وقیمته.

أمّا النظام الاقتصادی الإسلامی فهو مجموعة من السلوکیات والعلاقات الاقتصادیّة المقتبسة أصولها العملیّة من الکتاب والسنّة، وکذلک المبانی الفکریّة والأخلاقیّة فی الدین السماوی الإسلامی، وأیضاً الأهداف الإلهیّة لهذا النظام.

وعلی أیة حال فعندما نطلق کلمة «الاقتصاد الإسلامی» فإنّه یشمل مجموعة النظام الاقتصادی والمذهب والمدرسة الاقتصادیّة فی الإسلام (2).

6. تعریف علم الاقتصاد الإسلامی

ونری من اللازم الالتفات إلی هذه المسألة، وهی هل لدینا شی ء باسم علم الاقتصاد الإسلامی، الذی یترکب من علم الاقتصاد والاقتصاد الإسلامی أم لا؟

ومع الالتفات إلی أنّ مسؤولیّة علم الاقتصاد تفسیر وتقییم الظواهر والحقائق الاقتصادیّة وبیان إرتباط هذه الظواهر والتجلیات مع أسبابها ونتائجها، فی حین أنّ الاقتصاد الإسلامی یتولی تنظیم الحیاة الاقتصادیّة والثوریّة، لأنّه یهدف إلی تغییر الواقع الموجود وإصلاح أشکال الفساد الاقتصادی وتبدیلها إلی ما یضمن صلاح وسلامة الاقتصاد فی المجتمع الإسلامی، لا أنّه یکتفی بتفسیر الواقع الموجود(3)، ومع هذا المفهوم ینبغی القول: لا یظهر لدینا شی ء باسم علم الاقتصاد الإسلامی ویأخذ شکله الواقعی إلّافیما إذا تحرک المجتمع علی أساس النظام الاقتصادی الإسلامی وتمّ تحقیق أصول وقوانین ذلک العلم فی مقام العمل لکی یتولی المحققون الاقتصادیون تحلیل وتقییم هذا المنهج ودراسة عوامله ونتائجه، وبالتالی یتمّ تدوین علم یسمی علم الاقتصاد الإسلامی.

وفی غیر هذه الصورة، فإنّ وضع مثل هذا العلم إنّما یکون ممکناً فیما إذا افترض المحقق الاقتصادی نظاماً بعنوان النظام الاقتصادی الإسلامی، بمعنی أنّه فی الدرجة الاولی یتمّ الالتفات إلی تحقق أصول مسلمة فی النظام الإسلامی فی الواقع الخارجی، ثمّ یتمّ فی ظلّ هذه المظاهر والحوادث فی عملیّة التطبیق، ربط هذه الأصول مع بعضها، وکذلک دراسة هذه الروابط مع بعضها والعوامل والنتائج المترتبة علیها، وفی النهایة اکتشاف القوانین الکلیّة الحاکمة علی هذه الظواهر.

علی سبیل مثال فإنّ أحد مسلمات النظام الاقتصادی فی الإسلام البنوک اللاربویّة یعنی أن تقوم الفعالیات البنکیّة علی أساس المضاربة فی سائر


1- محاضرة عن الاقتصاد الإسلامی، الدکتور محمّد العربی، ص 18.
2- اقتصادنا، ص 46.
3- المصدر السابق.

ص: 18

العقود الإسلامیّة وإلغاء الفائدة المصرفیّة، والمحقق الاقتصادی فی صورة عدم تحقق نظام بعنوان النظام الاقتصادی الإسلامی، ومع فرض تحقق هذا الأصل الاقتصادی فی المجتمع (البنک اللاربوی) وتحلیله وتفسیره یصل إلی هذه النتیجة، وهی أنّ المصالح التجاریّة فی المجتمع الإسلامی تنسجم وتتناغم مع مصالح أصحاب البنوک والتجار، لأنّ البنک أو المصرف فی المجتمع الإسلامی یقوم علی أساس المضاربة أو سائر العقود الإسلامیّة لا علی أساس الربا، والتجّار وأصحاب البنوک فی المجتمع الإسلامی یتجرون ویستثمرون أموال المشترکین والمودعین، ویقسمون الربح الناشی ء من هذه التجارة فیما بینهم وبین المودعین بفرض نسبة معینة من الربح، وبالنتیجة فإنّ توسعة النشاطات البنکیّة مرتبطة بمقدار الربح التجاری المستحصل من هذه العملیات لا الربح المستحصل عن طریق إعطاء القروض (یعنی بالصورة الربویّة) وهذا فی نفسه یعتبر عاملًا علی نمو الإنتاج وإزدهار الاقتصاد.

ویتبیّن أیضاً أنّ هذه التفاسیر والتحلیلات ما لم تصل الحیاة الاقتصادیّة فی الإسلام إلی حقول التجربة الحسیة الخارجیة، فإنّ المفهوم العملی الجامع والشامل لا یتیسر تحصیله، لأنّه کثیراً ما اتفق وجود اختلاف بین الحیاة الواقعیّة للنظام الاقتصادی مع هذه التفاسیر المبتنیة علی الفرض، وخاصة أنّ أحد العوامل المؤثرة کثیراً فی مسیرة الأوضاع الاقتصادیّة الإسلامیّة، هو عنصر المعنویّة العامّة والمسائل الروحیّة والفکریّة فی المجتمع الإسلامی، ولا شک أنّ المعنویّة العامّة لا تتحدد فی درجة معینة بحیث یمکن افتراضها وبناء نظریات علمیّة مختلفة علی أساسها(1).

النتیجة، أنّ علم الاقتصاد الإسلامی إنّما یتولد حقیقة ویبرز بوجهه الحقیقی فیما لو تمّ تجسید النظام الاقتصادی الإسلامی بجمیع أبعاده وخصوصیاته وجزئیاته فی واقع الحیاة الاجتماعیّة، وتمّ تحلیل ودراسة جمیع معطیاته وتجاربه وحوادثه بشکل منسجم ومنظم، مع أنّ افتراض تجسید التعالیم الاقتصادیّة فی الإسلام علی أرض الواقع العملی یمکنه أن یرسم الآفاق الواسعة لعلم الاقتصاد الإسلامی.

وعلی أیّة حال لا ینبغی أن نتوقع بأنّ الإسلام یملک بحثاً بعنوان: «علم الاقتصاد الإسلامی»، لأنّ التعالیم الإلهیّة عبارة عمّا ینبغی وما لا ینبغی فی مجال مناهج والأسالیب العملیّة ولا تقع فی دائرة البحوث الکلیّة العلمیّة، وإن أمکن الاطلاع علی أصول علم الاقتصاد الإسلامی من خلال مطالعة هذه الأسالیب والقیم وما ینبغی وما لا ینبغی والعمل علی تدوینها.

***

المنابع والمصادر

1. الاقتصاد، پل ساموئلسن، ترجمة حسن بیرنیا، مؤسسة


1- انظر: اقتصادنا، ص 315- 319.

ص: 19

الترجمة ونشر کتاب، طهران، 1352 ه ش.

2. اقتصادنا، الشهید الصدر، مطبعة مکتب الإعلام الإسلامی، قم، 1375 ه ش.

3. مقدمة علی الاقتصاد الإسلامی (درآمدی بر اقتصاد اسلامی) بالفارسیّة، مکتب التنسیق بین الحوزة والجامعة، 1363 ه ش.

4. الفصلیة التخصصیّة الاقتصاد الإسلامی (فصلنامه تخصصی اقتصاد اسلامی) بالفارسیّة، السنة الاولی، العدد الثالث (مقالة الإسلام والنظام الاقتصادی)، السید حسین میرمعزی).

5. مبانی واصول علم اقتصاد (مبانی وأصول علم الاقتصاد، یداللَّه دادگر) بالفارسیّة، تیمور الرحمانی، مرکز انتشارات مکتب الإعلام الإسلامی، قم، 1380 ه ش.

6. محاضرة عن الاقتصاد الإسلامی، الدکتور محمّد العربی.

ص: 20

ص: 21

(2). أهمیّة الاقتصاد والقدرة المالیّة فی نظر الإسلام

اشارة

المقدّمة

البحث الأوّل: مکانة المال والثروة فی نظر القرآن الکریم

البحث الثانی: مکانة المال والثروة فی نظر الروایات الإسلامیّة

البحث الثالث: الوسیلة أم الهدف؟

ص: 22

ص: 23

أهمیّة الاقتصاد والقدرة المالیّة فی نظر الإسلام

مقدّمة:

یوجد فی الإسلام مجموعة کبیرة من الأحکام الاقتصادیّة، الناظرة إلی أدق السلوکیات الاجتماعیّة للبشر، فهذه الأحکام لم تکن أهمیّتها معروفة للناس بالأمس، ولکنّها الیوم ومع الالتفات إلی تنوع النظم الاقتصادیّة فی الشرق والغرب فی المجالات العالمیّة تتبیّن أهمیّتها أکثر فأکثر.

ولا شک أنّ الاستقلال، والثبات السیاسی، والامتداد فی المجامع العالمیّة، والاقتدار الوطنی ومیزان سیطرة وأهمیّة وانضباط کلّ مجتمع، یرتبط بقدرته الاقتصادیّة وفعالیّته المالیّة.

ومن جهة أخری، فإنّ الاقتصاد المریض والتبعی فی کلّ مجتمع یعتبر من العوامل الرئیسیّة فی تزلزل القیم الأخلاقیّة وشیوع الفساد والفحشاء، وزیادة الجنوح والتلوثات الاجتماعیّة، والتخلف الاقتصادی فی کلّ مجتمع وبالتالی یترتب علی ذلک التخلف فی المجالات السیاسیّة والثقافیّة والعسکریّة والإرتباط والتبعیّة للأجانب فی واقع الحیاة وعلی کافّة المستویات.

ومن جهة ثالثة، فإنّ بعض المسائل الاقتصادیّة الکلیّة أحیاناً تملک من الأهمیّة والحساسیة العالیّة بحیث إنّ التخطیط المعقول والمدروس من شأنه أن یرتفع بالمجتمع إلی ذروة العظمة والمجد، وفی مقابل ذلک ربّما یکون التخطیط فی هذه المسائل المهمّة غیر مدروس ولیس فی محلّه فیترتب علیه الإخفاق الاقتصادی فی ذلک المجتمع.

وهذه الخصوصیّات التی لا تقبل الإنکار هی التی تجعل من مکانة المسائل الاقتصادیّة متمیّزة فی کلّ دین ومذهب اقتصادی.

والکتاب الحاضر یهدف لتبیین مکانة الاقتصاد وقیمة المال والثروة فی الإسلام وأهمیتها فی تطویر المجتمعات البشریّة ودفع عجلة التقدم إلی الأمام، وذلک فی ثلاث بحوث:

البحث الأوّل: مکانة المال والثروة فی نظر القرآن الکریم.

البحث الثانی: مکانة المال والثروة فی نظر الروایات

ص: 24

الإسلامیّة.

البحث الثالث: الوسیلة أم الهدف؟

البحث الأوّل: مکانة المال والثروة فی نظر القرآن الکریم

1. قوام المجتمع

إنّ دقة وبلاغة التعبیرات القرآنیّة فی المسائل الاقتصادیّة تشیر إلی أنّ رؤیة الدین للاقتصاد تمتاز بخصوصیّة وأولویّة خاصّة بحیث یستفاد من بعض الآیات الکریمة أنّ الأفراد والمجتمعات البشریّة یرتبطون فیمابینهم ویعتمدون علی قدراتهم الاقتصادیّة بحیث إنّ قوام ودوام الأمور الفردیّة والاجتماعیّة یدور حول هذا المحور.

ونقرأ فی سورة النساء قوله تعالی:

«وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَکُمُ الَّتِی جَعَلَ اللَّهُ لَکُمْ قِیَاماً»(1).

والنقطة الملفتة للنظر فی هذه الآیة وهی أنّ المال حتی لو کان من ملک السفیه نفسه، فما لم یصل إلی مرتبة الرشد الکامل فإنّ المجتمع له الحقّ فی عدم اعطائه المال والثروة له بشکل مباشر، لأنّ جمیع أفراد المجتمع فی نظر الإسلام بمثابة أعضاء جسم واحد، بحیث إنّ مصلحة الفرد لا تنفصل عن منافع ومصالح الآخرین، کما أنّ الضرر الموجه لفرد معین لا ینفصل کذلک عن الإضرار بالمجتمع (2).

ولعله لهذا السبب استبدلت الآیة ضمیر الغائب فی قوله:

«وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَهُمُ»

إلی ضمیر المخاطب:

«وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَکُمُ».

وبالرغم من أنّ سیاق هذه الآیة والآیات التی تلیها ناظر إلی الیتامی، ولکن من زاویة أخری یمکن استفادة حکم کلی وعام أکثر من هذه الآیة، وهو أن یقال إنّ الإنسان لا ینبغی فی أی حال وفی أی مورد، أن یعطی الأموال التی تتعلق بالمجتمع بشکل عام، إلی الأشخاص الذین لا یعیشون الرشد العقلی الکافی ولا یملکون الإدارة اللازمة فی التصرف بأموالهم، (وخاصّة مع الالتفات إلی أنّ الآیة عبرت عن هذا المعنی بکلمة

«أَمْوَالَکُمُ»

لا «أَمْوَالَهُمُ» والذی یکون فیه الضمیر یعود إلی الأیتام).

والشاهد علی هذا المعنی ما ورد فی الروایات الشریفة فی تفسیر هذه الآیة عن أئمّة أهل البیت علیهم السلام، فقد ورد فی الروایة عن الإمام الصادق علیه السلام، أنّ رجلًا یدعی إبراهیم بن عبدالحمید قال: سألت الإمام علیه السلام عن هذه الآیة:

«وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَکُمُ»،

قال:

«کلّ مَن شرب الخمر فهو سفیه»(3).

ونقرأ فی حدیث آخر أیضاً أنّ شارب الخمر لا ینبغی اختیاره أمیناً علی الأمور المالیّة(4).

وفی روایة أخری ورد النهی عن ایداع الأمول عند الأشخاص الذین لا یملک الإنسان الاعتماد الکامل


1- سورة النساء، الآیة 5.
2- انظر: المیزان، ج 4، ص 170؛ التفسیر الأمثل، ج 3، ص 269- - / 270؛ التفسیر المنیر، ج 4، ص 248؛ تفسیر المنار، ذیل الآیة مورد البحث، ج 4، ص 380. حیث قال فی التعلیل الثالث: التکافل فی الأمّة واعتبار مصلحة کلّ فرد من أفرادها عین مصلحة الآخرین.
3- وسائل الشیعة، ج 13، ص 434.
4- الکافی، ج 5، ص 299.

ص: 25

علیهم وقال الإمام الصادق علیه السلام فی تفسیر کلمة السفیه:

«مَن لا تثق به»(1).

وطبعاً لا مانع من الجمع بین هذین التفسیرین، مع الالتفات إلی أنّ أموال الیتامی أیضاً تکون تحت رعایة وإشراف الأشخاص الذین یملکون حقّ القوامة والولایة علیهم، وعلی هذا الأساس فإنّ عبارة

«أَمْوَالَکُمُ»

صحیحة بالنسبة للأموال أیضاً.

النقطة الثانیة: ما ورد فی جملة:

«الَّتِی جَعَلَ اللَّهُ لَکُمْ قِیَاماً»

حیث یستفاد منها بوضوح أنّ الأموال والثروة فی نظر الدین تعتبر أساساً لقوام ودوام الحیاة الاجتماعیّة، یعنی أنّ المجتمع البشری بدون المال والثروة لا یتیسر له الدیمومة، ویتبیّن من هذا التعبیر المکانة العالیة للمسائل المالیّة والاقتصادیّة فی الإسلام، خلافاً تماماً لما ورد فی الإنجیل الحالی: «إنّ الغنی لا یرد ملکوت السموات»(2).

یقول صاحب تفسیر المنار فی تفسیر هذه الآیة:

«فکأنّه قال: إنّ منافعکم ومرافقکم الخاصّة ومصالحکم العامّة لا تزال قائمة ثابتة مادامت أموالکم فی أیدی الراشدین المقتصدین منکم الذین یحسنون توفیرها ولا یتجاوزون الحدود المعلومة فی إنفاق ما ینفقونه منها، فإذا وقعت فی أیدی السفهاء المسرفین الذین یتجاوزون الحدود المشروعة والمعقولة یتداعی ما کان من تلک المنافع صالحاً ویسقط ما کان من تلک المصالح».

ثم یضیف صاحب المنار: والآیات من قبیل

«وَالَّذِینَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ یُسْرِفُوا وَلَمْ یَقْتُرُوا وَکَانَ بَیْنَ ذَلِکَ قَوَاماً»(3)

فی الحقیقة تفسیر کلمة «قیاماً» فی الجملة:

«الَّتِی جَعَلَ اللَّهُ لَکُمْ قِیَاماً»(4).

ونقرأ فی التفسیر المنیر: «ومعنی قوله:

«جَعَلَ اللَّهُ لَکُمْ قِیَاماً»

أنّ الأموال قوام الحیاة وسبب إصلاح المعاش وانتظام الأُمور، فبالمال تتقدّم الأمم وتبنی صرح الحضارة وبالمال یسعد الفرد والجماعة وبه أیضاً یتحقق النصر علی الأعداء»(5).

2. وصف المال بکلمة «خیر»

إنّ إطلاق کلمة «خیر» بالنسبة للمال والثروة فی الآیات القرآنیّة یشیر إلی النظرة الإیجابیّة للدین بالنسبة للإمکانات المالیّة وأهمیّتها فی حیاة الفرد والمجتمع.

ونقرأ فی القرآن الکریم: «کُتِبَ عَلَیْکُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَکُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَکَ خَیْراً الْوَصِیَّةُ لِلْوَالِدَیْنِ وَالْأَقْرَبِینَ بِالْمَعْرُوفِ»(6).

ونستوحی من هذه الآیة أمرین:


1- وسائل الشیعة، ج 13، ص 434.
2- تفسیر المنار، ج 4، ص 382؛ إنجیل متی، باب 19، الآیة 23.
3- سورة الفرقان، الآیة 67.
4- تفسیر المنار، ج 4، ص 381.
5- التفسیر المنیر، ج 4، ص 249.
6- سورة البقرة، الآیة 180. ورد فی بعض التفاسیر: إذا کان« المال» کثیراً یطلق علیه« خیر» ولا یطلق علی المال القلیل« خیر».( انظر: مجمع البیان، ج 2، ص 17؛ المنار، ج 2، ص 134- 13 و الدر المنثور، ج 1، ص 422، ذیل الآیة 180 من سورة البقرة) ولعله یراد من« أشحةً علی الخیر» هذا المعنی، وقد نسب الراغب فی مفرداته فی مادة خیر هذه الملاحظة إلی قول بعض العلماء.

ص: 26

1. إنّ المراد من کلمة «خیر» فی هذه الآیة هی الأموال المشروعة.

2. إنّ التعبیر ب «خیر» بشکل مطلق، یشمل الخیر فی الدنیا والآخرة، ومن هذه الجهة فإنّ جمیع البرامج الثقافیّة والاجتماعیّة والاقتصادیّة تدخل فی هذه الدائرة.

وضمناً یجب الالتفات إلی أنّ الراغب الإصفهانی یصرّح فی مفرداته بعد أنّ فسّر کلمة خیر بمعنی کلّ أمر مطلوب ضد «الشر» قال: بأنّ الخیر فی آیات عدّة ورد بمعنی المال، ونقل عن بعض علماء اللغة أنّ المال یجب أن یکون بمقدار معتبر أیضاً ولا یطلق علی الأموال القلیلة التی لا مورد لها فی الوصیة، فلا یطلق علیها کلمة خیر(1).

وإطلاق کلمة «خیر» بمعنی المال أو المال الکثیر ورد فی آیات أخری أیضاً منها:

«قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَیْرٍ فَلِلْوَالِدَیْنِ»(2).

«وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَیْرٍ فَلِأَنفُسِکُمْ»(3).

وهذه التعبیرات تشیر إلی أنّ الإمکانات المالیّة الکثیرة والمشروعة لا تعتبر مذمومة أبداً فی نظر الإسلام، بل مطلوبة ومحبذة أیضاً.

3. الودیعة الالهیّة

إنّ المال فی نظر القرآن یعتبر أمانة وودیعة من قِبل اللَّه تعالی للإنسان، والإنسان هو أمین هذا المال:

«وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَکُمْ مُّسْتَخْلَفِینَ فِیهِ»(4).

یقول العلّامة الطباطبائی رحمه الله فی تفسیر هذه الآیة الشریفة: «استخلاف جعله خلیفة ... والتعبیر عمّا بأیدیهم من المال بهذا البیان الواقع ولترغیبهم فی الإنفاق، فإنّهم إذا أیقنوا أنّ المال للَّه وهم مستخلفون علیه وکلاء من ناحیته یتصرفون فیه کما اذن لهم سهل علیهم ... وإمّا خلافتهم عمّن سبقهم من الأجیال کما یخلف کلّ جیل سابقه ...»(5).

وربّما ورد فی الآیات اللاحقة تأییداً للمعنی الأوّل، لأنّ قوله:

«وَمَا لَکُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِی سَبِیلِ اللَّهِ وَللَّهِ مِیرَاثُ السَّماوَاتِ وَالْأَرْضِ»(6).

یعنی لیس فقط الأموال والثروات فی الأرض، بل جمیع ما فی السموات والأرض ملک ومیراث یعود للذات المقدّسة ولا أحد غیره یعتبر مالکاً حقیقیاً لها.

وقد ورد فی بعض الآیات الشریفة تعبیر جمیل فیما یتصل بالمال وإضافته التشریفیة للَّه تعالی:

«وَآتُوهُمْ مِّنْ مَّالِ اللَّهِ الَّذِی آتَاکُمْ»(7).

والتعبیر ب «مال اللَّه» یعتبر أیضاً قرینة أخری علی المال الأوّل.

4. الفضل إلهی

ورد فی آیات عدّة التعبیر عن المال والثروة ب «الفضل


1- المفردات، من مادة« خیر».
2- سورة البقرة، الآیة 215.
3- سورة البقرة، الآیة 272.
4- سورة الحدید، الآیة 7.
5- تفسیر المیزان، ج 19، ص 151 وکذلک انظر: التفسیر الأمثل: ذیل الآیة المبحوثة.
6- سورة الحدید، الآیة 10.
7- سورة النور، الآیة 33.

ص: 27

الإلهی»:

«فَإِذَا قُضِیَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِی الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ»(1).

وبالرغم من أنّ جملة

«وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ»

بإمکانها أن تستوعب معنی واسعاً من قبیل تحصیل العلم، زیارة المؤمن و ...، ولکن بقرینة الآیة السابقة والآیات التی ستأتی بعد ذلک، إشارة إلی طلب الرزق والنشاط الاقتصادی.

ونقرأ فی آیة أخری:

«وَآخَرُونَ یَضْرِبُونَ فِی الْأَرْضِ یَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ»(2).

وکذلک نقرأ:

«وَجَعَلْنَا آیَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّنْ رَّبِّکُمْ»(3).

وکذلک ورد فی سورة البقرة قوله:

«لَیْسَ عَلَیْکُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّکُمْ»(4).

وجدیر بالذکر أنّ هذه الآیة وردت فی ضمن آیات تتعلق بمسائل الحج، وطبقاً للروایات الواردة فی هذا الصدد فقد کان التعامل الاقتصادی بکافّة ألوانه محظوراً فی موسم الحج عند الجاهلیین، وکانوا یعتقدون ببطلان الحج إذا اقترن بالنشاط الاقتصادی، فالآیة مورد البحث تعلن بطلان هذا الحکم الجاهلی وتؤکّد، أنّه لا مانع من التعامل الاقتصادی والتجاری فی موسم الحج وتسمح بابتغاء فضل اللَّه فی هذا الموسم عن طریق العمل والکد(5).

بل إنّ النصوص الإسلامیّة التی تتحدّث عن حکمة الحج تشیر أیضاً إلی الجوانب الاقتصادیّة إضافة إلی الجوانب الأخلاقیّة والسیاسیّة والثقافیّة، وتؤکد علی المنافع المختلفة للناس فی هذه العبادة، والتی تشمل المنافع الاقتصادیّة أیضاً:

«وَأَذِّنْ فِی النَّاسِ بِالْحَجِّ یَأْتُوکَ رِجَالًا وَعَلَی کُلِّ ضَامِرٍ یَأْتِینَ مِنْ کُلِّ فَجٍّ عَمِیقٍ

* لِیَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ»(6).

وبتعبیر آخر: أنّ سفر المسلمین من کلّ فج عمیق إلی بیت اللَّه الحرام لعقد مؤتمر الحج العظیم من شأنه أن یکون منطلقاً لتحرک اقتصادی عام فی المجتمعات الإسلامیّة، وذلک یتحقق باجتماع الأدمغة الاقتصادیّة الإسلامیّة المفکّرة قبل أداء المناسک أو بعده لوضع اسس لاقتصاد سلیم فی المجتمعات الإسلامیّة یقوم علی أساس التعاون والتبادل الاقتصادی بین أبناء الامّة الإسلامیّة، والاستغناء عن الأجانب والأعداء، وبلوغ المستوی الممکن واللائق من الإکتفاء الذاتی، ومن هنا فهذه المعاملات والمبادلات التجاریّة سبب لتقویة بنیة المجتمع الإسلامی أمام أعداء الإسلام، ذلک لأنّ أی شعب من الشعوب لا یمکن أن ینال استقلاله الکامل دون أن یقوم علی أساس اقتصادی قوی، ولکن النشاط الاقتصادی فی موسم الحج ینبغی طبعاً أن ینضوی تحت الأبعاد العبادیّة


1- سورة الجمعة، الآیة 10.
2- سورة المزمل، الآیة 20.
3- سورة الإسراء، الآیة 12. ورد إطلاق کلمة« فضل اللَّه» فیما یتعلق بالمال وبصورة واسعة فی القرآن الکریم. ومنها یمکن الإشارة إلی: الآیة 57 من سورة التوبة؛ الآیة 14 من سورة النحل؛ الآیة 66 من سورة الإسراء؛ الآیة 73 من سورة القصص؛ الآیة 23 و 46 من سورة الروم والآیة 12 من سورة الجاثیة.
4- سورة البقرة، الآیة 198.
5- انظر: التفسیر الأمثل، ج 1، ذیل الآیة مورد البحث.
6- سورة الحج، الآیة 27- 28.

ص: 28

والأخلاقیّة للحج ...(1).

وبالإمکان أن نستوحی من الأحادیث الإسلامیّة هذه الغایات الأربع للحج بشکل مفصل.

وطبعاً لا یخفی أنّ الغایات الاقتصادیّة فی الحج هی غایات تبعیّة وضمنیّة وأنّ الجانب العبادی والتربوی للحج مقدم علی کلّ شی ء، رغم أنّ تقویة البنیة الاقتصادیّة فی البلاد الإسلامیّة یعتبر بذاته عبادة کبیرة.

5. امتیاز خاص

ویستفاد من الآیات القرآنیة أنّ جمیع المواهب الإلهیّة والنعم الدنیویّة مطلوبة ومحبذة وأنّها خلقت أساساً للمؤمنین الذین یسیرون فی خط الطاعة والعبودیة والمسؤولیّة:

«قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِینَةَ اللَّهِ الَّتِی أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّیِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِیَ لِلَّذِینَ آمَنُوا فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا خَالِصَةً یَوْمَ الْقِیَامَةِ»(2).

ویستفاد من هذه الآیة الشریفة أنّ جمیع النعم والمواهب الإلهیّة خلقت للذین آمنوا، رغم أنّ بعض الأشخاص الظالمین والفاسدین یستفیدون منها، ولکنّهم فی الواقع لا یملکون اللیاقة والجدارة بها، وکأنّ استفادتهم من هذه المواهب المادیّة فی الدنیا یعتبر عملیّة غصبیة.

ونقرأ فی آیة أخری:

«وَلَقَدْ مَکَّنَّاکُمْ فِی الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَکُمْ فِیهَا مَعَایِشَ قَلِیلًا مَّا تَشْکُرُونَ»(3).

6. مصداق الإمدادات الإلهیّة

أحیاناً یرد التعبیر عن المال والثروة فی الآیات القرآنیة بوصفها إمداد إلهی:

«وَأَمْدَدْنَاکُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِینَ»(4)

، وفی آیة أخری:

«وَیُمْدِدْکُمْ بِأَمْوَالٍ

وَبَنِینَ».(5)

ومن جملة الإمداد الإلهی لنبی الإسلام صلی الله علیه و آله هو استغناؤه المالی:

«وَوَجَدَکَ عَائِلًا فَأَغْنَی»(6).

وقد استخدم القرآن الکریم فی موارد مختلفة مثل هذه التعبیرات، وهذا یبیّن النظرة الإیجابیّة للإسلام عن الإمکانات المالیّة لغرض تحقیق السعادة فی هذه الحیاة، وخاصّة ما ورد فی الآیة 12 من سورة نوح علیه السلام من أنّ الإمداد الإلهی بالمال والبنین إلی جانب المواهب السماویة المبارکة الأخری، یعتبر ثواباً دنیویاً للمؤمنین والمستغفرین:

«فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّکُمْ إِنَّهُ کَانَ غَفَّاراً* یُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَیْکُمْ مِّدْرَاراً»(7)

، حیث توضح هذه الآیة الشریفة هذه الحقیقة أکثر.

النتیجة:

إنّ التأمل فی العبارات القرآنیّة من قبیل: مال اللَّه، فضل اللَّه، الخیر، فیما یتصل بالإمکانات المالیّة یشیر


1- انظر: التفسیر الأمثل، ج 1، ذیل الآیة 198 من سورة البقرة.
2- سورة الأعراف، الآیة 32.
3- سورة الأعراف، الآیة 10.
4- سورة الإسراء، الآیة 6.
5- سورة الإسراء، الآیة 6.
6- سورة الضحی، الآیة 8.
7- سورة نوح، الآیة 10 و 11.

ص: 29

إلی مطلوبیّة ومحبوبیّة هذه الأمور فی الرؤیة الدینیّة.

ومضافاً إلی هذه التعبیرات الإیجابیّة، فقد ورد فی القرآن الکریم التعبیر عن المال والثروة بکلمات من قبیل: الرحمة(1)، الحسنة(2) و

«الطَّیِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ»(3)

، وهذا یشیر إلی أنّ رؤیة الإسلام للأمور المالیّة والاقتصادیّة، لا تقوم أساساً علی مبنی الفکر المادی، بل علی أساس المبانی الإلهیّة والأهداف المقدّسة والمتعالیّة.

ومضافاً إلی ذلک فقد ورد فی الآیات القرآنیة أیضاً أنّ التعبیر عن الحرمان المالی والمادی بوصفه عقوبة وعذاب الإلهی، مثل:

«وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِینَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ»(4)

وکذلک:

«فَبِظُلْمٍ مِّنَ

الَّذِینَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَیْهِمْ طَیِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ»(5).

وهذه العبارات تشیر إلی أنّ الاقتصاد فی الإسلام، وخلافاً للتفاسیر غیر الواعیة والاستنباطات غیر الصحیحة لبعض الأفراد الذین أخطأوا فی عملیّة التفسیر من دون توفر الصلاحیات العلمیّة لدیهم فی الأحکام الإسلامیّة وذهبو إلی أنّ الأمور المالیّة حقیرة وتافهة فی نظر الإسلام، والحالة أنّها تحظی بأهمیّة فائقة فی دائرة المفاهیم الدینیّة، بحیث إنّ قوام الوضع السیاسی والاقتصادی للمجتمع الإسلامی یتقوم بالمال والاقتصاد السلیم فی الرؤیة الدینیّة وتدور سلامة المجتمع وإزدهاره فی ظلّ ثبات وتقویة البنیة الاقتصادیّة وکأنّ الحیاة الدنیا تعتبر مقدمة وممهدة للحیاة الاخرویة.

هذه الرؤیة تعتبر الدنیا موقع ومحلّ تربیة النفوس وتنمیة القابلیات والوصول إلی الکمال والسعادة، کما ورد فی الروایة:

«الدنیا مزرعة الآخرة»(6)

، و

«الدنیا

مَتْجَر أولیاءاللَّه»(7).

وطبعاً إذا کانت الحیاة الدنیویّة والمادیّة تملک أصالة فی حدّ ذاتها، بحیث إنّ الإنسان یحصر اهتمامه بملذاتها العابرة ویقع أسیر المطامع والشهوات النفسانیّة ویغفل عن کونها مقدمة للحیاة الاخرویّة، أی تکون الحیاة فی الدنیا هدفاً نهائیاً، فمن البدیهی أنّ مثل هذه الحیاة تستحق أن یعبّر عنها: لَعِب ولَهْو(8)، متاع قلیل (9)، ومتاع الغرور(10)، وهذا یشیر إلی الوجه


1- من قبیل الآیة 9 من سورة هود:« وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّارَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَیَئُوسٌ کَفُورٌ» والآیة 100 من سورة الإسراء:« قُلْ لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِکُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّی إِذاً لَّامْسَکْتُمْ خَشْیَةَ الْإِنفَاقِ».
2- من قبیل الآیة 131 من سورة الأعراف:« فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ».
3- سورة الأعراف، الآیة 32 والآیة 4 و 5 من سورة المائدة:« یَسْأَلُونَکَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَکُمْ الطَّیِّبَاتُ ...» والآیة 93 من سورة یونس:« وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّیِّبَاتِ ...».
4- سورة الأعراف، الآیة 130.
5- سورة النساء، الآیة 160.
6- عوالی اللئالی، ج 1، ص 267، ح 66. عن قول النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله.
7- عن أمیرالمؤمنین علی علیه السلام، نهج البلاغة، الحکمة 131.
8- من قبیل: الآیة 32 من سورة الأنعام:« وَمَا الْحَیَاةُ الدُّنْیَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ» والآیة 36 من سورة محمّد:« إِنَّمَا الحَیَاةُ الدُّنْیَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ».
9- من قبیل: الآیة 77 من سورة النساء:« قُلْ مَتَاعُ الدُّنْیَا قَلِیلٌ» والآیة 38 من سورة التوبة:« فَمَا مَتَاعُ الْحَیَاةِ الدُّنْیَا فِی الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِیلٌ».
10- من قبیل: الآیة 185 من سورة آل عمران:« وَمَا الْحَیَاةُ الدُّنْیَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ».

ص: 30

الواقعی لهذه الحیاة، ویرسم الجانب السلبی المذموم منها، إنّ مثل هذه الأموال وهذه الدنیا ستکون سبباً لسقوط الإنسان فی وحل المادیات وتقوده إلی وادی المتاهة والهلکة.

البحث الثانی: مکانة المال والثروة فی نظر الروایات الإسلامیّة

مقدّمة:

إنّ الالتفات إلی الأبعاد المختلفة للحیاة فی وضع القوانین والمقررات یعتبر من خصوصیات وامتیازات الدین الإسلامی الذی یشیر إلی إنسانیّة هذا الدین السماوی، ومن هنا نشهد أنّ الإسلام فی المسألة الاقتصادیّة والمالیّة، وخلافاً لجمیع المدارس الاقتصادیّة فی العالم، لا یفکر فقط بالقدرة الاقتصادیّة بل یلتفت، فی عین اهتمامه بالقدرة الاقتصادیّة، برؤیة ثاقبة إلی رعایة المقتضیات الروحیة للإنسان، وفی هذه الرؤیة لابدّ أن یمتلک الإنسان من الروحیّة والکمال المعنوی بحیث لو وضعت جمیع نعم الدنیا فی اختیاره لا یقع أسیراً لها، وإذا سلبت منه جمیع النعم یوماً ما فإنّه لا یعیش الإخفاق والیأس فی واقع الحیاة، وهذا هو ما ورد عن أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی تعریفه للزهد الإسلامی:

«الزهد بین کلمتین من القرآن، قال اللَّه سبحانه: «لِّکَیْلَا تَأْسَوْا عَلَی مَا فَاتَکُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاکُمْ»(1) ومَن لم

یأس علی الماضی ولم یفرح بالآتی فقد أخذ الزهد بطرفیه»(2)

وبهذه الرؤیة فإنّ الدنیا لا تقع فقط فی مقابل الآخرة، بل تقع بشکل دقیق فی مسیر الآخرة، ومن هنا فالاهتمام بأمر الدنیا یمتد إلی درجة کأنّ الإنسان یبقی فی الدنیا دوماً، والتوجه إلی الآخرة أیضاً یکون إلی درجة وکأنّ الإنسان یموت غداً، وهذا النوع من الرؤیة یختص بالدین الإسلامی، ولا یوجد له نظیر فی المدارس والأدیان الأخرة.

وقد ورد فی الروایة المشهورة عن الإمام الکاظم علیه السلام أنّه قال:

«إعمل لدنیاک کأنّک تعیش أبداً واعمل لآخرتک کأنّک تموت غداً»(3).

ومن هذه الجهة فإنّ هذه الثقافة لیست فقط تؤکد علی الکسب والعمل والسعی، بل تجعله من العبادات الکبیرة.

یقول ابن الأثیر فی شرح حال سعد الأنصاری:

عندما عاد رسول اللَّه صلی الله علیه و آله من غزوة تبوک استقبله سعد الأنصاری وصافحه فقال له النّبی:

«ما هذا أکبت (4) یدیک؟ قال: یا رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أضرِبُ

بالمَرّ والمِسحاة، فأنفقه علی عیالی، فقبّل یده رسول اللَّه صلی الله علیه و آله وقال: هذه یدٌ لا تمسّها نارٌ»(5).

مع الالتفات إلی هذه المقدمة ینبغی القول أنّ الروایات المتعلقة بأهمیة العمل والکسب والتجارة وطلب


1- سورة الحدید، الآیة 23.
2- نهج البلاغة، الحکمة 439.
3- من لا یحضره الفقیه، ج 3، ص 156، ح 3569.
4- أکبت، أی أخشن.
5- اسد الغابة، ج 2، ص 269، تاریخ بغداد، ج 7، ص 353.

ص: 31

الرزق الحلال، وتنمیة والعمران، والاستقلال الاقتصادی والاکتفاء الذاتی و ... کلّها تحکی نوعاً ما عن أهمیة النشاطات الاقتصادیّة ومکانتها الرفیعة فی دائرة المفاهیم الدینیّة، وأنّها تحظی بتنوع واتساع کبیر، وسیأتی فی الفصول اللاحقة فی هذا الکتاب بعض معالم هذه النشاطات الاقتصادیّة، وهنا نکتفی بذکر بعض النقاط الأساسیة فی هذا المجال.

1. حفظ الدین والتقوی مع المکنة المالیّة

من المعلوم فی الرؤیة العامّة للإسلام، أنّ أکبر قیمة من قیم الحیاة الدینیّة التقوی والورع عن الذنوب، وکلّما یقع فی مقابل ذلک یحسب مخالفاً للقیم، ویستفاد من بعض الروایات أنّ الفقر الاقتصادی یعتبر عاملًا لبروز أشکال الارباک والخلل والتلوثات الفردیة والاجتماعیّة، وأنّ الثروة من شأنها تقویة حالة التقوی والورع فی واقع الإنسان.

قال رسول اللَّه صلی الله علیه و آله:

«نِعْم العون علی تقوی اللَّه الغِنی»(1).

ویقول 3 مام الصادق 7، 4 الإمام الصادق علیه السلام:

«لا تدع طلب

الرزق مِن حلّه فإنّه عون لک علی دینک»(2).

ونقرأ فی روایة شریفة:

«کان رسول اللَّه صلی الله علیه و آله إذا نظر إلی الرجل فأعجبه قال له: هل له حِرفة؟ فإن قالوا: لا، قال: سقط من عینی، قیل: وکیف ذاک یا رسول اللَّه صلی الله علیه و آله؟ قال: لأنّ المؤمن إذا لم یکن له حِرفة یعیش بدینه»(3).

2. الأرکان الأساسیّة فی الدین والدنیا

یری الإمام أمیرالمؤمنین علی علیه السلام وجود الثروة ورأس المال المنتج فی المجتمع الإسلامی، أحد الأرکان الأصلیّة فی الحیاة المادیّة والمعنویّة للناس، ویقول:

«قوامُ الدین والدنیا بأربعة، عالمٍ مُستَعْمِل علمَه ...

وجوادٍ لایَبْخَلُ بمعروفِهِ»(4).

ونقرأ فی روایة شریفة عن الإمام الصادق علیه السلام:

«احتفظ بمالک، فإنّه قوام دینک»(5).

3. التوصیة بتحصیل المال حتی فی الظروف الحرجة

إنّ الإسلام لم یقرر حدّاً معیناً من حیث الزمان والمکان والأشخاص للعمل والسعی والکسب من أجل اعمار الدنیا وزیادة الثروة، وکما أسلفنا أنّ السعی لغرض کسب المنافع المادیّة والاقتصادیّة حتی فی السفر المعنوی للحج بلا مانع، ولا تعتبر الأیّام المتأزمة حال الحرب والجهاد مسوغاً لترک العمل والسعی وکسب المال.

یقول الإمام الصادق علیه السلام مخاطباً لهشام:

«یا هشام! إن رأیت الصَفّین قد التقیا فلا تدع طلب الرزق فی ذلک الیوم»(6)

أی جیش المؤمنین والکفّار یلتقون فی میدان القتال.


1- الکافی، ج 5، ص 71.
2- أمالی الطوسی، ص 193، ح 326.
3- بحار الأنوار، ج 100، ص 9، ح 38، وانظر: کنز العمال، ج 4، ص 123، ح 9859، عن عمر.
4- نهج البلاغة، الکلمات القصار، رقم 372.
5- وسائل الشیعة، ج 4، ص 1160، ح 8915.
6- الکافی، ج 5، ص 78، ح 7.

ص: 32

وفی هذه الرؤیة فإنّه لا مانع من الکسب حتی بالنسبة للشخصیّات التی تملک مکانة اجتماعیّة خاصّة.

یقول الإمام الصادق علیه السلام فی تفسیر آیة:

«رِجَالٌ لَّا تُلْهِیهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَیْعٌ عَنْ ذِکْرِ اللَّهِ»(1)

: «کانوا أصحاب

تجارة فإذا حضرت الصلاة ترکوا التجارة وانطلقوا إلی الصلاة وهم أعظم أجراً ممّن لم یتّجر»(2).

ویقول المرحوم الفیض الکاشانی حول فضیلة الکسب والعمل کلاماً ملفتاً للنظر:

«المستفاد من أخبار أهل البیت أفضلیّة الکسب والتجارة مطلقاً حتّی للمتعبّد وأهل العلم وذی الرئاسة»(3).

4. المال والثروة، عامل لبث السکینة فی النفس

إنّ الأشخاص الذین ینظرون من جانب واحد إلی الروایات الإسلامیّة فی مقام ذم الدنیا، لعلهم لا یصدقون أنّ الإسلام یری أنّ المال والثروة سبب لسکون النفس واطمئنان الخاطر یقول: النّبی الاکرم صلی الله علیه و آله:

«إنّ النفس إذا أحرزت قوتها استقرّت»(4).

ویقول الإمام الصادق علیه السلام فی شأن سلمان الفارسی: مع أنّ سلمان کان رجلًا زاهداً، إلّاأنّه کان یدخّر متاع سنته، فقیل له عن ذلک فقال:

«إنّ النفس قد تلتأث علی صاحبها إذا لم یکن لها من العیش ما تعتمد علیه، فإذا هی أحرزت معیشتها اطمأنت»(5).

وروی عن الإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام أنّه قال:

«إنّ الإنسان إذا أدخل طعام سنته خفّ ظهره واستراح وکان أبو جعفر علیه السلام وأبو عبداللَّه علیه السلام لایشتریان عُقدةً(6)

حتّی یحرزا طعام سنتهما»(7).

وطبعاً أنّ هذا الکلام متعلق بزمان کان الناس لا یستطیعون تهیئة حاجاتهم الیومیة من المعیشة فی أی وقت یریدون، وحالیاً أیضاً فالناس فی بعض المناطق الریفیة یعملون بما ورد فی هذه الروایات.

النتیجة:

إنّ التأمل فی مواضیع هذا الفصل وخاصة فی ما ورد من عبارات مثل «قوام الدین»، «عون علی التقوی»، «عامل علی سکون نفس»، بما یتصل بالإمکانات المالیّة والاقتصادیّة یبیّن أنّ الإسلام یری مکانة خاصّة للنشاطات الاقتصادیّة إلی درجة یمکن من خلال الاعتماد علی القدرة الاقتصادیّة، ضمان وتأمین الراحة الفردیة وتحقیق الآفاق المنشودة للمجتمع الإسلامی والدینی، بحیث تقوم أرکانه علی أساس التقوی والورع ویتمّ إعمار الدنیا وجعلها ممرّاً وقنطرة لتحقیق السعادة الاخرویة.

وبدیهی أنّ الإمکانات المادیّة، فی هذه الرؤیة تقع فی خدمة الفرد والمجتمع ولغرض تنمیة القابلیات والوصول إلی مرتبة الکمال المعنوی وتقویة الأمور الثقافیّة والسیاسیّة والاجتماعیّة فی المجتمع


1- سورة النور، الآیة 37.
2- من لا یحضره الفقیه، ج 3، ص 192، ح 3720.
3- محجّة البیضاء، ج 3، ص 146.
4- الکافی، ج 5، ص 89، ح 2.
5- المصدر السابق، ح 3
6- « عقدة» بضم العین تعنی الأرض والبساتین والعقارات، الملک غیر المنقول.
7- الکافی، ج 5، ص 89، ح 1.

ص: 33

الإسلامی فی ظل الاقتصاد السلیم والمتحرک.

البحث الثالث: الوسیلة أم الهدف؟

اشارة

ومن البحوث التی تستحق البحث فی الاقتصاد الإسلامی هو أنّ الإسلام مع کلّ تلک الأهمیة التی یقررها للقدرة المالیّة، فإننا نری فی الکثیر من النصوص الدینیّة أنّ الإمکانات المالیّة وقعت مورد الذم والإزدراء، إلی درجة أنّ البعض وقعوا فی دوامة الحیرة والتردد: هل أنّ الإسلام یری القدرة المالیّة أمراً مذموماً وضد القیم أو أنّها أمر مطلوب وممدوح؟

وهذا التردد والتساؤل ناشی ء من وجود نصوص کثیرة من جهة تمدح المال والثروة وتدعو إلی اکتسابها وتجعلها فی عداد الجهاد فی سبیل اللَّه، وحتی أنّ القتل فی سبیل حفظها یعد بمرتبة الشهادة(1)، ومن جهة أخری ورد فی النصوص الذم للحیاة الدنیا والتعبیر عنها باللعب واللهو والتأکید علی لزوم اجتنابها، وهذا التهافت وعدم التناسق انعکس علی سیرة ومنهج جماعة من المسلمین فی صدر الإسلام.

ینقل الدکتور طه حسین فی کتابه المعروف الفتنة الکبری عن الخلیفة الثانی أنّه قال فی أواخر عمره: «لو استقبلتُ من أمری ما استدبرتُ لأخذتُ فضولَ أموال الأغنیاء ووزّعتها علی الفقراء»(2).

یقول طه حسین: لکنه (الخلیفة الثانی) خاف علیهم الفتنة. وخاف منهم الفتنة أیضاً. فأمسکهم فی المدینة لا یخرجون منها إلّابإذنه. وحبسهم من الأمصار المفتوحة. لا یذهبون إلّابأمر منه. وخاف منهم أن یفتنن بهم الناس.

وآیة ذلک أنّ عثمان لم یکد یتولّی أمر المسلمین حتی فک عنهم هذا العقال وأذن لهم فتفرقوا فی الأرض ..

فتعظم ثراؤهم وکثرت أموالهم فتوسعوا فی الغنی حتی ظهرت الاختلافات الطبقیّة. ولم تلبث أن ظهرت الفتن والحوادث»(3).

هذا فی حین أنّ البعض الآخر من الصحابة کانوا یعیشون الزهد والقناعة والظروف الصعبة ولم یعیشوا الرغبة والمیل للدنیا والمادیات، ومهما یکن من أمر فإنّه النصوص الدینیّة فی الوهلة الاولی تعکس نوعاً من التضاد وعدم الإتساق فی مسألة المال والثروة وکذلک ما نجده فی سیرة المسلمین فی صدر الإسلام من هذا النوع من التضارب فی مقام العمل والسلوک.

والآن مع الأخذ بنظر الاعتبار ما تقدم، یثار هنا السؤال الأساسی: ما هو نظر الإسلام النهائی فی هذه المسألة؟ هل أنّ الإسلام یری واقعاً حقارة المال الثروة ویقرر ذمها ورفضها؟ إذا لم یکن الأمر کذلک فما معنی ما ورد فی هذه الروایات من ذم المال وتقبیح الثروة؟

ذهب بعض العلماء إلی أنّ التصوف الیونانی انتقل إلی بعض المسلمین من خلال ترجمة العلوم الیونانیة إلی


1- نقرأ فی حدیث شریف عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله:« من قُتل دونَ ماله فهو شهید»( خصال الصدوق، ص 607).
2- الفتنة الکبری، الدکتور طه حسین، ج 1، ص 17.
3- الدکتور طه حسین، الفتنة الکبری، ج 1، ص 17، مع التلخیص.

ص: 34

اللغة العربیة وکرس فی أذهان البعض أنّ المال والثروة وجمیع العلاقات المادیّة تعد مانعاً فی طریق تحصیل السعادة، إلی درجة أنّ البعض کما نقل أبوحامد الغزالی، کانوا یلقون بأموالهم فی البحر لتهذیب وتزکیة أنفسهم (1).

ویستفاد من بعض الأحادیث فی هذا الشأن أنّ هذه الفکرة کانت تنتشر بین حین وآخر عند بعض صحابة النّبی صلی الله علیه و آله ومن بین الصحابة من ترک زوجته وأبناءه وطلق الحیاة الدنیا وتوجه نحو الصحاری والجبال للعیش هناک، ولکن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله زجرهم عن هذا العمل إلی درجة أنّ بعض شأن النزول الوارد لبعض الآیات القرآنیة کان ناظراً إلی هذه الحالة(2)، ومن ذلک شکوی علاء بن زیاد عند أمیرالمؤمنین علیه السلام من أخیه عاصم، ممّا یحکی عن وجود هذا النوع من التفکر فی أشخاص مثل عاصم فی ذلک العصر(3).

وهکذا حکایة الرجل الذی جاء إلی أمیرالمؤمنین علیه السلام وهو یذکر الدنیا، فقال له الإمام علیه السلام:

«أَیُّهَا الذَّامُّ لِلدُّنْیَا

وأخذ یذکر کلمات وعبارات تستبطن مدح الدنیا والثناء علی هذه الحیاة وأنّها:

مَتْجَرُ أَوْلِیَاءِ اللَّهِ»(4).

هذه الروایات تبیّن أنّ بعض الجماعة لم یتمکنوا من حلّ هذا التضاد وعدم الاتساق بین هذه النصوص، ومن أجل حل هذه المسألة من الضروری الالتفات إلی هذه النقطة، وهی أنّ اختلاف التعابیر الوارد فی هذه النصوص غیر ناظر بشکل مباشر إلی أصل المال والثروة، بل فی الحقیقة إلی نوع ورؤیة تعامل الإنسان مع أمواله.

وتوضیح ذلک: أنّ الإسلام دین جامع لجمیع الأبعاد المادیّة والمعنویّة، الفردیة والاجتماعیّة للإنسان، والبرنامج الاقتصادی للإسلام یهدف إلی تحصیل سعادة الدنیا والآخرة، فی هذه الرؤیة المنسجمة مع واقع فطرة الإنسان لا یوجد تعارض بین الدنیا والآخرة، ولا تقف الدنیا فیها مقابل الآخرة، بل الحیاة الأخرویة تعتبر امتداداً للحیاة الدنیویّة، ومن هذه الجهة فالرؤیة الإسلامیّة لا تحقر أصل المال من جهة، ولا شکل الإنتاج أو المصرف من جهة أخری، بل کلّ ذلک وقع مورد التأکید والتوصیة فی دائرة المفاهیم الدینیّة، وأمّا ما وقع فی مورد الذم أو المدح فهو رؤیة الإنسان لإمکاناته المادیّة وکیفیة تعامله معها.

وفی هذه الرؤیة إذا جعل الإنسان من إمکاناته المادیّة وسیلة للنشاط والعمل والإنتاج والاشتغال وتحرک علی مستوی إعمار حیاته وفی ذات الوقت الإنفاق فی سبیل اللَّه، فإنّ المال والثروة تکون تابعة لتلک الأهداف المتعالیة الإنسانیّة وتکون ذات قیمة، ولکن إذا غفل عن هذه الأهداف والقیم المتعالیة واعتقد بأنّ


1- انظر: مظاهر الحق،( جلوه حق) بالفارسیّة، ص 158.
2- عندما أُخبر النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّ جماعة من المسلمین ترکواالدنیا واختاروا العزلة والعبادة، غضب لذلک وعاتبهم بشدّة وقال:« لا رهبانیّة فی الإسلام»( دعائم الإسلام، ج 2، ص 193) وفی حدیث آخر قال« لعثمان بن مظعون»:« إنّ اللَّه تبارک وتعالی لم یکتب علینا الرهبانیّة إنّما رهبانیّة أمّتی الجهاد فی سبیل اللَّه»،( بحار الأنوار، ج 67، ص 114). وهکذ ورد فی الآیة 27 من سورة الحدید جملة:« وَرَهْبَانِیَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا کَتَبْنَاهَا عَلَیْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ» والتی تتضمّن توبیخاً علی ترک الدنیا.
3- انظر: نهج البلاغة، الخطبة 209.
4- نهج البلاغة، الکلمات القصار، الکلمة 131.

ص: 35

المال والثروة أصل فی الحیاة وتورط فی مسابقة مجنونة فی عملیّة التکاثر والإدّخار وجمع المال وترتب علی ذلک تحقیر الآخرین ورؤیته لذاته من مواقع الفوقیة والغرور، وطلب الثروة من أجل الثروة نفسها بعیداً عن أحکام الحلال والحرام أو إنشغل بها عن وظائفه الدینیّة، فإنّ الإسلام قطعاً لا یوافق علی هذه الحالات المادیّة ویقف موقفاً سلبیاً من هذه الثروة ویری بأنّها خطیرة جدّاً علی شخصیة الإنسان السامیة.

وخلاصة الکلام أنّ المال فی حدّ ذاته لا یعتبر مذموماً فی الرؤیة الدینیّة، ولکن إذا صار مصدراً للفساد والانحطاط لشخصیة الإنسان، فمثل هذا المال والثروة یعد أمراً مذموماً ومخالفاً للقیم الدینیّة والإنسانیّة ولا یعتبر خیراً.

وتقرر الآیة الشریفة:

«إِنَّ الْإِنسَانَ لَیَطْغَی* أَنْ رَّآهُ اسْتَغْنَی»(1)

، أنّ الإنسان یتحرک من مواقع الطغیان إذا رآی فی نفسه الاستغناء عن مصدر العزّة والکرامة، فهذه الآیة تبیّن هذه الحقیقة وهی أنّ کیفیة رؤیة الإنسان للمال والثروة من شأنها تغییر شخصیّة الإنسان وسوقه فی دروب الفساد والضلالة.

وعبارة «أن رآه استغنی بدلًا من «الغنی والمقتدر» توحی بأنّ ما فیه خطر للإنسان هو نوع رؤیته وتصوره عن المال والثروة لا عن أصل وجود المال ولا کیفیة تحصیله وإنفاقه.

ونقرأ فی حدیث شریف عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله:

«نعم المال الصالح للرجل الصالح»(2).

وکما قال الشاعر:

إذا المرءُ لَم یَعتَق مِنَ المالِ نَفْسَهُ تَمَلَّکَهُ المالُ الّذی هُو مالِکُهُ

ألا إِنّما مَالِی الَّذی أَنا مُنفِقُ وَلَیسَ لِی المالُ الّذی أنا تارِکُهُ

إذا کُنتَ ذامالٍ فَبادِرْ بِهِ الّذی یَحقُّ وَإلّا استَهلَکَتْهُ مَهالِکُهُ

وقال الآخر:

مَن یَفعلِ الخیرَ لا یُعدم جوازیه لا یَذهبُ العرفُ بین اللَّه والناسِ

وتشبیه الثروة والإنسان بالبحر والسفینة من جهة أنّ ماء البحر إذا نفذ إلی داخل السفینة فإنّه یتسبب إلی غرقها، ولکن بقی تحت السفینة فلیس فقط لا یتسبب الإضرار بها بل سیکون وسیلة للنجاة للوصول إلی مرفأ السلامة وساحل الأمن، والمال أیضاً إذا کان وسیلة فی اختیار الإنسان فإنّه سیؤدی إلی نجاته ولکن إذا استغرق فیه الإنسان فإنّه سیؤدی إلی هلاکه وسقوطه. وهذا الطریق لحل هذه المسألة یمکن استحصاله من آیات وروایات عدة:

أ) نقرأ فی قصّة قارون فی سورة القصص بأنّ علماء بنی إسرائیل اقترحوا علیه أربع مقترحات وقالوا:

«وَابْتَغِ فِیمَا آتَاکَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِیبَکَ مِنَ الدُّنْیَا وَأَحْسِنْ کَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَیْکَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ


1- سورة العلق، الآیة 6 و 7.
2- مسند أحمد، ج 4، ص 197. ورد هذا الحدیث الشریف فی بعض المصادر بهذه الصورة:« نعم المال الصالح للمرء الصالح».

ص: 36

فِی الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَایُحِبُّ الْمُفْسِدِینَ»(1).

ویستفاد من هذه الآیة بوضوح أنّ الثروة الاسطوریة لقارون أیضاً، والتی کانت مفاتیح کنوزه أن جماعة قویة لا یستطیعون حملها إلّابصعوبة بالغة إذا تقرر أن تکون فی خدمة الناس والطبقة المحرومة فی المجتمع وفی طریق إزدهار وتقدم المجتمع ولم تکن عاملًا للطغیان الفساد، فإنّ لها قیمة معتبرة.

ب) ورد فی الروایات أنّ أحد أصحاب الإمام الصادق علیه السلام قال: قال رجل لأبی عبداللَّه علیه السلام: واللَّه لنطلب الدنیا ونحبّ أن نؤتاها: فقال علیه السلام:

«تحبّ أن تصنع بها ماذا؟»

قال: أعود بها علی نفسی وعیالی، وأصل بها وأتصدق بها وأحجّ وأعتمر، فقال أبو عبداللَّه علیه السلام:

«لیس هذا طلب الدنیا، هذا طلب الآخرة»(2).

ج. وفی حدیث آخر عن هذا الإمام علیه السلام:

«لا خیر فی مَن لایُحبُّ جمعَ المالِ من حلال یکُفُّ بِهِ وَجْهَه ویقضی به دَیْنَه ویَصِلُ بِهِ رَحِمَهُ»(3).

وببیان آخر: إنّ الإمکانات المالیّة فی نظر الإسلام إنّما تکون مقبولة ومحبذة فیما إذا وقعت فی طریق تقویة المجتمع الإسلامی وخدمة الناس، مضافاً إلی رفع وإشباع الحاجات الفردیة للشخص، وعلی هذا الأساس فالشخص الذی یسعی فی جمیع سنوات عمره لتقویة البنیة الاقتصادیّة والثروة العامّة للمجتمع الإسلامی وبالتالی یزید فی عزّة وقدرة الإسلام والمسلمین، فإنّها تعدّ من أکبر العبادات، وبدیهی أنّ العمل بهذا المعنی لا یعدّ من إکتناز المال، بل علی حدّ تعبیر الروایات «إصلاح المال» أو «إصلاح المعیشة».

ونختتم هذا البحث بروایة عمیقة المغزی عن النّبی


1- سورة القصص، الآیة 77.
2- الکافی، ج 5، ص 72، ح 10؛ وسائل الشیعة، ج 12، ص 19، باب 7، ح 3.
3- المصدر السابق، ح 5.

ص: 37

الأکرم صلی الله علیه و آله، حیث جاءت جماعة إلی رسول اللَّه وکان هناک شاب یعمل علی الکسب، فقال بعض هؤلاء الصحابة مشیراً إلی هذا الشاب: لیت أنّ هذا الشاب صرف قواه فی سبیل اللَّه، فلما سمع النّبی صلی الله علیه و آله هذا الکلا قال:

«إن کان یسعی علی ولده صغاراً، فهو فی سبیل اللَّه، وإن کان خرج علی أبوین شیخین کبیرین، ففی سبیل اللَّه، وإن کان خرج یسعی علی نفسه لیعفّها، ففی سبیل اللَّه، وإن کان خرج یسعی علی أهله، ففی سبیل اللَّه، وإن خرج یسعی تفاخراً وتکاثراً ففی سبیل الطاغوت»(1).

أدلة ذم الدنیا والمظاهر المادیّة:
اشارة

مع الالتفات إلی ما تقدّم بیانه، یمکن فهم السبب الأصلی لذم الدنیا من خلال ما نستوحیه من الآیات القرآنیة والنصوص الواردة فی مدح الدنیا وذمها، وتتلخص فی ثلاثة أمور:

1. التعلق القلبی

تقدّم أنّ الشریعة الإسلامیّة لا تعتبر أصل المال والثروة أمراً ذمیماً وسلبیاً، بل إنّ التعلق بالدنیا ومظاهرها وزخارفها هو المذموم، ونقرأ فی القرآن الکریم قوله:

«فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُکِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَیْهِمْ أَبْوَابَ کُلِّ شَیْ ءٍ حَتَّی إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً»(2).

والتعبیر ب «

فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا

» أو «

فَرِحَ بِهَا

» الوارد فی سورة الشوری (3)، لا یقتصر علی معنی الفرح الساذج فقط، بل المراد التعلق القلبی بالدنیا وحالة الغرور التی یعیشها هذا الإنسان بسبب ما یملکه من الأمور المادیّة والدنیویّة.

2. نسیان اللَّه

إذا أدّی حب المال والثروة إلی مزید من العلاقة الشدید بالدنیا والتشبث بالمادیات بحیث ینسی هذا الإنسان الباری تعالی، فمثل هذا المال والثروة سیقع مذموماً، وینبغی الحذر منه، ونقرأ فی القرآن الکریم قوله:

«یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لَاتُلْهِکُمْ أَمْوَالُکُمْ وَلَا أَوْلَادُکُمْ عَنْ ذِکْرِ اللَّهِ»(4).

وجدیر بالذکر أنّ التحذیرات القرآنیة فی مورد علاقة الإنسان بزوجته وأبناءه وحیاته لا تعنی قطع الروابط العاطفیة فی أجواء الاسرة أو عدم الارتباط معهم برابطة العواطف الإنسانیّة، بل المراد أنّ الإنسان لا ینبغی أن یعیش العشق لزوجته وأبناءه والحب للمال والمقام بحیث یؤدّی ذلک إلی وقوعه فی دائرة نسیان اللَّه وبالتالی یتحرک الإنسان فی مسیرته بعیداً عن دائرة العبودیة والإطاعة للَّه تعالی.

ویقول القرآن الکریم مشیراً إلی هذه النقطة:

«قُلْ إِنْ کَانَ آبَاؤُکُمْ وَأَبْنَاؤُکُمْ وَإِخْوَانُکُمْ وَأَزْوَاجُکُمْ وَعَشِیرَتُکُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ کَسَادَهَا وَمَسَاکِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَیْکُمْ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِی سَبِیلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّی یَأْتِیَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَایَهْدِی الْقَوْمَ الْفَاسِقِینَ»(5).

3. ترجیح الدنیا علی الآخرة

نستوحی من الآیات القرآنیة أنّ أحد الجهات الذمیمة للمال فی نظر الدین تعود إلی هذه الحقیقة، وهی أنّ الإنسان عندما یجد نفسه علی مفترق طریقین: الدنیا والآخرة، فإنّه یختار الدنیا علی حساب الآخرة ویغفل عن مقتضیات الحیاة الاخرویة.

والقرآن الکریم یشیر إلی هذه النقطة فی آیات عدّة، ومنها ما ورد فی سورة النحل فیما یتصل بالأشخاص الذین آمنوا ولکنّهم بعد إیمانهم ارتدوا عن الدین وسلکوا طریق الکفر والارتداد، تقول الآیة:

«ذَلِکَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَیَاةَ الدُّنْیَا عَلَی الْآخِرَةِ»(6).

ونقرأ فی سورة التوبة، أنّ اللَّه تعالی ذمّ تلک الفئة من المسلمین الذین تخاذلوا عن التوجه إلی میدان الجهاد والقتال فی غزوة تبوک وقال:

«أَرَضِیتُمْ بِالْحَیَاةِ الدُّنْیَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَیَاةِ الدُّنْیَا فِی الْآخِرَةِ إِلَّا


1- المعجم الصغیر، ج 2، ص 60.
2- سورة الأنعام، الآیة 44.
3- سورة الشوری، الآیة 48:« وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا».
4- سورة المنافقون، الآیة 9.
5- سورة التوبة، الآیة 24.
6- سورة النحل، الآیة 107.

ص: 38

قَلِیلٌ»(1).

وکذلک ما ورد فی سورة الأعلی فی ذمّ الأشخاص الذین سقطوا فی أسر المطامع الدنیویّة وخدعتهم الدنیا بزخارفها فنسوا الآخرة، تقول الآیة:

«بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَیَاةَ الدُّنْیَا* وَالْآخِرَةُ خَیْرٌ وَأَبْقَی»(2).

وخلاصة الکلام، أنّ ما ورد فی ذمّ الدنیا فی الرؤیة الدینیّة لا یعود فی الواقع إلی أصل الملکیّة والإمکانات المادیّة، بل یعود إلی التعلق القلبی بها والغفلة عن ذکر وتقدم الدنیا علی الآخرة.

ونختم هذا المقطع بکلام جامع ومعروف عن الإمام الحسین علیه السلام، حول سلوک أصحاب الدنیا والذین سقطوا أسری للمادیات:

«النّاسُ عَبیدُ الدُّنیا، وَالدّینُ لَعِقٌ علی ألسِنَتِهِمْ، یَحُوطوُنَهُ ما درَّتْ بِهِ مَعایشُهم، فإذا مُحِّصوا بالبلاء قَلَّ ألدیّانونَ»(3).

***

المنابع والمصادر

1. القرآن الکریم.

2. نهج البلاغة.

3. اسد الغابة فی معرفة الصحابة، علی بن محمّد بن الأثیر، دار الکتب العربی، بیروت.

4. أمالی الطوسی، أبوجعفر محمّد بن الحسن الطوسی، دار الثقافة، 1414 ه ق.

5. الانجیل متی.

6. بحار الأنوار، العلّامة محمّد باقر المجلسی، مؤسسة الوفاء، بیروت، الطبعة الثانیة، 1403 ه ق.

7. تاریخ بغداد، الخطیب البغدادی، دار الکتب العلمیّة، بیروت، 1417 ه ق.

8. التفسیر المنیر، الدکتور وهبة الزحیلی، دار الفکر، بیروت، 1411 ه ق.

9. التفسیر الأمثل، آیة اللَّه مکارم الشیرازی ومساعدیه، دار الکتب الإسلامیّة، الطبعة الثالثة، 1375 ه ش.

10. مظاهر الحقّ (جلوه حق)، آیة اللَّه مکارم الشیرازی، انتشارات نسل جوان، قم، الطبعة الثالثة، 1386 ه ش.

11. الخصال، الشیخ الصدوق، انتشارات جماعة المدرسین قم، 1403 ه ق.

12. الدرّ المنثور، جلال الدین السیوطی، دارالفکر، بیروت، 1423 ه ق.

13. دعائم الإسلام، القاضی نعمان المغربی، دار المعارف مصر، قاهرة، الطبعة الثانیة.

14. عوالی اللئالی، ابن أبی جمهور الاحسانی، سید الشهداء، قم، 1403 ه ق.

15. الفتنة الکبری، الدکتور طه حسین، دار المعارف، مصر، الطبعة الثامنة.

16. الکافی، محمّد بن یعقوب الکلینی، دارالکتب الإسلامیّة، آخوندی، قم، الطبعة الثالثة، 1388 ه ق.

17. کنز العمّال، المتّقی الهندی، مؤسسة الرسالة، بیروت، الطبعة الخامسة، 1405 ه ق.

18. مجمع البیان، فضل بن الحسن الطبرسی، المجمع العالمی


1- سورة التوبة، الآیة 38.
2- سورة الأعلی، الآیة 16- 17.
3- بحار الأنوار، ج 44، ص 195.

ص: 39

لتقریب المذاهب الإسلامیّة، 1378 ه ق.

19. المحجّة البیضاء، المولی محسن الفیض الکاشانی، مکتب الإعلام الإسلامی، قم، الطبعة الثانیة.

20. مسند أحمد، أحمد بن حنبل، دار صادر، بیروت.

21. المعجم الصغیر، الطبرانی، دارالکتب العلمیّة، بیروت.

22. المفردات، الراغب الإصفهانی، دار المعرفة، بیروت.

23. المنار، محمّد رشید رضا، دار المعرفة، بیروت، الطبعة الثانیة.

24. من لا یحضره الفقیه، الشیخ الصدوق، انتشارات جماعة المدرسین، قم، الطبعة الثانیة، 1404 ه ق.

25. المیزان، العلّامة الطباطبائی، مؤسسة اسماعیلیان، الطبعة الخامسة، 1412 ه ق.

26. وسائل الشیعة، محمّد بن حسن الحرّ العاملی، دار احیاء التراث العربی، بیروت.

ص: 40

ص: 41

(3). الاقتصاد العالمی بین المآزق والأزمات

اشارة

المقدّمة: آفاق موحشة

1. زیادة الفقر وتراکم الثروة (الفوارق الطبقیة)

2. المشکلات البیئیة

3. زیادة الاستهلاک

4. مسابقة التسلح والطریق المسدود

5. الإنفاق الهائل للتبلیغ الخادع فی مسائل التجارة

6. الأموال المشبوهة وخطر تبییض الأموال

7. مأزق تراکم القروض

8. الإخفاق فی جمیع الأبعاد

مسؤولیّة علماء الإسلام

ص: 42

ص: 43

الاقتصاد العالمی بین المآزق والأزمات

المقدّمة: آفاق موحشة

یمرّ أکثر من مائتی عام علی النظریّة الاقتصادیّة لمؤسس مذهب الاقتصاد الکلاسیکی (1) الذی یقوم علی أساس السوق الحر(2)، وبالرغم من طرح نظریات أخری فی هذه المدّة فی العالم الرأسمالی، ولکن جمیع هذه النظریات تقوم علی أساس السوق الحر، و «نظام الربح والنفع الشخصی»، وفی هذه النظریّة فإنّ «المسؤولیّة الاجتماعیّة الوحیدة للإنسان هی زیادة ربحه»(3) وتعلن هذه النظریّة بکل فخر أنّ: «الأصل الأولی لعلم الاقتصاد هو أنّ الدافع لکلّ عامل، (الناشط الاقتصادی) یتمثّل فقط فی الربح الشخصی»(4) ..

إنّ الاقتصاد الغربی بدأ نشاطه من إخراجه الأخلاق والدین المسیحی من دائرة المعاملات الاقتصادیّة، وتبعاً لذلک تحرک علی مستوی الشک فی وجود اللَّه ومخالفة حضور الباری تعالی فی المیادین الاجتماعیّة ومنها الاقتصاد، هؤلاء یتصورن أنّ اللَّه تعالی مثل «صانع الساعة» الذی یکون وجوده ضروریاً فی بدایة الحرکة «وهی ماکنة نیوتن العالمیّة» لغرض ضمان الحرکة العادیة لها دون أن یتدخل مباشرة فی عملها.

وعندما یعیش الإنسان حالة التردد بالنسبة لوجود اللَّه، أو لا یری أهمیّة لوجود اللَّه فی حیاة الإنسان والبشریّة، فحینئذٍ لا یبقی مجال للتفکیر فی الحیاة بعد الموت، أو التوقف فی منزل المحاسبة فی مقابل اللَّه تعالی، وفی هذا الجو الذی لا یوجد فیه هدف نهائی للحیاة، فإنّه لا یبقی مجال للقیم المتعالیة التی یتحرک الإنسان فی فضائها فی واقع الحیاة، وفی هذه الصورة سیکون کلّ شی ء مباحاً، وکما قال «جان بول سارتر»: «إنّ حریة الإنسان، هی الأصل الوحید للقیم، فلا نحتاج بعدها إلی مبررات أخری للقیم التی یختارها الإنسان فی حرکة الحیاة»(5).


1- آدام اسمیت( م 1790).
2- انظر: الاقتصاد والتنمیة فی نموذج جدید( اقتصاد توسعه یک الگوی جدید) بالفارسیّة، ص 25.
3- 1. See milton friebman, capitalism and freedom) 2791(, p. 331.
4- 2. F. Y. Edge worrtn, mathmatical psychics: An Essay on the application of mathematics to the moral science) 1881(, P. 61.
5- انظر: الإسلام والأزمة الاقتصادیّة( اسلام و چالش اقتصادی) بالفارسیّة، ص 55- 57.

ص: 44

وبتعبیر الشهید الصدر قدس سره: «إنّ الإنسان الأوروبی ینظر إلی الأرض دائماً لا إلی السماء»(1)، أی القوانین الإلهیّة والقیم المعنویة.

وعلی هذا الأساس فإنّ الاقتصاد الرأسمالی بتغییره للرؤیة الکونیّة، تحرک علی مستوی السعی الحثیث فی مجال الاقتصاد، ونعلم «أنّ الرؤیة الکونیّة تمثّل أرکان ودعائم البناء، وبالرغم من أنّ هذه الدعائم خفیة عن الأنظار، إلّاأنّ تملک دوراً مهماً فی ثبات وبقاء البناء»(2) إذا کانت الرؤیة الکونیّة مادیّة، فإنّ النتیجة القطعیة لها هو تأسیس نظام مادی، وفی هذا النظام الاقتصادی لا مجال للأهداف الإنسانیّة والقیم الأخلاقیّة وشعار العدالة والرفاه ورفع الفقر، وعلی حدّ تعبیر أبی الأعلی المودودی: إنّ زراعة نبات «القطن» یحتاج إلی وجود بذر هذه النبتة، ومن هذه الجهة فإنّ زراعة بذر شجرة اللیمون لا یمکنها أن تعطی ثمرة نبات «القطن» وإن کان البذر المذکور من أفضل أنواعه»(3).

إنّ مشکلات النظام الرأسمالی وعدم وجود طریق لحل التعقیدات فی هذا النظام تسبب فی توجه بعض البلدان الغربیة إلی نظامین آخرین: أحدهما النظام الاشتراکی الذی یقوم علی أساس نفی الملکیّة الخاصّة وإلغاء ملکیّة وسائل الإنتاج ورفع شعار «من کلّ شخص بحسب قدرته ولکلّ شخص بحسب حاجته»، والآخر: «نظام دولة الرفاه العلمانیة» حیث إنّ الحکومة موظفة فی هذا النظام لتحقیق الحدّ الأکبر من العدالة والرفاه وللحکومة دور أکبر فی مسألة ضمان العدالة(4)، ولکن کلا هذین النظامین أخفق فی الوصول إلی غایاته المنشودة، النظام الرأسمالی واجه هزیمة منکرة، ودولة الرفاه، التی تشکلت لغرض الوقوف أمام نجاح الاشتراکیة فی بعض البلدان الغربیة، وجذبت فی البدایة جمیع الفئات الاجتماعیّة من العمال وأصحاب رؤوس الأموال فإنّها واجهت الکثیر من الإخفاق والفشل (5).

إنّ العامل الأساس فی جمیع هذه الإخفاقات یتمثّل فی إبعاد واقصاء التعالیم الدینیّة ودور الباری تعالی فی حیاة البشر ومن دائرة النشاطات الاقتصادیّة، وفی الحقیقة فإنّ حرکة «الاومانیسم» ومحوریة الإنسان والاعتماد علی العمل والتجربة بعیداً عن تعالیم الوحی، لا یؤدّی إلّاإلی هذه النتیجة، وحینما یتحرک الإنسان علی مستوی أن یری نفسه ربّاً وإلهاً علی الأرض، فسوف تترتب هذه النتائج المخیفة


1- اقتصادنا، مقدمة الطبعة الثانیة، ص 35.
2- الإسلام والأزمة الاقتصادیّة( اسلام و چالش اقتصادی) بالفارسیّة، ص 35.
3- المصدر السابق، ص 36.
4- تبیّن من ظهور الأزمة الاقتصادیّة فی اوربا عام 1929 أنّ الیدالخفیّة( التی طرحها آدم سمیت) عاجزة عن حل مشکلة الرکود الاقتصادی، ویری کینز، العالم الاقتصادی البریطانی( م 1946) أنّ الید الخفیّة هی نشاطات الحکومة فی حلّ الأزمات الاقتصادیّة.( الإقتصاد والتنمیة فی نموذج جدید( اقتصاد توسعه یک الگوی جدید) بالفارسیّة، ص 60).
5- الموارد المذکورة أعلاه ذکرها محمّد عمر بپرا فی کتابه« الإسلام والأزمة الاقتصادیّة» بشکل تفصیلی ومستند تحت عنوان الأنظمة الفاشلة.

ص: 45

علی مسیرته فی واقع الحیاة.

وفی هذه النظریّة یتمّ إشاعة ثقافة الاستهلاک، النفعیّة، طلب اللذة، النسبیّة، وأخیراً ظهور الفواصل الطبقیّة، والاستفادة من وسائل غیر أخلاقیّة لتجمیع الثروة، وشیوع الأمراض الأخلاقیّة وأشکال الإرباک الاجتماعی، ضعف العلاقات العاطفیة، اهتزاز بنیان الاسرة، استعمال المخدرات، وشیوع أمراض الایدز وأمثال ذلک.

مع هذه الرؤیة الکونیّة وهذه الأصول والمبانی، فإنّ تحرک الفرد علی مستوی التفکیر بخلاف المتداول والعمل من غیر هذا السلوک یعد أمراً عجیباً، وفی الفضاء الاجتماعی الذی یؤکد فیه دوماً علی حالات الحرص، طلب اللذة، النفعیّة، تحقیق المزید من الربح والاستهلاک الکثیر، من البدیهی أنّه لا مکان للفضیلة، والتقوی، والقیم الأخلاقیّة والمثل الإنسانیّة، لأنّ الشجرة التی تمتد بجذورها إلی حیث طلب اللذة وتتکوّن سیقانها من المنفعة الربح وتسقی بماء الاستهلاک، فإنّها لا تثمر سوی التمییز، الفاصلة الطبقیة والخلل الاجتماعی، ولا یمکن اقتطاف ثمرة العدالة ومحبّة الآخرین والأخلاق والمعنویّة من هذه الشجرة.

وفی مثل هذا المجتمع یأخذ الرق شکلًا جدیداً ویکون الناس عبیداً للمال واللذات والأهواء.

یقول الکاتب الأمریکی هنری میلر: «عندما أصدرلینکولن (رئیس جمهوریة أمریکا فی ذلک الوقت) إعلان الحریة وإلغاء الرق، فقد تصورنا أنّه قد وضع النهایة للرق، ولکن مضافاً إلی بقاء الرق الأسود، فإنّ الرق الأبیض قد ظهر فی جو المجتمع، أی عبید عصر الآلة والتقنیّة»(1).

ویقول الفیلسوف الألمانی المتأله بول تیلیش الذی عاش فی منتصف القرن العشرین: «الیوم نری من البدیهی وصف العصر الحاضر بعصر الاضطراب»(2).

وغیاب البعد الأخلاقی ستکون الإمکانات المادیّة وإرضاء المیول والشهوات هی الهدف، وفی هذا الوقت بالذات فإنّ تأمین الحاجات لا یعدّ المنشأ لإرضاء الناس، بل یمتد إلی منبع المنافسة مع الآخرین، فالتظاهر وتقلید من الآخرین سیکون هو المنهج المتبع، وأمّا الاستهلاک من موقع التفاخر أیضاً فإنّه بإمکانه تحقیق الإرضاء بشکل موقت، لأنّه بدون إیجاد معنی وهدف للحیاة فإنّ النماذج الموجودة لا تکون إلّاسوی تبدیل نوع فارغ بنوع آخر مثله، وکلّ شخص یجد نفسه، من أجل حفظ مکانته الشرائیّة، غارقاً فی طلب المنابع اللازمة بآلیات قانونیّة وغیر قانونیّة، ومن أجل الوفاء بوعوده فی مقابل اسرته وأصدقائه لا یجد من الوقت إلّاقلیلًا أو تکون رغبته ضعیفة فی هذا الشأن، وستکون الضغوط علی الإنسان إلی درجة أنّه لا یستطیع تحملها، ومن هذه الجهة ستؤدی إلی مزید من الاضطراب والقلق فی حالته


1- حضارتنا المادیّة فی الغرب( تمدّن مادیگرایانه ما غربی ها) بالفارسیّة، ص 53.
2- المصدر السابق، ص 52.

ص: 46

النفسیة(1).

وعلی أساس هذا النمط من التفکیر صرّح بعض علماء الغرب قائلًا: «لا یمکن جمع الأخلاق والاقتصاد معاً»، وقال أحد علماء الاقتصاد الغربیین واسمه «رابینس»: «یبدو أنّه غیر ممکن منطقیاً جمع مقولتی الأخلاق والاقتصاد مع بعضهما، بل لابدّ من تواجدهما فی عرض واحد أو بشکل متوالی»(2) (من دون أن یؤثر أحدهما فی الآخر).

ومع هذه المقدمة، یتیسر لنا دراسة المآزق والمشاکل التی توجه بلدان العالم التی تتحرک علی أساس النظام الرأسمالی بعیداً عن الأخلاق والمعنویّة:

1. زیادة الفقر وتراکم الثروة (الفاصلة الطبقیة)

إنّ من أهم معطیات النظام الرأسمالی الذی یقوم علی أساس السوق الحرة والمنافسة الکاملة والربح الأکثر، تتمظهر فی الفاصلة الطبقیة، فالإحصاءات تشیر إلی أنّ الاستثمار الجدید یلقی بظلاله علی حیاة الفقراء ویزید من معاناتهم، ویحصر الثروات المهمّة فی العالم بید فئة خاصّة من المجتمعات البشریّة.

إنّ تراکم الثروة بید عدّة فئة خاصّة وبلد خاص یعد فی المعاییر الحالیة أمراً عجیباً، فالإحصاءات تقول لنا:

«إنّ عدد الملیادریّة فی أمریکا یصل إلی 450 عضواً، ویملکون من الثروة بمقدار 60 بالمئة من الثروة العامّة لجمیع البشریّة، والثروة الخاصّة لعائلة والتون فی شمال غرب آرکانزاس (من الولایات المتحدة الأمریکیّة) تبلغ 85 ملیار دولار. وهذا المبلغ یعدّ أکثر من ضعفی الناتج القومی غیر الخالص لدولة بنغلادش؛ وهی الدولة التی یبلغ نفوسها 127 ملیون نفر»(3).


1- انظر: الإسلام والأزمة الاقتصادیّة( اسلام چالش اقتصادی) بالفارسیّة، ص 492- 493.
2- الاقتصادیّة والتنمیة فی نموذج جدید( اقتصاد توسعه یک الگوی جدید) بالفارسیّة، ص 138.
3- انظر: عولمة ا لفقر والنظام العالمی الحدید( جهانی سازی فقر و نظم نوین جهانی) بالفارسیّة، ص 42.

ص: 47

وکذلک فإنّ فی الولایات المتحدة الأمریکیّة التی تعد أغنی دولة فی العالم، فإنّه فی سنة 1993 م، بلغت أرباح خمس الأثریاء فی أمریکا، 44 فی المئة من الأرباح الکلیّة، فی حین ثلاثة أخماس من أفقر الناس استطاعوا الحصول علی ثلاثین فی المائة فقط من مجموع الأرباح.

طبقاً لما أورده البنک المرکزی الأمریکی «فدرال رزرو» فإنّه فی سنة 1990 م، وصل القیمة الخالصة للثروة واحد فی المائة من نفوس أمریکا أکثر من القیمة الخالصة لثروة 90 بالمئة من الطبقة الضعیفة من المجتمع، والملفت للنظر أنّ ثروة اسر ثریة فی أمریکا تبلغ قرابة 150 ملیار دولار، والتی تساوی جمیع ثروة ملیون اسرة متوسطة فی أمریکا ولیست اسر فقیرة(1).

ومن هذه الجهة یقول لئونارد سیلک (Silk Leonard): «إذا کان النمو الاقتصادی والسوق الحرة هو الحل الجامع لمسألة الفقر، فسوف یتساءل علماء الاقتصاد: لماذا صار وضع حالة الفقر فی أمریکا فی العقدین الأخرین أسوء ممّا سبق؟»(2).

وفی سنة 1996 بلغ مستوی الفقر فی أمریکا 7/ 13 فی المئة؛ یعنی 5/ 36 ملیون نفر، وفی نهایة عام 1997 إزدادت المجاعة والتفکک العائلی بشکل عملی (3).

هذه الأرقام المخیفة تشیر إلی أی حدّ وصل الاقتصاد العالمی الحالی من مرض، وإلی أی مدی وصلت حالة الفاصلة الطبقیة!!

وفی جمیع البلدان أیضاً التی تقوم علی أساس سیاسة الاستثمار الجدید، فإنّ جمیع الثروات ورؤوس الأموال تتعلق بالبلدان المتقدمة، أمّا البلدان فی طور التنمیة أو الفقیرة (بسبب النهب والاستعمار من قِبل البلدان المتقدمة) فإنّها تعیش عوائد واستثمارات قلیلة.

وعلی أساس ما ورد فی الإحصاءات فإنّ ثروة العالم بلغت 497 ملیار دولار، وفی سنة 2001 بلغت 1540 ملیار دولار، وهذا المبلغ یمثّل مجموع الناتج الخام القومی لجمیع بلدان جنوب أفریقیا (3/ 929 ملیار دولار) وأکثر من البلدان النفطیة فی الشرق الأوسط وشمال آفریقا (1340 ملیار دولار)(4) ..

وکذلک ورد أنّ ثروة عدّة مئات من الملیونری العالم تساوی ما یملکه 5/ 2 ملیار نفر من سکان العالم الفقراء(5).

یقول مایکل تودارو (عالم الاقتصاد الکبیر فی مرکز دراسات السیاسات فی هیئة الامم المتحدة واستاذ الاقتصاد فی جامعة نیویورک): «فی سنة 1980 م کان کلّ ناتج بلدان العالم أکثر من 20 هزار ملیار دولار وأکثر من 16600 ملیار دولار من هذا المبلغ یختص بالبلدان المتقدمة وما یقارب 3400 ملیار دولار یختص بالبلدان النامیة، وعندما نأخذ بنظر الاعتبار انتشار النفوس فی العالم یتبیّن لنا أن ما یقارب 83 فی المئة من جمیع الناتج العالمی یقع فی المناطق المتقدمة والتی عدد نفوسها أقل من 33 فی المئة من نفوس العالم، وعلی هذا الأساس فإنّ أکثر من ثلاثة أرباع نفوس العالم یملکون فقط 17 فی المئة من مجموع الناتج العالمی.

والأهم من ذلک من حیث الإنتاج والربح فإنّ العالم الثالث الذی یبلغ عدد نفوسه 77 فی المئة من جمیع نفوس العالم یملک أقل من 20 فی المئة من الإنتاج والربح العالمی، ومجموع العوائد المالیّة للبلدان المتخلفة أقل من واحد من عشرین من العوائد الفردیة بالبلدان الثریّة»(6).


1- عشرة أسئلة فی نظر علم الاجتماع( ده پرسش از دیدگاه جامعه شناسی بالفارسیّة، جوئل شارون، ترجمة منوجهر الصبوری، ص 101.
2- الإسلام والأزمة الاقتصادیّة( اسلام و چالش اقتصادی) بالفارسیّة، ص 491.
3- الأزمة فی الاقتصاد العالمی( بحران در اقتصاد جهانی) بالفارسیّة، ص 29؛ عولمة الفقر والنظام العالمی الجدید،( جهانی سازی فقر و نظم نوین جهانی) بالفارسیّة، ص 84.
4- gro. seussilabolg. www. 1
5- المصدر السابق.
6- التنمیة الاقتصادیّة فی العالم الثالث( توسعه اقتصادی در جهان سوم) بالفارسیّة، مایکل تودارو، ترجمة غلام علی فرجاد، ص 47.

ص: 48

وفی عام 1989 کان یعیش 25/ 1 ملیار نفر تقریباً أو 23 بالمئة من نفوس العالم فی حالة الفقر المطلق، وحسب نسبة نفوس العالم الثالث فإنّ نفراً واحداً من کلّ ثلاثة نفر یعیش حالة الفقر المطلق (1).

وعلی أساس تعریف الرئیس السابق للبنک العالمی «رابرت مک نامارا» فإنّ الفقر المطلق یتسبب فی هبوط ظروف الحیاة علی أساس المرض والامیة وسوء التغذیة، والتی یتمّ فیها التغافل عن الحاجات الأساسیّة للإنسان.

وعلی أساس ما ورد فی إعلان البنک العالمی للتنمیة فی 1992 فإنّ أکثر من ملیار نفر- أی خمس نفوس العالم تقریباً- یعیشون لحد الآن بدولار واحد للیوم الواحد(2)، وحالیاً فإنّ نصف نفوس العالم، أی ثلاثة ملیار نفر یکون عائدهم المالی الیومی أقل من دولارین فقط(3) ..

یقول الدکتور محمّد یونس (4) عندما کان یتسلم جائزة نوبل فی (19 دیسامبر 2006)، حول خطر الفقر للعالم:

«حالیاً فإنّ 94 فی المئة من إنتاج العالم تحت اختیار 40 فی المئة من نفوس العالم. فی حین أنّ 60 فی المئة من نفوس العالم تعیش 6 فی المئة من الإنتاج العالمی، وکذلک فإنّ نصف نفوس العالم یعیشون فقط بدولارین فی الیوم، وقرابة ملیار نفر یعیشون بأقل من دولار واحد للیوم، وفی عام 2000 فإنّ رؤساء جمیع بلدان العالم اتفقوا فی هیئةالامم المتحدة للقضاء علی نصف حالة الفقر فی العالم إلی سنة 2015؛ ولکن مع وقوع حادثة 11 سپتامبر فی أمریکا وحرب العراق، اهتم قادة العالم بالحرب علی الارهاب بدلًا من الحرب علی الفقر، ولحدّ الآن فإنّ حکومة أمریکا أنفقت فی حرب العراق فقط أکثر من 530 ملیار دولار»(5).

وفی الأخبار التی تصدرها المنابع الخبریة العالمیّة تشیر إلی أنّه فی سنة 2008 بلغت أخطار المجاعة حداً مخیفاً، وقد ورد فی الصحف:

«فی السنوات الثلاث الماضیة تضاعفت قیمة المواد الغذائیّة فی العالم إلی الضعفین علی الأقل.

أمّا الصین فقد عملت حکومتها علی برنامج ضبط ازدیاد النفوس لکی تحقق مزیداً من الرفاه للناس، ولکنها الصینین الآن یواجهون زیادة أسعار المواد الغذائیّة.

وفی مصر تضاعفت قیمة بعض المواد الغذائیّة فی سنة واحدة إلی ضعفین ووقف الناس فی صفوف طویلة مقابل الخبازین، وحکومة مصر سجلت اسم 15


1- المصدر السابق، ص 51.
2- انظر: البحوث الأساسیّة فی الاقتصاد والتنمیة( مباحث اساسی اقتصاد توسعه)، جرالد مِیِر، ص 30.
3- gro. seussilabolg. www. 1
4- العالم الاقتصادی بنغلادشی، حاصل علی 60 جائزة 60 معتبرةوعالمیّة، ویحمل 26 دکتوراه فتخریة والحاصل علی جائزة النوبل فی سنة 2006.
5- انظر: الفصلیة، الاقتصاد السیاسی( فصلنامه اقتصاد سیاسی» بالفارسیّة، السنة الرابعة، العدد الرابع، لسنة 1386 ه ش، ص 155.

ص: 49

ملیون نفر من سکان مصر فی فهرست الأشخاص الذین ینتفعون من البطاقة التموینیة.

أمّا فی هائیتی فإنّ الوضع أسوء بکثیر من ذلک، وقد قتل 5 نفر فی النزاعات والاضطرابات الناشئة من أزمة المواد الغذائیّة، وفی بنغلادش فإنّ الناس هناک یواجهون قلة المواد الغذائیّة، إلی درجة أنّ عشرات الملایین من الناس یواجهون خطر حذف البطاقة التموینیة وعدم الوجبات الغذائیّة الیومیّة.

وهذه الظواهر تبرز فی الکثیر من البلدان الأخری، ومع الالتفات إلی زیادة المواد الغذائیّة فإنّ مساعی الحکومات فی الکثیر من البلدان واجهت الإخفاق والفشل، وخاصّة بالنسبة للبلدان الفقیرة التی تواجه خطر نقص المساعدات العالمیّة.

وقد حذر الأمین العالم لهیئة الامم المتحدة (بان کی مون) أیضاً فیما یتصل بهذه الظاهرة، وأعلن أنّ السیر التصاعدی لأسعار المواد الغذائیّة سیؤثر سلباً علی المساعی العالمیّة لمحو الفقر فی العالم، وفی صورة استمرار هذه الظاهرة سیتعرض النمو الاقتصادی والأمن العالمی إلی الضرر»(1).

وعلی أساس خبر آخر فإنّ بان کی مون (رئیس الامم المتحدة) أعلن: «إنّ أزمة زیادة أسعار المواد الغذائیّة فی العالم یعنی فقدان فرصة لسبع سنوات لغرض تحقیق أهداف التنمیة لهیئة الامم المتحدة للألفیة الثالثة»(2).

وکذلک ورد فی الأخبار أنّ: «موجات من الاضطرابات الکبیرة تعرضت لها مصر، الکامرون، ساحل عاج، موریتانیا، مدغشقر و اثیوبیا، بسبب زیادة سعر الأغذیة. وکذلک تعرضت هائیتی والفیلیپین إلی هذه الأزمة»(3).

ونقلًا عن المؤسسة الخبریة الاقتصادیّة فی ایران عن صحیفة یورونیوز: إنّ شرکتین للمتاجر والأسواق الکبیرة المترابطة فی أمریکا ومنها أحد المتاجر المتعلقة بشرکة «وال مارت» قررت بیع الرز بشکل حصص معینة وکلّ مشتری لیس له الحقّ سوی شراء عدد قلیل من أکیاس الرز.

إنّ ظاهرة حصص الرز فی أمریکا منذ نهایة الحرب العالمیّة الثانیة یعدّ أمراً لا مثیل له.

وعلی أساس هذا الخبر: فإنّ سعر الرز ازداد منذ شهر «جانویه» الماضی إلی أکثر من ثمانین فی المئة(4) ..

وطبعاً لا ینبغی الغفلةأنّ جمیع هذه الأرقام والنتائج هی حصیلة النظام الاقتصادی المضطرب وغیر المتعادل للعالم المعاصر، والذی کان بعض الأشخاص فی السابق یدافعون عنه بشکل مطلق، وهذه الإحصاءات تؤید أنّه لابدّ من إیجاد تجدید وإعادة النظر فی مبانی النظام الاقتصادی الرأسمالی فی العالم، وإلّا فإنّ مستقبلًا مظلماً یتنظر المجتمعات


1- صحیفة قدس( روزنامه قدس) بالفارسیّة، الخمیس 5/ 2/ 1387، ص 8.
2- مجلة دنیا الاقتصاد( مجله دنیای اقتصاد) بالفارسیّة، 3/ 2/ 1387، ص 1.
3- صحیفة همشهری( روزنامه همشهری) بالفارسیّة، 5/ 2/ 1387، ص 18. تقریر مفصل فی هذا المجال فی صحیفة دنیا الاقتصاد( روزنامه دنیای اقتصاد) بالفارسیّة، 3/ 2/ 87، ص 1 و 4.
4- ri. swenoce. www. 1

ص: 50

البشریّة، وحتی فی البلدان المتقدمة تشیر الإحصاءات إلی أنّ عدد الفقراء فی ازدیاد مضطرب وهذا نابع فی الحقیقة من بنیة هذا النظام المتهری ء.

«فی البلدان المتقدمة مع کلّ ثرواتهم العظیمة فإنّه یوجد الآن مائة ملیون فقیر فیها»(1).

2. مشکلات البیئة

إنّ دافع الربح والنفع الأکثر، دفع البشر الحریص إلی الهجوم علی الطبیعة، فأصوات الآلات العظیمة المشغولة بقطع أشجار الغابات والمصانع التی تقطع أخشاب هذه الأشجار وتعمل إلی تحویلها منتجات صناعیّة، تسمع من کلّ حدب وصوب.

وهکذا بالنسبة لاستخراج المعادن بدون حساب، واصطیاد الأسماک بواسطة سفن الصید المجهزة والحدیثة، وصید الطیور والحیوانات بأجهزة حدیثة، ودفع الفضلات الذریة فی باطن الأرض، تلویث المیاه بواسطة المیاه الصناعیّة، نشر الغازات السامة فی الجو، إنتاج غازات بیوت النبات الصناعیّة، و ... یخبر عن فاجعة کبیرة للبیئة، ولکن الإنسان المادی والحریص علی زیادة النفع، قد اسدل الستار علی عینه واذنه عن هذه الحقائق، فهو یطلب الراحة فی هذا الیوم ویغفل عن الغد وما بعده، ویضحی بمستقبل الأجیال اللاحقة من أجل مطامعه وملذاته.

«بالرغم من وجود 230 معاهدة عالمیة لحد الآن فی مجال البیئة ولکن عدم تنفیذ هذه المعاهدات بشکل صحیح، وعدم إلحاق بعض البلدان مثل أمریکا بالکثیر من هذه المعاهدات تسبب فی عدم إیجاد الحل لهذه المشاکل فی دائرة البیئة والمحیط الطبیعی.

ویری البنک العالمی أنّ بعض هذه المشکلات فی البیئة کالتالی:

1. إنّ ثلث نفوس العالم محروم من الصحة المناسبة، وملیار إنسان محروم من الماء الصالح للشرب.

2. إنّ 3/ 1 ملیار نفر یعیشون فی حالة غیر سلمیة ناشئة من الدخان وتلوث الهواء.

3. إنّ 300 تا 700 ملیون امرأة وطفل یواجهون الضرر والخطر من التلوث الشدید فی الهواء الناشی ء من عملیّة الطبخ داخل المنازل «بشکل غیر مناسب».

4. إنّ مئات الملایین من المزارعین، الساکنین فی الغابات، والأهالی الذین ترتبط معیشتهم بالأرض وحالة المحیط والبیئة المساعدة یواجهون مشکلة فی هذا الشأن.

5. إنّ ربع الأراضی المزروعة و (القابلة للزراعة) تواجه مشکلة الملوحة والماء المالح.

لا یسمح للناس بالاستفادة من المنابع الطبیعیّة لهم وبالتالی یضطرون إلی زراعة الأراضی الواقعة فی حاشیة الغابات فیما یتسبب فی قطع أشجار الغابات»(2).


1- خبر التنمیة الإنسانیّة فی عام 1995 م( گزارش توسعه انسانی سال 1995 م) بالفارسیّة، ترجمة غلام حسین صالح نسب، مع ضمیمة مجلة الجهاد، سنة 15، ش 180 و 181، ص 8.
2- انظر: البحوث الأساسیة للتنمیة الاقتصادیّة( مباحث اساسی اقتصاد توسعه) بالفارسیّة، جرالد مِیِر، ترجمة غلام رضا آزاد، ص 79.

ص: 51

إنّ الأخطار التی تواجهها الغابات تعدّ خطر جدیّاً فی العالم، وناشی ء من حرص البشر علی زیادة الاستهلاک والمنفعة، إنّ الأشجار والغابات التی تمثّل رئة الأرض وتساهم فی إنتاج الاوکسجین وتصفیة التلوث ونمو ورشد الحیوانات، تواجه هجوم البشر علیها بدون رحمة.

یقول لستر براون (رئیس مؤسسة «حراس العالم» فی أمریکا) ومعاونیه علی أساس التحقیقات التی أجروها:

«علی أساس المطالعات التی اجریت فی عام 1991 علی ثلاثة أرباع غابات اوربا فإنّ اللجنة الاقتصادیّة فی هیئة الامم المتحدة أکّدت علی أنّ 2/ 22 فی المئة من هذه الغابات تتعرض للضرر، وهذا الرقم فی عام 1990، 8/ 20 فی المئة»(1).

وطبقاً لاحصاء آخر: «فإنّ کلّ دقیقة یتمّ إتلاف 60 جریب بسعة تعادل 60 ملعب لکرة القدم، من الغابات الاستوائیّة الممطرة فی الکرة الأرضیة تتعرض للتلف، وهذه الغابات تؤمّن حیاة ما یقارب 50 إلی 80 فی المئة من أنواع النباتات والحیوانات التی یبلغ عددها إلی 30 ملیون نوع تقریباً، إنّ حالة هدم وتخریب الغابات المنفلت یتسبب أنّ الغابات الاستوائیة فی الکرة الأرضیة تتعرض للفناء والتخریب الکلی فی 20 إلی 50 سنة قادمة، وتدریجیّاً


1- الحیاة فی الکرة الأرضیّة( علائم حیاتی کره زمین)، ص 175.( طبقاً لنقل: معرفة ظاهرة الفقر والتنمیة( پدیده شناسی فقر و توسعه) بالفارسیّة، ج 3، ص 340).

ص: 52

الأرض إلی صحراء»(1).

إنّ تخریب الغابات والمراتع یساهم فی تخریب الأراضی الزراعیّة أیضاً، ومن هذه الجهة فإنّ «فی الظروف الحالیة فالتخریب الناشی ء من الاستفادة غیر الأصولیة والمنفلتة، قضت علی کلّ فرصة لتجدید الحیاة الطبیعیّة للغابات، وعلی أساس الإحصاءات الموجودة فإنّ تخریب الغابات یتحرک فی قوس صعودی طیلة 20 سنة الماضیة، وتفقد الأرض فی کلّ ثانیة 320 متر مربع من الغابة و 450 متر مربع من المراتع، و 420 متر مربع من الأراضی الزراعیّة، ومن قیمتها وصلاحیتها وبالتالی تنعدم وتفنی عملیاً، وهذا المقدار یخبرنا عن تلف 400 ألف هکتار من الأراضی الزراعیّة و 5/ 2 ملیار متر مکعب فی السنة من التربة الزراعیّة»(2).

وبعض هذا التخریب یعود إلی حالة الرغبة فی التنوع فی الإنسان والمیل إلی التجمل والترف فی الحیاة، وهذه النقطة هی التی صرّح بها لستر براون فی تحقیقاته وقال:

«فی العشرین سنة الماضیة اقترنت حالة التجمل والاستهلاک المنفلت وطلب الرفاه الکبیر وخاصّة فی البلدان الغربیة أن تحوّلت 120 ملیون هکتار من الأراضی والغابات إلی صحاری، وهذا المقدار یعتبر أکثر من مجموع الأراضی التی تزرع فی کلّ عام فی الصین ونیجریة وفی نفس هذه المدّة فإنّ المزارعین فی العالم فقدوا أکثر من 480 ملیار طناً من التربة الصالحة للزراعة، وهی ما تعادل کلّ الأراضی الزراعیّة فی الهند وفرانسا.

وفی 25 سنة الماضیة تلفت أکثر من 2 ملیون کیلومتر مربع من الغابات فی العالم، وتقدر مساحتها بأوسع من مساحة إیران»(3).

وکذلک طبقاً للأخبار الواصلة: فإنّ التغییرات المناخیة وذوب الثلوج القطبیّة أدّی إلی جفاف نصف غابات الأمازون (والتی تعتبر إحدی الشرایین لحیاة الأحیاء علی الکرة الأرضیّة) إلی عام 2030 م، وهذه الغابات بسعة 4 ملیون کیلومتر مربع وتشکل ما یقارب 60 فی المئة من الغابات الاستوائیّة 5 برزیل، 4 للبرازیل (4) ..

ومعلوم أنّ سهم البلدان الصناعیّة المتقدمة فی تلویث الأرض أکثر من سائر البلدان الأخری، ولذلک نقرأ: «إنّ نفوس الولایات المتحدة الأمریکیّة تشکل 5 بالمئة من مجموع نفوس العالم، ولکنهم یستهلکون 25 فی المئة من الطاقة علی الکرة الأرضیة، وکلّ واحد من الأمریکیین ینتج من التلوث 20 إلی 100 أکثر من کلّ نفر یسکن فی بلدان العالم الثالث، وأطفال الأثریاء الأمریکیین وبسبب توفر إمکانات الحیاة الجدیدة التی وفرها لهم آباؤهم فإنّهم یتسببون فی تلویث الجو أکثر ألف مرّة من أمثالهم من أطفال بنغلادش أو باکستان»(5).

وفی نهایة هذا الفصل نستعرض تحذیر علماء العالم:

«فی عام 1992 م أصدر اتحاد العلماء الملتزمین بیاناً باسم «علماء العالم یحذرون المجتمع البشری» والذی یتشکل من ألف وستمائة نفر من علماء المعروفین فی العالم، ومنهم من 102 نفر ممن حصلوا علی جائزة نوبل، ویعلن هذا البیان أنّه بسبب النشاطات والسلوکیات المخربة للبشر فمن الممکن أن یحدث تغییر فی عالم الأحیاء إلی درجة أنّه لا یمکن ضمان وتأمین الحیاة بالشکل المعروف لدینا بعد ذلک»(6).

3. الاستهلاک المنفلت

إنّ الترغیب فی الاستهلاک المتزاید من جهة، والسعی لزیادة الأسعار بدافع من زیادة الربح من جهة أخری، تسبب أن یتحرک الأفراد فی البلدان الثریّة والمتقدمة نحو الاستهلاک أکثر من حاجاتهم، وأحیاناً یتزامن ذلک مع إلقاء المواد الغذائیّة فی البحر، أو بدفع


1- إذا کنت تحبّ السیارة( اگر سیاره را دوست دارید) بالفارسیّة، ص 57( طبقاً لنقل: معرفة ظاهرة الفقر والتنمیة( پدیده شناسی فقر و توسعه) بالفارسیّة، ج 3، ص 340).
2- صحیفة همشهری( روزنامه همشهری) الفارسیّة، 26/ 1/ 75.
3- الحیاة فی الکرة الأرضیّة( علائم حیاتی کره زمین) بالفارسیّة، لستر براون ومعاونوه، ترجمة حمید الطراوتی، ص 6( طبقاً لنقل: معرفة ظاهرة الفقر والتنمیة( پدیده شناسی فقر و توسعه) بالفارسیّة، ج 3، ص 338).
4- swen/ ri. batfa. www. 1
5- إذا کنت تحبّ السیارة( اگر سیاره را دوست دارید) بالفارسیّة، ص 13( طباً لنقل: معرفة ظاهر الفقر والتنمیة( پدیده شناسی فقر و توسعه) بالفارسیّة، ج 3، ص 358).
6- وضع العالم 1994( وضعیت جهان 1994) بالفارسیّة، لستر براون ومعاونوه، ترجمة عبدالحسین وهاب زاده.

ص: 53

المزارعین إلی ترک الزراعة، لغرض تثبیت الأسعار أو حتی زیادة قیمة المحاصیل الزراعیّة والمنتجات الغذائیّة.

«إنّ البلدان المتقدمة، مع أنّها تشکل 30 فی المئة من نفوس العالم، إلّاأنّها تملک استهلاکاً سنویاً للمواد الغذائیّة عالٍ جدّاً، وأکثر من حد الحاجة، وبعبارة أوضح، إنّ 54 فی المئة من الحبوب فی العالم تستهلک فی هذه المجتمعات المتقدمة، ولو أنّ هذه المجتمعات استهلکت 30 فی المئة الحبوب المنتجة فی العالم، أی حدود حاجتها للحبوب، فإنّ 24 فی المئة من هذا المقدار من الحبوب الزائدة بإمکانها اشباع وتغذیة ملیار نفر تقریباً من سائر المجتمعات البشریّة وبالتالی القضاء علی المجاعة نهائیاً»(1).

فی حین أنّ عدداً کبیراً من شعوب العالم یعیشون المجاعة وسوء التغذیة وجماعة کبیرة أیضاً یموتون لهذا السبب، وفی بعض البلدان تصرف أنواع الحبوب والثمرات فی صنع المشروبات الکحولیة.

«علی سبیل المثال فی عام 1985 إلی 1986 فإنّ 22 ملیون تن من المحاصیل الزراعیّة تمّ تبدیلها إلی اتانول (لغرض إنتاج المشروبات الکحولیة) وهذه الظاهرة فی حال ازدیاد مطرد»(2).

وطبقاً للاحصاءات الجدیدة فإنّ النفقات التی تصرف علی المشروبات الکحولیة فی أوربا سنویاً 105 ملیار دولار(3) ..

وکذلک فإنّ هذه السنة (2008 المیلادیة) والتی یواجه فیها العالم ارتفاع أسعار المواد الغذائیّة، فإنّ أحد أسباب الرئیسیة لهذا الغلاء استخدام الحبوب الزراعیّة لغرض الوقود.

وعلی أساس احصاءات هیئة الامم المتحدة، فإنّ نمو وارتفاع المحاصیل الرزاعیة فی السنة الماضیة فقط أدّی إلی أنّ 100 ملیون نفر یعجزون عن تأمین حاجاتهم الغذائیّة، هذا فی حال أنّ الولایات المتحدة الأمریکیّة تصر علی إنتاج الوقود النباتی من هذه المحاصیل الزراعیّة وبالتالی یؤدّی إلی قلّة العرض لهذه المحاصیل التی تعتبر السلة الغذائیّة للشعوب الفقیرة فی العالم وبتبع ذلک نشهد ارتفاع أسعار هذه المحصولات (4).

وکذلک ما ذکره البنک العالمی فإنّ ثلث القمح فی أمریکا ونصف الزیوت النباتیّة فی اوربا تصرف لإنتاج الوقود(5) ..

وجاء فی بعض الأخبار أنّه بعد ارتفاع سعر الوقود فی العالم، فإنّ أمریکا تسعی إلی تشویق الشرکات لاستخدام الوقود المستخرج من الذرّة والقمح، ومعلوم أنّ ذلک تسبب فی ارتفاع أسعار هذه المنتجات الزراعیّة(6).

وکل هذه الإسراف وهدر المواد الغذائیّة: «فی


1- الأمبریالیّة والتخلف( امپریالیسم و عقب ماندگی) بالفارسیّة، ص 52.
2- المصدر السابق، ص 55.
3- gro. seussilabolg. www. 1
4- انظر: موقع جام جم آنلاین الالکترونی.
5- moc. izason. www. 2
6- مجلة التجارة والاقتصاد( مجله تجارت و اقتصاد) بالفارسیّة، العدد 16، اردیبهشت 1387.

ص: 54

حین أنّ المعلومات التی أوردها البنک العالمی فی عام 1980، تشیر إلی أنّ 87 بلد من البلدان فی طور التنمیة والتی یصل عدد نفوسها 1/ 2 ملیار نفر فإنّ 730 ملیون نفر من هؤلاء یعانون من سوء التغذیة، وهذا الرقم یتوقع أن یزداد فی أواخر العقد 1980، إلی 800 ملیون نفر، وثلثی هذا العدد یسکنون فی قارة آسیا وربعهم فی آفریقیا»(1).

وطبقاً لأحدث الإحصاءات فإنّ 850 ملیون نفر تقریباً فی العالم یعانون من سوء التغذیة وقلّة المواد الغذائیّة(2).

ومع الالتفات إلی أنّ البواعث للوصول إلی هذا الهدف لم تتغیر فی الوقت الحاضر أو أنّها ازدادت حدّة، فإنّ نتیجة الإحصاءات الحالیة لیست بأفضل من السابق أیضاً، لأنّه یکفی أن نلقی نظرة علی النفقات التی تصرف علی المواد التجملیة وغیر الضروریة للبلدان الثریّة فی العالم لکی ندرک مقدار الإسراف والتبذیر وهدر رؤوس الأموال فی واقع الحیاة المادیّة فی العالم، ونلفت النظر إلی النفقات التی صرفت فقط فی عام 1998:

- نفقات التجمل فی أمریکا بلغت 8 ملیار دولار.

- نفقات الایسکریم فی اوربا بلغت 11 ملیار دولار.

- نفقات الحیوانات الأهلیة فی اوروبا وأمریکا بلغت 17 ملیار دولار.

- نفقات الترفیه والنزهة فی الشرکات الیابانیّة بلغت 35 ملیار دولار.

- نفقات التبغ والتدخین بلغت فی اوربا 50 ملیار دولار.

الآن نلقی نظرة علی الحاجات الضروریة لشعوب العالم ومقدار النفقات التی تحتاجها:

- توفیر الماء الصالح للشرب والإمکانات الصحیة تبلغ 9 ملیار دولار.

- نفقات سلامة الولادة لجمیع النساء تبلغ 12 ملیار دولار.

- نفقات الصحة الأولیّة والتغذیة تبلغ 13 ملیار دولار(3) ..

4. أزمة سباق التسلح

ومن جملة الأزمات والمآزق التی یواجهها العالم المعاصر، نفقات التسلح المذهلة، إنّ شرکات صناعة الأسلحة بالتواطؤ مع الحکومات المستکبرة ومن خلال إیجاد الاضطرابات فی المنطقة وتخویف الدول المجاورة من الأخری تسعی لبیع أسلحتها إلی هذه الدول، وبالتالی فإنّ القسم الأعظم من نفقات هذه الدول یتجه نحو شراء الأسلحة والمعدات العسکریة، ومن هذا الطریق فإن البرامج العمرانیة والبنی التحتانیة والرفاهیة فی هذه المجتمعات تواجه الرکود أو


1- تقریر التنمیة البشریة 1990( گزارش توسعه انسانی 1990) بالفارسیّة، هیئة الامم المتحدة، مختارات من المسائل الاقتصادیّة- الاجتماعیّة، العدد 108 و 109.
2- موقع همشهری الاکترونیة، الجوع غول لا یشبع( مقاله گرسنگی، غول سیری ناپذیر) بالفارسیّة.
3- gro. talase. www. 1

ص: 55

الضعف.

وهذه المنافسة والسباق فی التسلح یزداد فی کلّ عام وتزداد نفقاته أیضاً فی سیر تصاعدی، وبذلک تمتص قوة الاقتصاد فی هذه البلدان وتستدعی جنون السباق الموهوم والخطیر جدّاً.

وهذا البلاء الذی یهدد العالم بالفناء والدمار قد خرج من سیطرة البشر، فالبلدان والحکومات قد تورطت بأجمعها فی هذه الدوامة من سباق التسلح ولا تجد بصیصاً من الأمل فی الافق للخلاص والخروج من هذه المتاهة، وهذه المسألة ناشئة من رؤیة الاقتصاد الرأسمالی فی زیادة الثروة بأیة قیمة، وساقت الآخرین بهذا الاتّجاه الخطیر.

ولو ألقینا نظرة علی نفقات الحروب والتسلح فسوف نری أنّ نیران الحرب تستهلک وتهلک من الثروات والإمکانات عدّة أضعاف ما تتحمله هذه البلدان.

وعلی سبیل المثال فإنّ «النفقات العسکریة التی صرفت فی الحرب العالمیّة الثانیة بلغت 6000 ملیار دولار، وهذا المبلغ یعادل الإنتاج القومی العام فی العالم فی سنة 1975، وکذلک علی أساس إحصاءات الامم المتحدة، فإنّ النفقات العسکریة للعالم فی عام 1980 تساوی الإنتاج العام القومی لأمریکا اللاتینیّة وآفریقیا فی هذه السنة»(1).

ولا بأس أن نعلم أنّ «النفقات العسکریة للعالم فی عام 1975، بلغت 300 ملیار دولار، وهذا الرقم بلغ فی عام 1981 إلی 520 ملیار دولار، وفی عام 1982 إلی 650 ملیار دولار، وفی عام 1985 وصل إلی 800 ملیار دولار، یعنی فی کلّ دقیقة بشکل متوسط تصرف ملیون دولار فی العالم إلی النفقات العسکریة»(2)، وبالرغم أنّ هذه الإحصاءات تتعلق بالسنوات الماضیة ولکن جمیع القرائن والشواهد تشیر إلی أنّ هذه الإحصاءات تتحرک فی سیر تصاعدی.

وفی عام 2007 م بلغت النفقات العسکریة فی العالم 1100 ملیار دولار، ونصف هذا المبلغ صرف فی أمریکا فقط(3).

ورغم أنّ البلدان الثریّة والاستکباریة ورطت العالم فی متاهة من جراء الأهواء والمطامع لزعماء هذه الدول ومن أجل الوصول إلی أرباح کبیرة من خلال إشعال نار الحروب فی مناطق المعمورة وتخویف البلدان من جیرانهم وبالتالی امتصاص ثرواتهم وأموالهم بما یورث الضعف والاهتزاز فی اقتصاد هذه البلدان، ولکن نفس هذه الدول الاستکبار سقطت هی أیضاً فی دوامة هذه الخطة.

علی سبیل المثال «فی عام 1983 فإنّ نفقات


1- الأزمة الاقتصادیّة والاجتماعیّة( بحران اقتصادی واجتماعی)، ص 210.
2- الأمبریالیّة والتخلف( امپریالیسم و عقب ماندگی) بالفارسیّة، ص 92. واللافت أن نعلم أنّ القدرة التخریبیّة للأسلحة التی تنتج بهذه النفقات الباهضة بإمکانها إهلاک 70 ملیار إنسان، أی ما یعادل القدرة التخریبیّة لملیون قنبلة ذریّة کالتی القیت علی هیروشیما فی الیابان 6 معرفة ظاهرة الفقر والتنمیة( پدیده شناسی فقر و توسعه) بالفارسیّة، ج 3، ص 208.
3- وکالة أنباء الجمهوریّة الإسلامیّة( خبرگزاری جمهوری اسلامی) بالفارسیّة، 19/ 11/ 1386.

ص: 56

أمریکا فی إنتاج صورایخ XM ، بلغ 5/ 2 ملیار دولار، وهذا المبلغ بإمکانه أن یؤمّن جمیع نفقات استیراد القمح فی آفریقیا فی عام 1979 أو بإمکانه تنمیة وزراعة 10 ملیون هکتار من المراتع فی العالم الثالث، أو إنقاذ ملیونی هکتار من الأراضی الصالحة للزراعیة من أخطار السیول، أو یمثّل جمیع نفقات الرز فی آسیا»(1).

إنّ تنفید بعض برامج التسلح فی البلدان الاستکباریّة تسبب فی الحاق ضرر کبیر فی الأقسام الضروریة لبلد من البلدان، کما ذکروا أنّ «تنفید البرنامج العسکری لحرب النجوم الذی طرحه (رئیس جمهوریة أمریکا الأسبق رونالد ریگان) تسبب فی انخفاض معدل المساعدات الطبیة للمسنین وانخفاض المعونة المالیّة لصندوق العاطلین 4/ 1 ملیار دولار، وکذلک أدّی إلی توقف الاستثمار لإیجاد 000/ 310 فرصة عمل جدیدة، وبقطع المعونة لمعیشة سبعمائة ألف عائلة فقیرة، وتوقف أنواع البرامج الترفیهیة»(2).

ومن أجل أن نعلم تکلفة صاروخ واحد من الصواریخ العابرة للقارات، ینبغی أن نلفت النظر إلی هذه النقطة: وهی علی حدّ قول بعض السیاسیین أنّ نفقات صنع صاروخ واحد من الصواریخ العابرة للقارات بإمکانه إشباع 50 ملیون طفل جائع فی العالم، وری ملیون هکتار من الأراضی صالحة للزراعة وغرس 200 ملیون نبتة، وانتاج ملیون طن من الأسمدة الکیمیاویة»(3).

إنّ النفقات العسکریة لأمریکا فی عام 2009 بلغت أرقام خالیة، وطبقاً للأخبار الواصلة أنّ نفقات التسلح للولایات المتحدة فی السنوات الأخیرة تحرکت فی اتّجاه تصاعدی ونمو مستمر، وقد قرر رئیس جمهوریة أمریکا «جورج بوش» فی عام 2009 م مبلغ 515 ملیار دولار لوزارة الدفاع «بنتاغون»، وفی حال إقرار هذه اللائحة من قبل نواب الکنغرس فإنّ رشد النفقات العسکریة لأمریکا بالمقارنة للسنة المالیّة الجاریة بلغ 7 بالمائة.

إنّ جیش الولایات المتخدة فی عصر رئاسة جورج بوش، حظی بدعم مالی أکثر، فقبل 7 سنوات وعندما سلّم «بیل کلینتون» مفتاح البیت الأبیض لخلیفته جورج بوش، فإنّ نفقات البنتاغون کانت أکثر قلیلًا من 350 ملیار دولار. وعندما دخل بوش إلی البیت الأبیض، بدأ بنقد تخفیض نفقات التسلح فی عهد کلنتون ووعد بأن یزید من نفقات البنتاغون خلال 7 سنوات لتصل إلی 500 ملیار دولار.

إنّ النفقات المقترحة لجورج بوش لسنة 2009 م والتی صرفت علی حرب العراق وافغانستان بلغت 70 ملیار دولار. وهذا الرقم یمکنه أن یزداد أیضاً، لأنّه فی السنوات الماضیة فإنّ البیت الأبیض قدّم لائحة فی عدّة مراحل لتغطیة نفقات هذه الحرب إلی


1- الأزمة الاقتصادیّة والاجتماعیّة( بحران اقتصادی واجتماعی) بالفارسیّة، ص 100.
2- بیع الأسلحة للعالم الثالث( فروش اسلحه به جهان سوم) بالفارسیّة( جان مک کین)، مجلة مستحدثات الاقتصادیّة( تازه های اقتصاد) بالفارسیّة، العدد 19.
3- معرفة ظاهرة الفقر والتنمیة( پدیده شناسی فقر و توسعه) بالفارسیّة، ج 3، ص 210.

ص: 57

الکنغرس، والتخمینات الحکومیة للولایات المتحدة تشیر إلی أنّ النفقات الکلیّة للحرب والتی تشمل العراق وافغانستان خلال 6 سنوات الماضیة تجاوز 700 ملیار دولار. وبعبارة أخری فإنّ الأمریکیین الدافعین للضرائب یدفعون فی کلّ عام مئة ملیار دولار أکثر من المیزانیة العادیة للبنتاغون لغرض تأمین نفقات الأمور الدفاعیة والحربیة.

وطبعاً فإنّ الکنغرس یخضع للدیمقراطیین، وفی خبر مثیر أنّ النفقات المباشرة وغیر المباشرة فی الحرب علی الإرهاب بلغت 1700 ملیار دولار، وقد تنبأ نواب الکنغرس أیضاً أنّه فی صورة استمرار الحضور العسکری الأمریکی فی العراق، فإنّ هذه النفقات ستتجاوز 3500 ملیار دولار أیضاً(1) ..

5. النفقات الباهظة للإعلانات التجاریّة الخادعة

لا شک أنّ أصل التبلیغ للبضاعة ولغرض تعریفها للناس أمر معقول ومحبذ، ولکن فی أجواء ثقافة المنفعة، فإنّ الاتّجاه العام فی الإعلانات التجاریّة نحو الخداع والغش یعتبر أمراً غیر قابل للاجتناب، فالنظام الذی یقوم علی أساس الربح الأکثر مع تعب أقل، فإنّه یصرف النفقات الباهظة للإعلانات التجاریّة، وطبعاً فإنّ هذه النفقات تستخرج من جیب المستهلک.

إنّ والتر ترنس استیس فیلسوف أمریکی نال فی عام 1949 کرسی الرئاسة فی مؤسسة الفلسفة فی أمریکا وفی عام 1959 انتخب من قبل المؤسسات العلمیّة الأمریکیّة بوصفه أحد عشر علماء ممتازین فی أمریکا وهو أحد المنتقدین للثقافة الغربیّة.

یقول والتر ترنس استیس عن الإعلانات التجاریّة المخادعة:

«إنّ الإعلانات التجاریّة فی الحیاة الاجتماعیّة لها مکانها المشروع، وفی الواقع فإنّ قیمة هذه الإعلانات، فی بیان نوع المنتجات الصناعة المطروحة فی السوق، وکیف یستطیع المستهلک الحصول علیها، وتعطی للمستهلک معلومات عن الحصول علیها، ولکن إذا تجاوزت عن هذا الحدّ فإنّها تتحوّل إلی مکروب سرطانی فی المجتمع وبفاعلیة مضرة واقعاً وتشیر إلی وجود مرض فی جو المجتمع».

ثم یضیف: «إنّ أغلب أصحاب هذه الإعلانات التجاریّة لا یهتمون بهذه الحقیقة علی سبیل المثال عند یعلنون عن وجود منابع ترفیهیة ومصائف فی منطقة معینة، فإنّهم یؤکدون علی الجوانب الجذابة بشکل مبالغ فیه ویغضون النظر عن النواقص فیها، أو یکذبون علی الناس ویعرضون الصور الجمیلة بشکل ماهر بحیث یصورون الحدائق والأبنیة بشکل أکثر جذابیة ممّا هو واقع الحال، ویکذبون أیضاً فی ذلک، والمشکلة لیست فقط فی هذا الکذب بل فی أنّهم یسحقون بأقدامهم علی حس الصدق والشرف فی فضاء المجتمع وثقافته، بل یؤدّی ذلک إلی فناء وموت الشعور بالصدق والأمانة، وبالتالی تنزل المستوی


1- 1 .www .irna .ir / 6831/ 11/ 91

ص: 58

الأخلاقی فی عالم التجارة»(1).

وفی العشرین سنة الأخیرة فإنّ المؤسسات الإعلانیّة أدرکت أنّه من خلال استخدام حالة الانجذاب للظواهر البراقة، بإمکانهم بیع أنواع البضائع التی لا یحتاج إلیها الإنسان فی الواقع، والمؤسسات التجاریّة للإعلانات تعمل علی تبدیل الطمع الطبیعی والجزئی فی الإنسان إلی حال من الاضطراب العمیق لیکون باستطاعتهم الربح وبیع البضائع المنتجة لکم (2).

ومع الالتفات إلی الإحصاءات فی مجال نفقات الإعلانات التجاریّة تتبیّن هذه الحقیقة، وهی أنّ الشعوب البشریّة فی العالم المعاصر تنفق ثروات عظیمة من أجل الإعلانات الکاذبة للنفعیین، وبالتالی یقعون بلا وعی أسری لهذه الشرکات التجاریّة.

«طبقاً للاحصاءات فإنّ الشرکات المتعددة الجنسیات فی عالم 1984 م أنفقت 150 ملیار دولار لغرض الإعلانات وإیجاد السوق لبیع منتوجاتهم وخدماتهم، وهذا الرقم یتحرک بسیر تصاعدی فی السنوات اللاحقة، ومن جهة أخری فمن الواضح أنّ المستثمرین وأصحاب رؤوس الأموال یحصلون علی أرباح کبیرة من خلال الإعلان عن منتجاتهم وبضاعاتهم، لأنّ النفقات والأرباح المتوقعة تضاف فی مجموعها إلی النفقات الکلیّة، وعندما یتحرک السوق ویبدأ هجوم المستهلکین علی هذه المنتجات، فإنّ هذه النفقات الباهظة ستخرج من جیوب هؤلاء المستهلکین (3).

وکذلک فی سنة 2001، فإنّ مجموع نفقات الإعلانات لشرکة «جنرال موتورز» بلغت 14/ 2 ملیار دولار، وفی عام 2004 بلغ مجموع نفقات الإعلانات التجاریّة لشرکة «مایکروسافت» 25/ 1 ملیار دولار وشرکة سونی 01/ 1 ملیار دولار، وکذلک الحال فی نفقات الإعلانات فی العالم حیث تزداد هذه النفقات بشدّة(4).

وطبقاً للإحصاءت الجدیدة فإنّ نفقات الإعلانات علی المستوی العالمی بلغت أکثر من 400 ملیار دولار، من هذا الرقم کان لأمریکا السهم أوفر حیث بلغت حصتها 50 فی المئة، وبلغت نفقات البلدان النامیة أقل من 20 بالمئة(5).

ونعلم أنّ الشرکات من أجل بیع منتجاتهم وترغیب الناس فی بضاعتهم وإیجاد المیل لشراء هذه البضائع یستخدمون عدداً کبیراً من علماء النفس، علماء الاجتماع، القوی المتخصصة فی الإعلانات، الموسیقی، الفیلم والحیل التلفزیونیة، وطبیعی أنّ جمیع


1- انظر: التمدن المادی لعالم الغربی( تمدن مادّی گرایانه ما غربی ها) بالفارسیّة، ص 99- 100.
2- انظر: موقع« ساحة الفکر»، فصلیة التقدیر والتحقیق( فصلنامه سنجشی و پژوهشی) بالفارسیّة، العدد 29، الریع 1381 ه ش، ص 118.
3- مختارات المسائل الاقتصادیّة- الاجتماعیّة( گزیده مسائل اقتصادی- اجتماعی) بالفارسیّة، العدد 1364، ص 45.
4- انظر: مجلة کلیّة علوم الإدارة والاقتصاد( دانشکده علوم اداری و اقتصادی) بالفارسیّة، العام 19، العدد 2، سنة 1386 ه ش، ص 150.
5- انظر:« موقع ساحة الفکر»، فصلیة التقدیر والتحقیق بالفارسیّة، العدد 29، الربیع 1381، ص 115.

ص: 59

هذه الموارد تکلّف نفقات باهظة، ومن جملة معطیاتها وإفرازاتها الحتمیة، التأثیر علی فکر وذهن المخاطب، وسلب حقّ الاختیار من الناس فی محیط سلیم وعقلانی، وإشاعة ثقافة الاستهلاک، والناس فی هذا الوسط أحیاناً یدفعون المال لشراء بعض البضائع التی لا یحتاجونها بسبب الوقوع تحت تأثیر الانفعالات الناشئة من هذه الإعلانات التجاریّة، وحتی أنّهم أحیاناً یتجهون نحو شراء البضائع «کبعض المواد الغذائیّة» التی تضر بصحتهم أیضاً.

وجمیع الموارد المذکورة أعلاه، تنسجم مع واقع الثقافة الرأسمالیّة التی تهدف إلی استحصال ربح أکثر «من أی طریق کان»، وهذا التلوث الثقافی وللأسف إمتد إلی البلدان النامیة وبذلک منعها، إلی حدود معینة، من التفکیر بانتاج أو شراء البضائع الأساسیة واستثمار رؤوس الأموال فی محلّها المناسب.

وصحیح أنّ الإعلان التجاری بعث أحیاناً علی زیادة الإنتاج، وهذه الزیادة فی الإنتاج تسبب أحیاناً فی انخفاض الأسعار، لأنّ زیادة الإنتاج تقترن عادة مع نفقات أقل، ولکننا نعلم أنّ الکثیر من الإعلانات التجاریّة الحالیة لا تنحصر فی هذه الدائرة، بل تشمل الإعلانات الکاذبة التی تدعو الناس إلی الاستهلاک المحض، أو التبلیغ والتشویق لشراء البضائع المضرة واقعاً «من قبیل الإعلانات الواسعة للمشروبات المضرة، أو التبغ والسجائر وأمثال ذلک.

6. الأموال الوسخة وخطر تبیض الأموال

«المال الوسخ» یطلق علی الأموال التی یحصل علیها الإنسان من طریق التجارة غیر القانونیّة ومن خلال النشاطات الاقتصادیّة المنحرفة، وعادة تکون العصابات (1) هی التی تقف وراء هذه الأموال، ومن أجل التغطیة علی هذه العملیّة تسعی العصابات إلی إدخال هذه الأموال فی دائرة عملیات اقتصادیّة مشروعة، ویطلق علی هذه العملیّة «تبیض الأموال»(2).

إنّ الأرباح المستحصلة من المخدرات، الغش والاحتیال، تجارة الفحشاء والرق الجنسی وأمثال لذلک، تعتبر من مصادق «الأموال الوسخة»، وهذه الظاهرة تجلت الیوم فی البلدان التی یقوم اقتصادها علی نظام السوق الحر والنظام الرأسمالی الحالی، لأنّه علی أساس منطق «ربح أکثر وتعب أقل» فإنّ النفعیین، وهم عادة من المتعاملین مع السیاسیین وأصحاب المناصب السیاسیّة، یعیشون رغبة کبیرة إلی هذا النوع من المساعی والمعاملات وبالتالی یحصلون علی ثروات کبیرة من هذا الطریق.

«وعلی أساس خبر هیئة الامم المتحدة فی عام 1995، فإنّ مجموع المنتوج العالمی «المنظمات غیر القانونیّة المتعددة الجنسیات» بلغ ألف ملیار دولار، وهذا الرقم یعادل الربح القومی غیر الخالص لمجموعة البلدان الفقیرة التی یبلغ نفوسها 3 ملیار إنسان.

وهذه النتیجة من قِبل هیئة الامم المتحدة، تشمل تجارة المخدرات، بیع الأسلحة بشکل غیر قانونی، تهریب المواد النوویّة والأرباح الحاصلة من عصابات


1- انظر: عالمیة الفقر والنظم العالمیّة الجدیدة( جهانی سازی فقر و نظم نوین جهانی) بالفارسیّة، ص 118 وص 510.
2- المصدر السابق، ص 37.

ص: 60

المافیا الاقتصادیّة، «مثل تجارة البغاء، القمار، وأمثال ذلک»(1).

وعلی أساس تخمین الصندوق المال العالمی، فإنّه حالیاً یتمّ سنویاً تبییض 1500 ملیار دولار(2) ..

إنّ الربح الوفیر الناشی ء من إنتاج وتجارة المخدرات، دفع بعض البلدان للدخول فی هذا المیدان.

وفی زمان الدیکتاتور جارسیا مزا (1980- 1982) فإنّ اقتصاد کوکا (وهی ا لمادة الأولیّة لانتاج الکوکائین) کان مورد البحث والجدل فی المراتب العلیة فی أعضاء حکومة بولیوفیا؛ بحیث إنّ حکومة هذا البلد عرفت فی العالم ب «حکومة الکوکائین».

وحالیاً أیضاً فإنّ الکثیر من المنافع الصناعیّة والمالیّة المهمّة تعتمد علی تجارة «الکوکا»، یعنی من خلال الاستفادة من عوائد الکوکا یتمّ استثمارها فی الاقتصاد الحدیث (3).

وفی بلد بیرو أیضاً فی زمان حکومة فوجیموری فی سنة 1991، تدخل الجیش بشکل واسع فی تسویق خمرة الکوکا(4) وبسبب برنامج تعدیل بنیة الاقتصاد فی هذا البلد، فإنّ تجارة المخدرات غیر القانونیة اشتدت أکثر، فی حین الاقتصاد القانونی، أخذ بالضعف والذبول وتمّ استخدام مساحات أکبر من الأراضی لزراعة نبات الکوکا(5).

وأمّا آلبانیا، فی قارةاوربا فإنّها تمثّل مرکزاً لتجارة المخدرات فی منطقة البالقان، ومن هذه الجهة تورط رئیس آلبانیا کوزوفو ولغرض تسدید القروض الخارجیة فی هذه العملیّة وباستخدام مثل هذه الأموال الوسخة، فالدولارات المستحصلة من المخدرات أخذت طریقها إلی تسدید القروض الخارجیة، وذلک لغرض «إعادة البناء» أیضاً(6).

وقد أعلنت هیئة الامم المتحدة من خلال صدور خبر عن حالة زراعة الخشخاش وإنتاج المخدرات فی افغانستان وخاصّة فی محافظة هلمند، وأکد أنّه بلغ حد القلق والخطر، فهذه المحافظة التی تقع جنوب أفغانستان تعتبر الیوم أهم وأکبر مرکز لإنتاج المخدرات فی العالم.

هذا فی حین أنّه یوجد الآن أکثر من سبعة آلاف جندی بریطانی فی هلمند، وعلی أساس ما طرحه «تونی بلر» (رئیس وزراء انکلیز السابق)، حیث وعد قبل خمس سنوات أنّه یجب علی الانکلیز التصدی لزراعة الخشخاش وانتاج المخدرات فی أفغانستان، ومن هنا یتبیّن أنّ المسؤول الأصلی لظهور هذه الأزمة (زیادة إنتاج المخدرات) هی انکلیز.

وعلی أساس أخبار هیئة الامم المتحدة، فإنّ زراعة الخشخاش فی السنة الماضیة (1386) بلغ نموها 61 فی المئة.

ویضیف إعلان هیئة الامم المتحدة: أنّ مقدار الهیروئین المنتج فی افغانستان یساوی الهروئین


1- المصدر السابق، ص 37.
2- ri. swenaisa. www. 1
3- عالمیة الفقر والنظم العالمیّة الجدیدة( جهانی سازی فقر و نظم نوین جهانی) بالفارسیّة، ص 403( مع التصرف والتلخیص.
4- المصدر السابق، ص 390.
5- المصدر السابق، ص 391( مع التصرف والتلخیص).
6- المصدر السابق، ص 469.

ص: 61

فی کلمبیا، والمغرب وبرمه (التی تعتبر أهم منتجی هذه المادة الخطیرة)(1).

وفی خبر مطابق لاحصاءات CDONU (مکتب مکافة المخدرات والجرائم فی هیئة الامم المتحدة) فإنّ بیع وتجارة المخدرات سنویاً یبلغ مقدار 88 فی المئة أکثر من الإنتاج العام الداخلی لبلدان العالم (2) ..

وکذلک علی أساس الأخبار العالمیّة فإنّ تجارة الإنسان بوصفها أحد التجارات الأکثر ربحاً فإنّ ما یقارب 35 ملیار دولار سنویاً تصب فی جیوب هذه العصابات المنظمة(3) ..

وبدیهی أنّه إذا کان تجمیع الثروة هو المعیار للسعادة فی المجتمع البشری فإنّ البشریّة سوف لا یکون أمامها سوی هذا المصیر.

یقول آلک نوفو (Alec Nove): «إنّ المجتمعات التی لا تفکر إلّابالربح والنفع فإنّها ستضمحل وتنهار بسرعة، فعندما یکون الهدف الأساس والمعیار الکامل فی الحیاة هو جمع الأموال، فمن الممکن إزدهار الفساد فی فضاء هذا المجتمع»(4).

والآن لنتصور أنّه عندما تمتد هذه الأموال غیر السلیمة المستحصلة من المخدرات أو من الطرق غیر المشروعة وغیر الأخلاقیّة الأخری، من عصابات المافیا لتصل إلی الدول والحکومات الرسمیّة فی العالم وتتلوث بها، فماذا سیکون مصیر الشعوب، وإلی أی جهة سیتجه العالم فی المستقبل، وإلی أی درجة من الانحطاط ستصلها البشریّة؟

7. مأزق تراکم القروض

ومن جملة المآزق والأزمات الشدیدة جدّاً فی العالم المعاصر، والتی أصابت بلدان العالم الثالث والبلدان النامیة بسبب اتباعها للنظام الرأسمالی الحاکم، القروض الثقیلة التی تثقل کاهل هذه الدول للمؤسسات المالیّة العالمیّة کصندق النقد العالمی، البنک العالمی للتجارة، والبلدان الثریّة، وبسبب تعاملها مع المؤسسات والدول التی تتعامل بالربا وتنهب ثروات الشعوب بطرق جدیدة.

وطبقاً للإحصاءات فإن القروض الخارجیة للبلدان النامیة فی عام 1990 بلغت إلی 1314 ملیار دولار(5).

هذا فی حین أنّه طبقاً لخبر البنک العالمی فإنّ مجموع القروض طویلة المدّة للبلدان النامیة التی لم یتمّ تسدیدها فی عام 1970 بلغ ما یقارب 62 ملیار دولار، وهذا المقدار مع إضافة سبعة أضعافه لعقد واحد فی عام 1980 بلغ 481 ملیار دولار، وفی عام


1- موقع صحیفة همشهری الالکترونیّة( سایت روزنامه همشهری آنلاین) بالفارسیّة، 11/ 2/ 87. وسیأتی استعراض بعض الأرباح الحاصلة من تجارة الرقیق الأبیض( البغاء) وتجارة المخدرات والمواقع غیر الأخلاقیّة فی بحث( سیادة الأخلاق فی النظام الاقتصادی الإسلامی» فی هذا الکتاب من« دائرة المعارف والفقه المقارن».
2- moc. hcraeser- pu. www. 1
3- moc. repapswen- nari. www. 2
4- الإسلام والأزمة الاقتصادیّة( اسلام و چالش اقتصادی) بالفارسیّة، ص 339.
5- الإسلام والأزمة الاقتصادیّة( اسلام و چالش اقتصادی) بالفارسیّة، ص 261.

ص: 62

1988 بلغ ألفی ملیار دولار، وهذا یعنی زیادة 32 ضعف بالنسبة لعام 1970(1).

إنّ برنامج «الاستقرار الاقتصادی» و «سیاسة التعدیل» المقترحة من قبل البنک العالمی، وصندوق النقد العالمی، وبنک التجارة العالمی، تمّ فرضه علی هذه الدول وترتب علی ذلک آثار وخیمة ومضرة کثیرة(2)، ومن ذلک هذه القروض الثقیلة.

إنّ برنامج «التثبیت الاقتصادی» فی «البرازیل» أدّی إلی زیادة القروض الداخلیة للبرازیل إلی 60 ملیار دولار فی 1994، وبلغ أکثر من 350 ملیار دولار فی عام 1998(3).

وفی بلد صغیر وفقیر مثل «اوغاندا» فإنّ قروضها الخارجیة فی عام 1986 بلغت 3/ 1 ملیار دولار، ومع تزریق أموال جدیدة واستقراض جدید بلغت دیون هذه الدولة فی عام 1997 إلی 7/ 3 ملیار دولار(4).

أمّا دولة «بیرو» فقد سقطت أیضاً فی فخ سیاسة التعدیل والسوق الحر والاستقراض الخارجی، فقد بلغ الاستقراض فی عام 1991 ما یقارب 14 ملیار دولار، وأمّا القروض غیر المسددة للمؤسسات المالیّة العالمیّة بلغت 3/ 2 ملیار دولار(5).

وعلی هذا الأساس قالوا بأنّ: «البلدان الفقیرة التی تحصل علی معونات، فإنّها ینبغی أن تدفع 13 دولار مقابل کلّ دولار واحد تستلمه کمعونة، تدفعه لغرض تسدید القروض (6) ..

أجل فإنّ الاستقراض الخارجی بمثابة الحبل الذی یلقی علی رقبة هذه البلدان من خلال تشویق المنظمات المالیّة العالمیّة وتعمل هذه الدول الضعیفة إلی شد حبل المشنقة هذا علی رقبتها بیدها، وبعد ذلک تقوم هذه المنظمات بسحب الکرسی تحت أقدام هذه الدول، ومعلوم ماذا ستکون النتیجة ... الهلاک.

والنقطة الملفتة للنظر هنا أنّ أزمة القروض بالاقتران مع أزمة تسدید أرباح هذه القروض، إمتدت لتصل إلی بلد کأمریکا أیضاً.

«عندما استلمت حکومة بوش مقالید السلطة من کلینتون فإنّ العجز فی میزانیة أمریکا کان قد بلغ 200 ملیار دولار ولکن فی ظل حکومة بوش فإنّ انخفاض الضرائب مرّة أخری والتی کانت تساعد فی الأساس طبقة معینة من المجتمع الأمریکی؛ أصبح بمقدار واحد


1- انظر: عالمیة الفقر والنظم العالمیّة الجدیدة( جهانی سازی فقر و نظم نوین جهانی) بالفارسیّة، ص 85- 86.
2- میشل کاسادوفسکی( عالم الاقتصاد الکبیر الکندی واستاذ الاقتصاد فی جامعة اتاوا، ومن أعضاء الفعالین لمنظمة مناوئة الحب، ومشتشار هیئة الامم المتحدة فی أمر التنمیة وعضو صندوق جمعیة الامم المتحدة) بعد عشر سنوات من الفعالیات والتحقیق المیدانی والسفر فی الدول المختلفة وتقریراته وتهیئة المستندات، نشر کتاباً باسم« عالمیة الفقر والنظم العالمیّة الجدیدة( جهانی سازی فقر و نظم نوین جهانی» وبعد تنقیحه الثانی لکتابه طبع فی عام 2003 م. وقد ترجم هذا الکتاب إلی أکثر من 20 لغة عالمیّة، ویشیر فی هذا الکتاب إلی الأضرار المخربة لقبول السیاسات المفروضة لقوی الهیمنة فی مساعدة البنک العالمی والصندوق الاممی للنقد، ثمّ یدرس الآثار السلبیّة السیاسیّة والاجتماعیّة التی تترتب علیها من جراء هیمنتها.
3- عالمیة الفقر والنظم العالمیّة الجدیدة( جهانی سازی فقر و نظم نوین جهانی) بالفارسیّة، ص 544.
4- المصدر السابق، ص 207.
5- المصدر السابق، ص 382.
6- gro. seussilabolg. www. 1

ص: 63

بالمئة، ومع حدوث حربین کبیرتین ومکلّفتین فإنّ عجز المیزانیة بلغ 450 ملیار دولار فی عام 2008 وتسبب فی أن تصل قروض الحکومة إلی أکثر من 9 تریلیون (9 آلاف ملیار) دولار.

والولایات المتحدة، فی ماضٍ لیس ببعید أی فی عام 1988، کانت تعتبر من البلدان المقرضة ولکنها حالیاً یبلغ استقراضها 9 آلاف ملیار دولار، وتعدّ من أکثر الدول العالم استقراضاً، ومقدار الفائدة المترتبة علی هذه القروض یبلغ 400 ملیار دولار فی سنة.

یقول جرالد سوانسون فی کتابه «أمریکا المفلسة» بعد أن یرسم صورة محیرة لأمریکا: إنّ التزامات أمریکا المالیّة وما تحتاجه لصندوق الضمان الاجتماعی والمتقاعدین فی أمریکا وصل فی عام 2005 إلی 41 تریلیون دولار، فی حین أنّ جمیع المال الموجود فی هذا الصندوق لیس أکثر من 5/ 3 تریلیون دولار.

ویشیر سوانسون فی هذا الکتاب من خلال حساب دقیق لالتزامات حکومة أمریکا إلی أنّ القروض ستصل فی نهایة عام 2008 إلی رقم خیالی، وهو 45 تریلیون دولار، والملفت للنظر أنّ هذا الرقم لا ینعکس فی حسابات میزانیة أمریکا وفی الحقیقة أنّ کلّ دولار یتمّ التعامل به فی العالم فهو فی الواقع یکتب فی حساب مصرفی، فهذا المصرف یبلغ دینه 9 تریلیون دولار حالیاً، ومن هذه الجهة تعتبر أمریکا من أکبر الدول المدینة فی العالم»(1).

والقسم الأعظم من المشاکل والأزمات ناشی ء من الاستقراض الربوی.

یقول القرآن الکریم فیما یتصل بتحریم الربا:

«یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لَاتَأْکُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ»(2).

یقول المفسّرون: إنّ التعبیر به «

أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً

» یشیر إلی طبیعة الربا، یعنی أنّ رأس المال المرابی یتحرک تدریجیّاً بشکل تصاعدی وتزداد أمواله وفی مقابل ذلک یکون المقترض أضعف وأکثر فقراً، لأنّه عندما لا یستطیع المقترض من تسدید قرضه مع الفائدة المقررة علیه، فإنّ تلک الفائدة ستندرج مع أصل القرض، ومرّة أخری سیکون هذا القرض مورد الربا المضاعف، وبهذا الترتیب فإنّ رأس المال فی کلّ مرحلة (بإضافة الربح إلی رأس المال) یشکل رأس مالًا جدیداً، ونظراً لتراکم الأرباح فإنّ قروض المقترضین تصل إلی أضعافاً مضاعفة، وبذلک یشله عن الحیاة والمعیشة(3).

وفی الآیة التالیة یقول القرآن الکریم:

«وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِی أُعِدَّتْ لِلْکَافِرِینَ»(4).

وهذه إشارة إلی أنّ عملیّة الربا من عمل الکافرین والملحدین والمنکرین للَّه الذی لا یفکرون إلّابزیادة رؤوس أموالهم حتی لو أدّی ذلک إلی سقوط الأخرین


1- وکالة أنباء مهر( خبرگزاری مهر) بالفارسیّة، 14/ 2/ 1378(moc .swenrhem ).
2- سورة آل عمران، الآیة 130.
3- انظر: روح المعانی، ج 3- 4، ص 368؛ المیزان، ج 4، ص 19؛ التفسیر الأمثل، ج 3، ص 88.
4- سورة آل عمران، الآیة 131.

ص: 64

فی متاهات الفقر والمسکنة، وهذا العمل القبیح ینشأ من اعتقاد فاسد، حیث لا یوجد فی فضائه الباری تعالی ولا یوم القیامة، بل التفکیر فقط بالمادیات وتراکم الثروة.

وما ذکره القرآن الکریم فی هذه المسألة نشاهده الیوم فی معاملات البلدان الثریّة والمؤسسات المالیّة العالمیّة فی تعاملها مع البلدان المستقرضة، حیث إنّ هذه البلدان تورطت أکثر فأکثر فی حالات الفقر والاضطراب الاقتصادی والاجتماعی وکل یوم تشتد تبعیتهم للأجانب.

8. وفی النهایة الإخفاق

اشارة

إنّ عام 2008 نهایته إنهدام الاقتصاد الرأسمالی والرکود الاقتصادی وإفلاس البنوک الأمریکیّة وبعض البلدان الغربیة وانخفاض النمو الاقتصادی الحاکم علی العالم.

«ومن أجل إنقاذ الاقتصاد الأمریکی فإنّ حکومة بوش أقرت مبلغ 700 ملیار دولار کمعونة، ولکن مع هذا الحال فإنّ الأزمة تعمقت أکثر وانخفض سعر المعاملات فی البورصة.

وعلی حدّ قول «آلن گرینسبن» (رئیس البنک المرکزی الأمریکی السابق): «إنّ الأزمة المالیّة الأخیرة من نوع الأزمات التی تحدث فی کلّ قرن أو فی کلّ نصف قرن مرّة واحدة».

وحالیاً فإنّ جمیع المنظومات الاقتصادیّة الکبیرة تضررت من سقوط النظام البنکی الأمریکی واضطراب وال استریت.

إنّ الأزمة المالیّة الأمریکیّة، إمتدت إلی الغرب أیضاً وجمیع البلدان المرتبطة بالسوق الأمریکی والمتأثر به.

وعلی أساس الأخبار الواصلة فإنّ الاقتصاد الأمریکی یتوقع سقوطاً مخیفاً فی نموه، بحیث إنّه نهایة عام 2008 بلغ تراجع النمو فیه إلی 5/ 5 فی المئة، وفی نهایة السنة المیلادیة المقبلة (2009) إلی 1 فی المئة»(1).

إنّ الخبراء الاقتصادیین فی أمریکا یعتبرون أنّ أزمة السوق المالیّة فی هذا البلد نوعاً من الاخفاق للنظام الرأسمالی، وقالوا إنّ هذه الأزمة من شأنها أن تغیّر مسیر النظام المالی الأمریکی (2).

مسئوولیّة علماء الإسلام:

إنّ علماء الإسلام وزعماء البلدان الإسلامیّة، وبعد مشاهدتهم تجربة البلدان الرأسمالیّة(3)، والطریق الخاطی ء الذی یسیرون علیها، والأزمات والمتاهات التی سقطوا فیها وما یواجهونه من متاعب فی هذا السبیل ینبغی علیهم الاستجابة لدعوة اللَّه ورسوله فی واقع الحیاة:

«یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اسْتَجِیبُوا للَّهِ


1- وکالة الأنباء فارس 20/ 7/ 87(swensraf .www ).
2- المصدر السابق، 12/ 9/ 87. ونقل فی هذا الخبر بشکل مفصل المطالب حول هذا البحث من الاقتصادیین الأمریکیین.
3- لم نذکر الاشتراکیّة، لأنّه بعد إنهیار معسکر الاشتراکیی، یتبیّن أنّ هذا الإنیهار لم یقع علی مستوی التطبیق بل علی مستوی النظریّة أیضاً، والیوم فی عصرنا الحاضر لا یحظی مثل هذا التفکر إلّابشی ء ضیئل من اهتمام العالم.

ص: 65

وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاکُمْ لِمَا یُحْیِیکُمْ»(1)

، وبالحرکة فی خط الصحیح یمکنهم تحقیق «الحیاة الطیّبة» لهم ولمجتمعه (2).

إنّ «الحیاة الطیّبة» لا یتیسر من خلال اتباع الاقتصاد الرأسمالی، ولا من خلال الانتقاء من النظام الرأسمالی والنظام الاقتصادی فی الإسلام، بل من خلال الإصغاء لدعوة اللَّه ورسوله وتعالیم السماء، فالنظام الاقتصادی الإسلامی إذا تمّ تبیینه بشکل صحیح، وتنفیذه وإجراءه علی أساس مقتضیات الواقع المعاصر، فإنّه سیؤدی قطعاً إلی إزدهار وفلاح المجتمعات الإسلامیّة ویرسم الحیاة الطیبة لهذه الشعوب المسلمة، لأنّ المعیار المهم فی الاقتصاد الإسلامی یکمن فی التوجه إلی المعنویّة والأخلاق والعدالة، وأنّ الثروة لیست لغرض جمع الثروة وطلب اللذة، وأنّ القدرة لیست لغرض الفخر والمباهات، بل إنّ المال والقدرة وسیلتان لخدمة أبناء البشر وأداتان للرقی المعنوی والسیر فی خط المسؤولیّة، وبکلمة واحدة وسیلتان لخدمة الحیاة الآخرة:

«وَابْتَغِ فِیمَا آتَاکَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ»(3).

إنّ اللذة الحقیقیّة والباقیة التی یراها الإسلام هی اللذات الأخرویة المعنویّة(4) ومن هذه الجهة فإنّ جمیع الأمور الدنیویّة والثروة والقدرة ینبغی أن تتحرک فی هذا المسار، ومن الطبیعی أنّ المجتمع الإسلامی فی هذه الرؤیة والفکر لا یخرج أبداً عن خط الأخلاق والعدالة ولا یتحرک نحو کسب الثروة بأیة قیمة.

إنّ الإنسان فی مثل هذا المجتمع، فی حال العمل بهذه الرؤی والأفکار، یتخلص من الربا، الغش، الکذب، الحرص والطمع، والإسراف والتبذیر، کسب الثروة والمال علی حساب معاناة الناس، المفاخرة وطلب الملذات علی حساب تحقیر الآخرین، توکید الذات والغفلة عن المحرومین، الانحطاط الأخلاقی، إتلاف المنابع الطبیعیّة، العمل علی هدم ثروات الأخرین، تخریب البیئة، وانهدام المنابع الطبیعیّة لغرض تحصیل الثروة.

وحالیاً مع ما نشاهده من انهدام الاقتصاد التقلیدی والاقتصادی النئوالتقلیدی ونظام دولة الرفاه، ومعاناة شعوب العالم من هذه النظم، ونداء الاستغاثة الذی یطلقه أهل الخبرة والمتحرقین علی البشریّة، یجب علی المسلمین أن ینظروا إلی تعالیمهم الدینیّة، بنظرة عمیقة، ویؤسسوا نظامهم الاقتصادی والاجتماعی علی أساس «البنیان المرصوص» للأسلام، ولا یتورطوا فی تجربة أخری کالطرق المنحرفة والفاشلة من قبیل الرأسمالیّة، لأنّ اختلاف الإسلام عن هذه الطرق لیس مجرّد اختلافاً صوریاً وشکلیاً، بل أکثر من ذلک حیث یمتد إلی المحتوی والمضمون والجذور، فنوع نظرنا إلی الدنیا والثروة والقدرة المالیّة یختلف عن نظرهم علی هذه الأمور، وعلی هذا الأساس لا یمکن الوصول إلی آفاق


1- سورة الأنفال، الآیة 24.
2- « مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّنْ ذَکَرٍ أَوْ أُنثَی وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْیِیَنَّهُ حَیَاةً طَیِّبَةً».( سورة النحل، الآیة 97).
3- سورة القصص، الآیة 77.
4- « وَالْآخِرَةُ خَیْرٌ وَأَبْقَی».( سورة الأعلی، الآیة 17)

ص: 66

والعدالة والمعنویّة بتلک النظرة وبتلک الأصول والمناهج.

یجب علینا الاستفادة من تراثنا وعلومنا الغنیة ونترک أولئک بکلّ شعاراتهم الخادعة وظاهرهم البراق:

«ذَرْهُمْ یَأْکُلُوا وَیَتَمَتَّعُوا وَیُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ یَعْلَمُونَ»(1)

ونعلم أنّ هؤلاء مع کلّ مساعیهم وحرکتهم فی خط طلب الملذات المادیّة والدنیا وجمع الثروات والرفاه والربح علی حساب الأخلاق والمعنویّة وترجیحهم الدنیا علی الآخرة، یسلکون الطریق الخطأ والباطل:

«الَّذِینَ یَسْتَحِبُّونَ الْحَیَاةَ الدُّنْیَا عَلَی الْآخِرَةِ وَیَصُدُّونَ عَنْ سَبِیلِ اللَّهِ وَیَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلَئِکَ فِی ضَلَالٍ بَعِیدٍ»(2).

***

المنابع والمصادر

1. القرآن الکریم.

2. الإسلام والأزمة الاقتصادیّة (اسلام و چالش اقتصادی) بالفارسیّة، محمّد عمر بپرا، ترجمة السید حسین میرمعزّی ومعاونوه، پژوهشگاه فرهنگ و اندیشه اسلامی، الطبعة الاولی، 1384 ه ش.

3. الاقتصاد والتنمیة فی نموذج جدید (اقتصاد توسعه یک الگوی جدید) بالفارسیّة، البروفسور السید نواب حیدر النقوی، ترجمة الدکتور حسن توانایان فرد، پژوهشگاه فرهنگ و اندیشه اسلامی، الطبعة الاولی، 1378 ه ش.

4. اقتصادنا، لآیة اللَّه السید محمّد باقر الصدر، مکتب الإعلام الإسلامی فرع خراسان، الطبعة الاولی، 1417 ه ق.

5. الامبریالیّة والتخلف (امپریالیسم و عقب ماندگی) بالفارسیّة، الدکتور همایون الإلهی، انتشارات الفکر، 1367 ه ش.

6. الأزمة الاقتصادیّة والاجتماعیّة (بحران اقتصادی و اجتماعی)، فیدل کاسترو، ترجمة غلامرضا نصیرزاده، انتشارات أمیرکبیر، طهران، 1364 ه ش.

7. الأزمة فی الاقتصاد العالمی (بحران در اقتصاد جهانی، رابرت بیریز، ترجمة حسن المرتضوی، نشر اختران، طهران، 1381 ه ش.

8. معرفة ظاهرة الفقر والتنمیة (پدیده شناسی فقر و توسعه) بالفارسیّة، بإشراف محمّد الحکیمی، انتشارات مکتب الإعلامی الإسلامی، قم، الطبعة الاولی، 1380 ه ش.

9. التفسیر الأمثل، آیة اللَّه العظمی مکارم الشیرازی ومساعدیه، دار الکتب الإسلامیّة، طهران.

10. التمدن المادی لعالمنا الغری (تمدّن مادّی گرایانه ما غربی ها) بالفارسیّة، السید محمّد علی المدرسی، انتشارات شفق، الطبعة الاولی، 1382 ه ش.

11. التنمیة الاقتصادیّة فی العالم الثالث (توسعه اقتصادی در جهان سوم) بالفارسیّة، مایکل تودارو، ترجمة غلام علی فرجاد، انتشارات کوهسار، طهران، الطبعة الثالث عشر، 1384 ه ش.

12. عالمیّة الفقر والنظم العالمیّة الجدیدة (جهانی سازی


1- سورة الحجر، الآیة 3.
2- ابراهیم، آیه 3.

ص: 67

فقر و نظم نوین جهانی) بالفارسیّة، میشل کاسادوفسکی، ترجمة محمّد الروحانی، انتشارات مؤسسة التعلیم والتحقیق الإمام الخمینی، قم، الطبعة الثانیة، 1386 ه ش.

13. وکالة أنباء الجمهوریّة الإسلامیّة (خبرگزاری جمهوری اسلامی) بالفارسیّة (الموقع الخبری) 19/ 11/ 1386 ه ش.

14. وکالة الأنباء فارس (خبرگزاری فارس) 20/ 7/ 87 (moc .swensraf .www).

15. وکالة الأنباء مهر (خبرگزاری مهر) 14/ 12/ 87 (moc .swenrhem .www).

16. عشرة أسئلة فی نظر علماء الاجتماع (ده پرسش از دیدگاه جامعه شناسی)، جوئل شارون، ترجمة منوجهر الصبوری، نشر نی، طهران، 1379 ه ش.

17. صحیحة قدس (روزنامه قدس)، 5/ 2/ 87.

18. صحیفة همشهری (روزنامه همشهری) بالفارسیّة، 26/ 1/ 75.

19. روح المعانی، السید محمود الآلوسی، دار إحیاء التراث العربی، بیروت، الطبعة الاولی، 1420 ه ق.

20. موقع جام جم الالکترونیّة (سایت جام جم آنلاین).

21. موقع همشهری الالکترونیّة (سایت همشهری آنلاین) بالفارسیّة.

22. موقع ساحة الفکر (سایت باشگاه اندیشه) بالفارسیّة.

23. الحیاة علی الکرة الأرضیّة (علائم حیاتی کره زمین) بالفارسیّة، لستر براون ومعاونه، ترجمة الدکتور حمید الطراوتی، انتشارات جهاد دانشگاهی، مشهد، الطبعة الثانیة، 1375 ه ش.

24. فصلیة الاقتصاد السیاسی (فصلنامه اقتصاد سیاسی) بالفارسیّة، العام الرابع، العدد الرابع، 1386 ه ش.

25. منتخب المسائل الاقتصادیّة- الاجتماعیّة (گزیده مسائل اقتصادی- اجتماعی) بالفارسیّة، العدد 108 و 109.

26. البحوث الأساسیة للاقتصاد والتنمیة (مباحث اساسی اقتصاد وتوسعه) بالفارسیّة، جرالد مِیِر، ترجمة

ص: 68

غلام رضا آزاد، نشر نی، الطبعة الاولی، 1378 ه ش.

27. مجلة مستحدثات الاقتصادیّة (مجلّه تازه های اقتصاد) بالفارسیّة، العدد 19.

28. مجلة التجارة والاقتصاد (مجلّه تجارت و اقتصاد) بالفارسیّة، العدد 16.

29. مجلة کلیة علوم الإدارة والاقتصاد (مجلّه دانشکده علوم اداری و اقتصادی) بالفارسیّة، العام 19، العدد 2.

30. مجلة الجهاد (مجله جهاد) بالفارسیّة، العام 15، شماره 180 و 181.

31. مجلة دنیا الاقتصاد (مجلّه دنیای اقتصاد) بالفارسیّة، 3/ 2/ 1387.

32. المیزان، فی تفسیر القرآن، العلّامة السید محمّد حسین الطباطبائی، نشر جماعة المدرسین الحوزة العلمیّة قم، الطبعة الاولی.

33. وضع العالم فی عام 1994 (وضعیت جهان در سال 1994) بالفارسیّة، لستر براون ومعاونوه، ترجمة عبدالحسین وهاب زاده، انتشارات جهاد دانشگاهی، مشهد، 1374 ه ش ..

43. Capitalism and Freedom, milton friebman, 2791.

53. Mathmatical psychics: An Essay on theapplication of mathematics to the moral science, F. Y. Edge worrtn, 1881.

63. www. aftab. ir/ news 73. www. asianews. org 83. www. econews. ir 93. www. globalissues. org 04. www. iran- newspaper. com 14. www. iran. ir 24. www. nosazi. org 34. www. up- research. com.

ص: 69

(4). المسائل المستحدثة فی الاقتصاد الإسلامی

اشارة

المقدّمة

البحث الأوّل: علل ظهور المسائل المستحدثة

البحث الثانی: طرق استنباط الحکم فی المسائل المستحدثة

البحث الثالث: نماذج من المسائل المستحدثة

ص: 70

ص: 71

المسائل المستحدثة فی الاقتصاد الإسلامی

المقدّمة:

المسائل المستحدثة هی المسائل التی تتعلق بمواضیع جدیدة ولم یرد فیها نصّ خاص فی نصوص الکتاب والسنّة، ولا توجد أحکامها فی المصادر الکاشفة عن السنّة، من قبیل الإجماع والسیرة القطعیة أیضاً.

البحث الأوّل: علل ظهور المسائل المستحدثة

اشارة

إنّ علل وعوامل ظهور المسائل المستحدثة ترتبط بالتحوّلات السیاسیّة والاجتماعیّة والتقدم العلمی وحتی العوامل الطبیعة والاقتصادیّة المؤثرة فی إیجاد ظروف جدیدة، ومواضیع حدیثة، وهنا نستعرض بالتفصیل هذه العلل والعوامل:

1. جدة موضوعات الأحکام
اشارة

إنّ بعض المواضیع الشائعة فی هذا العصر أو القیود والشروط المستجدة للموضوعات القدیمة لم یکن لها وجود فی عصر التشریع وصدور الروایات، أو لم تکن معروفة فی ذلک الوقت، وبالتالی لم یصدر تجاهها حکم شرعی، فبدون ظهور الموضوع والمعرفة العینیة له فإنّ صدور حکم شرعی تجاهه یعتبر غیر مفید ولا یکون قابلًا للفهم وغیر مبرر، وبعض هذه الأسالیب والمناهج الجدیدة التی استدعت ظهور هذه الموضوعات والقیود، عبارة عن:

أ) جدة ماهیة الموضوع؛

ومنها الموضوعات والمتعلقات للتکالیف الدینیّة التی ظهرت فی عصرنا الحاضر ولم یکن لها وجود فی السابق، أو لم تکن معروفة فی عرف الماضین، ومن هذه الموضوعات یمکن الإشارة إلی المسائل الاقتصادیّة المتعلقة بالملکیّة فی فضاء الدول وکذلک بعض المعادن فی أعماق الأرض والمواد الکیمیائیّة والمنتجات التی تنتجها المختبرات فی ظروف خاصّة.

ب) جدة أسباب إیجاد الموضوع؛

وعلی سبیل المثال، خلق الإنسان علی أساس متعارف من جنسین مختلفین وفی ظروف خاصّة، ولکن فی العصر الحاضر نری ظهور عملیّة الاستنساخ وخلق الإنسان باستخدام خلیة من شخص واحد وفی ظروف متفاوتة، وهذا الأمر طرح مسائل جدیدة ومنها ما

ص: 72

یتعلق بالمسائل الاقتصادیّة من قبیل حکم مالکیّة الوارث فی أفراد البشر والمملوکیة فی الحیوانات.

ج) جدة الطرق لإثبات الدعاوی؛

حالیاً وفی بعض المسائل المتعلقة بالنسب أو إثباته نشاهد دعاوی وجرائم ظهرت من خلال طرق ظنیة وأحیاناً قطعیة، وقد تمّ إبداعها من قِبل العلم، بحیث لا یمکن فی عملیّة صدور الفتاوی الفقهیة والأحکام القضائیة غض النظر عنها، ومن هذه الجهة یجب التحقیق فی مجال قیمة إثباتها الشرعی وتأثیرها فی الفتوی والحکم.

د). التغییر الظاهری فی الموضوعات مع تحوّل بعض القیود والظروف؛

مثلًا صناعة الآلات الموسیقیة الالکترونیة، أو الآلات الجدیدة للهو والقمار فی قوالب وأشکال متفاوتة عن الماضی ومسألة بیعها وشرائها، أو ذبح وصید الحیوانات باستخدام الوسائل المتطورة المعاصرة، هذه کلّها من الموضوعات الجدیدة والمسائل المستحدثة، ومن هذه الجهة فإنّ بعض الفقهاء یری بأنّ الصید بواسطة البندقیة یعتبر من المسائل المستحدثة التی ینبغی بحثها(1).

ه) تحوّل مبنی العرف والعادات للناس؛

إنّ بعض الموضوعات لم تکن فی عصر صدور الروایات من قبیل نوع الأموال المعتبرة فی البیع والشراء، أو نوع الأموال القابلة للإجارة، وبالتالی لم یکن بیعها وشراؤها مطروحاً فی ذلک الوقت، خلافاً للعصر الحاضر، من قبیل بیع وشراء أعضاء الإنسان أو إجارة الرحم بدوافع عقلائیّة وتحقیق المنافع.

2. عدم توفّر الظروف لصدور الحکم فی عصر التشریع

إنّ قسماً من المسائل لم تکن مطروحة فی عصر صدور الروایات، لأنّه لم تتوفر الأرضیّة السیاسیّة والاجتماعیّة اللازمة لجهة بیان الحکم أو تنفیذه.

ومن جملة هذه الموضوعات ما یتصل بالمسائل الاقتصادیّة من قبیل التجارة العالمیّة وبعض البنوک وصنادیق النقد والشرکات العالمیّة واقتراض البلدان الإسلامیّة من البلدان غیر المسلمة أو إقراض وأخذ الربح فی قوالب المعاملات والعقود التجاریّة بین البلدان الإسلامیّة مع غیر الإسلامیّة، ومسائل أخری.

وکذلک تصرف الحکومة الإسلامیّة فی بعض ممتلکات الناس لغرض توسعة الشوارع أو إحداث الأماکن العامّة.

3. إنعدام وإنقراض الموضوع أو متعلق الحکم

علی سبیل المثال: الحکم بتحریر العبد فی بعض الموارد مثل الظهار، حنث الإیلاء، القتل و ...، فی حین أننا نعیش الیوم إنعدام الرق أساساً وقد انتفی موضوع الحکم بشکل حقیقی، وهنا یتمّ البحث عادة عن البدیل.


1- کفایة الأحکام، ج 2، ص 57؛ الریاض، ج 12، ص 57؛ مستند الشیعة، ج 15، ص 316.

ص: 73

4. ندرة الموضوع أو عدم الإبتلاء به

إنّ بعض الموضوعات، وبسبب عدم ابتلاء الناس بها أو کون الابتلاء نادراً جدّاً لم یصدر حکم فیها.

ومن جملة هذه الموضوعات ما یتصل باستخراج الکثیر من المعادن الاقتصادیّة والصناعیّة والتی لم تکن موجودة فی عصر التشریع أساساً، أو کانت نادرة ولیست بذات أهمیّة، وفی هذا العصر فإنّ أنحاء الحیازة وطرق تملکها یعتبر من المسائل المستحدثة.

5. التحوّلات السیاسیّة والاجتماعیّة والتطور العلمی

تبیّن ممّا تقدّم أنّ التحوّلات السیاسیّة والاجتماعیّة والتطور العلمی له دور أکید فی ظهور المسائل المستحدثة، لأنّه مضافاً إلی أنّ هذه الأمور لها دور مباشر فی تحقق ظروف البیان وإجراء الأحکام، فإنّها تعتبر عاملًا مؤثراً فی ظهور الموضوعات الجدیدة، والکثیر من أسالیب الحکومة والتجارة، الکشف عن الجریمة، وحتی بعض شروط الصلاة والعبادة، تعتبر، وبسبب التحوّلات المذکورة، من جملة الموضوعات الجدیدة التی لم یکن لها أی أثر فی الماضی أو علی الأقل فی عصر صدور الروایات، ولعله یمکن القول بأنّه لم یکن هناک احتمال حصول هذه الظروف فی ذلک العصر حتی یمکن بیان حکمها أو استنباط أحکامها من العناوین الکلیّة.

***

البحث الثانی: طرق استنباط الحکم فی المسائل المستحدثة

اشارة

یقرر الفقهاء، وفی سبیل تحصیل الأحکام المسائل غیر المنصوصة والمستحدثة، ضوابط وطرق معینة(1).

وهذه الطرق یمکن أن تتمحور حول محورین کلیین هما: «الأدلّة الاجتهادیة» أی (الامارات) و «الأدلة الفقهیّة» (الأصول العملیّة):

أ) الأدلة الاجتهادیة
1. العمومات والإطلاقات

یستفید الفقهاء فی الکثیر من الموارد من العمومات والإطلاقات فی استنباط الحکم فی المسائل المستحدثة، وکما قالوا: «أخذ حکم المسألة من العمومات یعتبر أحد موارد إعمال الاجتهاد»(2).

وعلی سبیل المثال یقول ابن إدریس فیما یتصل بالاستفادة من الذهب والفضة فی بعض الموارد:

«یستفاد فی الحکم علی الذهب والفضة فی بعض الموارد: هذه المسائل بعضها منصوص علی تحریمها،


1- انظر: الخلاف، ج 5، ص 545، المسألة 9؛ المبسوط للشیخ الطوسی، ج 8، ص 164؛ تذکرة الفقهاء( ط ق) ج 2، ص 182؛ المجموع النووی، ج 19، ص 166؛ المبسوط السرخسی، ج 10، ص 51؛ المغنی، ج 9، ص 520؛ شرح الکبیر عبدالرحمن، ج 9، ص 659.
2- المهذب البارع، ج 2، ص 433.

ص: 74

والبعض الآخر معلوم تحریمه علی الجملة، لأنّه داخل فی الإسراف، والإسراف فعله محرّم بغیر خلاف»(1).

وکما یتبیّن هنا أنّ ابن ادریس من خلال الاستفادة من عمومات حرمة الإسراف استنبط الحکم فیما یتصل بالاستفادة من الذهب والفضة فی بعض الموارد غیر المنصوصة والتی تعتبر من المسائل المستحدثة، أو فیما یتصل بالعقود والمعاملات الجدیدة، أعم من الضمان وأنواع الشرکات التی ظهرت فی عصرنا الحالی، حیث یستنبط الفقهاء حکمها غالباً من عمومات:

«أوْفُوا بِالْعُقُود»(2)

وأمثال ذلک.

2. القواعد الفقهیة

والطریق الآخر الذی یسلکه الفقهاء لاستنباط الأحکام فی المسائل المستحدثة، القواعد الفقهیة: مثل إثبات تحریم الکثیر من الأمور الموجبة للضرر الفردی والاجتماعی حیث یستندون إلی قاعدة «لا ضرر» بل إنّ ظاهر کلام الحدائق هو أنّ مشهور الفقهاء یستندون أحیاناً فی موارد عدم عثورهم علی دلیل لإثبات الحکم من الکتاب والسنّة إلی التعلیلات الواردة فی بعض القواعد الفقهیة(3).

3. القواعد الأصولیة

تارة یستنبط الفقهاء حکم المسائل من الموارد غیر المنصوصة من طریق القواعد الثابتة فی اصول الفقه.

علی سبیل المثال: عندما یقبل الفقیه فی علم الأصول بأنّ «الأمر بالشی ء یقتضی النهی عن ضده» فإنّه یستطیع علی أساس هذه القاعدة الأصولیة أن یحصل علی حکم صلاة الشخص الذی یقرأ السورة عمداً قبل قراءة الحمد، وعلی هذا الأساس یحکم ببطلان هذه الصلاة، کما أشار إلی ذلک صاحب الحدائق (4).

4. قیاس منصوص العلّة

نظراً إلی أنّ کلّ حکم یدور مدار علته یعنی أنّه تابع لعلته وجوداً وعدماً، فإذا ذکرت علّة الحکم فی بعض النصوص المعتبرة، یمکن استخراج حکم المسائل المستحدثة منها، ومن هذه الجهة فإنّ القدماء من الفقهاء استفادوا من هذه الطریقة فی الکثیر من موارد فقدان الدلیل الخاص علی الحکم، کما صرّح بذلک جماعة من الفقهاء، مثلًا من أجل إثبات حرمة المخدرات التی ظهرت فی عصرنا الحاضر تمسکوا بما ورد من التعلیل فی أبواب الخمر وسائر المسکرات الأخری (5).

ویری بعض الفقهاء أیضاً أنّ استخدام العلة المنصوصة لإثبات الحکم فی موارد واجد العلة، یعتبر


1- السرائر، ج 1، ص 440.
2- سورة المائدة، الآیة 1.
3- الحدائق الناضرة، ج 18، ص 400.
4- المصدر السابق، ج 8، ص 124.
5- دروس الشریعة، ج 2، ص 66؛ المهذب البارع، ج 4، ص 296؛ جامع المقاصد، ج 12، ص 232؛ مسالک الأفهام، ج 2، ص 171.

ص: 75

من نوع قواعد أصول الفقه (1).

5. تنقیح المناط (قیاس المستنبط العلّة)

أحیاناً یقوم الفقیه من خلال الاستفادة من التحقیق فی موارد الأحکام وأدلتها، استنباط ملاک الحکم بصورة قطعیة، وفیما إذا کان المورد الفاقد للدلیل مساویاً للمورد المنصوص، فإنّ الفقیه یقوم بنقل الحکم إلی المورد الفاقد للدلیل، وهذا ما یقال عنه: «تنقیح المناط»(2).

ویذکر المحقّق البحرانی، بعد أن ذهب إلی حجّیة تنقیح المناط القطعی طبقاً لفتوی المحقق الحلّی، المثال التالی لتنقیح المناط القطعی:

«نحو قول النّبی صلی الله علیه و آله:

«اعتق رقبة»

حین قال له الأعرابی: واقعت أهلی فی شهر رمضان، فإنّه یقیم منه أنّ علّة وجوب العتق فی المواقعة، فتجب فی کلّ موضع تحققت»(3).

ونفس هذا المثال الإمام الغزالی والآمدی أیضاً، وحیث یقول الغزالی فی سیاق کلامه: «إنّ کون ذلک الرجل أعرابیاً وأنّ ذلک الشهر شهر رمضان وکون تلک المرأة زوجته لا دخل لها فی الحکم»(4).

وقد ذهب العلّامة الحلّی فی التذکرة وعلی أساس الاشتراک فی «ملاک مستنبط» إلی الحکم بسرایة وجوب کفارة الصوم من موارد وجود الدلیل إلی موارد فاقدة للدلیل، لأنّ سبب وجود الکفّارة هو هتک حرمة شهر رمضان، وهذا الأمر موجود فی کلا هذین الموردین (الواجد للدلیل والفاقد للدلیل)(5)، وبعض هذه التعبیرات والأمثلة ربّما یمکن الاجابة عنها وردها، ولکن أصل الفکرة مقبولة.

وجدیر بالذکر أنّ الاستناد إلی الملاکات المستنبطة فی الفقه الإمامیّة، إنّما یکون صحیحاً فیما إذا کان الفقیه یملک القطع والاطمئنان بذلک الملاک المستنبط.

6. إلغاء الخصوصیّة

وردت أحکاماً کثیرة فی سیاق الروایات فی موارد خاصّة، مثلًا یسأل الراوی: کنت راکباً دابتی وعبرت من الطریق الفلانی وقد اصطدمت صدفة بشی ء معین، فیجیب النّبی أو الإمام: «أنا ضامن لهذا الضرر» وعندما نعطی هذا الحکم إلی العرف فإنّه یقول: إنّ الراکب لیس له دخل فی الموضوع ولا ذلک الطریق الذی سلکه ولا الموضوع الذی اصطدم به، فکلّ هذه الخصوصیات یتمّ حذفها لدی العرف، ویقول: إنّ الموضوع هو إتلاف المال أو الشخص الذی یوجب الضمان، رغم أنّ إلغاء الخصوصیّة یشبه إلی حدّ کبیر قیاس مستنبط العلّة، ولکن مع التدقیق یتبیّن أنّهما أمران مختلفان، وهذا الموضوع من المسائل المستحدثة یقع کثیراً أیضاً، مثلًا إتلاف المواقع الانترنیتیة من خلال الفیروس تکون مشمولة لهذا


1- الرسائل الشهید الثانی، ص 8.
2- معارج الأصول، ص 185.
3- الحدائق الناضرة، ج 1، ص 56.
4- المستصفی، ص 282؛ الأحکام، للآمدی، ج 3، ص 303.
5- تذکرة الفقهاء، ج 6، ص 44.

ص: 76

الحکم.

7. قیاس الأولویة

الاستدلال بالأولویّة، تارة یعبّر عنه ب «قیاس الأولویّة» والذی تکون الأولویّة فیه قطعیّة، هو مورد قبول فقهاء الإمامیّة.

وقد استند ابن إدریس لإثبات مقدار النزح (نزح ماء البئر) فیما لو سقط فیه کافر ومات، إلی دلیل الأولویة(1)، لأنّه لا یوجد دلیل نقلی صریح لحکم هذه المسألة، ولکن فی مورد سقوط الکافر فی ماء البئر واخراجه حیّاً وردت روایة فی لزوم إفراغ جمیع ماء البئر، وعلی هذا الأساس فالکافر الحی بعد سقوطه فی الماء وموته فیه یترتب علیه هذا الحکم بطریق أولی، وهذا الاستدلال یجری أیضاً فی موارد کثیرة من المسائل المستحدثة، مثلًا یری الفقهاء حرمة مطالعة وبیع وشراء کتب الضلال لغیر المتخصصین، وحالیاً إذا کان حال المواقع الانترنتیة أو الأفلام والفضائیات تتضمن هذا المعنی فإنّها حرام بطریق أولی.

8. العرف وعادات الناس فی الموضوعات

إذا لم یوجد بیان شرعی فی مورد موضوع معین، ولم یکن هناک إجماع وشهرة وسیرة قطعیة متصلة بعصر صدور الروایات، فإنّ الطریق لمعرفة الموضوع هو الرجوع إلی عرف الناس، وبعبارة أخری، «فإنّ المرجع فی موارد فقدان الحقیقة الشرعیة، هی الحقیقة العرفیة»(2).

مثلًا یذکر بعض فقهاء الإسلام أنّ بعض البضائع لا یعلم کونها مکیلًا أو موزوناً، وبالتالی فتشخیص الحالة فی هذه البضائع من حیث کونها من الموزون أو المکیل أو المعدود، ینبغی الرجوع إلی عرف کلّ منطقة(3).

وکذلک فی مورد معرفة معانی الألفاظ التی لا تملک معانٍ شرعیة خاصة، فیجب الرجوع إلی معناها العرفی، مثلًا فی صورة ما إذا ورد فی الوصیة أو الوقف تعیین مقدار من المال للأقرباء، ومن أجل معرفة معنی هذه الکلمة لابدّ من الرجوع إلی العرف وهذا هو رأی الکثیر من الفقهاء فی هذه المسألة وأمثالها من موارد الإجمال وعدم البیان التفصیلی (4).

وعلی هذا الأساس فکلما ظهر تغییر فی العرف والعادة فی عصرنا بالنسبة للمسائل مثل المکیل والموزون والمعدود، أو مثلًا تبدلت بعض الشروط «المبنی علیها العقد»، من قبیل الشروط والقوانین التی تتصل باستخدام العمال والموظفین، الموجودة فی العرف، فعندما یراد استخدام شخصٍ معین کعامل أو


1- السرائر، ج 1، ص 73.
2- جامع المقاصد، ج 12، ص 220.
3- شرائع الإسلام، ج 2، ص 299- 300؛ تذکرة الفقهاء، ج 10، ص 196؛ مسالک الافهام، ج 3، ص 323؛ فتح العزیز الرافعی، ج 8، ص 168؛ مغنی المحتاج، ج 2، ص 24؛ بحر الرائق، ج 6، ص 335؛ جواهر العقود المنهاجی، ج 1، ص 56.
4- جامع المقاصد، ج 10، ص 57- / 58؛ شرح اللمعة، ج 5، ص 28؛ تحریر الوسیلة، ج 2، ص 72، م 45؛ هدایة العباد( آیة اللَّه کلپایکانی)، ج 2، ص 148، م 496؛ فتح المعین( ملیباری الهندی)، ج 1، ص 122 و 242؛ حواشی الشروانی والعبادی، ج 2، ص 135؛ إعانة الطالبین، ج 1، ص 69.

ص: 77

موظف بدون ذکر أو نفی تلک الشروط، فالعرف یقول له: إنّ العقد یشمل تلک الشروط ویجب علیک العمل بمقتضی تلک الشروط.

ب) الأصول العملیّة

من المعلوم أنّه فی حال عدم وجود نص خاص من الکتاب والسنّة بشکل عام أو خاص فی موارد موضوعیة، فیتمّ الرجوع- لکشف حکمه- إلی الأصول العملیّة (أصل البراءة، الاستصحاب، التخییر، الاحتیاط» حسب الشروط المذکورة فی علم الأصول، وکل واحدة من هذه الأصول تجری فی ظروف خاصّة، وعلی هذا الأساس فربّما تظهر أغذیة جدیدة لیست مشمولة لواحد من هذه النصوص العامّة والخاصّة الواردة فی الکتاب والسنّة، وفی هذه الصورة یمکن القول بحلیتها بالاستناد لأصل البراءة، وهکذا یجری فی موارد الاستصحاب والاحتیاط والتخییر.

البحث الثالث: نماذج من المسائل المستحدثة

اشارة

بعد بیان هذه الأصول الکلیّة والقواعد العامّة المستخدمة للکشف عن أحکام المسائل المستحدثة (وقد وردت توضیحات أخری أیضاً فی الجزء الأوّل من دائرة المعارف هذه)، نری من المناسب استعراض عدّة نماذج من المسائل المستحدثة الاقتصادیّة والإشارة إلی کیفیة العمل بهذه الأصول.

النموذج الأوّل: البیع الزمانی
اشارة

(تام شِرgnirahS emiT )

1. التعریف

إنّ کلمة «gnirahs emiT» فی اللغة تعنی السهم الزمانی أو المشارکة الزمانیّة، وفی الاصطلاح، کما ورد فی القاموس الحقوقی kcalB : هی شکل من الملکیّة المؤقتة بزمان معین واعتبارها مالًا، وهی السائدة فی أماکن الترفیه العامّة والعقارات المشاعیة، والتی وجود لغرض تمضیة أوقات الفراغ، وفی هذه الأماکن ثمة عدّة مالکین یملکون الاستحقاق فیها لمدّة معینة وفی کلّ سنة(1).

2. أنواع الملکیّة المؤقتة بزمان معین
اشارة

یمکن اعتبار الملکیّة المؤقتة زماناً فی مالکیّة العین بصورتین:

أ) تقسیم الملک المشاع بین الشرکاء بصورة تقسیم حقوق الانتفاع لکلّ واحد منهم فی أزمنة معینة وعلی أساس السهام، مثلًا یتمّ تقسیم ملک مشترک بین اثنی عشر شخصاً یملکون سهاماً وحصصاً من هذا الملک بمقدار مساوٍ فیما بینهم، فیتمّ تقسیمه إلی اثنی عشر سهماً ولکل واحد من هؤلاء الأشخاص الحقّ فی الاستفادة من هذه العین بشکل دائم بمقدار شهر واحد


1- نقلًا عن مجلة فقه أهل البیت( مجله فقه اهل بیت)( بالفارسیّة)، رقم 26.

ص: 78

فی کلّ سنة (طبعاً مع فرض عدم وجود تفاوت فی قیمة الانتفاع بین أشهر السنة، ومع فرض وجود التفاوت یمکن مثلًا تعیین مدّة عشرین یوماً أو أربعین یوماً للسهم الواحد إلی انتهاء الفصول).

فی هذا النوع من التوقیت الزمنی، یتمّ تقسیم الملک المشاع بین الشرکاء علی أساس إجزاء الزمان، وعلی أساس ما هو مرسوم فی الأملاک المشاعة بأن یتمّ تقسیم عین الملک بمقدار السهام المشترکة إلی أجزاء مختلفة ویکون لکلّ شریک حصته بنسبة سهام المشارکة الخاصّة.

وهذا النوع من التقسیم والذی هو فی الفقه الإسلامی من نوع «المهایات»، یمکن ادراجه ضمن عقد لازم، فحتی لو قلنا إنّ المهایات لیست من العقود اللازمة فإنّها مع ذلک لا تقبل الفسخ.

وبالنسبة لعقد البیع لمثل هذا النوع من الملکیّة المؤقتة زماناً، فمضافاً إلی أنّها تنطبق علی تعریف البیع الزمانی والمالکیّة المؤقتة، فهی لیست فی نظر الفقه عقداً جدیداً، بل هی من قبیل بیع الملک المشاع، غایة الأمر أنّ سهم کلّ مالک یتمّ تعیینه علی أساس الزمان، ومن هذه الجهة فإنّ أدلة وأحکام البیع تجری فی هذا المورد ویکون العقد صحیحاً ولازماً، ومن جهة عامة لا یختلف عن بیع جمیع العین المملوکة.

ب) تقسیم الملک غیر المشاع علی أساس إجزاء الزمان توسط مالک کلّ عین (یعنی تبدیل الملک غیر المشاع إلی مشاع زمانی).

مثلًا یقسم شخص ملکه إلی اثنی عشر سهماً وکلّ سهم یقرر له مدّة شهر واحد، وبالتالی فإنّ مالکیّة العین المنظورة یتمّ إعطائها إلی شخص آخر لمدّة شهر واحد من کلّ سنة، کما أنّ بعض الشرکات بالنسبة لبعض الفنادق والدور الترفهیة الواقعة علی ساحل البحر مثلًا تقوم بهذه العملیّة فی هذه المدّة من الزمان.

وفی هذا النوع من المالکیّة (المالکیّة المؤقتة زماناً) فثمة موضوعان للبحث:

1. المقصود من الملکیّة زماناً ودراسة إمکان وعدم إمکان تقسیم مالکیّة العین المملوکة بشکل زمانی، یعنی هل یمکن فی نظر الشارع المقدّس، تقسیم مالکیّة العین المعینة بصورة متناوبة وفی کلّ شهر أو اسبوع معین من السنة، إلی أجزاء زامنیّة معینة؟

2. دراسة حکم انتقال المالکیّة المؤقتة زماناً، یعنی هل أنّ مثل هذه المالکیّة قابلة للانتقال إلی الغیر؟

إذا کان الجواب بالإیجاب فکیف وفی أی عقد تدخل؟

وبعبارة أخری: ثمة فی هذه المسألة بحث موضوعی وبحث کلی:

البحث الأوّل: المقصود من المالکیّة المؤقتة زماناً وإمکانیّة تقسیم الزمان للمالکیّة والملک غیر المشاع
اشارة

والمراد من المالکیّة المؤقتة زماناً هنا، هو تقسیم ملک معین غیر مشاع إلی أجزاء مختلفة زماناً، بحیث تکون ملکیّة العین فی زمان معین بشکل متناوب دوماً ومتعینة للمالک، وعلی هذا الأساس (وخلافاً لما

ص: 79

یتصوره البعض) فإنّ المالکیّة المؤقتة زماناً تختلف عن المالکیّة المؤقتة والتی تکون فیها ملکیة العین فقط لمدّة معینة لشخص معین، وبعد هذه المدّة لا توجد فی ذلک الفرد ملکیة تتعلق بهذه العین، وکلّ ملک منظور یعود مرّة أخری بشکل دائمی إلی ملک المالک.

وبالنسبة لإمکان وعدم إمکان المالکیّة الزمنیة، مع التوضیح المذکور أعلاه، یوجد وجهان:

1. عدم إمکان الملکیّة الزمانیة
اشارة

یمکن استنباط قضیة هذا الوجه من بعض أدلة الفقهاء فی رد المالکیّة المؤقتة، لأنّ مالکیّة بعض هذه الأدلة بحث تجری إلی مورد المالکیّة الزمنیة، وهذه الأدلة(1) عبارة عن:

الف) إنّ الملکیّة، عَرَض قارّ، والعَرَض القارّ غیر قابل للتجدد والتقید بزمان، بالتالی لا یمکن تقطیع الملکیّة إلی أزمنة مختلفة(2).

ب) الأعیان من نوع الجواهر غیر قابلة للتحدید علی أساس الزمان، مثلًا لا یمکن القول: إنّ کتاب هذا الیوم، والکتاب غداً(3).

ج) إنّ تقیید الملکیّة بالزمان علی خلاف قاعدة السلطنة، لأنّ مالکیّة العین والذی یملکها المالک فی زمان معین فقط، لا یمکنه التصرف بها ببعض التصرفات کالتخریب أو تغییر الملک.

د) إنّ طبیعة الملکیّة وماهیتها تقتضی عدم التقیید بالزمان.

ه) إنّ الملکیّة المنقطعة لیست لها سابقة فی الشرع لکی یشملها تأیید وامضاء الشارع، وبالنتیجة أنّ أحکام الملکیّة المطلق، لا ربط لها بهذا النوع من الملکیّة.

نقد وتحقیق:

نقد الدلیل الأوّل: أوّلًا: إنّ الأمور القارّة بالرغم من أنّها ذاتاً غیر قابلة للتحدید والتقیید بالزمان، ولکن بما أنّها واقعة فی ظرف الزمان فیمکن تقسیمها بلحاظ الأزمنة المختلفة إلی أقسام زمانیة(4).

ثانیاً؛ إنّ الملکیّة لیست من الأمور الواقعیة، بل من الأمور الاعتباریة(5)، وحقیقتها عین اعتبار العقلاء أو الشارع (6)، وتشخیص موضوعها بید العرف، والعرف الیوم فی کثیر من مناطق العالم یقبل بمثل هذه التجزئة.

نقد الدلیل الثانی: فی هذا النوع من المعاملة فإنّ عین الملک لا یتحدد بالزمان، بل ملکیته والتی تعتبر أمراً اعتباریاً مقیدة بالزمان.

نقد الدلیل الثالث: إنّ سلطنة علی الملک بمقدار الملکیّة، وفی الملکیّة الزمنیة المفروض أنّ المالک لا


1- نقلنا بعض الأدلة المذکورة إجمالًا مع نقده ودراسته عن مجلة فقه أهل البیت( مجله فقه اهل بیت)، بالفارسیّة، العدد 26.
2- ذکر هذا الدلیل المرحوم المحقق الإصفهانی فی کتابه بحوث فی الفقه، الإجاره، ص 26 ثم ردّه.( نقلًا عن مجلة فقه أهل البیت( مجله فقه اهل بیت) بالفارسیّة، العدد 26، ص 228).
3- مصباح الفقاهة، ج 7، ص 477.
4- بحوث فی الفقه، الإجارة، ص 26.
5- « إنّ الملکیّة الشرعیة لیست من المقولات الواقعیة حتی یتوقف العرض منها علی موضوع محقق فی الخارج بل من الاعتباریات ...» بحوث فی الفقه، الإجارة، ص 4.
6- حاشیة المکاسب، السید محمّد کاظم الیزدی، ج 2، ص 53.

ص: 80

یملک ملکیة مطلقة، کما هو الحال فی ملکیة الموقوف علیهم بالنسبة للعین الموقوفة، ومن قبیل الملک المشاع العادی فلا یکون لکلّ من الواحد من الشرکاء لوحده حقّ التخریب وتغییر تلک العین المملوکة.

نقد الدلیل الرابع: إنّ الملکیّة هی عقد عرفی ولا تدخل فی ماهیته، حسب العرف وحسب الشرع، قید الدوام وعدم تقیید بزمان معین.

والدلیل الوحید الممکن البحث فیه ودراسته هو الدلیل الخامس ویمکن توضیح بما یلی: هناک ملکیتان زمانیتان ملکیة المالک بشکل منقطع بحیث أنّها نتقطع وتتصل دائماً وبشکل متناوب، وهذا النوع من الملکیّة لیس له سابقة لعصر التشریع وفی عصر الأئمّة علیهم السلام.

یمکن هذا الدلیل أیضاً قابل للمناقشة، لأنّنا نعلم أنّ الکثیر من المعاملات لیست موجودة فی النصوص الشرعیة، وفی غیر روایات المعصومین علیهم السلام وبعد ذلک تمّ إبداعها واختراعها من قبیل عقود الضمان بأنواعها وأقسامها، وکذلک الشرکات الجدیدة، وعدم وجود هذه المصادیق فی عصر الأئمّة علیهم السلام لا یمنع من التمسک بعموم

«أوفُوا بالعُقُود»

و «

المؤمنون عند شروطهم»

وبیع الملک علی أساس الزمان، إنّما یکون مقبولًا من قِبل العقلاء بوصفه عقداً ومعاملة تملک أرکان صحة العقد فیما إذا شملته عمومات أحکام المعاملات، بالرغم من أنّ هذا الموضوع هو من الموضوعات الجدیدة، ولکن حکمه لا یعتبر جدیداً، من قبیل الرحلات الفضائیة التی لم تکن موجودة فی عصر المعصومین علیهم السلام، والحال إذا توفرت فیها شروط السفر الشرعیة فإنّ أحکام السفر تنطبق علیها.

2. إمکان الملکیّة الزمانیة

فقد ذکر لهذا الوجه دلیلان:

الدلیل الأوّل: إنّ الملکیّة أمر عرفی وتابع لاعتبار العرف، وبما أنّ الملکیّة الزمنیّة فی هذا العصر مورد قبول العرف ولا یوجد دلیل علی نفیها من قبل الشرع المقدّس، فیمکن القول بأنّ الملکیّة الزمانیّة أیضاً من مصادیق الملکیّة.

الدلیل الثانی: إنّ الملکیّة الزمانیّة لها موارد مختلفة فی النصوص الفقهیة، وبالتالی فمثل هذه الملکیّة مقبولة فی الرؤیة الفقهیّة، من قبیل مسألة الوقف علی الأولاد، وکذلک فی موارد یکون المالک قد أوقف داره لمدّة سنة واحدة علی شخص معین ضمن عقد الوقف، ثم یوقفها علی الفقراء.

والنتیجة أنّ الملکیّة الزمانیة تعتبر أمراً معقولًا.

البحث الثانی: حکم انتقال الملکیّة الزمانیّة
اشارة

مع الالتفات إلی رفع الإشکالات الواردة فی إمکان الملکیّة المنقطعة والزمانیة یمکن إیجاد عقد تملیک الزمانی (gnirahs emiT) فی قالب العقود الشرعیة المختلفة.

وبعض طرق انتقال الملکیّة الزمانیة عبارة عن:

1. البیع

مع الالتفات إلی قبولنا بملکیة العین بصورة زمانیة، وبما أنّ البیع هو تملیک العین فی مقابل عوض،

ص: 81

فلا شک أنّ البیع الزمانی یعدّ من مصادیق البیع.

وقد تصور البعض أنّ البیع الزمانی والمالکیّة الزمانیة هی البیع المؤقت الذی ذکره بعض الفقهاء وأشکلوا علی صحته وحتی علی صدق البیع علیه، لأنّ ما هو الوارد فی مفهوم البیع هو انتقال دائمی للملک ولا یوجد مثل هذا الانتقال الدائمی فی البیع المؤقت، ولکن کما تقدّمت الإشارة إلیه أنّ البیع الزمانی یختلف عن البیع المؤقت، وفی البیع الزمانی یتمّ تقسیم الملک مورد المعاملة بصورة دائمیة، وطبعاً انتقال ملکیّة کلّ عین والتی تمّ تقسیمها إلی أجزاء زمانیة.

وبعبارة أخری: فی البیع الزمانی یتمّ رعایة دوام التملیک، أمّا فی البیع المؤقت لا یوجد تملیک دائمی، ولذلک تردد البعض فی أصل کون البیع المؤقت بیعاً.

وعلی هذا الأساس فإذا قبلنا ملکیة العین بصورة زمانیة، فلا ینبغی التردد فی تملیک تلک العین فی قالب البیع، کما نقول بجواز بیع سهم من العین.

2. الصلح

الصلح عقد مستقل له أحکام خاصّة، وفی نظر الشرع فإنّ نقل وانتقال الملکیّة فی الصلح مقبول، ولکنّه فاقد لبعض شروط البیع، ولذلک لا تترتب علیه بعض أحکام البیع، وعلی هذا الأساس نظراً لسعة موضوع عقد الصلح، یمکن إدخال عقد التملیک الزمانی فی قالب عقود الصلح.

3. العقود الأخری
اشارة

بعد أن قبلنا بأصل الملکیّة الزمانیة، یمکن القول بأنّ عقد التملیک الزمانی، وفی قالب العقود العقلائیة الأخری علی أساس العموم

«أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ»

، عقد صحیح ولازم فی نظر الشرع.

النتیجة:

إنّ عقد التملیک الزمانی (gnirahs emiT) یمکن تصوره بعدّة أنحاء.

1. تارة یکون البیع الزمانی من مصادیق البیع المشاع بعد تقسیم السهام المشترکة علی أساس الأجزاء الزمانیة: (المهایات) وبشرط الالتزام بالتقسیم الزمانی ضمن عقد لازم، فإنّ هذا العقد یکون لازماً وغیر قابل للفسخ.

2. وتارة یقع البیع الزمانی بواسطة مالک کلّ عین، وفی هذه الصورة مع فرض قبول الملکیّة المقیدة بالزمان من الناحیة الشرعیّة، فإنّ البیع الزمانی یکون من مصادیق البیع المتعارف، والذی یکون فیه التملیک بشکل دائمی، وأمّا الملک فإنّه یقبل التجدید بصورة مقیدة بالزمان، وعلی طول الزمان وفی الموعد المقرر، وأیضاً یمکن إیقاع البیع الزمانی فی البیع المذکور فی قالب الصلح أو العقود العقلائیة الأخری.

النموذج الثانی: معاملة الاختیار
اشارة

" Option"

والمسألة الأخری من المسائل الجدیدة فی الأمور الاقتصادیّة، العقود المتداولة فی هذا العصر وفی الأسواق العالمیّة وخاصة فی بورصة النفط ویتمّ عرضها علی شکل أوراق مالیة تحت عنوان: «أوراق مشتقّة»، وأحد أنواع هذه العقود، عقد اختیار المعاملة

ص: 82

"Option ".

وهذ العقد تمّ تحریمه من قبل بعض المجامع العلمیّة فی البلاد الإسلامیّة، ولکن البعض الآخر من البلاد الإسلامیّة أجازه بقلیل من التغییر أو بدون تغییر، واللجنة الفقهیة لمنظمة البورصة فی ایران قررت أنّ هذا النوع من العقد صحیح مع بعض الشروط والضوابط.

والتحقیق فی هذه المسألة مع الالتفات إلی عالمیتها وابتلاء جمیع البلاد الإسلامیّة بها فی الاسواق العالمیّة، ومع الالتفات إلی اختلاف الفقهاء البلاد الإسلامیّة فی الحکم الفقهی لهذه المسألة فإنّ هذه المسألة تملک أهمیّة خاصّة.

فلسفة عقد الاختیار:
اشارة

فلسفة عقد الاختیار(1):

بما أنّ المشترین یعیشون القلق من ندرة البضاعة أو اختفائها أو غلائها فی زمن الحاجة إلیها، ومن جهة أخری فإنّ الباعة والمنتجین لها یعیشون قلق کساد السوق وقلّة المشتری وعدم تبدیل البضاعة إلی نقد فی الزمان المقرر، فلذلک تمّ إیجاد أسالیب للخلاص من إشکال القلق هذه، وإیجاد الاطمئنان بالنسبة للحالة المستقبلیة فی أسواق البورصة العالمیّة، وطبعاً فهناک نظائر لهذا الموضوع فی التاریخ القدیم للشعوب البشریّة، وأحد هذه الوسائل والأسالیب «معاملة الاختیار»، ففی هذا العقد یعیش البائع المشتری، بالنسبة لبیع وشراء البضاعة فی الزمان المطلوب، اطمئناناً نسبیاً.

التعریف:

معاملة الاختیار، عبارة عن عقد بین مالک الاختیار ومالک حقّ البیع وحق الشراء بالنسبة لبضاعة المعینة، ولذلک یشتری لحقّ المعاملة (شراء الاختیار) حقّ شراء أو بیع بضاعة خاصّة فی زمان معین فی المستقبل وبقیمة معینة، وبالتالی فإنّ لمشتری الحقّ یمکنه من استخدام حقّه فی زمن معین، أن یبیع أو یشتری البضاعة المنظورة بقیمة معینة مسبقاً.

والمبلغ الذی یتمّ دفعه من قِبل المشتری لشراء


1- للإطلاع علی موضوع« اختیار المعاملة» استفید من المصادر التالیة: مبانی الهندسیة للمال والمدیریة( مبانی مهندسی مالی و مدیریت ریسک) بالفارسیّة، الدکتور رضا الداعی و علی السعیدی؛ المشتقات والمدیریة فی سوق النفط( مشتقات و مدیریت ریسک در بازار نفت) بالفارسیّة، الدکتور مسعود درخشان؛ أسواق الأوراق المالیّة، عبدالمجید الرضوان؛ أوراق اختیار المعاملة"noitpO " فی سوق رأس المال الإیرانی( در بازار سرمایه ایران) بالفارسیّة، الدکتور محمّد فطانت وإبراهیم آقاپور؛ بورصة الأوراق المالیّة، البرواری، شعبان محمّد إسلام؛ مصطلحات الفقه المالی المعاصر، معاملات السوق، کمال محمّد یوسف؛ أسواق الأوراق المالیّة( البورصة) فی میزان الفقه الإسلامی، الدکتور عصام أبوالنصر؛ الآثار الاقتصادیّة لأسواق المالیّة من منظور الاقتصاد الإسلامی، الدکتو زکریا سلامة عیسی الشنطناوی؛ أحکام البنوک والأسهم والأسواق المالیّة، الشیخ محمّد اسحاق الفیاض؛ مصوبات شوی الاستشارة الشرعیة للجنة الأوراق المالیة للمالزیا( مصوبات شورای مشورتی شرعی کمیسیون اوراق بهادار مالزی) ترجمة مهدی النجفی، السید سعید شمسی نژاد؛ الفصلیة التخصصیة للاقتصاد الإسلامی( فصلنامه تخصصی اقتصاد اسلامی) بالفارسیّة، العدد 9 و 11، الخریف والربی سنة 82 ه ش؛ الفصلیة التخصصیة لجامعة الإمام الصادق علیه السلام( فصلنامه تخصصی دانشگاه الإمام الصادق علیه السلام)، العدد 25، الربیع سنة 84 ه ش.

ص: 83

«حق الشراء» أو «حق البیع» یسمی «قیمة الاختیار» والمبلغ المعین لهذه البضاعة المنظورة یسمی «القیمة التوافقیة» والزمان المستقبلی الذی یراد فیه الاقدام علی انجاز معاملة المعینة هو «زمان التحقق» أو «تاریخ الانقضاء»، والحق الذی تمّ تفویضه بصورة نقدیة یسمی «اختیار المعاملة»، وسند تفویض هذا الحق یسمی «أوراق الاختیار».

إنّ ظهور هذا النوع من المعاملة کما تقدّمت الإشارة إلیه یعود إلی المتغیرات الکثیرة فی واقع الاقتصاد سواء من حیث القیمة أو من حیث الطلب فی بعض أنواع البضاعة کالنفط، الذی لم یشهد مثل هذه المتغیرات فی القیمة فیما سبق.

أنواع «اختیار المعاملة»:
أ) التقسیم الأوّل؛ (اختیار البیع، اختیار الشراء)
اشارة

إنّ معاملة الاختیار بالنسبة لنوع الحقّ المفوض ومتعلق الاختیار علی نوعین: 1. اختیار الشراء، 2. اختیار البیع.

1. اختیار الشراء

" noitpO laC"

فی هذا النوع من المعاملة، یتمّ تفویض حقّ شراء البضاعة المنظورة ومن یمللک حقّ هذا الاختیار یمکنه بهذا الحقّ أن یشتری البضاعة المنظورة فی زمان المقرر بقیمة توافقیة، مثلًا شرکة (أ) لها الحقّ فی شراء النفط بقیمة ونوع ومقدار معین وفی زمان مشخص فی المستقبل من الشرکة (ب) وبالتالی فإنّ شرکة (أ) فی زمان مقرر وبملاحظة قیمة السوق والقیمة التوافقیة بإمکانها أن تقرر شراء أو عدم شراء البضاعة فیما یتصل بإعمال حقّ الاختیار، فإذا کانت قیمة السوق فی زمان إعمال الاختیار أقل من القیمة التوفقیة، فإنّها لا تتحرک علی مستوی إعمال الاختیار، وبإمکانها أن تشتری البضاعة المنظورة من السوق بقیمة أقل.

فإذا کانت قیمة السوق أکثر فإنّ من یملک الاختیار یمکنه أن یتحرک علی مستوی التصرف بهذا الحق والعمل به، وفی هذه الصورة فإنّ الشرکة (ب)، وعلی أساس الالتزام فی معاملة الاختیار، تکون ملزمة بهذه المعاملة والعمل بهذا الالتزام وتسلیم البضاعة المنظورة.

2. اختیار البیع
اشارة

" Put Option"

وفی هذا النوع من المعاملة، یتمّ تفویض حقّ بیع البضاعة المنظورة، والمشتری (من له اختیار البیع) یمکنه بإعمال هذا الحقّ وفی زمان معین بیع البضاعة المنظورة بقیمة توافقیة، مثلًا الشرکة (أ) تشتری حقّ بیع البضاعة من الشرکة (ج) ویتمّ تعیین قیمة ونوع البضاعة المنظورة والزمان المقرر لها کاملًا، وبالنتیجة فإنّ الشرکة (ج) فی صورة إعمال حقّ البیع من قبل الشرکة (أ) یجب أن تشتری البضاعة المنظورة، ولکن الشرکة (أ) بقیامها مقارنة قیمة السوق مع القیمة التوافقیة فی مورد إعمال الاختیار وبیع البضاعة

ص: 84

المنظورة تقرر بیع أو عدم بیع البضاعة إلی الشرکة (ج)، وقطعاً إذا کانت قیمة تلک البضاعة فی السوق أکثر من القیمة التوافقیة، فإنّها لا تتحرک علی مستوی إعمال الاختیار، وبالتالی تعرض بضاعتها فی السوق لبیعها بقیمة أکثر.

ترکیب الاختیارات:

بالنسبة لمثال اختیار الشراء، ونظراً إلی وجود احتمال تنزل قیمة البضاعة فی الزمان المقرر، وقطعاً فی مثل هذه الحالة فإنّ الشرکة (أ) ستنصرف عن شراء البضاعة بالقیمة التوافقیة بواسطة حقّ إعمال الاختیار، والشرکة (ب) لغرض دفع الضرر الناشی ء من عدم بیع البضاعة ستقوم ببیع هذه البضاعة واستخدام معاملة الاختیار بتلک الشروط الموجودة فی معاملة اختیار الشراء، مع الشرکة (ج)، وبالنتیجة ففی الزمان المقرر من قِبل شرکة (ب) تعلن هذه الشرکة انصرافها من عملیّة الشراء، وبالتالی بإمکانها بیع هذه البضاعة إلی الشرکة (ج)، وهذا الاسلوب من أجل دفع خطر الضرر من نوع ترکیب الاختیارات من قِبل الطرفین له أنواع مختلفة(1).

ب. التقسیم الثانی؛ مع اختیار اوربی و أمریکی و برمودا
اشارة

إنّ اختیار المعاملة بالنسبة لزمان إعمال الاختیار أیضاً علی عدّة أنواع: أحدها، أن لا یکون لمشتری اختیار المعاملة حقّ إعمال الاختیار من زمان شراء الاختیار إلی الزمان المقرر، ویمکنه فقط فی الزمان المقرر إعمال الاختیار والإقدام علی المعاملة، وهذا النوع من اختیار المعاملة یسمی «اختیاراوربی» والنوع الآخر منه أن یکون مشتری الاختیار ومنذ العقد إلی الزمان المقرر بإمکانه إعمال الاختیار وإجراء المعاملة، وهذا النوع من اختیار المعاملة یسمی «اختیار أمریکی»، ومن یملک هذا النوع من الاختیار فإنّه یستطیع بحریة أکثر إعمال الاختیار علی طول الزمان بعد الشراء إلی الزمان المقرر، واحتمال الضرر فی هذا النوع یساوی صفراً تقریباً(2).

وثمّة نوع آخر من اختیار المعاملة، وهو أنّ من یملک هذا الاختیار یمکنه فقط إعمال الاختیار فی الأزمنة المخصوصة منذ العقد إلی الزمان المقرر، وهذا النوع من الاختیار یمثّل الحدّ الوسط بین النوعین السابقین، ویسمی «اختیار برمودا»(3).

التسویة النقدیة:

إنّ المتعاملین فی مجال البورصة، لا یملکون غالباً البضاعة مورد المعاملة، فهم مجرّد واسطة، ویتعاملون فی العقود المستقبلیة واختیار المعاملة لغرض الربح فقط، وهؤلاء الأشخاص (الشخصیات البورصیة) مع تقبلهم لاحتمال الخطر یدخلون السوق وینتفعون من المتغیرات فی السوق، وبهذه الصورة


1- انظر: المبانی الهنسیة للمال والإدارة( مبانی مهندسی مالی و مدیریت ریسک» بالفارسیّة، ص 253.
2- مبانی مهندسی مالی و مدیریت ریسک، ص 242.
3- الآثار الاقتصادیّة لأسواق الأوراق المالیّة، ص 154.

ص: 85

عندما یتوقعون، مثلًا بما لدیهم من معلومات وتجربة ومهارة، أنّ سعر النفط أو السهام أو ... سیرتفع فی المستقبل وینبغی علیهم الإقدام علی شراء أوراق الاختیار، فعندما یتحرکون علی مستوی إعمال الاختیار تکون قیمة السوق قد ارتفعت، وبالتالی فإنّ مقدار التفاوت بین القیمة التوافقیة وقیمة السوق (وإن کانت مبلغاً قلیلًا) فإنّه یأخذون هذا التفاوت بشکل نقد من المفوض الأوّل دون أن تکون هناک معاملة وأخذ وعطاء للبضاعة، فمن البدایة یدخلون المعاملات بهذا الدافع، وهذا الاسلوب یسمی «التسویة النقدیّة».

تحلیل معاملة الاختیار:

مع الالتفات إلی أنّ بعض الدراسات الفقهیة لمعاملة الاختیار، أدخلت هذا العقد فی بعض العقود الأخری، ومن اللازم أن یقع هذا العقد بصورة جلیة وتحلیل مفصل لیتبیّن التفاوت بین هذه المعاملة (معاملة الاختیار) مع المعاملات المماثلة.

فی معاملة الاختیار بشکلها السائد والمتداول، فإنّها بمثابة معاملة نقدیة فی قالب البیع بالنسبة لحق شراء أو حقّ بیع المالک، ویکون المبلغ المدفوع یمثّل قیمة الاختیار ولیس جزءً من قیمة البضاعة المنظورة، وبالنسبة للبضاعة المنظورة لا تقع علیها أیة معاملة، وفقط علی أساس معاملة الاختیار یستطیع مشتری الاختیار فقط عند الزمان المقرر (فی الاختیار الاوربی) أو إلی الزمان المقرر (فی الأنواع الأخری من الاختیار) أن یقدم علی هذه المعاملة، وفی هذه الصورة فإنّ المعاملة یتمّ تعیینها بشکل نقدی والثمن والمثمن یتمّ تعیینهما بمقدار مشخص فی عقد الاختیار.

وعلی هذا الأساس ففی معاملة الاختیار، وخلافاً لتصور البعض، لیس هناک بیع «الکالی بالکالی»، والدین بالدین، بحیث یکون الثمن المثمن کلیهما نسیئة، ولیس هو من بیع «السلف» و «السلم»، بحیث یتمّ بیع البضاعة أو الثمن بوقت متقدم، ولا من «بیع العربون» «/ البیعانة» حیث یتمّ دفع مبلغ من المال قبل المعاملة، وحین القیام بالمعاملة یکون ذلک المبلغ جزء الثمن، وفی صورة عدم تحقق المعاملة سیکون للمالک، ولا من قبیل «بیع الخیار» وفیه تنعقد المعاملة مع شرط خیار الفسخ إلی زمان المعین، بل إنّ معاملة الاختیار بشکلها المتداول هی معاملة نقدیة، وتتبع الالتزامات فی المعاملة النقدیة وتبعاً لها فإنّها بمثابة الالتزام بمعاملة نقدیة أخری، سوف تقع فی المستقبل بإرادة مشتری الاختیار.

التحقیق الفقهی فی معاملة الاختیار:

مع أنّ معاملة الاختیار بأشکالها المختلفة قابلة للتنفیذ والإجراء، ولکن بما أنّها تقع بشکلها المتداول فی الأسواق العالمیّة بعنوان «عقد البیع» فإنّها وقعت مورد البحث والدراسة فی الکتب الفقهیة بعنوان البیع، وفیما یلی توضیح هذه المسأله بشکل إجمالی:

إنّ التحقیق فی هذه المعاملة فی قالب البیع یتوقف علی قبول مبنیین:

ص: 86

1. إنّ اختیار الشراء والبیع یعتبر حقاً لا حکماً شرعیاً.

2. إنّ بیع الحق، بواسطة صاحب الحق، جائز وصحیح.

ولا شک أنّه فی صورة عدم قبول أی واحد من هذین المبنیین، فإنّ بیع الاختیار یقع باطلًا ولا مجال للبحث والتحقیق فی هذه المسألة، ولکن مع قبول هذین المبنیین، ثمة قولان فی صحة وبطلان هذه المعاملة:

فقد تمسک البعض بالأدلة التالیة علی بطلان بیع الاختیار:

1. عدم تحقق تملیک المال فی بیع الاختیار، لأنّ اختیار البیع والشراء، فی نظر العرف، لا یعتبر مالًا لیکون قابلًا للتملیک، فی حین أنّ البیع فی مورد المعاملة یجب أن یکون مالًا عرفاً لیکون قابلًا للتملیک إلی الغیر.

2. عدم حصول شروط التمسک بعموم

«أحلّ اللَّه البیع»

، لأنّ هذا المورد لیس من المصادیق المتعارفة للبیع فی عصر التشریع، ولذلک لا یصدق علیه عموم

«أحلّ اللَّه البیع».

3. کون بیع الاختیار غرریاً، لأنّ میزان قیمة حقّ البیع والشراء مع الالتفات إلی متغیرات القیمة، لا یکون معلوماً.

4. کون بیع الاختیار سَفَهیاً؛ یعنی فی صورة أن تتضاعف قیمة البضاعة فی الزمان المقرر إلی عدّة أضعاف القیمة التوافقیة، فمثل هذه المعاملة ستکون سفهیة (ولکن یمکن القول فی مقام الجواب إنّ هذا فی الحقیقة من قبیل معاملة السلف حیث یمکن أن تکون قیمة البضاعة المبیعة فی السلف عدّة أضعاف).

5. عدم القدرة علی تسلیم البضاعة عند بیع الاختیار (وطبعاً بما أنّ المثمن هنا هو الاختیار وتمّ تسلمیه فی حال المعاملة فلا یبقی وجه لهذا الدلیل).

6. إنّ هذه المعاملة فیما إذا تضاعفت القیمة البضاعة فی الزمان المقرر إلی عدّة أضعاف ستکون بدون رضا المالک.

وهذا الکلام لا یقوم علی أساس متین، لأنّ رضا المالک شرط عند عقد الاختیار، وعدم رضایته فی البیع الثانی وفی الزمان المقرر لا یثیر مشکلة.

7. إنّ هذه المعاملة، من مصادیق بیع «مالیس عنده» وبالتالی تقع باطلة، والأشخاص الذین استدلوا بهذا الدلیل، غفلوا عن أنّ البیع هنا یقع علی الحقّ وهو موجود لا علی البضاعة التی ستقع مورد المعاملة فی المستقبل.

8. إنّ هذا البیع ورد النهی عنه صریحاً فی بعض الروایات بعنوان «بیع العربون»، (وهذا الادعاء غیر مقبول أیضاً بلحاظ ضعف الروایة وکذلک التفاوت الماهوی بین هذین البیعین).

وذهب بعض آخر من الفقهاء إلی صحة بیع الاختیار من خلال التمسک بالأدلة التالیة:

1. إنّ مثل هذا البیع مقبول فی العرف فی عصرنا الحاضر، وبالتالی یقع مشمولًا لعموم الأدلة من قبیل

«أحل اللَّه البیع»

و «

المؤمنون عند شروطهم

» و

«أوفوا

ص: 87

بالعقود».

2. إنّ المالیّة فی حقّ الاختیار فی عرفنا الحاضر موجودة بالتالی یصدق علیه عنوان البیع.

*** وقد اختار بعض العلماء أسالیب أخری لتصحیح هذا العقد غیر طریق بیع الحق، لا مجال لبیانها هنا.

وطبعاً فإنّ التحقیق التفصیلی فیما یتصل بأدلة ومستندات الطرفین تستدعی مجالًا آخر، والغرض هنا من طرح هذین المثالین استعراض نماذج من المسائل المستحدثة فی الموارد الاقتصادیّة التی تقع محل ابتلاء بشدّة فی عصرنا الحاضر.

النموذج الثالث: الشرکات الهرمیة
1. التعریف

«الهرم» اطروحة یدفع فیها الفرد نفقة معینة (نفقة الدخول» لأجل تحصیل الفرص الآتیة ونیل بعض المزایا، فی حین أنّ هذه المزایا یتمّ تسدید نفقاتها من سائر الأفراد المشترکین فی الاطروحة، مضافاً إلی بیع المحصولات للمشترین.

وعلی أساس نظر اللجنة العالمیّة لاتحادات البیع المباشر، فإنّ الاطروحة الهرمیة لیس لها بقاء تجاری، لأنّ مبنی فعالیتها لیست من قبیل تجارة البضاعة أو الخدمات ذات القیمة.

إنّ الشرکات الهرمیة لا تساهم فی عملیّة النمو الاقتصادی، بل بإیجاد شرکات غیر قانونیة تساهم فقط فی جمع نقود الأفراد بعدد أعضاء هذه الشبکات، وبعبارة أخری أنّها تمثّل طریقاً غیر قانونیة لکسب الربح والمنفعة.

وضمناً فإنّ فعالیة ونشاطات هذه الشرکات الهرمیة ممنوعة فی جمیع بلدان العالم ویترتب علی هذه الشرکات عقوبات ثقیلة.

2. أدلة الحرمة

ذکروا عدّة أدلة لبیان حرمة نشاطات هذه الشرکات الهرمیة، حیث تصدق هذه الأدلة بالنسبة لبعض الشرکات، وبالنسبة للبعض الآخر فتصدق بعض هذه الأدلة.

1. الأکل للمال بالباطل؛ إنّ أکل المال بالباطل وطبقاً لما صرّح به القرآن الکریم فی الآیات 29 و 30 من سورة «النساء» حرام ویعتبر من الذنوب الکبیرة، والتی تسوق الإنسان إلی جهنم، والمراد من أکل المال بالباطل هو أنّ الإنسان یحصل علی أموال بدون أداء عمل مشروع ومفید وإیجابی، وهذا الأمر یصدق بوضوح علی الشرکات الهرمیة، فالأفراد الذین یقفون علی رأس الهرم یحصلون علی أموال طائلة من الآخرین بالباطل، بدون أن یقدّموا أی عمل إیجابی ومفید.

2. مشابهة هذا العمل بالقمار، والقمار بدوره کما صرّح القرآن الکریم فی الآیة 219 من سورة «البقرة»، حرام، والمراد منه أن یحصل الإنسان علی أموال الآخرین بسهولة ویسر بدون تقدیم أی عمل مشروع، وهذا یشبه عمل الشرکات الهرمیة، فأصحاب

ص: 88

هذه الشرکات والأشخاص الذین یقفون علی رأس الهرم یحصلون علی أموال الأشخاص الذین هم فی المراتب الدانیة ولا یستطیعون طبقاً لشروط الشرکة الحصول علی مشترین جدد، وفی الحقیقة أنّ ملاک حرمة القمار موجود فی هذا النوع من النشاطات الاقتصادیّة.

3. الشبه بالیانصیب، إنّ حرمة أوراق الیانصیب تندرج تحت عنوان «الأزلام» الواردة فی القرآن الکریم فی الآیة الثالثة من سورة المائدة، ففی عصر الجاهلیة کان العمل بالأزلام متداول، مثلًا یقرر عشرة أشخاص فیما بینهم بأن یشتروا شاة ویذبحونها ثمّ یأتو بعشرة أوراق، ویکتبون علی سبعة منها کلمة «رابح» وعلی ثلاثة منها «کلمة خاسر»، ثمّ یقوم کلّ واحد من هؤلاء العشرة بسحب ورقة من هذه الأوراق ویتمّ تقسیم لحم هذه الشاة إلی سبعة أقسام متساویة تقسم علی الأشخاص الرابحین فقط، أمّا الثلاثة الخاسرین فلیس فقط لا یملکون حصة من هذه الشاة بل یجب علیهم دفع ثمنها بمقدار ثلث لکلّ واحد منهم.

وهذا العمل موجود فی الکثیر من الشرکات الهرمیة، مع فارق أنّ الرابحین هم الأقلیّة فی هذه الشرکة والخاسرین هم الأکثریّة، وطبعاً فإنّه الأدلة الثلاثة المذکورة متشابهة وتندرج تحت عنوان أکل المال بالباطل، وتشترک فی ثلاثة أوجه مختلفة، والجدیر بالذکر وجود أدلة أخری علی حرمة هذا العمل من قبیل قاعدة الغرور، قاعدة لا ضرر، البیع الغرری، والغش، والتدلیس أیضاً.

3. التداعیات السلبیّة

إنّ هذه الشرکات لها آثار وخیمة وتداعیات سلبیة کبیرة فی کلّ مکان وجدت فیه، وأهم هذه التداعیات تتمثّل فی التداعیات الاجتماعیّة، الاقتصادیّة والسیاسیّة، فیما تستلزم من وقوع إرباک اجتماعی وسلوکی کبیر وظهور الخلافات العائلیة، وعدم الثبات فی النظام الاقتصادی، انتقال رؤوس الأموال والعملة الصعبة من هذه البلدان بشکل غیر قانونی، حالة التکاسل والفرار من تحمل المسؤولیات الاجتماعیّة، والاعتیاد علی البطالة وتوقع الثروة الکبیرة، إشاعة الفساد والفحشاء والتحلل حیث یستفاد غالباً من هذه الوسائل لتمریر مقاصدهم وإنجاح أعمالهم، تلوث المعیشة بالمال الحرام، الغش والمکر والحیلة وأمثال ذلک، کلّ هذه من آثار وتداعیات عمل هذه الشرکات، ومن البعد السیاسی أیضاً فإنّ بعض البلدان (کدولة ألبانیا) فإن نشاط هذه الشرکات فی السنوات 1995 إلی 1998 أدّی إلی سقوط هذا البلد.

وبعبارة موجزة یمکن القول إنّ الآثار السلبیة لهذه الشرکات والسبب الحقیقی فی أکل المال بالباطل لها یکون کالتالی: هذه الشرکات تستلم أموالًا طائلة بعنوان حقّ العضویة، أو بعنوان بیع البضاعة بقیمة غیر واقعیة، أو عناوین أخری، ومن أجل تفعیل سوقها فإنّها تقدّم امتیازات کبیرة لرؤوس المجامیع

ص: 89

والأشخاص الذین یقفون فی المرتبة الاولی من الأعضاء المشارکین لیقوموا بالتدلیس علی الآخرین بحجّة أنّهم یریدون استثمار أموالهم، وهذه الأموال الکثیرة تمثّل فقط قسماً صغیراً من الأموال التی حصل علیها القائمون علی هذه الشرکات والقسم الأعظم منها یذهب إلی جیوبهم، ومن هذه الجهة فإنّ قسماً کبیراً ممن یقف فی المراتب الأخیرة أو ما قبل الأخیرة سیتعرضون للضرر والخسارة، وستذهب رؤوس أموالهم إلی جیوب الآخرین دون أن یحصلوا علی شی ء فی مقابل ذلک، ولهذا نری هجومهم علی المحاکم لتقدیم الشکاوی من هذه الشرکات، فی حین أنّ أصحاب هذه الشرکات قد أودعوا هذه الأموال فی أماکن أمینة فی خارج البلد، وفی کثیر من الحالات نراهم یهربون إلی الخارج أیضاً، ولهذا السبب فإنّ مجالس التقنین والتشریع وضعت قوانین ضد هذه الشرکات وقررت الأجهزة القضائیّة فی البلدان المختلفة أنّ هؤلاء من جملة المحتالین الذین صدر الأمر القضائی بتوقیفهم وملاحقتهم وقامت القوی الأمنیة بإلقاء القبض علی کثیر منهم وإیداعهم فی السجون.

وطبعاً فإنّ کلّ واحد من هذه التداعیات السلبیة یحتاج إلی شرح مفصل لا مجال لاستعراضه فی هذا البحث، لأنّ الغایة منه تقدیم عرض إجمالی لهذه المسألة(1).

***

المنابع والمصادر

1. الآثار الاقتصادیّة لأسواق الأوراق المالیّة من منظور الاقتصاد الإسلامی، الدکتور زکریا سلامة، عیسی شنطناوی، الأردن، 2009 م.

2. الأحکام، الآمدی، مکتب الإسلامی، الطبعة الثانیة، 1402 ق.

3. أسواق الأوراق المالیّة (البودجة) فی میزان الفقه الإسلامی، الدکتور عصام أبوالنصر، دار النشر، مصر، 2006 م.

4. إعانة الطالبین، البکری الدمیاطی، دار الفکر، الطبعة الاولی، 1418 ه ق.

5. أوراق اختیار المعاملة (Option) فی سوق رأس المال الإیرانی (أوراق اختیار معامله (Option) در بازار سرمایه ایران) بالفارسیّة، الدکتور محمّد فطانت و إبراهیم آقاپور، الطبعة الثانیة، الربیع 1383 ه ش، التحقیقات المالیّة والبنکیة.

6. بحر الرائق، ابن نجیم المصری، تحقیق زکریا عمیرات، دار الکتب العلمیّة، بیروت، الطبعة الاولی، 1418 ه ق.

7. البنوک، أحکام البنوک والسهم والسندات والأسواق المالیّة البورصات من وجه النظر الإسلامیّة، محمّد اسحاق فیاض.


1- استفدنا لتظیم بحوب الشرکات الهرمیّة من المنبعین: الف. التسویق الهرمی المشبوه( بازاریابی شبکه ای یا کلاهبرداری مرموز) بالفارسیّة، ب. التجّار المحتالین( تاجران کلاهبردار) بالفارسیّة. وللمزید من التوضیح یمکن الرجوع إلی هذین المنبعین.

ص: 90

8. تحریر الوسیلة، الإمام خمینی قدس سره، دارالکتب العلمیّة، الطبعة الثانیة، 1390 ه ق.

9. تذکرة الفقهاء (ط- ق)، العلّامة الحلی، منشورات مکتبة مرتضویة.

10. تذکرة الفقهاء، العلّامة الحلی، مؤسسه آل البیت علیهم السلام، الطبعة الأولی، 1420 ه ق.

11. جامع المقاصد، المحقق الکرکی، مؤسسه آل البیت، الطبعة الاولی، 1411 ه ق.

12. جواهر العقود، المنهاجی الأسیوطی، دارالکتب العلمیّة، بیروت، الطبعة الاولی، 1417 ه ق.

13. حاشیة المکاسب (ط- ق)، السید الیزدی، مؤسسة إسماعیلیان.

14. الحدائق الناضرة، المحقق البحرانی، تحقیق محمّد نقی الإیروانی، جماعة مدرسین، قم.

15. الحواشی الشروانی، الشروانی والعبادی، دار احیاء التراث العربی، بیروت، لبنان.

16. الخلاف، الشیخ الطوسی، جماعة المدرسین، الطبعة الثانیة، 1420 ه ق.

17. الدروس، الشهید الأوّل، جماعة المدرسین، قم، الطبعة الاولی، 1414 ه ق.

18. الرسائل، الشهید الثانی (ط، ق)، منشورات مکتبة بصیرتی، قم.

19. ریاض المسائل، السید علی الطباطبائی، جماعة المدرسین، قم، الطبعة الاولی، 1422 ه ق.

20. السرائر، ابن إدریس الحلی، جماعة المدرسین، قم، الطبعة الثالثة، 1410 ه ق.

21. شرائع الإسلام، المحقق الحلی، انتشارات استقلال، طهران، الطبعة الثانیة، 1409 ه ق.

22. الشرح الکبیر، عبدالرحمن بن قدامة، دار الکتاب العربی، بیروت.

23. شرح اللمعة، الشهید الثانی، منشورات جامعة النجف.

24. فتح العزیز، عبدالکریم الرافعی، دارالفکر.

25. فتح المعین، ملییاری الهندی، دارالفکر، الطبعة الاولی، 1418 ه ق.

26. کفایة الأحکام، المحقق السبزواری، تحقیق مرتضی واعظی الأراکی، جماعة المدرسین، قم، الطبعة الاولی، 1423 ه ق.

27. الفصلیة التخصصیة للاقتصاد الإسلامی (فصلنامه تخصصی اقتصاد اسلامی) بالفارسیّة، العدد 9 و 11، الخریف والربیع 1382 ه ش.

28. الفصلیة التخصصیة لجامعة الإمام الصادق (فصلنامه تخصصی دانشگاه الإمام الصادق) الفارسیّة، العدد 25، الربیع 84 13 ه ش.

29. مبانی الهندسیة للمال والإدارة (مبانی مهندسی مالی و مدیریت ریسک) بالفارسیّة، الدکتور علی رضا الداعی وعلی السعیدی، انتشارات سمت، الطبعة الاولی، 1383 ه ش.

30. المبسوط، السرخسی، دار المعرفة، بیروت.

31. المبسوط، الشیخ الطوسی، مکتبة المرتضویة، 1351 ه ش.

32. المجموع، محیی الدین النووی، دار الفکر.

33. مجلة فقه أهل البیت علیهم السلام (مجله فقه اهل بیت)

ص: 91

(بالفارسیّة)، العدد 26.

34. مسالک الافهام، الشهید الثانی، مؤسسة معارف اسلامی، الطبعة الثانیة، 1413 ه ق.

35. المستصفی، الغزالی، دارالکتب العلمیّة، بیروت، 1417 ه ق.

36. مستند الشیعة، المحقق النراقی، مؤسسة آل البیت علیهم السلام، لإحیاء التراث، الطبعة الاولی، 1418 ه ق.

37. مصباح الفقاهة، أبوالقاسم الخوئی، مکتبة الداوری، قم، الطبعة الاولی، 1377 ه ش.

38. مصوبات الشوری الاستشاریّة الشرعیّة للجنة الأوراق المالیّة للمالزیا (مصوبات شورای مشورتی شرعی کمیسیون اوراق بهادار مالزی) بالفارسیّة، ترجمة مهدی النجفی، السید سعید شمسی نژاد، انتشارات جامعة الإمام الصادق، 1385 ه ش.

39. معارج أصول، المحقق الحلی، مؤسسة آل البیت علیهم السلام، الطبعة الاولی، 1403 ه ق.

40. المغنی، عبداللَّه بن قدامة، دارالکتاب العربی، بیروت، لبنان.

41. مغنی المحتاج، محمّد بن أحمد الشربینی، دار إحیاء التراث العربی، بیروت، 1377 ه ق.

42. المهذب البارع، ابن فهد الحلی، جماعة المدرسین، قم، 1411 ه ق.

43. هدایة العباد، آیة اللَّه کلپایکانی، دار القرآن الکریم، قم، 1417 ه ق.

ص: 92

ص: 93

القسم الثانی: الخطوط الکلیّة فی الاقتصاد الإسلامی

اشارة

1. مبانی الاقتصاد الإسلامی

2. الأهداف والدوافع فی الاقتصاد الإسلامی

3. إزالة الفقر، الهدف الأصلی فی النظام الاقتصادی فی الإسلام

4. التنمیة الاقتصادیّة أحد الأهداف المهمّة الأخری

5. الاصول والقواعد التطبیقیة فی الاقتصاد الإسلامی

6. دور الحکومة فی اقتصاد المجتمع

7. الإشراف علی النظام الاقتصادی

ص: 94

ص: 95

المقدّمة: المقصود من «الخطوط الکلیّة» فی الاقتصاد الإسلامی

عندما یقال «الخطوط الکلّیة للاقتصاد الإسلامی» فالمراد بیان مبانی الاقتصاد الإسلامی، وأهدافه وأصوله.

أمّا «المبانی» فهی عبارة عن المسبوقات المفروضة والأصول المقبولة التی یتبناها نظام معین أو علم من العلوم، مثلًا عندما نتحدّث عن الفقه واستنباط الأحکام من القرآن والسنّة، فمن الطبیعی أن یدور الحدیث عن المبانی والمسبوقات (وبعبارة فقهیة:

الأصول الموضوعة) التی تأتی فی مرتبة سابقة علی عملیّة الاستنباط وتشکل أساساً ومبنی للاستنباط (من قبیل أن یعتقد المستنبط والمجتهد، وفی رتبة سابقة علی الاستنباط بأن یکون القرآن مصوناً من التحریف، أو یعتقد بعصمة صاحب السنّة الشریفة) وکذلک الحدیث عن القواعد والأصول التی تبیّن منهج واسلوب الاستنباط من القرآن والسنّة والتی تستخدم فی فهم الکتاب والسنّة وعملیّة الاستنباط منهما، من قبیل أصل حجّیة ظواهر الألفاظ، أو حجّیة خبر الواحد، أو ظهور الأمر فی الوجوب.

وعندما نتحدّث عن الاقتصاد الإسلامی ففی البدایة ینبغی أن نقبل المبانی والأصول المفروضة مسبقاً التی تشکل أساس هذا النظام الاقتصادی فی الإسلام، بالضبط کما هو الحال فی ما تقدّم من کلام عن المذهب الاقتصادی فی الإسلام، أی المرتکزات الفکریّة والمبانی العقائدیّة والأخلاقیّة التی تشکل دعامة النظام الاقتصادی، من قبیل مبنی «مالکیّة اللَّه» ومبنی «التسخیر» وأمثال ذلک، وفی القسم الثانی یتمّ البحث فی الأصول والقواعد التی یتشکل منها النظام الاقتصادی الإسلامی، والاسلوب والمنهج الذی یقرره الإسلام لتنظیم الحیاة الاقتصادیّة فی واقع المجتمع الإسلامی من قبیل أصل «الملکیّة المختلطة».

کما هو الحال عندما نتحدّث عن النظام الاقتصادی «الرأسمالی» فیجب أن نستعرض أولًا الأصول والقواعد لهذه النظام مثل الحریة الاقتصادیّة وکذلک استعراض الأفکار والمفاهیم فی المذهب الرأسمالی التی تشکل المبنی والأساس لهذه الأصول.

الفصل الثالث یقع الحدیث فیه تحت عنوان الأهداف والدوافع فی الاقتصاد الإسلامی، لیتبیّن ما ینبغی أن نتوقعه من النظام الاقتصادی الإسلامی وما هی النتائج والتطلعات والغایات المتوخاة من هذا النظام.

وممّا تقدّم یتبیّن أنّ بحوث هذا الفصل ینبغی أن تتمحور حول ثلاث فصول: «مبانی الاقتصاد

ص: 96

الإسلامی»، «أصول الاقتصاد الإسلامی» و «أهداف الاقتصاد الإسلامی»(1)، وقد تبیّن أیضاً أنّ المقصود من المبانی، أعم من المبانی العقائدیّة (الفکریّة) والأخلاقیّة (القیمیة) ومن اللازم التفکیک بین هذین الأمرین ودراستهما فی فصلین.

وعلی أیة حال فمن أجل ترسیم الخطوط الکلیّة للاقتصاد الإسلامی لابدّ من استعراض بحوث هذا الموضوع فی ثلاثة فصول:

الفصل الأوّل: مبانی الاقتصاد الإسلامی (المبانی الاعتقادیة والأخلاقیّة).

الفصل الثانی: الأهداف والدوافع فی الاقتصاد الإسلامی.

الفصل الثالث: قواعد الاقتصاد الإسلامی (الأصول التطبیقیّة).


1- إذا لم یترتب علی جعل الاصطلاح موؤنة زائدة یمکن تسمیةالفصل الأوّل ب« الأصول الدینیّة*( مع الالتفات إلی ما تقدّم فی تعریف المذهب الاقتصادی) وهی الأصول الفکریّة والأخلاقیّة، والفصل الثانی بعنوان« أصول لنظام» أی الأصول العلمیّة والمنهجیّة.

ص: 97

(1). مبانی الاقتصاد الإسلامی

اشارة

1. مبنی مالکیّة اللَّه

2. مبنی التسخیر

3. حفظ کرامة الإنسان وعزّته النفسانیة

4. ترجیح مصلحة المجتمع علی المصالح الشخصیّة

5. مبنی العقلانیة والتدبیر

6. السکینة الروحیة إلی جانب التقویة البدنیة

7. مقدّمیّة النعم المادّیة

8. سعة دائرة المنابع الاقتصادیّة

9. قداسة المال

10. قبول الفوارق ونفی الاختلافات الظالمة

11. نفی الجبر والتفویض

12. الإنفاق والتنمیة الاقتصادیّة

ص: 98

ص: 99

مبانی الاقتصاد الإسلامی

فی هذا الفصل نستعرض المبانی الاثنی عشر التالیة:

1. مبنی مالکیّة اللَّه

2. مبنی التسخیر

3. حفظ کرامة الإنسان وعزّته النفسانیة

4. ترجیح مصلحة المجتمع علی المصالح الشخصیّة

5. مبنی العقلانیة والتدبیر

6. السکینة الروحیة إلی جانب التقویة البدنیة

7. مقدّمیّة النعم المادّیة

8. سعة دائرة المنابع الاقتصادیّة

9. قداسة المال

10. قبول الفوارق ونفی الاختلافات الظالمة

11. نفی الجبر والتفویض

12. الإنفاق والتنمیة الاقتصادیّة

1. مبنی مالکیّة اللَّه

من جملة الأمور التی ینبغی اعتبارها من مبنی النظام الاقتصادی فی الإسلام مبنی «مالکیّة اللَّه»، بمعنی أنّ الإسلام یری أنّ المالکیّة الحقیقة لجمیع الأشیاء سواء النفوس أو الأموال، إنّما هی بشکل حقیقی للَّه تعالی، وأمّا ملکیّة الإنسان لها فإنّه بمعنی من المعانی ملکیّة مجازیّة وعرضیّة وغیر حقیقیّة.

وهذه الحقیقة بیّنها القرآن الکریم فی العدید من آیاته من خلال حرف «اللام» للملکیة واختصاصها باللَّه، یقول تعالی

«للَّهِ مَا فِی السَّماوَاتِ وَمَا فِی الْأَرْضِ»(1)

. وهذا المضمون ورد فی آیات عدّة أخری من القرآن الکریم فی سورة «آل عمران»، «النساء» وسور أخری وبشکل واسع، وفی طائفة من الآیات یمکن إثبات هذه الملکیّة الخاصّة للَّه ومن خلال صفات إلهیّة مثل: «الخالق»، «الصانع»، «القیّوم» و «ربّ العالمین». حیث تدلّ الخالقیّة والصانعیّة علی الملکیّة، وأنّ الشخص المخترع والخالق والصانع للأشیاء هو المالک لها، وبالرغم من أنّ حدّ الملکیّة أمر اعتباری وعقلائی، وأنّ هذا المعنی بلا شک من لوازم القیومیة للباری تعالی، من قبیل قیومیة نفس الإنسان علی قواه وأفعاله، حیث تدلّ علی نوع من الملکیّة


1- سوة البقرة، الآیة 284.

ص: 100

الحقیقیّة.

ومن خلال التدقیق فی مفهوم الربّ فی

«ربّ العالمین»

کما صرّح بذلک أرباب اللغة کابن فارس فی المقاییس و الفیومی فی المصباح المنیر والجوهری فی الصحاح فی مفهوم المالک والمدبّر حیث یستفاد منه مفهوم الملکیّة(1).

إنّ مسألة مالکیّة اللَّه وعدم الأصالة لمالکیّة الإنسان فیما یتصل بأمواله یستفاد من آیات أخری أیضاً من قبیل الآیة الشریفة التی تقرر أنّ هذه الأموال إنّما هی فضل من قِبل اللَّه تعالی علی الإنسان:

«... وَیَکْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ»(2)

وکذلک الآیة الشریفة التی تقرر أنّ الإنسان خلیفة اللَّه فی أمواله:

«وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَکُمْ مُّسْتَخْلَفِینَ فِیهِ»(3).

وهذا المعنی انعکس بشکل واضح فی الروایات الإسلامیّة:

فنقرأ فی روایة عن الإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام أنّه صرّح فیها بأنّ اللَّه تعالی هو المالک الحقیقی لنفوس وأموال الناس، وما یعتبر من أموالهم إنّما هو بمثابة العاریة والأمانة عندهم ومالکیتهم لها إنّما هی علی سبیل المجاز البعید عن الحقیقة:

«... إذ کان (اللَّه تعالی) المالک للنفوس والأموال وسائر الأشیاء الملک الحقیقی وکان ما فی أیدی الناس عواریّ وأنّهم مالکون مجازاً لا حقیقة له»(4).

ومثل هذا التعبیر ورد فی روایة عن اویس القرنی عن الإمام أمیرمؤمنین علیه السلام ضمن وصایاه لولده الإمام الحسن علیه السلام:

«واعلم یا بنیّ أنّ الدنیا بحذافیرها فانیة والأموال لأهلها عاریة»(5)

، وعلی هذا الأساس فإنّ مالکیّة البشر تقع فی طول مالکیّة اللَّه، وقد فوّض الباری تعالی تملیکها إلیهم، کما أنّ تفویض اللَّه تعالی لهم لا یعنی سلب المالکیّة منه.

وفی حدیث آخر عن الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله یؤکد أنّ مالکیّة الإنسان تقع فی طول مالکیّة اللَّه تعالی وأنّ الناس إنّما یملکون الأشیاء لأنّ اللَّه تعالی ملّکهم لها:

«إن اللَّه لایُطاع جبراً ولا یُعصی مغلوباً ... ولکنّه القادر علی ما أقدرهم علیه والمالک لما ملّکهم إیّاه»(6)

، وعلی هذا الأساس فإنّ مالکیّة الناس تقع فی مرتبة بعدیّة من مالکیّة اللَّه، لا أنّها فی عرضها وافقها.

وفی روایة أخری عن الإمام الصادق علیه السلام یقرر فی حقیقة العبودیة فی هذه الحقیقة، وهی أنّ الإنسان ینبغی أن لا یری نفسه مالکاً فیما أنعم اللَّه علیه بل یری أنّ ماله هو مال اللَّه وینفقه فیما أمره اللَّه تعالی:

«...

قلت: یا أباعبداللَّه ما حقیقة العبودیّة؟ قال: ثلاثة أشیاء: أن لا یری العبدُ لنفسه فیما خوّله اللَّه إلیه مِلکاً، لأنّ العبید لا یکون لهم ملک، یرون المال مال اللَّه، یضعونه حیث أمرهم اللَّه تعالی به ...»(7).


1- انظر: مقاییس اللغة، مصباح المنیر و صحاح اللغة، مادة ربّ.
2- سورة النساء، الآیة 37.
3- سورة الحدید، الآیة 7.
4- مستدرک الوسائل، ج 7، ص 285؛ الحیاة، ج 3، ص 68.
5- درّ النظیم، ص 376، مطبعة مؤسسة النشر الإسلامی، جماعةالمدرسین قم.
6- کنز الفوائد، الکراجکی، المتوفی 449 ه ق، ص 171، قم، مکتبة المصطفوی.
7- مشکاة الأنوار، ص 327.

ص: 101

وکذلک ورد فی روایة شریفة وردت فی منابع أهل السنة أنّ أمیرالمؤمنین علی علیه السلام قال فی جوابه لرسالة الحسن البصری یقول:

«لکنّه المالک لِما ملّکهم والقادر علی ما علیه أقْدرهم»(1).

وهکذا وردت تعبیرات مختلفة فی هذه المصادر عن الصحابة والتابعین تبیّن هذا الموضوع، من ذلک التعبیر

«المال عاریة»

لیحیی بن خالد(2) وتعبیر ب

«المال ودائع اللَّه فی الدنیا»

لجریر بن عبداللَّه البجلی (3) وجملة

«المال مال اللَّه»

للخلیفة الثانی (4).

2. مبنی التسخیر

ومن الأمور التی ینبغی قبولها بوصفها مفروضات وأصول موضوعة قبل الورود إلی بیان برامج ونشاطات الاقتصادی الإسلامی، هی إمکان الاستفادة من جمیع المعادن والذخائر الأرضیة للإنسان وقد استخدم القرآن الکریم لبیان هذه الحقیقة کلمة: «التسخیر»، وقد تحدّث القرآن الکریم فی آیات عدّة عن تسخیر الأنهار للإنسان:

«سَخَّرَ لَکُمُ الْأَنهَارَ»(5)

والسفن:

«سَخَّرَ لَکُمُ الْفُلْکَ»(6)

والبحار والنعم والمواهب فیها:

«وَهُوَ الَّذِی سَخَّرَ الْبَحْرَ»(7)

وحتی أنّ القرن الکریم تحدّث عن تسخیر الشمس والقمر:

«وَسَخَّرَ لَکُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَیْنِ»(8)

واللیل والنهار

«وَسَخَّرَ لَکُمُ اللَّیْلَ وَالنَّهَارَ»(9)

بل ما فی السموات والأرض:

«أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَکُمْ مَا فِی السَّماوَاتِ وَمَا فِی الْأَرْضِ»(10)

، ومعلوم أنّ «اللام» تفید الاختصاص والحلیة وجوار الانتفاع، یقول القرآن الکریم: إنّ اللَّه تعالی خلق جمیع هذه الأشیاء لمنفعتکم

«هُوَ الَّذِی خَلَقَ لَکُمْ مَّا فِی الْأَرْضِ جَمِیعاً»(11).

ویستفاد من کلمات أرباب اللغة أنّ مفردة «تسخیر» تعنی الذلیل:

«والتسخیر التذلیل»(12)

وسوق الشی ء إلی هدف خاص:

«التسخیر سیاقة إلی الغرض المختصّ قهراً»(13)

؛ وبالنتیجة أنّ تسخیر الکائنات والمخلوقات فی السموات والأرض للإنسان، والتی وردت التأکید علیها فی آیات أعلاه، تعنی أنّ اللَّه تعالی جعل هذه الموجودات والمخلوقات لغرض


1- معراج الوصول إلی معرفة فضل آل الرسول، ص 75.
2- تاریخ بغداد، ج 14، ص 134.
3- تهذیب الکمال، ج 4، ص 540.
4- مغنی ابن قدامة، ج 6، ص 167.
5- سورة إبراهیم، الآیة 32
6- سورة إبراهیم، الآیة 32.
7- سورة النحل، الآیة 14.
8- سورة إبراهیم، الآیة 33.
9- سورة إبراهیم، الآیة 33.
10- سورة لقمان، الآیة 20.
11- سورة البقرة، الآیة 29.
12- مجمع البحرین، الطریحی، مادة« سخر».
13- مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الإصفهانی، مادّة« سخر».

ص: 102

استفادة الإنسان منها وذللها له.

وببیان آخر: بالرغم من أنّ الغرض الأصلی بحسب الظاهر من ذکر هذه النعم والمواهب العظیمة إلفات نظر الإنسان الغافل إلی حقیقة ربوبیّة اللَّه وعظمته وقدرته وحکمته وأنّ تدبیر العالم یختص بالباری تعالی وکذلک افهام الإنسان بقیمته السامیة وأنّ کلّ ما فی هذا العالم من ریاح وشمس وقمر وأفلاک وأمطار کلّها تتحرک من أجل خدمة الإنسان لکی یصل فی مسیرته المعنویّة إلی کماله المنشود ولئلا یکون عبداً لغیر اللَّه أو یقع أسیراً لشهواته وأهوائه، ولکن ممّا لا شک فیه أنّ هذه الآیات الکریمة أشارت إلی أنّ هذه الذخائر والمعادن الموجودة فی السماء والأرض إنّما هی لغرض انتفاع الإنسان منها اقتصادیاً وکذلک لتقویة وتنمیّة قابلیات الإنسان لاستخراج هذه الذخائر فی عالم الطبیعة.

وهاتان النقطتان، أی وجود الذخائر والکنوز الأرضیة لغرض الانتقاع الاقتصادی وتقویة الإنسان لاستخراج هذه الذخائر یمکن استفادتهما من الآیات والروایات الشریفة، حیث یتحصل هذا المعنی من قوله تعالی:

«هُوَ الَّذِی جَعَلَ لَکُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِی مَنَاکِبِهَا وَکُلُوا مِنْ رِّزْقِهِ»(1)

، لأنّ المراد من کلمة «ذلول» هو کون الأرض صالحة للزراعة ومستعدة لأنواع التصرفات والاکتشافات (2)، کما أنّ التعبیر ب

«وَکُلُوا مِنْ رِّزْقِهِ»

تعبیراً عاماً ویشمل جمیع المواد الغذائیّة فی الأرض، أعم من الحیوانیة والنباتیة والمعدنیة(3)، وخطاب

«فَامْشُوا فِی مَنَاکِبِهَا وَکُلُوا مِنْ

رِّزْقِهِ»

؛ إشارة إلی أنّ الإنسان إنّما یحصل علی هذه المواهب والنعم الإلهیّة من خلال المشی فی الأرض والتصرف فی مظاهر الطبیعیّة واستخراج المعادن لیحصل علی رزقه وما یشبع حاجاته الدنیویّة منها.

وکذلک یستفاد هذا المعنی من الحدیث النبوی الشریف:

«التَمسوا الرزق فی خَبایا الأرض»(4)

، لأنّ کلمة «خبایا» جمع «خبأة» من مادة «خَباءً» و «خَبْأً» بمعنی إخفاء الشی ء واستتاره، ومن هذه الجهة یقال للتقیة والاستتار وکلّ شی ء مستور ومخفی «خَباء» (بمعنی الاسم المصدری) و «خَباء» و «خَبْأة» مفرد «خبایا» تأتی بمعنی الزراعة والبذر حیث تختفی الحبوب فی طیات التربة، وکذلک تستعمل للمعادن المخفیة تحت الأرض (5).

3. حفظ کرامة الإنسان وعزّته النفسانیة

لا شک أنّ غنی النفس وعزّة وکرامة الإنسان تعد من الأصول الأخلاقیّة فی الإسلام، فالإنسان الذی حصل علی معرفة معتبرة بالباری تعالی وأیقن أنّ زمام جمیع الأمور بید اللَّه وأنّ حیاته ومعیشته مرتبطة بلطف اللَّه ورحمته وأنّه لا حول ولا قوّة ولا نفع ولا ضرر یتوجه إلی الإنسان إلّامن طریق ربّ العالمین، فهو مسبب الأسباب وعلّة العلل، وینبغی أن یری الإنسان نفسه غنیاً وغیر محتاج إلی جمیع الأشیاء وجمیع الخلائق غیر اللَّه تعالی، وبذلک یصل إلی غناه الروحی وکرامته النفسانیة والتی تعدّ أعلی وأفضل حالات الغنی:

«خیر الغنی غنی النفس»(6).

وشعاع هذه العزّة والغنی یمتد لیستوعب جمیع شؤون حیاة الإنسان، وتتجلی مظاهرها علی جمیع


1- سورة الملک، الآیة 15.
2- انظر: المیزان، ج 19، ص 357.
3- انظر: التفسیر الأمثل، ج 14، سورة الملک ذیل الآیة الکریمة.
4- کنز العمال، ح 9303، ج 4.
5- انظر: المعجم الوسیط و مجمع البحرین، مادّة« خبأ».
6- بحار الأنوار، ج 72، ص 106، ح 5؛ إعجاز القرآن الباقلانی، ص 147.

ص: 103

شؤون المجتمع الإسلامی، ومنها الحیاة الاقتصادیّة والمسائل المالیّة، والتی تملک بدورها مظاهر مختلفة:

أ) إنّ الناشط الاقتصادی فی مثل هذا المجتمع لا یلوث نفسه بالأموال الحرام وغیر المشروعة.

وتوضیح ذلک: إنّ الإنسان المؤمن الذی یتحرک فی مجال النشاطات الاقتصادیّة وفی کسب المال وإنتاج الثروة، لا یورط نفسه فی سلوک الطرق الحرام وغیر المشروعة، ولا یستخدم الأسالیب المخالفة لکرامته وحریته، وهذا یعنی أنّ المدارس الاقتصادیّة المادیّة فی الدنیا، فی ذات الوقت التی لا تری أی قید وشرط فی تحصیل الثروة وتوزیعها، فإنّها تبیح کلّ نشاط تجاری یدر الربح علی صاحبه، وبالتالی لا تجد مانعاً من انشاء مراکز الفساد والانحطاط من قبیل مراکز القمار والفحشاء والبغاء، بل تضع القوانین لحمایة مثل هذه النشاطات الفاسدة، وفی حین أنّ تجارة الرقیق الأبیض (الجنس) باقیة علی قوتها، علی أساس الإحصاءات التی سنبیّنها فی هذا الکتاب فی فصل: «سیادة الأخلاق علی النظام الاقتصادی فی الإسلام» فإنّ هذه التجارة تنتشر وتتسع فی کلّ عام، والمخدرات بدورها، مع المنع الظاهری لها، فإنّها تتسع وتنشط کذلک خلف الستار، بواسطة الکثیر من أقطاب الثروة وقوی الهیمنة ومع حمایة الکثیر من زعماء البلدان المتقدمة وبشکل خفی، وکذلک التجارة المربحة لأنواع الأسلحة المدمرة وحتی فی صورة اللزوم، الأسلحة الکیمیائیّة والمیکروبیّة، وبشکل عام أسلحة الدمار الشامل وبشکل علنی، وفی مثل هذه الحالة نری أنّ المؤمن یتحرک فی تجارته وإدارة أمور اقتصاده برؤیة جمیع الأرباح والنفقات فی إطار القیم الأخلاقیّة والکرامة الإنسانیّة، وأنّ جمیع ما ورد أعلاه، أعم من تأسیس مراکز الفساد، تجارة المخدرات، تجارة الرقیق الأبیض، أسلحة الدمار الشامل و ... محرمة وممنوعة ویتحرک من موقع اجتنابها بشدّة، وبشکل عام یجتنب الورود فی المعاملات المحرمة فی دائرة النشاطات الاجتماعیّة له، لأنّه یعتقد علی أساس التعالیم الدینیّة أنّ اللَّه تعالی قسّم أرزاق العباد بینهم بشکل حلال ولا أحد یموت إلّا بعد أن یحصل علی رزقه المقدر والمقسوم والحلال بشکل کامل وإن تأخر بعض الشی ء.

هذا فی حین أنّه لو تلوث بالحرام وتحرک علی مستوی النشاطات الاقتصادیّة من طرق غیر مشروعة فإنّ الرزق الإلهی الحلال سینقطع، وهذا یعنی تلک الحقیقة التی وردت بسند معتبر فی الروایات عن الإمام الباقر علیه السلام عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أنّه قال فی حجّة الوداع:

«ألا إنّ الروح الأمین نفث فی روعی أنّه لا تموت نفس حتّی تستکمل رزقها فاتّقوا اللَّه وأجملوا فی الطلب ولایحملنّکم استبطاء من الرزق أن تطلبوه بمعصیة اللَّه، فإنّ اللَّه تبارک وتعالی قسّم الأرزاق بین خلقه حلالًا ولم یقسّمها حراماً فمن اتّقی اللَّه وصبر أتاه اللَّه برزقه من حلاله ومن هتک السّتر وعجّل فأخذه من غیر حلّه قصّ به من رزقه الحلال وحوسب علیه یوم

ص: 104

القیامة»(1).

وبدیهی أنّ هذه الحقیقة لا تنفی السعی وبذل الجهد لتحصیل الرزق الحلال وترشید الکرامة والعزّة للمجتمع الإسلامی، بل تقدّم إطاراً سلیماً للنشاطات الاقتصادیّة فی حرکة الحیاة والواقع الاجتماعی.

وقد فتح المرحوم الشیخ الحرّ العاملی فی کتابه وسائل الشیعة باباً تحت عنوان «استحباب الإجمال فی طلب الرزق ووجوب الاقتصار علی الحلال دون الحرام وذکر فیه تسع روایات أخری غیر الروایة المذکورة (وبعضها تملک سنداً معتبراً) بهذا المضمون، ونقرأ فی کتب أهل السنّة هذا المعنی أیضاً تحت عنوان «الاجمال فی طلب الرزق» وذکر هذا المضمون فی روایات متعددة (13 روایة) عن ابن مسعود، حذیفة، جابر و ...(2)، ومن جملة هذه الروایات ما یلی:

«أجملوا فی طلب الدنیا فان کلًا مُیَسّر لما کتب له منها»(3).

وهذه الحقیقة ورد تأییدها فی روایات الفریقین بعبارة أخری، مثل الحدیث:

«من حاول أمراً بمعصیةٍ کان أبعد لما رجا وأقرب لمجی ء ما اتّقی»(4)

، وفی حدیث آخر:

«... وعنداللَّه سواهما فضل کثیر وهو قوله عز وجل: واسألو اللَّه من فضله»(5).

ب. إنّ الإنسان المؤمن فی المجال الاقتصاد، مضافاً إلی اجتنابه طرق الحرام فکذلک لا یتحرک فی کسب الرزق من الطرق الحقیرة والذلیلة، من جهة أنّ همته عالیة وکرامته النفسیة تسوقه إلی «معالی الأمور»، لأنّه قد تربی فی مدرسة تؤکد علی القیم الأخلاقیّة والمثل الإنسانیّة کما یتجلّی فی حالات کمیت الأسدی وما استقاه من درس کامل وهمة عالیة، عندما قال کمیت فی شعره وهو یخاطب الإمام الصادق علیه السلام:

أخْلَصَ اللَّهُ لی هَوای فما أغْرِقُ نَزْعاً وَلا تَطِیشُ سَهامی

قال الإمام علیه السلام:

«إن اللَّه عزّ وجلّ یحبّ معالی الأمور ویکره سفسافها»

، ثمّ إنّ الإمام علیه السلام قال له کلاماً نتیجته أنّه: «إنّ المدح والثناء العالی لا یعدّ مبالغة إذا کان فی محلّه»(6).

والإنسان المؤمن فی موارد العمل الاقتصادی فإنّ کرامته وعزّته النفسانیة تمنعانه من الوقوع فی ذلّ السؤال، لأنّه من أتباع تلک المدرسة التی تقبح طلب المساعدة من الأشخاص اللؤماء، یقول الإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام لأحد أصحابه (البزنطی) عندما طلب من الإمام علیه السلام أن یکتب له کتاباً إلی أحد الامراء فی ذلک الوقت ویطلب منه أن یساعده مالیاً ویقضی


1- وسائل الشیعة، ج 7، ص 45، باب استحباب الاجمال فی طلب الرزق ووجوب الاقتصار علی الحلال دون الحرام، ح 1.
2- کنز العمال، ج 4، ص 19- 25، أحادیث 9288 و 9289 و 9290.
3- المصدر السابق، ص 20، ح 9291.
4- المصدر السابق، ح 9292. وورد هذا المعنی فی تعبیر آخر عن الإمام الحسین بن علی علیهما السلام:« من حاول أمراً بمعصیة اللَّه کان أفوت لما یرجو وأسرع لمجی ء ما یحذر».( الکافی، ج 2، ص 373).
5- وسائل الشیعة، ج 17، ص 46.
6- وسائل الشیعة، ج 17، ص 73.

ص: 105

حاجته الاقتصادیّة، فقال له الإمام علیه السلام:

«أنا أضنّ بک أن تطلب مثل هذا وشبهه ولکن عوّل علی مالی»(1).

وورد فی حدیث آخر عن الإمام الباقر علیه السلام:

«من طلب الرزق فی الدنیا استعفافاً عن الناس وتوسیعاً علی أهله وتعطّفاً علی جاره لقی اللَّه عزّ وجلّ یوم القیامة ووجهه مثل القمر لیلة البدر»(2).

وقد ورد فی منابع أهل السنّة عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«لا یفتح عبد باب مسألة إلّافتح اللَّه علیه باب فقر»(3)

وکذلک ورد فی ذیل روایة بهذا المضمون:

«لأنّ

العفّة خیر»(4)

ونقرأ فی ذیل روایة ثالثة بهذا المضمون والمحتوی:

«لأن یأخذ أحدکم أحبله فیأتی الجبل فیحتطب علی ظهره فیبیعه فیأکله خیر له من أن یسأل الناس معطًی أو ممنوعاً»(5).

ج) إنّ الأفراد فی المجتمع الذی یقوم اقتصاده علی أساس الإیمان والکرامة الإنسانیّة، یعملون فی موارد المصرف والإنفاق بصورة کریمة، بحیث إنّ الفقراء والمحتاجین لا یشعرون بالذلة والمهانة(6)، ومن هذه الجهة نقرأ فی السلوک العملی لأولیاء الدین أنّهم فی إطعامهم للفقراء والمعوزین لا یتصرفون بشکل یشعر هؤلاء بالحقارة والذلة، مثلًا لم یکونوا یدفعون الطعام إلیهم بشکل مباشر، بل یختارون من المائدة أطیب الطعام ویضعونه فی صحیفة کبیرة ثمّ یرسلونها إلیهم:

«کان الإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام إذا أکل أتی بصحفة فتوضع بقرب مائدته فیعمد إلی أطیب الطعام ممّا یؤتی به فیأخذ من کلّ شی ء شیئاً فیضع فی تلک الصحفة ثمّ یأمر بها للمساکین»(7).

وهذه المسألة لا تختص بالمسلمین، بل تجری فی مورد غیر المسلمین أیضاً، من الذین یعیشون مع المسلمین بحیاة مسالمة.

وقد ورد فی الخبر أنّ أحد أصحاب الإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام ویدعی زکریا بن آدم سأل من رجل من أهل الذمة عن سبب ابتلائه بالفقر والمسکنة، وکان یرید من ذلک بیان ذلة العبودیة لابنه لکی یحصل علی شی ء من الزاد ویشبع بطنه من الطعام، فقال له الإمام علیه السلام:

«لا یبتاع حرّ فإنّه لا یصلح لک ولا من أهل الذمّة»(8).

وکذلک ورد فی الخبر أنّ أمیرالمؤمنین علی علیه السلام رآی نصرانی یعیش فی حالة من الذلة والسؤال بعد أن قضی عمره فی العمل والسعی وقد صار شیخاً کبیراً وبصیراً، فلم یقبل بذلک الإمام علی علیه السلام وأمر أن ینفق علیه من بیت المال وقال:

«استعملتموه حتی إذا کبر وعجز منعتموه؟ أنفقوا علیه من بیت المال»(9).

د) یستفاد من روایات عدّة أنّ الإنسان لا ینبغی أن یشتغل أجیراً وعاملًا لشخص آخر من بدایة عمره إلی نهایته، یعنی أنّه من الأفضل بعد أن یشتغل الإنسان


1- الکافی، ج 2، ص 149، ح 5.
2- المصدر السابق، ج 5، ص 79، ح 5.
3- کنز العمال، ج 6، ص 506، ح 16746 وبهذا المضمون فی الحدیث 16744.
4- المصدر السابق، ح 16744.
5- المصدر السابق، ح 16747.
6- تحف العقول، ص 330؛ مسند الإمام الرضا، ج 2، ص 315.
7- الکافی، ج 4، ص 52، ح 12.
8- تهذیب الأحکام، ج 7، ص 77؛ مسند الإمام الرضا، ج 2، ص 304.
9- وسائل الشیعة، ج 15، ص 67؛ الحیاة، ج 2، ص 398.

ص: 106

بالعمل، أن یستقل بعمله ویقف علی قدمه (1)، ونستوحی من ذلک أنّ أفضل ما یعنیه من ذلک حفظ کرامة الإنسان ولعله یؤید ما تقدّم بیانه.

ویستفاد من الروایات أنّ أئمّة أهل البیت علیهم السلام یکرهون بشدّة أن یری الناس أنفسهم عبیداً لهم، کما ورد أنّ أباالصلت وهو أحد أصحاب الإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام سأل الإمام علیه السلام حول شائعة یتحدّث بها الناس عن أنّ أئمّة أهل البیت علیهم السلام یرون الناس عبیداً لهم، فاستاء الإمام علیه السلام بشدّة من ذلک وقال:

«اللّهم فاطر السموات والأرض عالم الغیب والشهادة أنت شاهد بأنی لم أقل ذلک قطّ ولا سمعت أحداً من آبائی قاله قطّ وأنت العالم بما لنا من المظالم عند هذه الأمّة وإنّ هذه منها»(2).

4. ترجیح مصلحة المجتمع علی المصالح الشخصیّة

ومن ملاحظة مجموع ما ورد فی التعالیم الدینیّة وخاصّة الأصول من قبیل قاعدة: «لا ضرر ولا ضرار فی الإسلام» یتبیّن أنّ من جملة المبانی والأصول الموضوعة فی النظام الاقتصادی الإسلامی، أنّه فی حال التعارض بین مصلحة المجتمع ومصلحة الفرد فإنّ مصلحة المجتمع تقدّم علی مصالح الفرد، ویمکن التعبیر عن هذا المعنی بعبارة أدق، وهی «انسجام مصالح الفرد مع مصالح المجتمع» یعنی إذا رأینا فی النظام الرأسمالی أنّ مصالح الفرد تتقدم علی مصالح المجتمع، وفی النظام الاشتراکی یتمّ التضحیة بمصالح الفرد فی سبیل مصالح المجتمع، ففی النظام الاقتصادی الإسلامی یقع التجانس والتناغم بین مصالح الفرد والمجتمع، وهذا لا یعنی أنّ الناشط الاقتصادی فی النظام الاقتصادی الإسلامی لا ینبغی أن ینکر بمصالحه ولا یستطیع الحصول علیها، بل الکلام عن السعی بحیث یصل إلی منافعه الشخصیّة المتناسبة والمتجانسة مع مصالح المجتمع ولا یؤدّی إلی الإضرار بالمجتمع.

إنّ النشطاء الاقتصادیین فی فضاء المجتمع الإسلامی یؤمنون بأنّ أفراد المجتمع یشکّلون فیما بینهم مجموعة متسقة وروحیة متکاتفة بحیث یکونون أعضاء جسم واحد ویملکون روحاً واحدة، فاتّجاه الاقتصاد الإسلامی یتحرک علی أساس أنّه فی ذات کونه یحترم الملکیّة الخصوصیّة فإنّه ینظم برنامجه الاقتصادی بحیث لا تتمرکز الأموال والثروات بین فئة معینة وقویّة بل یتمّ تداول الثروة بین أفراد المجتمع بشکل متناوب ومستمر:

«کَیْ لَایَکُونَ دُولَةً بَیْنَ الْأَغْنِیَاءِ مِنْکُمْ»(3).

وأساساً فإنّ روح المقررات والأحکام الإسلامیّة فی مجال کسب الثروة ووضع الضرائب: الخمس والزکاة، والخراج وأمثالها وکذلک أحکام بیت المال والأنفال والفی ء کلّها تتحرک تحت إشراف القائد ورئیس الحکومة الإسلامیّة، وبالتالی تؤمن مصالح


1- انظر: وسائل الشیعة، ج 12، باب 66، من أبواب ما یکتسب به، ح 1 و 2.
2- عیون أخبار الرضا، ج 2، ص 184، ح 6.
3- سورة الحشر، الآیة 7.

ص: 107

المجتمع فی ذات کونها تحترم مساعی الأفراد، مع تقدیم مصالحة المجتمع بشکل عام، ومن هنا ینبغی الحیلولة دون تحوّل المجتمع إلی قطبین وطبقتین:

(أقلیة ثریة وأغالبیة فقیرة).

ولا سیما عندما یلتفت الناشط الاقتصادی إلی المبنی الأوّل یعنی مالکیّة اللَّه:

«المال مال اللَّه یضعه عند الرجل ودائع»

فیدرک أنّه إذا أراد أن یؤدّی حقّ هذه الأمانة کما هو جدیر بها، فإنّه یتحرک علی مستوی إشباع حاجاته من موقع رعایة الاقتصاد والاعتدال فی الاستهلاک، والباقی من ماله ینفقه فی رفع حاجات أفراد المجتمع من الطبقة المحرومة والفقیرة.

وعلی هذا الأساس یقول الإمام الصادق علیه السلام فی سیاق الروایة المذکوة آنفاً:

«وجوّز لهم أن یأکلوا قصداً ویشربوا قصداً ... ویعُودوا بما سوی ذلک علی فقراء المؤمنین ویَلُمُّوا به شَعَثهم»(1).

وخاصّة مع الالتفات إلی أنّ الوارد فی التعالیم العرفانیة والأخلاقیّة للإسلام أنّ المصلحة النهایة والسعادة الخالدة للفرد تکمن أساساً فی رعایة مصالح المجتمع وأبناء نوعه وبالأخص أن لا یغفل عن منافع إخوته فی الدین ویری أنّ سعادته فی الحیاة تکمن فی سعادة الآخرین وتنمیة إمکاناتهم وإزدهار معیشتهم (2).

والملاحظ فی صفة «قوام» فیما یتصل بالأموال ومصالح الإسلام والمسلمین یعطی هذا المعنی أیضاً، فالقرآن الکریم عندما یرید النهی عن وضع الأموال بید السفهاء، یصفها بأنّها (أموالکم) وأنّکم (قائمون علیها) ویقول:

«وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَکُمُ الَّتِی جَعَلَ اللَّهُ لَکُمْ قِیَاماً»(3)

، فالتعبیر ب

«أموالکم»

و

«لکم»

مع أنّ الکلام یرتبط بحفظ الأموال التی یملکها السفهاء، یشیر بشکل واضح إلی أنّ جمیع الأموال الموجودة لدی جمیع الأفراد المسلمین تتعلق بمعنی خاص بجمیع المسلمین ولخدمة وتقویم مصالح المجتمع الإسلامی.

وهذه النقطة تشیر إلی هذه الحقیقة، وهی أنّه لا عبرة ولا أهمیة لکمیة وکثرة أو قلّة الأموال بل المهم هو کیفیة تداول هذه الأموال وتقویمها وتقویتها للمجتمع وذلک عن طریق دفعها للأشخاص الذین یملکون العقل والتخصص اللازم فی مجال تدبیر الحقوق المالیّة والاقتصادیّة، ویدرکون دور الأموال المهم فی حیاة الفرد والمجتمع، ویقبلون المسؤولیّة فی الالتزام بهذا الدور ویعملون بما علموا.

ونجد فی سیرة أولیاء الدین أنّ الإمام الصادق علیه السلام عندما کان یرید التوصیة بتقسیم الأموال إلی الجدیرین بها یتحدّث عن ضرورة بقاء الإسلام والمسلمین ومصالح المجتمع الإسلامی ویقول:

«إن من بقاء المسلمین وبقاء الإسلام أن تصیر الأموال عند من یعرف فیها الحقّ ویصنع المعروف وإنّ من فناء الإسلام وفناء المسلمین أن تصیر الأموال فی أیدی


1- تفسیر العیاشی، ج 2، ص 13.
2- هذه إشارة إلی ما ورد عن الإمام الرضا علیه السلام فی البحوث السابقة:« أحسن الناس معاشاً من حسن معاش غیره فی معاشه».
3- سورة النساء، الآیة 5.

ص: 108

من لا یعرف فیها الحقّ ولا یصنع فیها المعروف»(1).

ولا شک أنّ هذا الکلام لیس ناظراً فقط إلی الأموال العامّة وبیت مال المسلمین، بل ربّما لا یشملها أساساً ومنصرف عنها، وینحصر المراد منه بالأموال والأملاک الخاصّة والشخصیّة للأفراد، ولکن بسبب تقدم مصالح المجتمع وکیان الإسلام والمسلمین علی مصالح الفرد فإنّ الإمام علیه السلام یرید القول: إنّ إنفاق هذه الأموال وإن کانت بصورة ملکیة خاصة، بید الأشخاص الذین لا یفکرون إلّابمنافعهم الشخصیّة والذاتیّة ولا یفکرون بحق وحقوق المجتمع ولا یتحرکون علی مستوی دفعها للمستحقین، فإنّ ذلک یتسبب فی فناء وزوال الإسلام والمسلمین.

5. مبنی العقلانیّة والتدبیر

اشارة

إنّ الناشط الاقتصادی یجب أن یقبل بوجود سنن وقوانین حاکمة علی منظومة عالم الوجود، فلو أنّه تصرف بدون حساب، وبذریعة التوکل علی اللَّه ولم یهتم بتدبیر أموره الاقتصادیّة ولم یتحرک بشکل عقلانی، فإذا تورط فی ضرر وخسارة فلا یلومنّ إلّا نفسه ولا یلقی باللائمة علی ید التقدیر.

وعلی هذا الأساس فإنّ القرآن الکریم یحکم بعدم جواز وضع رؤوس الأموال فی اختیار الجهلاء والسفهاء:

«وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَکُمُ الَّتِی جَعَلَ اللَّهُ لَکُمْ قِیَاماً»(2)

بل یجب أن توضع زمام النشاطات الاقتصادیّة بید المتخصصین الامناء:

«قَالَ اجْعَلْنِی عَلَی خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّی حَفِیظٌ عَلِیمٌ»(3).

ویقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی کتابه لأهل مصر: «

ولکننّی آسی أن یَلِیَ أمر هذه الأمّة سُفَهاؤها وفجّارها فیتّخذوا مال اللَّه دولًا»(4).

وورد عن الإمام الباقر علیه السلام فی ذیل هذه الآیة:

«وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ

...» أنّه قال:

(إذا علم الرجل أنّ امرأته سفیهة مفسدة وولده سفیه مفسد، لم ینبغ له أن یسلّط واحداً منهما علی ماله الذی جعل اللَّه له «قیاماً» یقول «معاشاً»)(5).

ونری أنّ اللَّه تعالی قد خلق جمیع الکائنات والمخلوقات علی أساس قانون الحکمة وقدّر کلّ شی ء بمقدر معین:

«إِنَّا کُلَّ شَیْ ءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ»(6)

ورزق کلّ شی ء من خزائنه بمقدار محدود ومعین:

«وَإِنْ مِّنْ شَیْ ءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ»(7).

نظرة لسائر المبانی والأصول الحاکمة:

ومن السنن والمبانی الأخری الحاکمة علی النظام الاقتصادی الإسلامی، والتی لا یمکن أن یمرّ علیها الناشط الاقتصادی المؤمن والمعتقد مرور الکرام، أنّ


1- وسائل الشیعة، ج 16، ص 285، ح 21557.
2- سورة النساء، الآیة 5.
3- سورة یوسف، الآیة 55.
4- نهج البلاغة، الرسالة 62.
5- تفسیر القمی، ج 1، ص 131.
6- سورة القمر، الآیة 49.
7- سورة الحجر، الآیة 21.

ص: 109

عدم الاهتمام بمسألة حفظ الأموال یعدّ بمثابة الإسراف والتبذیر، ویؤدّی إلی تضییعها وسیادة الفقر فی فضاء المجتمع، کما أنّ رعایة بعض الأصول الأخری یترتب علیه برکات مادیّة کثیرة من قبیل:

1/ 5. نقرأ فی باب صلة الرحم:

أ) إنّ صلة الرحم تستوجب زیادة النعم الإلهیّة:

«صلة الرحم منماة للعد مثراة للنعّم»(1).

ب) إنّ صلة الرحم تؤدّی إلی إستنزال النعم الإلهیّة:

«صلة الر حم تدرّ النعم»(2).

ج) إنّها تتسبب فی نمو الأموال:

«صلة الرحم تثمر الأموال»(3).

د) إنّها تؤدّی إلی عمران وزیادة النعم وحفظها:

«صلة الرحم عمارة النعم ... حراسة النعم»(4).

2/ 5. وبالنسبة لهبة هذه النعم نقرأ: أنّ کلّ شخص یهب النعم الإلهیّة لغیره فإنّ اللَّه سیزیده، وإذا منعها فإنّ هذه النعم ستسلب منه وتعطی للآخرین:

«من کثرت نعم اللَّه علیه کثرت حوائج الناس إلیه فإن قام فیها بما أوجب اللَّه سبحانه علیه فقد عرّضها للدوام وإن منع ما أوجب اللَّه سبحانه فیها فقد عرّضها للزوال»(5).

3/ 5. وبالنسبة للأخلاص نقرأ: إنّ کلّ شخص یخلص أعماله للَّه فإنّه سینجح فی معیشته:

«من أخلص للَّه استظهر لمعاشه و ...»(6).

4/ 5. إنّ الخدمة للدین تؤدّی إلی أن یکفیه اللَّه أمر الدنیا:

«من أصلح أمر آخرته أصلح اللَّه له أمر دنیاه»(7).

5/ 5. إنّ أداء حقّ اللَّه فی کلّ نعمة یؤدّی إلی زیادة تلک النعمة:

«انّ للَّه فی کلّ نعمةٍ حقّاً فمن أدّاه زاده منها ومن قصّر فیه خاطر بزوال نعمته»(8).

6/ 5. إنّ الظلم والتعدی علی حقوق الآخرین وسفک الدماء والذنوب تتسبب فی زوال وفناء النعم:

«کفی بالظلم طارداً للنعمة(9)- لیس شی ءٌ ... أخری

بزوال نعمة ... من سفک الدّماء بغیر حقّها(10)- إنّ اللَّه

یبتلی عباده عند الأعمال السیّئة بنقص الثمرات وحبس البرکات وإغلاق خزائن الخیرات»(11).

7/ 5. إنّ زکاة المال والصدق تتسبب فی زیادة المال: «

صدقة العلانیة مثراة للمال»(12)

، وتؤدّی إلی حفظ المال:

«حصنوا أموالکم بالزکاة»(13).

8/ 5. وأنّ الخلق الحسن یؤدّی إلی زیادة النعمة ونزول البرکات ونیل خیر الدنیا:

«حسن الخلق یعمر الدیار ویزید فی الرزق»(14)

وسوء الخلق یضیق الرزق:

«من ساء خلقه ضاق رزقه»(15).

9/ 5. إنّ الدعاء یفتح خزائن السموات والأرض ویمثّل رخصة من قبل الباری تعالی لنطلب منه ونسأله حتی یعطینا من مواهبه:

«واعلم أن الذی بیده خزائن


1- غرر الحکم، الآمدی، طبع مکتب الأعلام الإسلامی، ح 9306.
2- المصدر السابق، ح 9305.
3- المصدر السابق، ح 9308.
4- المصدر السابق، ح 9313 و 9314.
5- المصدر السابق، ح 8418.
6- غرر الحکم، ح 3919.
7- نهج البلاغة، الحکمة 89.
8- المصدر السابق، الحکمة 244.
9- غرر الحکم، ح 10417.
10- المصدر السابق، ح 10417.
11- نهج البلاغة، الخطبة 143.
12- غرر الحکم، ح 9149.
13- الکافی، ج 4، ص 60، ح 5.
14- بحار الأنوار، ج 1، ص 151.
15- غرر الحکم، ح 5711.

ص: 110

السماوات والأرض قد أذن لک فی الدعاء وتکفّل لک بالإجابة ...»(1).

10/ 5. إنّ أحد السنن الحاکمة، سنّة «الاستدراج»، وهذه السنّة تقرر: إنّ بعض أشکال الزیادة فی المال والثروة لا تعدّ رحمة وبرکة ونعمة، بل عذاباً ونقمةً، وذلک فی مورد لا یراعی الناشط الاقتصادی الموازین الإلهیّة وأحکام الحلال والحرام ویحصل بذلک علی الآلاف المؤلفة من الثروات، فیجب الحذر من مثل هذه الزیادة والکثرة کما یقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام:

«إذا رأیت ربّک سبحانه یتابع علیک نعمه وأنت تعصیه فاحذره»(2)

لأنّ هذه الظاهرة تعکس فی باطنها عملیّة الاستدراج بحیث تجرک إلی جهة العذاب الألیم فی هذه الدنیا أو فی الآخرة، وعندما تری أنّ اللَّه تعالی مع کثرة ذنوبک یتابع نعمته علیک فاحذر من عملیّة الاستدراج:

«إذا رأیت اللَّه سبحانه یتابع علیک النعم مع المعاصی فهو استدراج لک»(3).

11/ 5. إنّ المعصیة والتوبة منها تعدّ من الأصول لزیادة النعمة أو فنائها وزوالها، وهذه الحقیقة هی ما وردت علی لسان النّبی نوح فی القرآن الکریم:

«فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّکُمْ إِنَّهُ کَانَ غَفَّاراً* یُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَیْکُمْ مِدْرَاراً* وَیُمْدِدْکُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِینَ وَیَجْعَلْ لَکُمْ جَنَّاتٍ وَیَجْعَلْ لَکُمْ أَنْهَاراً»(4).

ویشیر أمیرالمؤمنین فی کلام له فی نهج البلاغة إلی هذا المعنی:

«إِنَّ اللَّهَ یَبْتَلِی عِبَادَهُ عِنْدَ الْأَعْمَالِ السَّیِّئَةِ بِنَقْصِ الَّثمَرَاتِ، وَحَبْسِ الْبَرَکَاتِ، وَإِغْلَاقِ خَزَائِنِ الْخَیْرَاتِ، لِیَتُوبَ تَائِبٌ، وَیُقْلِعَ مُقْلِعٌ، وَیَتَذَکَّرَ مُتَذَکِّرٌ، وَیَزْدَجِرَ مُزْدَجِرٌ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الاسْتِغْفَارَ سَبَباً لِدُرُورِ الرِّزْقِ وَرَحْمَةِ الْخَلْقِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: «اسْتَغْفِرُوا رَبَّکُمْ إِنَّهُ کَانَ غَفَّاراً. یُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَیْکُمْ مِدْرَاراً. وَیُمْدِدْکُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِینَ وَیَجْعَلْ لَکُمْ جَنَّاتٍ وَیَجْعَلْ لَکُمْ أَنْهَاراً» فَرَحِمَ اللَّهُ امْرَءاً اسْتَقْبَلَ تَوْبَتَهُ، وَاسْتَقَالَ خَطِیئَتَهُ، وَبَادَرَ مَنِیَّتَهُ»(5).

12/ 5. إنّ الإیمان والتقوی أیضاً یعتبران، کما یصرّح القرآن الکریم، أحد الأصول الحاکمة لنزول البرکات الاقتصادیّة:

«وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَی آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَیْهِمْ بَرَکَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ»(6).

13/ 5. إنّ العدل یأتی بالبرکة والظلم یزیل النعم، وهذه من الأصول الأخری التی جعلها اللَّه تعالی حاکمة علی النظام الاقتصادی ونقرأ فی کلام لأمیرالمؤمنین أنّه قال:

«بالعدل تتضاعف البرکات»(7)

وفی کلام آخر لهذا الإمام العظیم علیه السلام یقول:

«الظلم یَطْرد النعم»(8).

14/ 5. وآخر هذه السنن والأصول التی نشیر إلیها هنا شکر النعمة وفی مقابلها کفران النعمة، والقرآن الکریم یصرّح بهذه الحقیقة ویقول:

«لَئِنْ شَکَرْتُمْ


1- نهج البلاغة، الرسالة 31.
2- المصدر السابق، الحکمة 24.
3- غرر الحکم، ح 7849.
4- سورة نوح، الآیة 10- 12.
5- نهج البلاغة، الخطبة 142.
6- الأعراف، الآیة 96.
7- میزان الحکمة، ح 1702.
8- غرر الحکم، ح 10410.

ص: 111

لَأَزِیدَنَّکُمْ وَلَئِنْ کَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِی لَشَدِیدٌ»(1)

. ولا شک أنّ المراد من هذا الشکر والکفر لیس الشکر أو الکفر اللفظی واللسانی، بل الشکر فی مقام العمل وذلک بالاستفادة الصحیحة والمرضیة للَّه من النعم والمواهب، والکفران العملی عبارة عن استخدام رؤوس الأموال فی المسار الذی نهی اللَّه تعالی عنه، وهذا الشکر والکفران العملی یعتبر من أتم مصادیق الشکر والکفران.

6. السکینة الروحیة إلی جانب التقویة البدنیة

إنّ الناشط الاقتصادی ینبغی أن یلتفت إلی أنّ الإنسان لیس جسداً فقط، لکی یرکز نشاطاته الاقتصادیّة علی مستوی المنافع المادیّة وتهیئة أسباب الرفاه الجسمانی، بل إلی جانب هذا الجسم المخلوق من

«صَلْصالٍ»

و

«حَمَأٍ مَسْنون»

، فثمة روح نفخت فیه ونسبت إلی اللَّه تعالی تشریفاً لها:

«وَنَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُّوحِی»

، وأمر الباری تعالی الملائکة بالخضوع والسجود له:

«وَإِذْ قَالَ رَبُّکَ لِلْمَلَائِکَةِ إِنِّی خَالِقٌ بَشَراً مِّنْ صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ* فَإِذَا سَوَّیْتُهُ وَنَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُّوحِی فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِینَ»(2).

إنّ ترکیب الإنسان من جسم وروح أدّی إلی ظهور وتشکل مجموعة من المیول العقلانیة والإلهیّة فی الإنسان إلی جانب النوازع النفسانیة والمیول الغریزیة، وهذه الضرورة یستدعی أنّ المیول الغریزیة لا ینبغی کبتها واقصاؤها ممّا یؤدّی إلی طغیانها وتمردها، بل یجب تعدیلها وترشیدها، ووضع زمامها بید العقل والمیول العقلانیة والملکوتیة، لکی یحصل الإنسان بهذه الطریقة علی السعادة المادیّة والروحانیة ویعیش السکینة والاستقرار فی الدنیا والآخرة، کما ورد فی کلام أمیرالمؤمنین علیه السلام:

«من غلب عقله هواه أفلح ومن غلب هواه عقله افتضح»(3).

وخلافاً للعالم المادی فی هذا الزمان حیث نری أنّ العقل صار خادماً للنفس والمیول الغریزیة، وعلی هذا الأساس قالوا بالحریة المطلقة والمنافسة الکاملة بین أفراد المجتمع فی حقل الإنتاج والتوزیع والاستهلاک، ولا ینبغی للحکومة أن تتدخل فی هذا المجال ومن هذه الجهة تحملوا خسائر جسیمة وواجهوا معضلات جمة.

تقول الإحصاءات: علی الرغم من القضاء علی الکثیر من الأمراض الخطیرة القدیمة وإرتفاع مستوی العمر المتوسط للإنسان، فإنّ الأمراض النفسانیة وحالات الکآبة إزدادت واتسعت بحیث یعیش فی القصور الفارهة والحیاة المرفهة أشخاص یشکون المعاناة والکآبة والقلق والاضطراب النفسانی، کما أنّ حجم الکتب التی تتحدّث عن مکافحة حالات الکآبة والقلق تزداد یوماً بعد یوم، وعدد الأشخاص الذین فضّلوا الانتحار مع کونهم یعیشون حیاة مرفهة فی ازدیاد ملحوظ، وکلّ هذه الأمور بسببب أنّ اتّجاه الاقتصاد فی العالم المعاصر یتحرک نحو الرفاه المادی


1- سورة ابراهیم، الآیة 7.
2- سورة الحجر، الآیة 28 و 29.
3- مستدرک الوسائل، ج 10، ص 212.

ص: 112

واشباع الملذات الجسمانیة والغفلة عن حاجات الروح والنفس البشریّة.

7. مقدمّیة النعم المادیّة

إنّ الناشط الاقتصادی فی نظر القرآن والروایات الشریفة إلی جانب اهتمامه بإشباع حاجات الروح وتقویة وتنعم البدن یجب أن یلتفت إلی أنّ الدنیا مزرعة ومقدّمة للآخرة، وأنّ قیمة الحیاة الدنیا لکلّ إنسان تنحصر بمقدار ما یستفید منها لآخرته، ویصرّح القرآن الکریم بهذه الحقیقة ویقول:

«وَابْتَغِ فِیمَا آتَاکَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ»(1)

، وفی عبارة:

«وَلَا تَنسَ نَصِیبَکَ

مِنَ الدُّنْیَا»

الواردة فی ذیل هذه الآیة الشریفة ذکر المفسرون احتمالات متعددة، ولکن ظاهر الآیة وما یؤیده من روایات أهل البیت أنّ هذه الجملة بصدد تفسیر ما ورد فی صدر الآیة، کما روی ذلک الإمام الصادق علیه السلام عن آبائه عن أمیرالمؤمنین علیه السلام، أنّه قال:

«لا تنس صحتک وقوّتک وفراغک وشبابک ونشاطک أن تطلب بها الآخرة»(2)

وأن تکون استفادتک من هذه الأمور الخمسة لمنافعک الاخرویة.

ومعلوم أنّ هذه الرؤیة، أی رؤیة الدنیا وسیلة للآخرة وکونها جسراً لها وسبباً لنیل الإنسان الکمالات المعنویّة، لیس فقط لا تعیق نشاط الإنسان فی المجال الاقتصادی، بل تتسبب فی زیادة الإنتاج وإیجاد الرفاة العام فی فضاء المجتمع الإسلامی، لأنّ الإنسان الذی یملک هذه الرؤیة لا ینطلق فی عمله وسعیه من موقع رفع حاجات المادیّة والشخصیّة فقط، بل یهتم برفع حاجات الجیران والأقرباء وسائر اخوته فی الدین أیضاً، بل حاجات المجتمع البشری الکبیر أیضاً، ویتحرک بدافع الاهتمام بالطبقة الفقیرة أیضاً، لأنّه یعیش رؤیة دینیّة تدعوه إلی تقویة آلیات الوصول إلی السعادة الاخرویة وتوثیق الإرتباط بعالم الغیب للوصول إلی کمالات أکثر ومراتب أعلی فی سلّم المعنویات ومعراج الکمال الإلهی.

وعلی هذا الأساس، فمضافاً إلی زیادة نشاطه الاقتصادی فی حرکة الحیاة فإنّ هذا النشاط یتضمن السلامة العالیة أیضاً ولا یوجد فیه أی تضییع لحقوق الآخرین، بل یقترن دوماً فی جمیع مراحل الإنتاج والتوزیع باحترام حقوق الآخرین ورعایتها.

إنّ الناشط الاقتصادی الذی یجعل الآخرة هدفاً له والدنیا وسیلة، لا یجد أی قید فی مجال الاستهلاک والإنتاج سوی قید الحلال والربح المشروع، بل إنّه فی صورة توفر أدوات الإنتاج من قبیل القوی البشریّة، الأرض، التقنیة، والإدارة الصحیحة ومع رعایة الموازین الشرعیّة ودفع الحقوق المالیّة الواجبة والمستحبة وبنیّة القربة إلی اللَّه، یتحرک نحو إنتاج أکثر لإشباع حاجات أکثر للمحتاجین والمحرومین وبالتالی یحقق لنفسه درجات أرفع وأعلی فی الآخرة.

إنّ السیرة الاقتصادیّة لأولیاء الدین وخاصّة أمیرالمؤمنین علی علیه السلام وسعیه العجیب فی مجال الإنتاج والإعمار وقبل استلامه لمقالید الحکم


1- سورة القصص، الآیة 77.
2- وسائل الشیعة، ج 1، ص 90، ح 211.

ص: 113

والخلافة، تنصب فی هذا الاتّجاه وتفسّر بهذه الرؤیة.

8. سعة المنابع الاقتصادیّة

بالرغم من أنّ المنابع الاقتصادیّة فی الکرة الأرضیّة محدودة من جهة، فمقدار المیاه، الأراضی، المعادن تحت الأرض، وحتی الاکسجین الموجود فی الجو له حدّ معین وکما یقول القرآن الکریم:

«وَإِنْ مِّنْ شَیْ ءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ»(1)

، ولکن من المعلوم أنّ هذه المنابع أکثر بکثیر ممّا اکتشف لحدّ الآن وتمّت الاستفادة منه، والکشوفات الجدیدة والاستفادة من الوسائل الحدیثة والدقیقة یساعدنا فی استخراج هذه المواهب الطبیعیّة بشکل أفضل وأکثر واستخدامها فی سبیل مکافحة الفقر.

والناشط الاقتصادی لا ینبغی أن یتصور أنّ الفقر والحرمان من اللوازم غیر المنفکة عن محدودیة المنابع الاقتصادیّة.

وطبعاً فهذا لا یعنی أن نغفل عن حقّ الأجیال اللاحقة فی هذه المواهب الطبیعیّة ونتحرک علی مستوی استخدام أسالیب توصف ب «الغارة علی المنابع ونهبها» بعیداً عن الاستخدام الصحیح والاستفادة السلیمة منها.

وهذا هو الشی ء الذی یؤمن به الناشط الاقتصادی، وفی ذات الوقت الذی ینتفع من هذه المنابع فإنّه یراعی الاعتدال فی الاستفادة منها بأسالیب أفضل.

9. قداسة المال

خلافاً لما یتصور بعض الجهلاء فإنّ الناشط الاقتصادی المسلم لا ینبغی أن ینظر بنظرة تشاؤمیة للمال والثروة، بل یجب أن یعلم أنّ کون المال فتنة من قبیل کون الأولاد فتنة:

«وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُکُمْ وَأَوْلَادُکُمْ فِتْنَةٌ»(2)

، وأنّها وسیلة للابتلاء والامتحان:

«لَتُبْلَوُنَّ فِی أَمْوَالِکُمْ وَأَنْفُسِکُمْ»(3)

، وأنّها من الزینة فی هذه الحیاة:

«زُیِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِینَ وَالْقَنَاطِیرِ الْمُقَنْطَرَةِ»(4)

، وهذه کلّها لا تتنافی مع قدسیة وقیمة المال، لأنّه کما أنّ الأموال والبنین فی ذات کونهم زینة وفتنة (کما أشارت إلیه الآیات المذکورة)، فإنّها تحسب من النعمة والرحمة الإلهیّة، کما ورد هذا المعنی فی الروایات الإسلامیّة أیضاً، فإنّ الأموال فی نظر القرآن تعتبر وسیلة لنمو ورشد المجتمع وتقویة شؤونه ودعائمه:

«وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَکُمُ الَّتِی جَعَلَ اللَّهُ لَکُمْ قِیَاماً»(5)

وبسبب شرافة وقداسة المال ورد التعبیر عنه ب «مال اللَّه»

«وَآتُوهُمْ مِّنْ مَّالِ اللَّهِ الَّذِی آتَاکُمْ»(6)

، وبعنوان «الخیر»

«مَا

أَنفَقْتُمْ مِنْ خَیْرٍ

...»(7).

وفی نظر القرآن الکریم فإنّ من مصادیق الإمدادات الإلهیّة هو الإمداد بالمال:

«وَأَمْدَدْنَاکُمْ


1- سورة الحجر، الآیة 21.
2- سورة الأنفال، الآیة 28.
3- سورة آل عمران، الآیة 186.
4- سورة آل عمران، الآیة 14.
5- سورة النساء، الآیة 5.
6- سورة النور، الآیة 33.
7- سورة البقرة، الآیة 215.

ص: 114

بِأَمْوَالٍ وَبَنِینَ»(1)

، کما أنّ من جملة البرکات المترتبة علی الاستغفار الوارد فی نصائح النّبی نوح علیه السلام لقومه هو الإمداد بالمال:

«فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّکُمْ

...

وَیُمْدِدْکُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِینَ»(2)

، ونقرأ فی آیات کثیرة أنّ المال إلی جانب «الأنفس» یعدّ وسیلة للجهاد فی سبیل اللَّه والدفاع عن الدین الحق:

«وَتُجَاهِدُونَ فِی سَبِیلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِکُمْ وَأَنفُسِکُمْ»(3)

، ولعل الأهم من ذلک أنّ المال یعتبر وسیلة لتزکیة النفس وتهذیبها:

«الَّذِی یُؤْتِی مَالَهُ یَتَزَکَّی»(4).

وقد ورد فی الروایات الإسلامیّة أیضاً التعبیر بالدرهم والدینار بأنّها «خواتیم اللَّه فی أرضه»» ووسیلة لنیل الصحة والعافیة وتقویم شؤون الحیاة الدنیویّة وقضاء حاجات العباد وورد عن:

«الإمام الصادق عن أبیه: أنّه سئل عن الدنانیر والدراهم وما علی الناس فیها؟ فقال: هی خواتیم اللَّه فی أرضه جعلها اللَّه مصحّة لخلقه وبها تستقیم شؤونهم ومطالبهم ...»(5).

وفی روایة عن الإمام الصادق علیه السلام ورد التعبیر عن المال بوصفه «قوام الدین»:

«احتفظ بمالک فإنّه قوام دینک»(6)

، وکذلک وسیلة لسکون وهدوء الروح:

«عن

النّبی صلی الله علیه و آله: إنّ النفس إذا أحْرزَتْ قوتها استقرّت»(7)

وحبلًا محکماً للنجاة من الحوادث:

«عن علی علیه السلام:

المال ... للحوادث سلب»(8)

ووسیلة لکسب العزّة والکرامة:

«المعلی بن الخنیس قال: رآنی أبوعبداللَّه علیه السلام وقد تأخّرت عن السوق، فقال: أُغدُ إلی عزّک»(9)

ووسیلة لحفظ السمعة والحیثیة فی أنظار الناس: فعن الإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام أنّه قال:

«أفضل المال ما وُقی به العرض»(10).

بل ورد فی بعض الروایات أنّه لا خیر فی شخص لا یهتم بجمع المال لحفظ سمعته وصلة رحمه وأداء دینه، وعن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال:

«لا خیر فی من لا یحبّ جمع المال من حلال یکفّ به وجهه ویقضی به دینه ویصل به رحمه»(11).

وأیضاً الشخص الذی یتحرک فی صدد الکسب وجمع المال لیکون غنیاً عن الناس ویعیش فی سعة مع عیاله وجیرانه فإنّه سیلاقی اللَّه یوم القیامة ووجهه کالقمر فی لیلة الرابع عشر، عن الإمام الباقر علیه السلام أنّه قال:

«من طلب الدنیا استعفافاً (استغناء- خ ل) عن الناس وسعیاً علی أهله وتعفّفاً علی جاره، لقی اللَّه عزّ وجلّ یوم القیامة ووجهه مثل القمر لیلة البدر»(12).

وکذلک الشخص الذی یتحرک لتأمین معاشه وعیاله وجیرانه بکسب المال الحلال مثله مثل الذی


1- سورة الإسراء، الآیة 6.
2- سورة نوح، الآیة 10- 12.
3- سورة الصف، الآیه 11؛ وانظر: سورة التوبة، الآیة 44 و 20؛ وسورة الأنفال، الآیة 72؛ وسورة النساء، الآیة 95 و ....
4- سورة اللیل، الآیة 18.
5- الأمالی للشیخ الطوسی، ج 1، ص 520.
6- المصدر السابق، ص 680.
7- وسائل الشیعة، ج 17، ص 435، ح 22928، من لا یحضره الفقیه، ج 2، ص 55.
8- غرر الحکم، 8341.
9- وسائل الشیعة، ج 17، ص 11، ح 21844.
10- بحار الأنوار، ج 75، ص 352.
11- الکافی، ج 5، ص 72، ح 5.
12- وسائل الشیعة، ج 17، ص 21، ح 21876.

ص: 115

یجاهد فی سبیل اللَّه، عن الإمام الکاظم علیه السلام أنّه قال:

«من طلب الرزق من حلّه لیعود به علی نفسه وعیاله کان کالمجاهد فی سبیل اللَّه»(1).

10. قبول الفوارق ونفی الاختلافات الظالمة

إنّ الناشط الاقتصادی فی ذات الوقت الذی یتحرک بسعی حثیث وبذل جهد کبیر فی العمل والإنتاج فلا ینبغی أنّ یتوقع التفوّق علی جمیع النشطاء والساعین فی هذا المجال أو یکون مساویاً لهم علی الأقل، فیجب علیه أن یقبل بأصل وجود التفاوت والاختلافات فی الدرجات فی المسائل المادیّة ویبتعد عن الحرص والحسد للآخرین، لأنّ القابلیات والملکات مختلفة حتماً، فالقرآن الکریم یصرّح بهذه الحقیقة ویقول:

«نَحْنُ قَسَمْنَا بَیْنَهُمْ مَّعِیشَتَهُمْ فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّیَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِیّاً»(2).

ویستفاد من هذه الآیة الشریفة أنّ أشکال الفوارق والاختلافات فی مستویات الحیاة لأفراد البشر لا تعتبر دلیلًا علی اختلافهم وتفاوتهم فی المقامات المعنویّة، بل بما أنّ الإنسان یعیش حیاة جماعیة وأنّ إدارة هذه الحیاة لا تتیسر بدون خدمات متقابلة، فإنّ اللَّه تعالی منح أفراد البشر قابلیات وإمکانات مختلفة لتتجلی علی أساسها الاختلافات فی المقامات والمستویات الاجتماعیّة، وبالتالی یتحقق أصل التعاون والاستخدام واستفادة البشر من بعضهم البعض.

وتأسیساً علی ذلک فإنّ الناشط الاقتصادی یجب أن یلتفت إلی أنّه لا ینبغی أن یشعر بحالة الحسد للأشخاص الذین یتفوّقون علیه فی الجهة المادیّة ولا یشعر بحالة التکبر والغرور بالنسبة لمن هو أدنی مرتبة منه فی الأمور المادیّة، ولا یری أنّ تفوّقه المادی علیهم هو المعیار لتفوقه فی القیم الإنسانیّة، بل یعلم أنّ جمیع هذه الأموال والمقامات المادیّة أولًا: لا قیمة لها فی مقابل رحمة اللَّه ومرتبة القرب منه، وثانیاً، أنّها وسیلة للامتحان والابتلاء فی واقع الحیاة.

وعلی هذا الأساس نقرأ فی ذیل الآیة الشریفة:

«وَرَحْمَتُ رَبِّکَ خَیْرٌ مِّمَّا یَجْمَعُونَ»(3)

وفی آیة أخری نقرأ:

«وَهُوَ الَّذِی جَعَلَکُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَکُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّیَبْلُوَکُمْ فِی مَا آتَاکُمْ»(4).

ویتبیّن ممّا تقدّم أنّ عملیّة الاستخدام والتسخیر الواردة فی الآیة الشریفة بعنوان «سخریاً» لا یعنی قبول النظام الطبقی والاستخدام الجائر للآخرین، لأنّ المراد منها مجرّد التعامل مع الآخرین فی تبادل الخدمات والاستفادة من القابلیات المتنوعة لدی الأفراد والتعاون فی أمور الحیاة، أی أنّ الاستخدام المتقابل من کلا الطرفین من قبیل الاستخدام المتقابل فی الجهاز التنفسی ودوران الدم والجهاز الهظمی وسائر الأجهزة والأعضاء البدنیة، أو من قبیل سلسلة المراتب فی الجیش أو المنظمات أو المؤسسات


1- المصدر السابق.
2- سورة الزخرف، الآیة 32.
3- سورة الزخرف، الآیة 32.
4- سورة الأنعام، الآیة 165.

ص: 116

الإداریة فی البلد.

وهذا بذاته یعتبر خیر شاهد علی عدم وجود الظلم فی عالم الخلقة، لأنّ: «إذا کان جمیع الأفراد فی المجتمع الإسلامی متساوین ومتشابهین فی المواهب والقابلیات کالقماش أو الأوانی التی تخرج من مصنعٍ واحدٍ، کان المجتمع الإنسانی- حینئذٍ- مجتمعاً میّتاً ساکناً جامداً عاریاً عن التحرّک والتکامل، انظروا إلی نبتة الورد، فهناک جذور قویّة متینة، وسوق رقیقة، ولکنّها متینة نوعاً مّا، وفروع ألطف، ثمّ أوراق وأوراد بعضها ألطف من بعض، وهذه المجموعة المتنوعة فی تراکیبها والمختلفة فی متانتها ولطافتها تشکّل نبتة وردة جمیلة تختلف فیها الخلایا بحسب اختلافها فی وظائفها، وتختلف فیها القابلیات والاستعدادات بحسب اختلافها ووظائفها»(1).

11. نفی الجبر والتفویض

إنّ الناشط الاقتصادی یجب أن یعلم أنّه غیر مجبور لعوامل الإنتاج، بل هو البانی والصانع للتاریخ، وما لم یتحرک علی مستوی إصلاح معیشته فإنّ حالته الاقتصادیّة لا یتیسر إصلاحها:

«إِنَّ اللَّهَ لَایُغَیِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّی یُغَیِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ»(2)

، کما أنّه لیس مجبوراً علی التبعیة والطاعة لمیوله النفسانیة وغرائزه البدنیة بل یستطیع أن یتحرک فی حیاته من موقع ضبط شهواته علی أساس العقل والعدالة.

ولکن یجب أن یعلم فی ذات الوقت أنّ الرزق والمعیشة مقسوم ومقرر ولیس بمقدوره أن یحصل علی کلّ شی ء وبأی مقدار یرید ولا یوجد عامل آخر سوی إرادته وسعیه فی مقام العمل.

والدلیل علی هذا المعنی هو ما نشاهد بالعیان أنّه لا یستطیع أی شخص أن یحقق جمیع آماله وتمنیاته ویصل إلی کلّ ما یبغی ویسعی، فی حین لو کانت إرادة الإنسان وسعیه واختیاره مؤثرة مائة بالمئة وعلّة تامة فإنّه لا یبقی فقیر ولا یمکن مشاهدة کلّ هذه الفوارق والاختلافات بین البشر، فهذه الفوارق تعتبر دلیلًا علی أنّ الرزق مقسوم وأنّه ثمة عامل آخر یتدخل فی هذا الشأن یدعی بالمشیئة الإلهیّة، یعنی أنّ إرادة الإنسان وسعیه وعمله لیست علّة تامة للتوصل إلی الرزق المطلوب، بل هنا أسباب أخری خارجة عن اختیار الإنسان وإرادته، وهی منحصرة بید القدرة الإلهیّة، وعلی هذا الأساس ورد فی الآیة الشریفة هذا المبنی المذکور آنفاً بأنّ اللَّه هو الذی قسّم بین الناس معیشتهم:

«نَحْنُ قَسَمْنَا بَیْنَهُمْ مَّعِیشَتَهُمْ فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا»(3).

وهکذا بالنسبة للجاه والمکانة الاجتماعیّة أیضاً، یعنی أنّها أمر مقسوم، لأنّه علی حدّ تعبیر المرحوم العلّامة الطباطبائی رحمه الله فی تفسیر المیزان «أمّا الجاه فهو أیضاً مقسوم من عند اللَّه فإنّه یتوقف علی صفات خاصّة بها وترتفع درجات الإنسان فی المجتمع فیتمکن من تسخیر من هو دونه کالفطنة والدعاء الشجاعة، وعلوّ الهمة وإحکام العزیمة وکثرة المال


1- انظر التفسیر الأمثل، ج 4، ذیل الآیة 165 من سورة الأنعام.
2- سورة الرعد، الآیة 11.
3- سورة الزخرف، الآیة 32.

ص: 117

والعشیرة وشی ء من ذلک لا یتمّ إلّابصنع من اللَّه سبحانه».

ویقول المرحوم العلّامة الطباطبائی رحمه الله بالنسبة لما ورد فی ذیل الآیة:

«وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ»

أنّها ناظر إلی هذه الدرجات الاعتباریة والاجتماعیّة ویقول: «فیتبیّن بمجموع القولین أعنی قوله: «نحن قسمنا ...» وقوله «رفعنا بعضهم فوق بعض ...» أنّ القاسم للمعیشة والجاه بین الناس هو اللَّه سبحانه لا غیر- یعنی أنّ المقسِّم المعیشة (الرزق المادی) هو اللَّه وهو مقسِّم للجاه والمقام الاجتماعی أیضاً»(1).

12. الإنفاق والتوسعة الاقتصادیّة

ومن جملة المبانی والأصول التی ینبغی للناشط الاقتصادی الاعتقاد بها واعتبارها من السنن الإلهیّة الحاکمة علی عالم الخلقة، أنّه لا یخاف من البذل وإنفاق الأموال فی سبیل اللَّه، ویعتقد أنّ الإنفاق فی سبیل اللَّه لیس فقط لا یتسبب فی الرکود الاقتصادی، بل یساهم فی ترشید وتنمیة الاقتصاد أیضاً، فالناشط الاقتصادی بهذا الدلیل یتجنب حالة البخل والشح فی طریق إعمار المدن ورفع حاجة المحتاج فی المجتمع وإحیاء القیم الدینیّة والأخلاقیّة، ولا یری أنّ الإنفاق والبذل فی سبیل اللَّه یتنافی مع محاسباته الاقتصادیّة الدقیقة.

ویقرر القرآن الکریم، مضافاً إلی الآثار المعنویّة والروحیة للإنفاق والبذل المالی، أنّ مثل هذا الإنفاق یتسبب فی تطهیر النفس وتهذیبها:

«الَّذِی یُؤْتِی مَالَهُ یَتَزَکَّی»(2)

والتطهیر والتزکیة:

«خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً

تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَکِّیهِمْ بِهَا»(3)

، ویشیر إلی الآثار والنتائج المادیّة للإنفاق من قبیل قوله تعالی:

«یَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَیُرْبِی الصَّدَقَاتِ»(4)

یعنی أنّ المرابی سیبتلی بنقصان وإنعدام ماله تدریجیّاً وأنّ اللَّه تعالی یسوق رأس المال الربوی إلی الفناء والمحق، «فالمرابی بما لدیه من رأسمال وثروة یستحوذ علی أتعاب الطبقة الکادحة، وقد یؤدّی عمله هذا إلی القضاء علیهم، أو یبذر علی الأقل بذور العداء والحقد فی قلوبهم بحیث یصبحون بالتدریج متعطّشین إلی شرب دماء المرابین ویهدّدون أموالهم وأرواحهم، فالقرآن یقول إنّ اللَّه یسوق رؤوس الأموال الربویّة إلی الفناء»(5).

وخلافاً للربا فإنّ اللَّه تعالی یربی الصدقات ویزید المنفق فی ماله، لأنّه: «وبالمقابل، فالأشخاص الذین یتقدّمون إلی المجتمع بقلوب ملیئة بالعواطف الإنسانیّة وینفقون من رؤوس أموالهم وثرواتهم یقضون بها حاجات المحتاجین من الناس یحظون بمحبّة الناس وعواطفهم عموماً، وأموال هؤلاء فضلًا عن عدم


1- المیزان، ج 18، ص 100 ذیل الآیة 32 سورة الزخرف. یظهر أنّ ذیل الآیة:« وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ» یفسر ویوضح صدر الآیة« نَحْنُ قَسَمْنَا بَیْنَهُمْ مَّعِیشَتَهُمْ»؛ یعنی أنّ المراد من« الدرجات» درجات التفاوت فی الواقع المعاشی والمالی، کما بیّننا ذلک فی المبنی السابق.
2- سورة اللیل، الآیة 18.
3- سورة التوبة، الآیة 103.
4- سورة البقرة، الآیة 276.
5- التفسیر الأمثل، ج 2، ذیل الآیة مورد البحث.

ص: 118

تعرّضها لأیّ خطر تنمو بالتعاون العامّ نموّاً طبیعیاً، وهذا ما یعنیه القرآن بقوله:

«ویربی الصدقات»(1).

ومثل هذا الأمر لا یختص بفرد، بل: «وهذا الحکم یجری فی الفرد کما یجری فی المجتمع، فالمجتمع الذی یُعنی بالحاجات العامّة تتحرّک فیه الطاقات الفکریّة والجسمیة للطبقة الکادحة التی تؤلّف أکثریة المجتمع وتبدأ العمل، وعلی أثر ذلک یظهر إلی حیّز الوجود ذلک النظام الاقتصادی القائم علی التکافل وتبادل المنافع العامّة»(2).

وفی مورد آخر یشبه القرآن الکریم عمل الأشخاص الذین أنفقوا أموالهم لیس للریاء، بل لنیل رضا اللَّه تعالی:

«وَمَثَلُ الَّذِینَ یُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ»

، هذا أولًا، وثانیاً: إنّ إنفاقهم یکون بدافع خلوص النیّة: لا أنّه بعد الإنفاق الخالص یقوم الفرد بابطاله بالمن والأذی:

«وَتَثْبِیتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ»(3)

، فمثل هذا الإنفاق یشبهه القرآن الکریم الإنفاق بالبستان الذی یقع فی مرتفع وتمطر علیه الأمطار الشدیدة، وعلی الأقل الأمطار الناعمة، فینتج ثمرات مضاعفة:

«... کَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُکُلَهَا ضِعْفَیْنِ فَإِنْ لَّمْ یُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ»(4).

***

المنابع والمصادر

1. نهج البلاغة.

2. الاقتصاد، پل ساموئلن، مع ترجمة الدکتور حسین بیرنیا، بنگاه ترجمه و نشر کتاب، زهران، 1352 ه ش.

3. اقتصادنا، الشهید آیة اللَّه السید محمّد باقر الصدر، مکتب الإعلام الإسلامی، الطبعة الاولی 1417 ه ق.

4. الأمالی، الشیخ الصدوق، انتشارات المکتبة الإسلامیة، الطبعة الرابعة، 1362 ه ش.

5. بحار الأنوار، العلّامة المجلسی، مؤسسة الوفاء، بیروت، 1404 ه ق.

6. تاریخ بغداد، دار الکتب العلمیّة، لبنان، الطبعة الاولی 1417 ه ق.

7. تفسیر العیاشی، محمّد بن مسعود العیاشی، تحقیق السیدهاشم الرسولی المحلاتی، مطبعة العلمیّة، طهران، 1380 ه ق.

8. تفسیر القمی، علی بن إبراهیم القمی، دارالکتاب، قم، الطبعة الرابعة، 1367 ه ش.

9. التفسیر الأمثل، ناصر مکارم الشیرازی، دارالکتب الإسلامیّة، طهران، الطبعة الاولی 1374 ه ش.

10. تهذیب الأحکام، الشیخ الطوسی، أبوجعفر محمّد بن الحسن الطوسی، دارالکتب الإسلامیّة، طهران، الطبعة الرابعة، 1365 ه ش.

11. تهذیب الکمال، جمال الدین أبو حجاج یوسف المزی،


1- المصدر السابق، ص 371.
2- المصدر السابق.
3- وللأسف أنّ جمیع المترجمین للقرآن( بحسب الاستقراءالناقص) لم یترجموا عبارة« تثبیتاً من أنفسهم» ترجمة صحیحة ودقیقة، والترجمة الدقیقة لها:« مثل الذین ینفقون أموالهم( بدون ریاء) ولغرض طلب رضا اللَّه فقط، یستقیمون فی هذه النیّة الخالصة ولا یلوّثونها بالمن بعد الاخلاص کمثل جنة ....».
4- سورة البقرة، الآیة 265.

ص: 119

تحقیق الدکتور بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بیروت، الطبعة الرابعة، 1406 ه ق.

12. الحیاة (با ترجمه أحمد آرام)، أخوان حکیمی- أحمد آرام، مکتب نشر الثقافة الإسلامیّة.

13. مقدمة علی الاقتصاد الإسلامی (درآمدی بر اقتصاد اسلامی) بالفارسیّة، تحقیقات الحوزة والجامعة، انتشارات سمت، طهران، الطبعة الثامنة، 1387 ه ش.

14. درالنظیم، ابن حاتم العاملی، مؤسسة نشر الإسلامی، قم.

15. عیون الأخبار الرضا علیه السلام، محمّد بن علی بن حسین الصدوق، انتشارات جهان، 1378 ه ق.

16. غررالحکم ودررالکلم، عبدالواحد بن محمّد التمیمی الآمدی، طبع مکتب الإعلام الإسلامی.

17. الفصلیة التخصصیة للإقتصاد الإسلامی (فصلنامه تخصصی اقتصاد اسلامی) بالفارسیّة، تحقیقات الثقافة والفکر الإسلامی.

18. الکافی، ثقة الإسلام الکلینی، دارالکتب الإسلامیّة، طهران، 1365 ه ش.

19. کنزالعمال، المتقی الهندی، مؤسسة الرسالة، بیروت، 1409 ه ق.

20. کنز الفوائد، أبوالفتح الکراجکی، انتشارات مکتبة المصطفوی، قم.

21. مبانی وأصول علم الإقتصاد (مبانی و اصول علم اقتصاد) بالفارسیّة، الدکتور یداللَّه دادگر والدکتور تیمور الرحمانی، مرکز انتشارات الإعلام الإسلامی، 1380 ه ش.

22. محاضرة عن الاقتصاد، الدکتور محمّد العربی.

23. مستدرک الوسائل، المیرزا حسین النوری، آل البیت لإحیاء التراث، قم، الطبعة الاولی، 1408 ه ق.

24. مشکاة الأنوار، أبوالفضل علی بن حسن الطبرسی، مکتبة الحیدریة، النجف، الطبعة الثانیة، 1385 ه ق.

25. المعجم الوسیط، جماعة من المؤلفین، مکتبة المرتضوی، طهران، الطبعة الثانیة، 1385 ه ش.

26. معارج الوصول إلی معرفة، محمّد بن یوسف الزرندی الشافعی، تحقیق: ماجد بن أحمد.

27. المغنی لابن قدامة، أبومحمّد عبداللَّه بن أحمد بن قدامة، دار الکتب، بیروت.

28. میزان الحکمة، محمّدی الری شهری، دار الحدیث، قم، الطبعة الاولی، 1416 ه ق.

29. المیزان فی تفسیر القرآن، السید محمّد حسین الطباطبائی، مکتب الإعلام الإسلامی جماعة المدرسین، قم، الطبعة الخامسة، 1417 ه ق.

30. وسائل الشیعة، الشیخ الحر العاملی، آل البیت، قم، الطبعة الاولی، 1409 ه ق.

ص: 120

ص: 121

(2). الأهداف والدوافع فی الاقتصاد الإسلامی

اشارة

1. القیام بالقسط والعدل

2. الرفاه العام

3. الأمن فی النشاطات الاقتصادیّة

4. الحاکمیّة السیاسیّة والثقافیّة الناشئة من الاستقلال الاقتصادی

5. تحکیم القیم المعنویّة والأخلاقیّة

6. عمران وإحیاء الأرض (جمیع العالم)

7. التعادل والتوازن فی سقف معیشة المجتمع

ص: 122

ص: 123

الأهداف والدوافع فی الاقتصاد الإسلامی

1. القیام بالقسط والعدل

1. القیام بالقسط والعدل (1)

إذا تقرر أن تکون النعم والمواهب فی عالم الطبیعة خلقت من أجل البشر وفقاً لما تقوله الآیة الشریفة:

«خَلَقَ لَکُمْ مَّا فِی الْأَرْضِ جَمِیعاً»(2)

وعلی أساس کلام أمیرالمؤمنین علیه السلام أنّ السموات والأرض مطیعة للَّه تعالی فی حرکتها لخدمة الإنسان والبشریّة ولتأمین منافعهم:

«أَلَا وَإِنَّ الْأَرْضَ الَّتِی تُقِلُّکُمْ

[تحملکم

، وَالسَّمَاءَ الَّتِی تُظِلُّکُمْ مُطِیعَتَانِ لِرَبِّکُمْ ...

وَلکِنْ أُمِرَتَا بِمَنَافِعِکُمْ فَأَطَاعَتَا، وَأُقِیمَتَا عَلَی حُدُودِ مَصَالِحِکُمْ فَقَامَتَا»(3)

، وإذا کان هذا هو الهدف والعلّة الغائیة لعالم الخلقة وتحقق هذا الهدف واستطاع الناس الاستفادة من هذه المواهب والنعم الطبیعیّة فی واقع الحیاة، وکان لکلّ واحد من أفراد البشر فی دائرة الاقتصاد الحقّ فی الاستفادة من هذه الثروة الإلهیّة وتحرک علی مستوی مراعاة العدالة فی مجال السلوکیات والعلاقات الاجتماعیّة فسوف ینال حقوقه الاقتصادیّة ولا یظلم أحد فی دائرة الحرکة الاقتصادیّة فی المجتمع.

إنّ النظام الاقتصادی فی الإسلام هو النظام الذی نظّم قوانینه وأحکامه فی ظلّ هذه الغایات، وهی أولًا:

أنّ کلّ إنسان یستطیع بما یملکه من قدرات وقابلیات وبمقدار سعیه وعمله أن یتحرک علی مستوی النشاطات الاقتصادیّة، یعنی فی مسألة توزیع المواهب الطبیعیّة والمنافع العامّة لا یتعدی حدوده وحقوقه المعینة علی أساس سعیه وقابلیته، وثانیاً: بعد عملیّة الإنتاج وتحصیل العوائد والأرباح ینبغی علیه مراعاة العدالة، فلا یتمّ إنکار حقّه فی مجال سعیه لتحصیل وکسب الرزق أو ما یحصل علیه من سائر


1- بالرغم من إنّ مسألة العدالة فی رؤیة من الأهداف والمقاصد النظام الاقتصادی الإسلامی، ولکن فی رؤیة أخری یمکنها أن تکون من قواعد النظام الاقتصادی الإسلامی أیضاً، حیث نتطرق إلیها فی بحث( الأصول التطبیقیّة للإقتصاد الإسلامی)، لأنّ أحد الأصول العملیّة والتطبیقیّة للاقتصاد الإسلامی، العدالة، سواءً فی مقام توزیع رؤوس المال أو المنابع الطبیعیّة أو فی مقام الاستهلاک، وسنشیر إلیه فی البحث اللاحق تحت عنوان( اجتناب تراکم الثروة)، ناظر إلی هذا الأصل.
2- سورة البقرة، الآیة 29.
3- نهج البلاغة، الخطبة 143.

ص: 124

مناشی ء هذا الحقّ «من قبیل الإرث الذی یعود إلی سعی وعمل الأب».

ویؤکد القرآن الکریم فی آیات عدّة علی هذه الحقیقة الجلیة، ومنها:

أ) ما ورد فی الآیة الشریفة 32 من سورة النساء من أنّ العمل یعتبر منشأ الحقّ للإنسان فی إمتلاک المال والثروة:

«لِّلرِّجَالِ نَصِیبٌ مِّمَّا اکْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِیبٌ مِّمَّا اکْتَسَبْنَ».

ب) ورد النهی فی الآیات الکریمة بشکل صریح وأکید:

«کَیْ لَایَکُونَ دُولَةً بَیْنَ الْأَغْنِیَاءِ مِنْکُمْ»(1)

عن تداول الثروة فقط فی دائرة الأثریاء وحصرها عند الأغنیاء، لأنّ حصر رؤوس الأموال بید الأغنیاء لا یخلو غالباً من الظلم وسحق الحقوق بالنسبة للفقراء والمحرومین.

ج) إنّ القرآن الکریم یقرر بطلان الأرباح غیر السلیمة وغیر العقلانیة تحت عنوان: «حرمة أکل المال بالباطل» ویقول:

«وَلَا تَأْکُلُوا أَمْوَالَکُمْ بَیْنَکُمْ بِالْبَاطِلِ»(2)

، لأنّ بطلان الکثیر من هذه العوائد ناشی ء من کونها ظالمة، وعلی هذا الأساس فإنّ العلماء والرهبان الذین یستلمون الهدایا أو المبالغ الطائلة من الناس من خلال کتمانهم للحقائق والذی یعتبر المصداق الأتم للظلم أو یصدرون الفتاوی الظالمة لحساب قوی الجور والهیمنة، وکذلک ببیعهم لصکوک الغفران، فإنّهم وقعوا مورد الذم والتوبیخ فی الآیات القرآنیة:

«إِنَّ کَثِیراً مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَیَأْکُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ»(3).

د) وقد نهی القرآن الکریم بصراحة عن الاقتراب من أموال الیتامی والمحرومین من ولایة الأب ورعایته، ویقول:

«وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْیَتِیمِ إِلَّا بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ»(4)

وکذلک:

«إِنَّ الَّذِینَ یَأْکُلُونَ أَمْوَالَ الْیَتَامَی

ظُلْماً إِنَّمَا یَأْکُلُونَ فِی بُطُونِهِمْ نَاراً»(5)

، لأنّه کما قال الإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام:

«وحرّم اللَّه أکل مال الیتیم ظلماً لعلل کثیرة من وجوه الفساد، أوّل ذلک أنّه إذا أکل الإنسان مال الیتیم ظلماً فقد أعان علی قتله إذ الیتیم غیر مستغن ولامحتمل لنفسه ولا قائم بشأنه ولا له من یقوم علیه ویکفیه کقیام والدیه فإذا أکل ماله فکأنّه قتله وصیّره إلی الفقر والفاقة»(6).

ومن هذا القبیل ما دعت إلیه الآیة الشریفة بکلّ وضوح للقیام بالقسط فی أموال الیتامی:

«وَأَنْ تَقُومُوا لِلْیَتَامَی بِالْقِسْطِ»(7)

وکذلک تقول الآیة الشریفة:

«وَآتُوا الْیَتَامَی أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِیثَ بِالطَّیِّبِ وَلَا تَأْکُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَی أَمْوَالِکُمْ إِنَّهُ کَانَ حُوباً کَبِیراً»(8).

ه) وقد ورد فی الآیات الشریفة النهی عن «الفساد فی الأرض» وخاصّة بالنسبة للأثریاء کقارون الذین ورد الخطاب لهم:

«وَأَحْسِنْ کَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَیْکَ


1- سورة الحشر، الآیة 7.
2- سورة النساء، الآیة 29.
3- سورة التوبة، الآیة 34.
4- سورة الأنعام، الآیة 152.
5- سورة النساء، الآیة 10.
6- وسائل الشیعة، ج 12، ص 181، ح 5، باب 70، باب تحریم أکل مال الیتیم ظلماً.
7- سورة النساء، الآیة 127.
8- سورة النساء، الآیة 2.

ص: 125

وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِی الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَایُحِبُّ الْمُفْسِدِینَ»(1).

و) الآیات التی تأمر بشکل مطلق بالعدل والقسط مثل:

«إِنَّ اللَّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ»(2)

، و

«قُلْ أَمَرَ

رَبِّی بِالْقِسْطِ»(3)

، أو أمرت برعایة القسط فیما یتصل بالوزن والمیزان:

«وَأَقِیمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِیزَانَ»(4).

ز) الآیات التی أمرت بکتابة الدَّین ونهت عن البخس والتدلیلس فی هذا الشأن:

«یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِذَا تَدَایَنتُمْ بِدَیْنٍ إِلَی أَجَلٍ مُسَمّیً فَاکْتُبُوهُ وَلْیَکْتُبْ بَیْنَکُمْ کَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا یَأْبَ کَاتِبٌ أَنْ یَکْتُبَ کَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْیَکْتُبْ وَلْیُمْلِلِ الَّذِی عَلَیْهِ الْحَقُّ وَلْیَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا یَبْخَسْ مِنْهُ شَیْئاً»(5).

*** ولو تجاوزنا آیات القرآن الکریم إلی الروایات الإسلامیّة فسنری أنّ أصل العدالة الاقتصادیّة یتجلّی بکلّ وضوح فی نصوصها:

أ) فی شرح الإمام الصادق علیه السلام لحدود الاقتراب من مال الیتیم یقول:

«إن کان فی دخولکم علیهم منفعة لهم فلا بأس وإن کان فیه ضرر فلا ... بل الإنسان علی نفسه بصیرة، فأنتم لا یخفی علیکم وقد قال اللَّه عزّ وجلّ: واللَّه یعلم المصلح من المفسد»(6).

ب) ویقول هذا الإمام علیه السلام فی ذیل الآیة الشریفة:

«وَمَنْ کَانَ فَقِیراً فَلْیَأْکُلْ بِالْمَعْرُوفِ»(7)

: «من کان یَلی

شیئاً للیتامی وهو محتاج لیس له ما یقیمه فهو یتقاضی أموالهم ویقوم فی ضیْعتهم فلْیأکل بقدر ولا یُسْرِفْ وإن کانت ضیْعتُهم لا تُشْغِله عمّا یُعالج بنفسه فلا یَرْزأنَّ من أموالهم شیئاً»(8).

ج) ویقول أمیرالمؤمنین الإمام علی علیه السلام فی تسویغ قبوله للحکومة بأنّ أحد العوامل له هو مواجهة الظلم ومقارعة الظالمین فی مقابل الدفاع عن المظلومین وإشباع بطون الجیاع:

«وَمَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَی الْعُلَمَاءِ أَنْ لا یُقَارُّوا عَلَی کِظَّةِ ظَالِمٍ، وَلا سَغَبِ مَظْلُومٍ»(9).

د) ویقول سیّد الشهداء الإمام الحسین بن علی علیه السلام فی إحدی خطبه بالنسبة إلی ضرورة فریضة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر:

«... وذلک أن الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر دعاء إلی الإسلام مع ردّ المظالم ومخالفة الظالم وقسمة الفی ء والغنائم وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها فی حقّها ...»(10).

ه) وقد ورد عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«خصلتان لیس فوقهما من الشرّ شی ء: الشرک باللَّه والضرّ لعباد اللَّه»(11).


1- سورة القصص، الآیة 77.
2- سورة النحل، الآیة 90.
3- سورة الأعراف، الآیة 29.
4- سورة الرحمن، الآیة 9.
5- سورة البقرة، الآیة 282.
6- وسائل الشیعة، ج 12، ص 184، ح 1، باب 71، باب جواز الأکل من طعام الیتیم.
7- سورة النساء، الآیة 6.
8- وسائل الشیعة، ج 12، ص 185.
9- نهج البلاغة، الخطبة 3.
10- تحف العقول، ص 171.
11- المصدر السابق، ص 31.

ص: 126

و) ویقول أمیرالمؤمنین الإمام علی علیه السلام ضمن کتاب له إلی عمّاله ینهاهم فیه عن إتلاف الورق والوقت وکثرة الکلام وکتابة الأمور غیر اللازمة فی الکتب الإداریة:

«أدقّوا أقلامکم وقاربوا بین سطورکم واحذِفوا من فضولکم واقصدوا قصد المعانی وإیّاکم والإکثار فان أموال المسلمین لا تحتمل الإضرار»(1).

ز) ما ورد فی قصّة سمرة بن جندب وخطاب رسول اللَّه صلی الله علیه و آله لذلک الرجل الأنصاری فی ختامها:

«إذهب فاقلعها وارم بها إلیه فإنّه لاضرر ولا ضرار»(2).

والتعبیر ب «لا ضرر ولا ضرار» ورد کذلک فی قضاء رسول اللَّه صلی الله علیه و آله بین أهل المدینة وحکمه بأنّه لا حقّ لأحد أن یحرم الآخرین من الماء الزائد لسقی البساتین، فقد ورد فی الروایات الشریفة:

«قضی رسول اللَّه صلی الله علیه و آله بین أهل المدینة فی مشارب النخل أنّه لا یمنع نفع الشی ء وقضی بین أهل البادیة أنّه لا یمنع فضل ماء لیمنع به فضل کلأ وقال: لا ضرر ولا ضرار»(3).

ح) وجاء فی توقیع الإمام الحسن العسکری علیه السلام فی جوابه لکتاب یتعلق بمقدار الفاصلة بین القناتین أنّ الإمام علیه السلام کتب فی الجواب:

«علی حسب أن لا یُضرّ إِحداهما بالأخری إن شاء اللَّه»

، وکذلک ما ورد فی مقام الجواب عن سؤال بخصوص مطحنة تقع إلی جانب نهر جارٍ وأراد صاحب القریة أن یسوق الماء من طریق آخر إلی قریته بحیث یؤدّی إلی تعطیل تلک المطحنة، فنهاه الإمام علیه السلام عن ذلک:

«یتّقی اللَّه ویعمل فی ذلک بالمعروف ولا یضرّ أخاه المؤمن»(4).

مثل هذه الروایات فی عالمنا المعاصر، تمثّل الطریق الأمثل لحلّ الکثیر من المشکلات الاقتصادیّة لا سیما أنّ النشطاء الاقتصادیین فی المجتمعات البشریّة المعاصرة لا یفکرون إلّابمنافعهم الشخصیّة.

وممّا تقدّم تتبیّن هذه الحقیقة وهی أنّ «العدالة الاقتصادیّة» لا تعنی تساوی السهام والحصص، بل المراد «تساوی الفرص» وعلی حدّ تعبیر أحد علماء أهل السنة: «إنّ العدالة تعنی تساوی الفرص بین الجمیع ورعایة التعادل بینهم، ومن هذه الجهة أنّ سعی کلّ إنسان تساوی مع عمله وجهده ومنها ربحه الکثیر أو القلیلة، ولا ینکر الإسلام التفاوت المعقول بین الناس حسب السعی والعمل والقابلیات، ولا نفع المساواة المطروحة بالشعارات لأنّ کسب المال رهین بالقابلیات التی قابلة للتفاوت بین أفراد البشر، إذن أنّ العدل الحقیقی هو أن تکون الأرباح (متفاوتة بحسب القابلیات وبذل الجهد) مختلفة، وأنّ بتفاوت البعض علی البعض الآخر بالزیادة فی حین أنّ الفرص مساویة المطروحة بین یدی الجمیع متوفرة، ومعنی هذا الکلام أن لا تکون عوامل الأصل والنسب والقومیّة والجنسیّة قید فی رجل وید الإنسان»(5).


1- بحار الأنوار، ج 41، ص 105، ح 4.
2- الکافی، ج 5، ص 292 و 294؛ مستدرک الصحیحین، ج 2، ص 58.
3- الکافی، ج 5، ص 294.
4- المصدر السابق.
5- انظر: بحث« النظام الاقتصادی الإسلامی وخصائصه وعناصره الأصلیّة» مقتبس من کتاب البنوک الإسلامیّة ودورها فی تنمیة اقتصاد المغرب العربی تألیف الدکتور علی یوعلا، المترجم سید أبوالقاسم حسینی( ژرفا)، 1416، المطبوع فی کتاب ماهیة ومعالم الاقتصاد الإسلامی( ماهیت و ساختار اقتصاد اسلامی) بالفارسیّة، ص 260.

ص: 127

2. الرفاه العام

إنّ تمتع عامة أفراد المجتمع برفاه نسبی یعتبر أحد أهم أهداف الاقتصاد الإسلامی، ویستفاد من آیات القرآن الکریم بکلّ وضوح أنّ اللَّه تعالی، مضافاً إلی رفع الحاجات الأولیّة والضروریة للبشر، دعا لرفاه عباده أیضاً فیما یتصل بالاستفادة من مواهب الطبیعة:

«خُذُوا زِینَتَکُمْ عِنْدَ کُلِّ مَسْجِدٍ وَکُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا»(1).

وکذلک قال:

«قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِینَةَ اللَّهِ الَّتِی أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّیِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ»(2).

ولا شک بأنّ مقتضی التحدید فی الأکل والشرب برعایة عدم الإسراف فی الآیة الاولی، والتعبیر «الزینة» فی کلا الآیتین، وکذلک التعبیر ب «الطیّبات من الرزق» فی الآیة الثانیة، هو الرفاه النسبی وعدم إکتفاء بالضروریات الأولیّة.

وببیان آخر: أنّ المستفاد من الآیات القرآنیة أنّ النظام الاقتصادی فی الإسلام لیس فقط بصدد رفع الحاجات الضروریة للإنسان وإشباعها وارضائها ویری أنّ عمله قد انتهی، بل یرید للبشر أن یتمتعوا أیضاً بالملذات المادیّة إلی حد عدم الإسراف والتبذیر وبدفع الحقوق المتعلقة بأموالهم یستطیعون أن یتمتعوا بالنعم والمواهب الإلهیّة.

والملفت للنظر ما ورد فی الروایة عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال:

«بلی فلیطعمه ممّا یأکل ویشرب ویکتسی ویتزوج ویتصدّق ویحج»(3)

ونقرأ فی روایة أخری عن الإمام موسی بن جعفر علیه السلام:

«یقسّم بینهم فی مواضعهم بقدر ما یستغنون به فی سنّتهم بلا ضیق وتقتیر ... وإن نقص من ذلک شی ء ولم یکتفوا به کان علی الوالی أن یمونهم من عنده بقدر سعتهم حتی یستغنوا»(4).

وبدیهی أنّ حدّ «حدّ الاستغناء» یتضمّن أکثر من تهیئة الضروریات الأولیّة للحیاة ویشمل الرفاه النسبی، وما یؤیّد هذه النقطة ما ورد فی حکایة أبی بصیر مع الإمام الصادق علیه السلام: أنّه قال للإمام: إنّ لنا صدیقاً وله دار تسوی أربعة آلاف درهم، وله جریة وله غلام یستقی علی الجمل کلّ یوم ما بین الدرهمین إلی الأربعة سوی علف الجمل، وله عیال أله أن یأخذ من الزکاة؟ قال (الإمام علیه السلام):

«نعم»

، قال: وله هذه الفروض، فقال:

«یا أبامحمّد فتأمرنی أن آمره ببیع داره وهی عزّه ومسقط رأسه أو ببیع خادمه الذی یقیه الحر والبرد ویصون وجهه ووجه عیاله، أو آمره ببیع غلامه وجمله وهو معیشته وقوته؟ یأخذ الزکاة فهی له حلال، ولا یبیع داره ولا غلامه ولا جمله»،(5).

وتدلّ الآیات الکریمة من سورة النحل بوضوح


1- سورة الأعراف، الآیة 31.
2- سورة الأعراف، الآیة 32.
3- وسائل الشیعة، ج 9، باب 41 من أبواب مستحقین زکاة، ح 2.
4- المصدر السابق، باب 28، ح 3.
5- المصدر السابق، باب 9، ح 3.

ص: 128

علی ما ورد أعلاه، وذلک فی وصفها للأنعام والدواب بعنوان الزینة وجمال الحیاة الدنیا، تقول الآیة:

«وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَکُمْ فِیهَا دِفْ ءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْکُلُونَ

* وَلَکُمْ فِیهَا جَمَالٌ حِینَ تُرِیحُونَ وَحِینَ تَسْرَحُونَ* وَتَحْمِلُ أَثْقَالَکُمْ إِلَی بَلَدٍ لَّمْ تَکُونُوا بَالِغِیهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ إِنَّ رَبَّکُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِیمٌ* وَالْخَیْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِیرَ لِتَرْکَبُوهَا وَزِینَةً وَیَخْلُقُ مَا لَاتَعْلَمُونَ»(1).

لأنّ التعبیر بالزینة والجمال یدلّ علی أنّ هذه الأمور لیست من ضرویات الحیاة الدنیویّة بل تملک بعداً رفاهیاً أیضاً.

ویتبیّن من الروایات الشریفة التی تتحدّث عن الحکومة الإسلامیّة بعد ظهور الإمام المهدی علیه السلام أیضاً أنّ مسؤولیّة الحاکم الإسلامی فی هذا المجال توفیر الرفاه العام أیضاً، فنقرأ فی روایة عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أیضاً:

«یخرج له

(الإمام المهدی علیه السلام

الأرض أفلاذ کبدها ویَحْثوا المال حَثْواً ولا یعدّه عدّاً»(2)

، وکذلک ورد فی الروایة عن النّبی الأکرم علیه السلام أیضاً:

«یتنعّم أمّتی فی زمن المهدی علیه السلام نعمة لم یتنعّموا قبلها قطّ، یرسل السماء علیهم مدراراً ولا تدع الأرض شیئاً من نباتها إلّا أخرجته»(3).

وطبعاً لابدّ من التفکیر، إلی جانب هذا الهدف، بهذه الحقیقة، وهی أنّ الرفاه إنّما یکون مطلوباً وبمقدار معین فیما إذا لم یتسبب فی الغفلة عن ذکر اللَّه، ولذلک ورد فی القرآن الکریم قوله:

«وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِی الْأَرْضِ»(4)

، فمعلوم أنّ التوسعة والبسط یتسببان فی الغفلة والبغی والتمرد والطغیان بسبب هذا الغنی والثروة:

«إِنَّ الْإِنسَانَ لَیَطْغَی* أَنْ رَّآهُ اسْتَغْنَی»(5)

ویتسبب أیضاً فی الإعراض عن الحقّ التعالی:

«وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَی الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَ بِجَانِبِهِ»(6)

وهذه الأمور تعتبر مرفوضة وغیر مطلوب للشارع المقدس.

وببیان آخر: أنّ الرفاه المطلوب ینبغی أن یکون فی إطار «الکفاف»:

«وَلا تَسأَلُوا فِیها فَوقَ الکَفَافِ»(7)

، ویؤدّی إلی عدم حاجة الإنسان لإظهار عوزه وفقره أمام خلق اللَّه بل تکون بدرجة أنّها تکفی الإنسان فی حوائجه المعقولة والمتعارفة، کما ورد فی النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله:

«اللّهم ارزق محمّداً وآل محمّد ومن أحبّ محمّداً وآل محمّد العفاف والکفاف»(8)

، ولا یؤدّی الرفاه إلی حالة من الإنجرار وراء زخارف الدنیا وحالة من السکر بالملذات والتمتعات، لأنّ سکر النعمة یعدّ أحد أنواع السکر أیضاً:

«فَاتّقُوا سَکراتِ النِّعمَةِ»(9)

، وقال الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله:

«ونعم المال

الصالح للمرء الصالح»(10).


1- سورة النحل، الآیات 5- 8.
2- بحار الأنوار، ج 51، ص 68، ح 9.
3- المصدر السابق، ص 83 عن أبی سعید الخدری عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله.
4- سورة الشوری، الآیة 27.
5- سورة العلق، الآیة 6 و 7.
6- سورة الإسراء، الآیة 83.
7- نهج البلاغة، الخطبة 45.
8- بحار الأنوار، ج 69، ص 67، ح 27.
9- نهج البلاغة، خ 151.
10- مسند أحمد، ج 4، ص 197.

ص: 129

3. الأمن فی النشاطات الاقتصادیّة

ومن جملة الأهداف التی تترتب علی الاقتصاد الإسلامی، تحقیق الأمن الاقتصادی، بمعنی أنّ الناشط الاقتصادی لا یشعر بأی تهدید ولا یتعرض لأی ضغط فی حرکته الاقتصادیّة، من قبیل الاشتغال، التجارة، استثمار رؤوس الأموال: فإنّه یدخل فی هذه المجالات بدون إحساس بالقلق والاضطراب والتردد.

وهذا الهدف ربّما لا یمکن تحقیقه فی الاقتصاد الرأسمالی (/ الإمبریالی) فلا یضمن مثل هذا الاقتصاد حالات الطمأنینة لدی الناشط الاقتصادی، لأنّه علی حد تعبیر أحد علماء الاقتصاد المعروفین (الدکتور بیرجانه) فإنّ مثل هذا النظام یبتنی «علی أساس قانون تنازع البقاء» وبالتالی یعیش الضعفاء تحت وطئة قوی الهیمنة والظلم، وکما یقول عالم اقتصاد آخر (هوبز) فإنّ هذا النظام «لا یهتم إلّا بالمنافع الشخصیّة للأفراد ولا یملک دوافعاً أخری لسلوکیات الإنسان، وحتی لو أدرک الإنسان أنّ أفضل طریق لتأمین وضمان منافعه الشخصیّة یکون من خلال التعاون مع أبناء نوعه، فمع ذلک لا ینفعه شیئاً، لأنّ عقل الإنسان یتحرک فی التحلیل النهائی فی خدمة شهوات الإنسان ولا وظیفة له إلّاإیجاد الوسائل والآلیات لإرضاء شهواته ونوازعه النفسانیّة»(1).

ومثل هذا النظام یتحرک بعیداً عن مفاهیم من قبیل التعاون والإخوة والمواساة، ولا یستطیع فی أی زمان الخلاص من أنواع التهدید والضغوط ومواجهة النشطاء والشرکات الاقتصادیّة القویة، وبالتالی تفقد الأمن الاقتصادی، ولکن الاقتصادی الإسلامی، الذی لا تمثّل فیه المنافع الشخصیّة الدافع الوحید للنشاطات الاقتصادیّة، بل یأخذ بنظر الاعتبار المنافع العامّة والمنافع الشخصیّة المعنویّة، فإنّ تحقیق هذا الهدف والوصول إلی هذه الغایة «الأمن الاقتصادی» غیر بعید، وخاصّة عندما نقرأ فی التعالیم الدینیّة وجود مفاهیم وتعالیم تؤکد ضرورة تحقق الأمن الاقتصادی، من قبیل إطلاق کلمة «الأمن» ومشتقاتها فی الروایات الشریفة مثل:

«لا نعمة أهنأ من الأمن»(2)

و

«شرّ

الأوطان ما لم یأمن فیه القُطّان»(3)

و

«شرّ البلاد بلد لا

أمن فیه ولا خِصب»(4).

ولو تجاوزنا هذه الروایات (5) ونظرنا إلی الأحکام الواردة فی الشریعة الإسلامیّة، التی تقرر أنّ الحکمة والمصلحة الوحیدة أو أحد أهم المصالح والغایات فی هذه الأحکام، هو توفیر الأمن الاقتصادی ونشطاء الاقتصادیین.

ومن جملة هذه الأحکام النهی عن التسعیر، لأنّه


1- انظر: تحلیل لمعارف ومنهجیة علم الاقتصاد( تحلیلی بر سایر شناخت و روش شناسی علم اقتصاد) بالفارسیّة، السید مهدی زریباف، ص 391( اطروحة جامعیة للتخرج) کلیة الاقتصاد والمعارف الإسلامیة، جامعة الإمام الصادق علیه السلام، طهران، 1369 هش.
2- غرر الحکم، ح 10254.
3- المصدر السابق، ح 10256.
4- المصدر السابق، ح 10255.
5- وبهذه الصورة مع الالتفات إلی سائر استعمالات کلمة« أمن» فی القرآن والروایات یمکن أن یقال: إنّ هذه المفردة مع مشتقاتها تتصل بالأمن النفسی والعرضی ولا تشمل الأمن الاقتصادی.

ص: 130

لا شک فی أنّ أحد الأمور التی تتسبب فی إنعدام الأمن للمنتجین والتجار وتقلل من الباعث لدیهم علی ممارسة النشاطات الاقتصادیّة، هو تحدید قیمة البضاعة، فالمنتجون عندما لا یشعرون بوجود تقیید وتحدید فی القیمة فإنّهم یتحرکون بشوق أکثر فی مزاولة نشاطهم الاقتصادی.

وقد ورد فی روایة فی کتاب اسد الغابة وکنز العمال عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أنّه قال فی مقام الجواب عن الشخص الذی أراد تعیین سعر معین لبضاعته:

«لا یسألنی اللَّه عن سنّة أحْدَثْتها فیکم لم یأمرنی بها ولکن سلوا اللَّه من فضله»(1)

، ویشبه هذا المعنی ما ورد فی روایة فی کتاب: من لا یحضره الفقیه مع تفاوت یسیر حیث قال النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله:

«ما کنت لألقی اللَّه تعالی ببدعة لم یحدّث إلیّ فیها شیئاً فدعوا عباد اللَّه یأکل بعضهم من بعض ...»(2).

وبدیهی أنّ الضرورة تقتضی أحیاناً أن یقوم الحاکم الإسلامی فی موارد معینة بتسعیر البضاعة، ولکن مع رعایة العدل والانصاف ومرعاة منافع کلا الطرفین: البائع والمشتری.

یقول أمیرالمؤمنین علیه السلام فی کتابه لمالک الأشتر:

«وَلْیَکُنِ الْبَیْعُ بَیْعاً سَمْحاً: بِمَوَازِینِ عَدْلٍ، وَأَسْعَارٍ لَا تُجْحِفُ بِالْفَرِیقَیْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ»(3)

، وفی هذه الروایة نری أنّ الإمام علیه السلام لا یأمر بالتسعیر بل ینهی عن الإجحاف وعدم الانصاف.

وفی روایة أخری عندما سئل الإمام الصادق علیه السلام عن التسعیر قال:

«ما سعّر أمیرالمؤمنین علی أحد ولکن من نقص عن بیع الناس قیل له: بع کما یبیع الناس وإلّا فارفع من السوق، إلّاأن یکون طعامه أطیب من طعام الناس»(4).

وفی روایة ثالثة فی کنزالعمال (5) و مستدرک الصحیحین (6) عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله نری أنّ النّبی أظهر استیاءه الشدید من رجل أراد تسعیر قیمة بضاعته لغرض کسر القیمة الطبیعیّة للسوق وخفض القیمة الواقعیة للبضاعة، ولکن إذا کان یرید من ذلک العمل فی إطار القیم الأخلاقیّة وبدوافع إلهیّة، فلا بأس بهذا العمل:

«مرّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله برجل بالسوق یبیع طعاماً بسعر هو أرخص من سعر السوق فقال: تبیع فی سوقنا بسعر هو أرخص من سعرنا؟ قال: نعم. قال: صبراً واحتساباً؟ قال: نعم. قال: أبْشِر! فانّ الجالب إلی سوقِنا کالمجاهد فی سبیل اللَّه والمحتکر فی سوقنا کالملحد فی کتاب اللَّه».

بهذه الجهة ومع أنّ جماعة من فقهاء الشیعة کالشیخ الطوسی فی النهایة و المبسوط(7)، والمحقق فی الشرایع (8)، والعلّامة فی القواعد و المختصر(9) أفتوا بعدم


1- اسدالغابه، ج 5، ص 348 ح 6401؛ کنز العمال، ج 4، ص 103، ح 9748.
2- من لا یحضره الفقیه، ج 3، ص 268، ح 3969.
3- نهج البلاغة، الکتاب 53.
4- دعائم الإسلام، ج 2، ص 36، ح 81.
5- کنز العمال، ج 4، ص 99، ح 9730.
6- مستدرک الصحیحین، ج 2، ص 11.
7- انظر: نهایة الأحکام، ص 374، المبسوط، ج 2، ص 195.
8- انظر: شرایع الأحکام، ج 2، ص 21 تحقیق عبدالحسین محمّد علی البقّال، مؤسسة المعارف الإسلامیّة، قم، الطبعة الاولی، 1415 ه ق.
9- قواعد الأحکام، ج 1، ص 132، المختصر، ص 120.

ص: 131

جواز التسعیر بصورة مطلقة بل إنّ صاحب مفتاح الکرامه (1) نسب هذا الرأی إلی الإجماع، فقد نسب إلی ابن حمزة فی الوسیلة(2)، والشهیدالأوّل فی اللمعه و الدروس (3)، والعلّامة فی المختلف (4)، وفخر المحققین فی الایضاح (5) و ... جواز التسعیر، من جهة أنّ البائع إذا عیّن قیمة ظالمة ومجحفة فإنّه یؤدّی الإضرار بالآخرین (6)، وکتب الإمام الخمینی قدس سره فی کتاب البیع «وأمّا التسعیر فلا یجوز ابتداءً، نعم لو أجحف الزم بالتنزُل، وإلّا ألزمه الحاکم بسعر البلد، أو بما یراه مصلحة ... والأخبار لا تشمل مثله»(7).

وذکر آیة اللَّه السیّد الخوئی فی کتابه مصباح الفقاهة: «نعم، لو أجحف البائع فی القیمة بحیث یعدّ من الإحتکار، منعه الحاکم إلی أن یبیع البضاعة بقیمة السوق أو أکثیر قلیلًا بما یستطیع الناس شراءها، مثلًا إذا کان سعر کیس القمح مائة فلساً وأراد المحتکر بیعه بدینارین، فهذا نوع من الاحتکار(8) کما لا یخفی»(9)


1- مفتاح الکرامة، مؤسسة آل البیت للطباعة والنشر، ج 4، ص 109.
2- المصدر السابق.
3- انظر: مفتاح الکرامة ج 4، ص 109.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق.
7- انظر: کتاب البیع، ج 3، ص 612.
8- وطبعاً هذا العمل لیس إحتکاراً اصطلاحیاً، بل له أضرارالإحتکار.
9- مصباح الفقاهة، ج 5، ص 500، دار الهادی، الکویت، الطبعة الأولی، 1412 ه ق.

ص: 132

بل یمکن القول إنّ الفقهاء الذین ذهبوا إلی تحریم التسعیر بشکل مطلق إنّما أرادوا هذا المعنی أیضاً.

ورغم أنّ فقهاء أهل السنّة أیضاً ادعوا الإتفاق علی عدم جواز التسعیر، وقد التزم بهذا الأصل (1) والشافعیة و الحنابلة، إلّاأنّ (2) 4 مالکیّة، 4 المالکیّة والحنفیة ذهبوا إلی جواز قیام الحاکم الشرعی بتسعیر البضائع الضروریة (/ الحاجیات)، من باب دفع الضرر عن الناس (3)، وقد ورد فی مقررات مؤتمر مجمع الفقه الإسلامی أیضاً: «لا یتدخّل ولی الأمر بالتسعیر إلّا حیث یجد خللًا واضحاً فی السوق والأسعار ناشئاً من عوامل مصطنعة، فإنّ لولی الأمر حینئذٍ التدخّل بالوسائل العادلة الممکنة التی تقضی علی تلک العوامل وأسباب الخلل والغلاء والغبن الفاحش»(4).

ولو تجاوزنا مسألة التسعیر، فثمّة أحکام أخری أیضاً وردت فی الشریعة الإسلامیّة تقرر علی الأقل أنّ إحدی الحِکم والغایات هی تحقیق الأمن الاقتصادی فی السوق الإسلامی.

وهذه الأحکام من قبیل حرمة الکذب فی المعاملات (5)، حرمة الخیانة للأمین (6)، حرمة أو کراهة خلف الوعد(7)، حرمة التدلیس (8)، حرمة الغشّ (9) حرمت التطفیف (10) حرمة الغبن (11) (/ خداع الشخص الذی اعتمد علی البائع)، کراهة القسم (12)، کراهة أو حرمة تغطیة العیب (13)، کراهة مدح البضاعة وإثارة السوق عند البیع (14)، کراهة ذم بضاعة الآخرین عند الشراء(15)، حرمة أو کراهة تلقی الرکبان (16)، کراهة التناجی (17) (/ رفع سعر البضاعة فی التنافس مع الآخرین)، کراهة بیع سکان المدینة لأهل البادیة(18) (بأخذ أموال أهل البادیة للإتجار بها)، وحرمة الإحتکار(19).

وبدیهی أنّ السوق أو المرکز التجاری الذی


1- انظر:: الفقه الإسلامی وأدلّته، ج 4، ص 2695.
2- المصدر السابق، ص 2695 و 2696.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق، ج 7، ص 5164.
5- کنز العمال، ج 4، ص 30، ح 9340 و 9341.
6- المصدر السابق.
7- المصدر السابق.
8- انظر: الکافی، ج 5، ص 153، ح 18.
9- انظر: سنن ابن ماجة، ج 2، ص 749، ح 2225؛ بحارالأنوار، ج 76، ص 365، ح 30.
10- انظر: سورة المطففین، آیات 1- 3؛ الکافی، ج 2، ص 374، ح 2 و سنن الکبری ج 6، ص 53، ح 11166.
11- المعجم الکبیر، ج 8، ص 127، ح 7576.
12- الکافی، ج 5، ص 150، ح 2.
13- المصدر السابق.
14- المصدر السابق.
15- المصدر السابق.
16- صحیح مسلم، ج 3، ص 1155، ح 11؛ وفی النهایة لابن الأثیر مادّة« لقی» ونقرأ فی تفسیر تلقّی الرکبان:« هو أن یستقبل الحضریّ البدویّ قبل وصوله إلی البلد ویخبره بکساد ما معه کذباً لیشتری منه سلعته بالوکس وأقلّ من ثمن المثل».
17- صحیح مسلم، ج 3، ص 1155، ح 11.
18- المصدر السابق.
19- المعجم الکبیر، ج 22، ص 382، ح 952؛ الکافی، ج 5، ص 165، ح 6.

ص: 133

یتضمّن هذه المجموعة من الأحکام الواقیة، فإنّ النشطاء الاقتصادیین یستطیعون بطیب خاطر وأمن نفسانی، أن یعرضوا بضاعتهم فی السوق بعیداً عن أی تهدید واستغلال، وبالتالی یؤدّی ذلک إلی تقویة عوامل الرشد والنمو فی المجتمع الإسلامی.

وطبعاً هناک مسائل أخری تساهم فی تحقیق هذا الغرض المهم، ومنها:

أ) الاستقلال والاکتفاء الذاتی الاقتصادی الذی یعدّ بنفسه أحد أهداف الاقتصاد الإسلامی وسیأتی بیانه فی البحوث اللاحقة، ولا شک أنّ التبعیة وإرتباط البلد الإسلامی بالبلدان الأجنبیة یعدّ تهدیداً جدّیاً للأمن الاقتصادی وخاصة إذا کان هذا الإرتباط فی حقل البضائع الأساسیة کالقمح وسائر المحصولات العامّة، وفی هذه الصورة فإنّ البلد التابع سیتعرض دوماً إلی الضغوط الاقتصادیّة وعوامل الابتزاز الاقتصادی، لأنّ یجد نفسه مضطراً إلی اتباع سیاسات البلدان المتبوعة فی نشاطاته الاقتصادیّة.

ب) إلفات نظر النشطاء الاقتصادیین بما ورد فی مبنی الاقتصاد الإسلامی، أعم من المبانی الاعتقادیة، الأخلاقیّة، الحقوقیّة، العبادیّة والاجتماعیّة.

ومعلوم أنّ النشطاء الاقتصادیین فی السوق وسائر المراکز التجاریّة الأخری وفی جمیع معاملاتهم ونشاطاتهم الاقتصادیّة إذا راعوا أصول من قبیل: 1.

إنّ الرازق هو اللَّه تعالی 2. إنّ الرزق مقدّر، ولا ینبغی سلوک الطرق المحرمة بدلًا من الطرق المشروعة. 3.

إنّ الحرص لا یزید فی الرزق. 4. إنّ الرزق مضمون لکلّ طالب. 5. إنّ التقوی والتوکل علی اللَّه تعالی فی النشاطات الاقتصادیّة یتسبب فی تحصل الرزق و ...، فلا یتحرک النشطاء بعد ذلک للقیام بما یربک الحرکة الاقتصادیّة ولا یقعون ضحیة الضغوط والتهدیدات الاقتصادیّة للأعداء وبالتالی تزداد حالة الأمن الاقتصادی فی المجتمع.

ج) وقد ورد فی الآیات والروایات الشریفة إلتفات للموانع والآفات علی المستوی الأمنی، سواءً الموانع الأخلاقیّة أو الاجتماعیّة والعملیّة، من قبیل الروایات التی تذم الحرص والطمع وأنّ الإنسان الحریص محروم من الشعور بالغنی وعدم الحاجة(1)، والروایات التی تتحدّث عن الحسد وتأثیره فی إیجاد الخلل والإرباک فی الحیاة الاجتماعیّة(2)، الروایات التی تتحدّث عن الکذب وتأثیره فی إیجاد الفقر وقلّة الرزق (3)، والروایات والآیات التی تتحدّث عن کفران النعمة وحالة البطر فی النعمة(4)، والروایات التی تتحدّث عن الاختلافات والفرقة وتأثیرها فی اضطراب الأمور(5)، والروایات التی تتحدّث عن قطع الرحم وتأثیره فی إزالة النعمة(6)، والآیات والروایات التی تتحدّث عن الربا وتأثیره فی ازدیاد الظلم والفساد وفناء الثروة(7)، والروایات التی تتحدّث عن اللجوء إلی الظالمین ومساعدة حکّام الجور وتأثیرها فی إیجاد حالات الفقر والرعب (8)، والروایات التی تتحدّث عن عدم الاهتمام بالفقراء والتفاخر بالأموال وتأثیرها فی خیانة المسؤولین وتکریس سلطة الأجانب (9)، وأیضاً الروایات التی تتحدّث عن التکاثر والتسابق فی الغلاء وزیادة الأسعار وتأثیرها فی تشدید حالات البغی والظلم (10)، وأخیراً الروایات والآیات التی تتحدّث عن الذنوب بشکل عام وتأثیرها فی تعمیق حالات الفساد والانحطاط(11).

وهذه الأمور المذکورة تعد من مسببات إنعدام الأمن الاقتصادی بشکل مباشر أو غیر مباشر، علی سبیل المثال أنّ أحد الآثار العملیّة للحسد ما یقوم به الشخص الحسود فی إیجاد المعیقات للنشاط الاقتصادی للعاملین، وهذه المعیقات وإلقاء العصا فی عجلة الاقتصاد تعدّ من جملة الآثار المخربة فی إزالة حالة الأمن الاقتصادی من فضاء المجتمع.

4. النظام السیاسی والثقافی

ممّا لا شک فیه الیوم أنّ ثمة علاقة أساسیة فیما یتصل بالمسائل السیاسیّة وعلاقتها مع المسائل الاقتصادیّة، فالبلد الذی یرید أن یعیش الاستقلال فی نظامه السیاسی لابدّ له من تقویة وتنمیة اقتصاده


1- انظر: غرر الحکم، ح 6635 و 6633.
2- انظر: غرر الحکم، ح 6826 و 6857.
3- انظر: کنز العمال، ج 3، ص 623، ح 8220 عن رسول اللَّه، و أمالی المفید، ص 310، ح 2 تحقیق الاستاذ ولی وعلی أکبر الغفاری، مؤسسة النشر الإسلامی، قم، الطبعة ا لثانیة، 1404 ه ق.
4- انظر: سورة النحل، الآیة 112؛ غرر الحکم، ح 10412.
5- انظر: غرر الحکم، ح 10741.
6- انظر: المصدر السابق، ح 9321.
7- انظر: من لا یحضره الفقیه، ج 3، ص 566، ح 4934.
8- انظر: مجموعة الورّام، أبوالحسین الورّام بن أبی فراس، التوفی 605 ه، دار التعارف ودار صعب، بیروت، عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله، و کنزالعمال، ج 16، ص 80، ح 44010 عن رسول اللَّه؛ أمالی الصدوق، ص 384، ح 493.
9- انظر: مستدرک الصحیحین، ج 4، ص 361، عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله.
10- انظر: المصدر السابق، ص 186.
11- انظر: سورة الروم، الآیة 41؛ سورة طه، الآیة 124؛ سورة الشوری، الآیة 30؛ و الخصال، ص 616، ح 10.

ص: 134

بشکل مناسب بحیث یصل إلی مرتبة الاکتفاء الذاتی والاقتدار الاقتصادی.

ومع التدقیق فی أسباب التبعیة للکثیر من البلدان من الجهة السیاسیّة، نصل إلی هذه النتیجة، وهی أنّ العامل الأساس لهذه التبعیة والإرتباط بالأجنبی، الحاجات المالیّة وعدم الاکتفاء الذاتی فی مجال الاقتصادی لهذه البلدان.

وعلی هذا الأساس فلو تقرر، وعلی أساس الحدیث النبوی:

«الإسلام یعلو ولا یعلی علیه»(1)

، أن تکون الامّة الإسلامیّة ذات سیادة مستقلة واعتبارنا أنّ هذا الأصل رکناً أساسیاً فی الثقافة الدینیّة، وأنّ فقهاء الإسلام من خلال الاستدلال بهذه الروایة أفتوا بأنّ الإسلام لا یقبل حتی بعلو دار الکافر الذمی علی دور المسلمین (2)، وإذا کان المسلمون، وطبقاً للآیة الشریفة:

«وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِّنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِّبَاطِ الْخَیْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّکُمْ»(3)

، مأمورین بتوفیر الحدّ الأعلی من قواهم وقدراتهم إلی درجة أنّ الأعداء سیخافون من التعرض للمسلمین والعدوان علیهم، ولو فهمنا أنّ اللَّه تعالی (4)، وعلی أساس الآیة:

«وَلَنْ یَجْعَلَ

اللَّهُ لِلْکَافِرِینَ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ سَبِیلًا»(5)

، لا یرضی بأی نحو من أنحاء الاستیلاء والتسلط من قِبل الکفّار علی المؤمنین، فیجب علی الناشطین الاقتصادیین فی الامّة الإسلامیّة أن یتحرکوا علی مستوی إیجاد البرامج الاقتصادیّة بحیث یوصلون الامّة الإسلامیّة إلی مرتبة الاکتفاء الذاتی والاستقلال الاقتصادی، ویتخلصوا بالتالی من ذلة التبعیة والارتباط بالأجانب.

ولا شک أنّ تحقیق هذا الهدف سیوفر الأرضیة المناسبة لتحقق البعض الآخر من أهداف الاقتصاد الإسلامی، مثل الرفاه العام، العدالة والتنمیة الاجتماعیّة والأمن الاجتماعی والأمن الاقتصادی أیضاً، وعلی هذا الأساس فی صورة التزاحم ودوران الأمر بین الحاکمیّة السیاسیّة وتلک الأهداف السامیة، فیجب علی الامّة الإسلامیّة ولغرض تحقق وبقاء هذا الهدف أو الوصول إلیه، تحمل المشکلات والمعاناة الناشئة من فقدان الأهداف الأخری مثل الرفاه والأمن، وهذا هو الشی ء الذی ورد فی قصّة شعب أبی طالب فی صدر الإسلام، وفی العصر الحاضر ما نراه من المحاصرة الاقتصادیّة والعسکریة لبعض البلدان الإسلامیّة من قِبل قوی الهیمنة والاستکبار العالمی.

ومن مظاهر ولوازم عدم الاکتفاء الذاتی فی مجال الاقتصاد، أنّ الکثیر من المجتمعات الإسلامیّة فی العالم المعاصر أصبحت مظهراً من مظاهر جلب المعونات والقروض الخارجیة، إنّ رؤوس الأموال التی تأتی من البلدان الثریّة بذریعة الاستثمار وإیجاد التنمیة الاقتصادیّة فی البلدان الفقیرة، فإنّ الآثار المخربة لهذا النوع من المعونات یمس استقلال النظام السیاسی فی هذه البلدان المقترضة وإیجاد سدٍّ أمام


1- من لا یحضره الفقیه، ج 4، ص 334، ح 5719.
2- انظر: تذکرة الفقهاء، ج 9، ص 344؛ جواهر الفقه، ص 51؛ جواهرالکلام، ج 21، ص 284.
3- سورة الأنفال، الآیة 60.
4- انظر: اقتصادنا، ص 39. یقول الشهید الصدر( قدس اللَّه نفسه): إنّ عموم« ما استطعتم من قوّة» شامل للاستعداد الاقتصادی أیضاً.
5- سورة النساء، الآیة 141.

ص: 135

الأیدیولوجیات المخالفة لثقافة البلدان الغنیة، وحفظ الحکومات التابعة والتی تدور مدارها فی الحقل السیاسی، وتوفیر الأرضیة لبیع المنتجات الصناعیّة للبلدن المقرضة، وبالتالی نهب أکثر لخیرات بلدان العالم الثالث فی الجانب الاقتصادی.

وفیما یتصل بالآثار المخربة، فأوّل کلام یطرح فی هذا المجال هو ما تحدّث به عالم الاقتصاد المشهور «بیرجاله»: «إنّ إسداء المعونة لبلدان العالم الثالث لا یحسب مجاناً، ومن السذاجة أن ننکر الدوافع السیاسیّة أو التجاریّة لهذه المعونات، وأحیاناً تستلم الدول الفقیرة مساعدات فنیّة، وأحیاناً أخری مجرد التعاون، ویتفق أنّ المعطین لهذه المعونات یقومون بعملیات مخادعة لغرض أن یظهر أحدهم للبلدان المتخلفة أنّه أکرم من الآخرین وأکثر تعاطفاً معها، وبإلقاء نظرة إجمالیة علی الخارطة الجغرافیة یتبیّن أنّ البلدان التی لا تحظی بقیمة عسکریة استراتیجیة، فإنّها تستلم معونات أقل من البلدان الأخری»(1).

وفیما یتعلق بالآثار المخربة الثانیة نستعرض ما ورد فی صحیفة المکافه التی تصدر فی المغرب فی اکتبر 1964، فضمن بیان وتحلیل معونات فرانسا إلی المغرب، وأنّ بعضاً من هذه المعونات حصل علیها المغرب بعنوان «معونات إلزامیة» تقول الصحیفة: «إنّ الغرض الوحید للدول المقرضة فی إرسال البضائع والمنتوجات الصناعیّة لتلک البلدان تأمین السوق لها والتی یجب تسدید ثمنها فی موارد معینة بالتوافق فی تعیین زمان من الدفع»(2).

والملفت للنظر أنّ بعض العلماء فی المسائل الاقتصادیّة یعتقدون أنّ سبب عدم اقتدار وعدم الوصول إلی مرحلة الاکتفاء الذاتی الاقتصادی فی هذه البلدان لا یکمن فی أصل القروض والمعونات الخارجیّة، بل فی الشروط والقیود التی یضعها المقرضون مع هذه المعونات، من قبیل شرط لغو القیود الجمرکیة وما یتبعه من موت الکثیر من الصنائع الشابة المحلیّة کما فی قرض 100 ملیون دولار من أمریکا إلی برازیل فی عام 1964.

وهذا النوع من القرض، له آثار مخربة فی البُعد الاقتصادی کما فی: أ) العجز فی المیزانیة التجاریّة وزیادة الواردات علی الصادرات. ب) زیادة البطالة.

ج) زیادة الفقر والمجاعة، وفی البعد السیاسی تتسبب فی الاضطراب والعنف وعدم الاستقرار السیاسی، وفی البعد الثقافی هجوم الثقافة المادیّة وما یعبر عنه بالغزو الثقافی الغربی (3).

5. سیادة القیم المعنویّة والأخلاقیّة

بالرغم من أنّ بعض القیم الأخلاقیّة تعدّ من «مبانی الاقتصاد الإسلامی» وقد تقدّم الحدیث عنها فی الفصل السابق (الفصل: مبانی الاقتصاد الإسلامی)


1- انظر: الفقر والتنمیة( فقر وتوسعه) بالفارسیّة، ج 3، ص 227 نقلًا عن« اسناد مجله عالمین، العدد نوامبر 1962 عن کتاب نهب العالم الثالث( غارت جهان سوم) بالفارسیّة» تألیف ییرجاله، ص 78.
2- المصدر السابق، ص 80.
3- انظر: الفقر والتنمیة( فقر و توسعه) بالفارسیّة، ج 3، مقالة القروض والمعونات الخارجیة، ص 235- / 238.

ص: 136

تحت عنوان «حفظ کرامة الإنسان و عزّته النفسانیة»، وتقدّم بیان نقاط مهمّة فی هذا المجال، ولکن ممّا لا شک فیه أنّ هذا المعنی یعدّ من الأهداف أیضاً، یعنی أنّ الإسلام والحکومة الإسلامیّة یریدان من إقامة النظام الاقتصادی، تحکیم السیادة المعنویّة والقیم الأخلاقیّة فی ثقافة المجتمع الإسلامی.

وقد أمر القرآن الکریم بالابتعاد عن القذارات والخبائث الظاهریة والباطنیة فی الأطعمة وأکد علی مقولات من قبیل «الطیّبات» و «حلالًا طیّباً» إلی جانب دعوته للشکر:

«یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا کُلُوا مِنْ طَیِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاکُمْ وَاشْکُرُوا للَّهِ إِنْ کُنتُمْ إِیَّاهُ تَعْبُدُونَ»(1)

أو فی توصیته الأکیدة بعدم اتباع الشیطان فی هذا المجال:

«یَا أَیُّهَا النَّاسُ کُلُوا مِمَّا فِی الْأَرْضِ حَلَالًا طَیِّباً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّیْطَانِ إِنَّهُ لَکُمْ عَدُوٌّ مُبِینٌ»(2)

واجتناب الفساد فی الأرض:

«کُلُوا وَاشْرَبُوا

مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِی الْأَرْضِ مُفْسِدِینَ»(3)

أو توصیاته بتقوی اللَّه تعالی فی مسألة الأطعمة:

«وَکُلُوا مِمَّا رَزَقَکُمْ اللَّهُ حَلَالًا طَیِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِی أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ»(4)

وفی مورد آخر أمر اللَّه تعالی إلی جانب الاستفادة من نعم اللَّه ومواهبه بدفع الحقوق المالیّة واجتناب الإسراف:

«... کُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ یَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَایُحِبُّ الْمُسْرِفِینَ»(5)

أو «أکل من الطیّبات» إلی جانب «العمل الصالح» حیث تخاطب الآیة الکریمة جمیع الأنبیاء علیهم السلام:

«یَا أَیُّهَا الرُّسُلُ کُلُوا مِنْ الطَّیِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّی بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِیمٌ»(6).

وعندما یرید القرآن الکریم تصویر النظام الاقتصادی المزدهر لقوم سبأ، فإنّه أولًا: یقرر التوجه إلی التقدم الاقتصادی بوصفه المظهر الوحید للتطور المادی فی مجال «السکن» ویذکر مساکنهم بوصفها آیة کبیرة من آیات اللَّه تعالی، لأنّهم بقیامهم ببناء السدود استطاعوا إعاقة السیول المخربة وبالتالی ساهم ذلک فی إعمار بلادهم وإزدهار اقتصادهم:

«لَقَدْ کَانَ لِسَبَإٍ فِی مَسْکَنِهِمْ آیَةٌ»(7).

ثانیاً: أنّه طالبهم بمقولة «الشکر» کقیمة معنویّة إلی جانب الاستفادة المادیّة والدنیویّة لمواهب اللَّه تعالی:

«کُلُوا مِنْ رِّزْقِ رَبِّکُمْ وَاشْکُرُوا لَهُ»(8).

ثالثاً: یتحدّث عن عمران مدنهم بعبارة «بلدة طیّبة» التی إزدهر فی فضائها قیم الشکر وسیادة المعاییر الدینیّة والأخلاقیّة، وربّما یندرج فی ضمن هذه القیم غفران اللَّه تعالی، تقول الآیة:

«بَلْدَةٌ طَیِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ»(9).

رابعاً: یتحدّث القرآن الکریم عن إفرازات کفران النعمة الوخیمة والعقوبة الناتجة من عدم اهتمام بالطبقة المحرومة التی عادت علیهم بالوبال والخرب، فتقول الآیة إنّهم بسبب غفلتهم عن اللَّه تعالی ونسیانهم القیم


1- سورة البقرة، الآیة 172.
2- سورة البقرة، الآیة 168.
3- سورة البقرة، الآیة 60.
4- سورة المائدة، الآیة 88.
5- سورة الأنعام، الآیة 141.
6- سورة المؤمنون، الآیة 51.
7- سورة سبأ، الآیة 15.
8- سورة سبأ، الآیة 15.
9- سورة سبأ، الآیة 15.

ص: 137

الأخلاقیّة والمعنویّة فإنّهم عاشوا سکر النعمة وکان أغنیاؤهم یفخرون علی فقراءهم ویزدرونهم ولهذا السبب حلّت بهم العقوبة الإلهیّة:

«فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَیْهِمْ سَیْلَ الْعَرِمِ»(1)

، بحیث إنّ بساتینهم الواسعة والمزدهرة بالأشجار المثمرة باتت بساتین خربة وثمار مرّة وأشجار ذابلة وتبدلت حدائقهم وجناتهم إلی أرض قاحلة لیست بذات قیمة:

«وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَیْهِمْ جَنَّتَیْنِ ذَوَاتَی أُکُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَیْ ءٍ مِّنْ سِدْرٍ قَلِیلٍ

* ذَلِکَ جَزَیْنَاهُمْ بِمَا کَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِی إِلَّا الْکَفُورَ»(2).

وممّا تقدّم یتبیّن أنّ القرآن الکریم یصر علی أنّ النظام الاقتصادی فی المجتمع الدینی والإلهی یجب أن یسیر فی خدمة رشد وتعالی القیم والمعنویات لأفراد المجتمع وأنّ الحکومة الإسلامیّة لا ینبغی لها من أجل تحقیق الأهداف الاقتصادیّة کإزالة الفقر وإیجاد الرفاه والعدالة، أن تغفل عن القیم الأخلاقیّة وتسحق الأمور المعنویّة، بل یجب علیها تحکیم وتکریس القیم فی فضاء المجتمع وتجعلها علی رأس الأهداف الاقتصادیّة وخاصّة عندما نری أنّ القرآن الکریم یعلن بصراحة أنّ أحد الأهداف فی الواجبات المالیّة کالزکاة هی طهارة النفس والتزکیة الروحانیّة

«خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَکِّیهِمْ بِهَا»(3)

وعلی هذا الأساس فإنّ فقهاء الإسلام ذهبوا فی فتاواهم إلی لزوم التقرب إلی اللَّه فی دفع الواجبات المالیّة فی الإسلام کشرط من شروط صحة هذه العبادة، وأنّ الخمس والزکاة والصدقات تندرج فی دائرة العبادة الدینیّة.

ویتبیّن أهمیّة هذه الحقیقة أکثر عندما نلاحظ أولًا: إنّ أهداف النظام الاقتصادی الکلیّة هی الوصول إلی الاکتفاء الذاتی فی المسائل المالیّة وخاصّة فی الموارد الضروریة للحیاة کالمسکن والمواد الغذائیّة، وثانیاً: إنّه یلفت نظرنا إلی هذه الحقیقة، وهی مسألة التأثیر المتقابل للجسم والروح، وأنّ التعالیم الدینیّة فی الرؤیة للحیاة الدنیا، وأحد مصادیقها البارزة هو «المال» بشکل عام، والمواد الغذائیّة بشکل خاص، ولها دور بارز فی تقویة وتکریس القیم المعنویّة، وعلی سبیل المثال ما ورد فی الروایات الشریفة:

أ) إنّ أفضل زاد للآخرة وأعلی قیمة معنویّة هی «الدنیا الحلال والمعقولة»:

«نعم العون، الدنیا علی الآخرة»(4).

ب) یری الإمام الصادق علیه السلام، أنّ الرزق الواسع والحلال الطیب ممّا یساعد علی تحصیل الآخرة والقیم الدینیّة، ویسأل اللَّه تعالی أن یرزقه منها:

«اللّهم إنّی أسألک من فضلک الواسع الفاضل المفضّل رزقاً واسعاً حلالًا طیباً بلاغاً للآخرة والدنیا هنیئاً مریئاً»(5).

ج) ویری النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّ القمح والخبز وهی العناصر الأصلیّة للاقتصاد فی الکثیر من المجتمعات البشریّة، أمر مبارک:

«إنّ الخبز مبارک أرسل اللَّه عزّ


1- سورة سبأ، الآیة 16.
2- سورة سبأ، الآیة 16 و 17.
3- سورة التوبة، الآیة 103.
4- الکافی، ج 5، ص 73، ح 15 عن الإمام الباقر والصادق علیهما السلام.
5- مستدرک الوسائل، ج 13، ص 40.

ص: 138

وجلّ له السماء مدراراً وله أنبت المرعی»(1)

، ووسیلة لإقامة الصلاة والصیام: (

فلولا الخبز ما صلّینا ولا صمنا)(2)

وسبب موصل لحج بیت اللَّه الحرام:

«وبه-

الخبز- حججتم بیت ربّکم»(3)

وأداء سائر الفرائض:

«فلولا الخبز ... ولا أدّینا فرائض ربّنا عزوجل»(4)

، ویری الإمام الصادق علیه السلام أنّ رأس المعاش والحیاة المادیّة للإنسان الخبز والماء:

«إنّ رأس معاش الإنسان وحیاته الخبز والماء»(5).

وفی روایة أخری یأمر رسول اللَّه صلی الله علیه و آله بإکرام الخبز واحترامه ویقول:

«أکرموا الخبز وعظّموه، فإنّ اللَّه تبارک وتعالی أنزل له برکات من السماء وأخرج برکات الأرض؛ من کرامته أن لا یُقطع ولا یوطأ»(6)

، ویقول الإمام الصادق علیه السلام فی تعلیل إکرام الخبز:

«أکرموا الخبز فإنّ اللَّه أنزل له کرامة»(7).

د) وینقل الإمام الصادق علیه السلام عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أنّ النّبی کان یری ملازمة بین سوء الخلق، وهو من


1- الکافی، ج 6، ص 303، ح 6.
2- المصدر السابق، ج 5، ص 73، ح 13.
3- المصدر السابق، ج 6، ص 303، ح 6.
4- المصدر السابق.
5- بحار الأنوار، ج 3، ص 87.
6- المصدر السابق، ج 63، ص 271.
7- المصدر السابق، ج 75، ص 206.

ص: 139

المسائل الروحیّة والأخلاقیّة، وعدم أکل اللحم بمقدار لازم:

«علیکم باللحم فإنّ اللحم یُنمی اللحم ومن مضی به أربعون صباحاً لم یأکل اللحمَ ساء خلقه ومن ساء خُلقه فأطْعموه اللحّم»(1).

وأخیراً ینقل الإمام الصادق علیه السلام عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله قال: (

من أتی علیه أربعون یوماً ولم یأکل اللحم فلیقترض علی اللَّه ولیأکله»(2).

ه) ونقل الإمام الباقر علیه السلام عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله فیما یتصل بأهمیة اللبن وأنّ النّبی کان یدعو اللَّه بعد کلّ طعام وشراب:

«اللّهم بارک لنا فیه وأبدِلنا به خیراً منه»

ولکن بعد أن یتناول اللبن بدلًا أن یطلب من اللَّه خیراً منه فإنّه یطلب اللَّه الزیادة منه ویقول:

«اللّهم بارک لنا فیه وزدنا منه»(3)

، وهذا دلیل علی أنّه لا شی ء یحلّ محلّ اللبن فی قیمته وفائدته.

و) وفی روایة عن الإمام الصادق علیه السلام عن أمیرالمؤمنین علیه السلام، إنّ قوّة الجسم نتیجة تناول الحلیب واللحم ویقول:

«إذا ضعف المسلم فلیأکل اللحم واللبن فإنّ اللَّه عزّ وجلّ جعل القوّة فیهما»(4).

ز) وورد فی روایة أنّ الإمام الصادق علیه السلام کان یحمل إلی عیاله کلّ فاکهة عامّة:

«لا تکون فاکهة عامّة إلّا أطعم عیالَه منها»(5).

ح) وجاء فی روایات عدّة التأکید علی الخضروات والحبوبات وخاصّة علی العسل والزیتون (6)، بل ورد فی روایة عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال:

«لا ینبغی أن یُفْقِرَ (الرجل) بَیْته من ثلاثة أشیاء دهن الرأس والخَلّ والزیت»(7).

ط) وأخیراً بالالتفات إلی التأثیر المتقابل للجسم والروح، ومع الالتفات إلی ما ذکره إسحاق بن عمّار فی ذیل الآیة:

«خُذُوا مَا آتَیْنَاکُمْ بِقُوَّةٍ»(8)

وبعد سؤاله عن المراد من هذه الآیة، هل «القوّة فی الأبدان» أو «القوّة فی القلوب؟» قال الإمام الصادق علیه السلام فی جوابه:

«فیهما جمیعاً»

یعنی أنّ اللَّه تعالی فی هذه الآیة الشریفة أمر بتأمین الحاجات الجسمانیة وکذلک الحاجات الروحیة والقلبیة.

ومع الالتفات إلی کلّ هذه الموارد یتبیّن أنّه یجب علی المجتمع الإسلامی والحکومة الدینیّة تحقیق السلامة الروحیة للأفراد وتحکیم القیم الأخلاقیّة والمعنویّة کطریق ووسیلة لتحقق الاقتصاد السالم والإزدهار والحیاة الطیبة، وذلک من خلال التأکید علی ضرورة توفر مواد غذائیة خاصّة، وهذا یعنی فی الحقیقة مجموعة من الأمور التی ترتبط بها الحیاة المادیّة للإنسان ولابدّ منها فی عملیّة إیجاد الاقتصاد السلیم.

ولو تجاوزنا مسألة التأثیر المتقابل بین الجسم والروح، فثمة نقطة أخری جدیرة بالاهتمام، وهی أنّ تحصیل القیم المعنویّة یستدعی توفر الهدوء الروحی وفراغ البال، ومن معلوم أنّ وصول الفرد والمجتمع إلی حدّ الکفاف والاکتفاء المالی وعلی الأقل إلی حدّ المرتبة اللازمة للحیاة، له تأثیر کبیر فی تحقق هذه الحالة من الهدوء النفسی والاستقرار الروحی، ونقرأ فی روایة عن الإمام الرضا علیه السلام:

«إنّ الإنسان إذا ادّخر طعام سنة خفّ ظهره واستراح وکان أبوجعفر علیه السلام وأبوعبداللَّه علیه السلام لا یشتریان عُقدة حتی یُحْرز اطعام سنتهما»(9)

، وطبعاً هذا یتعلق بزمان کان فیه الناس ملزمون لأسباب اجتماعیة خاصّة إدّخار مؤونتهم السنوی.

ومضافاً إلی النقطتین أعلاه فإنّه لا یخفی علی أحد ضرورة حفظ شؤون کلّ أفراد المجتمع الإسلامی ودور هذا المعنی فی تحصیل العزّة والکرامة النفسانیّة والشخصیّة الإنسانیّة فی واقع الحیاة الاجتماعیّة.

ونقرأ فی روایة عن رسول اللَّه أنّ جمیع ما ینفق من أجل حفظ نفوس الناس وکرامتهم یعدّ قیمة دینیّة وصدقة:

«کلّ معروف صدقة وکلّ ما انفق المرء من نفقة علی نفسه وعیاله واهله کتب له بها صدقة وما وقی به الرجل عرضه کتب له صدقة»(10).

بل ورد فی روایة عن أمیرالمؤمنین أنّ أفضل عمل هو حفظ عرض وحیثیة الإنسان بواسطة المال:

«أفضل الفعال صیانة العرض بالمال»(11)

وفی حدیث آخر عن علی بن موسی الرضا علیه السلام أنّ أفضل المال ما وقی به العرض:

«أفضل المال ما وُقی به العرض»(12).

وعلی هذا الأساس یجب علی الحکومة الدینیّة من خلال الإنفاق من بیت المال القیام بإقدامات لازمة


1- وسائل الشیعة، ج 17، ص 26، ح 6.
2- المصدر السابق، ح 3.
3- الوافی، ج 3، ص 49.
4- الخصال، ج 2، ص 617؛ وسائل الشیعة، ج 17، ص 17، ح 43.
5- الکافی، ج 5، ص 512، ح 5.
6- انظر: تحف العقول، ص 249؛ وسائل الشیعة، ج 17، ص 17، ح 43؛ الکافی، ج 5، ص 512، ح 5.
7- الکافی، ج 5، ص 512، ح 5.
8- سورة البقرة، الآیة 63.
9- الوافی، ج 3، ص 17.
10- مستدرک الوسائل، ج 15، ص 268.
11- الکافی، ج 4، ص 49، ح 14.
12- بحار الأنوار، ج 75، ص 7.

ص: 140

ومؤثرة فی هذا المجال وبذلک تأخذ بید الأشخاص الذین لا یستطیعون العمل ویعیشون الفقر والفاقة ودون المستوی العام فی المجتمع وتحفظ لهم بذلک حیثیتهم وشخصیتهم الاجتماعیّة وکرامتهم الإنسانیّة.

یقول أبوبصیر: قلت لأبی عبداللَّه (الإمام الصادق علیه السلام): إنّ شیخاً من أصحابنا یقال له عمر، سأل عیسی بن أعین- وهو محتاج- فقال له عیسی: أمّا أن عندی من الزکاة ولکن لا أعطیک منها، فقال له: ولم؟

قال: لأنّی رأیتک اشتریت لحماً وتمراً فقال: إنّما ربحتُ درهماً فاشتریت بدانقین لحماً وبدانقین تمراً ورجعتُ بدانقین لحاجة. قال (أبوبصیر): فوضع ابوعبداللَّه علیه السلام: یده علی جبهته ساعة ثمّ رفع رأسه ثمّ قال:

«إن اللَّه تبارک وتعالی نظر فی أموال الأغنیاء ثمّ نظر فی الفقراء فجعل فی أموال الأغنیاء مایکتفون به ولو لم یکفهم لزادهم بل یعطیه ما یأکل ویشرب ویکسی ویتزوّج ویتصدّق ویحجّ»(1).

والانصاف أنّ مثل هذه الشریعة وبمثل هذه الکرامة وسعة الصدر من شأنها أن تکون شریعة خالدة وتنطبق علی کلّ زمان ومکان ولکافة مناحی الحیاة الفردیة والاجتماعیّة.

6. عمران وإحیاء الأرض

(جمیع العالم)

إنّ مسألة العمران والإحیاء، سواءً بإضافة البلد إلیها یعنی «عمارة البلاد»، أو بإضافة الأرض إلیها یعنی عمارة الأرض، وقعت مورد عنایة التعالیم الدینیّة، ولا شک أنّه فی ذات الوقت الذی تکون فیه من أهداف النظام الاقتصادی فی الإسلام، فإنّها تعدّ أحد الأصول التطبیقیّة فی النظام الاقتصادی للوصول إلی هدف الرشد الاقتصادی والأهداف الأخری مثل إزالة الفقر وتحقیق الرفاه العام والعزّة الوطنیة والاستقلال الاقتصادی أیضاً

لأنّه مع إعمار وإحیاء منطقة معینة وبلد معین والقیام بإنشاء مشاریع تنمویة من قبیل إیجاد شبکة النقل وبناء وتشیید الطرق والجسور وتوفیر الطاقة المناسبة للمصانع والمعامل، بناء السدود، توفیر الأسواق، والمعارض الدولیة وتهیئة الفضاء المناسب للمعاملات التجاریّة وعرض الخدمات الفنیّة، فإنّه یساهم من جهة فی تقویة وترشید الاقتصاد وزیادة العوائد المالیّة للکسبة والتجّار وجمیع النشطاء الاقتصادیین، وهذه تعد من جملة أهداف النظام الاقتصادی، وبتبع ذلک تتوفر الأرضیّة المناسبة لزیادة العوائد المالیّة للحکومة، وهذا أیضاً یعدّ من الأهداف الاقتصادیّة المهمّة فی دائرة النظام الاقتصادی.

ومن جهة أخری فمن المعلوم أنّ الإسلام یهدف إلی تنمیة وترشید الاقتصاد لغرض إعمار وإحیاء الأرض أکثر، یعنی توفیر الأرضیة للتنمیة الزراعیّة والصناعیّة والتجاریّة لکلّ ما یؤمن الرفاه فی واقع الحیاة الدنیویّة (من قبیل المال، الکهرباء، البیئة)، لیتسنی من هذا الطریق تحقیق هذه الأهداف والوصول إلی أهداف مادیّة ومعنویّة أخری، وبهذا البیان فإنّ عملیّة العمران فی ذات کونها من الأهداف


1- الکافی، ج 3، ص 556، ح 2.

ص: 141

الاقتصادیّة، فإنّه تعدّ من الأصول التطبیقیّة أیضاً، کما أنّ التنمیة الاقتصادیّة أیضاً فی ذات کونها من الأهداف، فإنّها تعدّ أصلًا من الأصول التطبیقیة، وسیأتی المزید من التفصیل فی هذه المسألة فی الفصل الثالث.

ویتبیّن ممّا تقدّم الوجه لما ذکره بعض علماء الاقتصاد فی مسألة «العمران والإحیاء» بوصفها أحد الأهداف الاقتصادیّة(1) وأنّ البعض الآخر عدّها من جملة الأصول التطبیقیة(2).

وعلی أیة الحال فالآیة الشریفة التی تقول:

«هُوَ أَنشَأَکُمْ مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَکُمْ فِیهَا»(3)

تعدّ لافتة واضحة علی أنّ إعمار الأرض یعد من أهداف النظام الاقتصادی فی الإسلام، وبالرغم من أنّ الدلیل العقلی أیضاً یدلّ علی هذه المقولة بشکل جلی، لأنّه إذا کانت الأرض تعتبر مهداً لحیاة الإنسان، وأنّ جمیع الأهداف المعنویّة لحیاة الإنسان من شأن التحقق فی مثل هذا الفضاء، فطبعاً یجب توفیر مقدمات هذه الحیاة ومستلزماتها، ومن الواضح أنّ هذا المعنی لا یتیسر من خلال تخریب الأرض واهمالها.

والنکتة العقلیة والعقلائیة الأخری فی هذا المجال، البیان الدقیق الوارد فی کتاب أمیرالمؤمنین علیه السلام علیها السلام لک الأش الله اکبر ر، رحمهم الله لمالک الأشتر وهو أنّ المنابع والدعائم الأصلیّة للنظام الاقتصادی تتمثّل فی الخراج والضرائب، ومثل هذا المنبع لا یتیسر بدون إعمار الأرض وإحیائها، یقول علیه السلام:

«ولیکن نظرک فی عمارة الأرض أبلغ من نظرک فی استجلاب الخراج لأنّ ذلک لا یدرک إلّا بالعمارة».

ویقول الإمام علیه السلام فی سیاق هذه التوصیة، إنّ النظام الاقتصادی والحکومة الإسلامیّة التی لا تهتم بعمران وإحیاء الأراضی الزراعیّة وتکرس همها فی جمع الخراج فإنّها تواجه ثلاث نتائج سلبیة:

الاولی: تخریب الأراضی، لأنّ حرکة الإعمار والإحیاء لا تتیسر بدون حمایة الحکومة الإسلامیّة، ومن هنا نشاهد علی امتداد التاریخ أنّ المناطق التی اهملت من قبل الحکومات ولم یتمّ الاهتمام بزراعتها وإحیائها وفی ذات الوقت وضعت ضرائب ثقیلة علی تلک الأراضی فإنّ المزراعین ترکوا هذه الأراضی وهجروها إلی نقاط أخری:

«ومن طلب الخراج بغیر عمارة أخرب البلاد».

والثانیة: أنّ الناس یساقون إلی حیث الهلاکة والفناء

«وأهلک العباد»

، لأنّه سیبتلون بالفقر والحرمان، وأحد العوامل المهمّة للهلکة بمعناها الواقعی أو بمعنی فقدان الروحیة واهتزاز المعنویّة هو الفقر.

النتیجة الثالثة: وهی الملازمة للنتیجة ا لثانیة، (وهی «الفقر») عدم دوام هذه الحکومات وبالتالی إنهدام النظام الاقتصادی والسیاسی فی هذا المجتمع، لأنّ الفقر العام یؤدّی إلی عدم التعاون والتکاتف بین أفراد المجتمع الواحد، بل یثیر الناس ضد هذه الحکومة وبما أنّ هذه الحکومة تفتقد للإمکانات


1- انظر: مجموعة مقالات باشراف واعظ زاده الخراسانی، ص 51.
2- انظر: النظام الاقتصادی العلوی( نظام اقتصادی علوی) بالفارسیّة، أحمد علی الیوسفی، ص 462.
3- سورة هود، الآیة 61.

ص: 142

المالیّة والمادیّة فإنّها لا تلبث إلّاقلیلًا

«ولم یستقم أمره إلّاقلیلًا».

وعلی أیة حال یستفاد من بیان آخر لأمیرالمؤمنین فی هذا الکتاب المزبور أنّ المحور فی النظام الاقتصادی هو العمران، یقول علیه السلام:

«فإنّ العمران محتمل ما حَمَّلْتَه».

والنقطة الجدیر بالذکر هنا والتی ینبغی الاهتمام بها بشکل خاص هی کیفیة عمران الأرض وإحیائها، وببیان آخر ما هی الأسباب والعوامل التی تؤدّی إلی خراب الأرض وبالتالی یتحرک العاملون والناشطون الاقتصادیون فی الدولة علی مستوی رفعها وحلّها؟

وهذا السؤال أیضاً طرحه أمیرالمؤمنین علیه السلام فی رسالته لمالک الأشتر وأجاب عنه:

«وإنّما یُؤتی خراب الأرض من إعْواز أهلها وإنّما یَعُوز أهلُها لإشراف أنْفس الولاة علی الجمع وسوء ظنّهم بالبقاء وقلّة انتفاعهم بالعبر».

«إنّ المسائل الاجتماعیّة والحوادث التی تعصف بالدول والبلدان تخضع کلّها لقاعدة العلّة والمعلول، فعندما لا یعیش الولاة الأمل والحیویة بسبب قلّة خبرتهم أو ظلمهم للناس، ولا ینتفعون من تجارب الامم السابقة فی مجال الإدارة الصحیحة للحکومة فإنّهم سیعیشون الإرتباک والقلق ویفکرون بجمع الأموال والثروات وأحیاناً یخفونها فی أمکان بعیدة أو قریبة وأحیاناً أخری یدفعونها إلی بعض أرحامهم وأقاربهم أو یرسلونها إلی الخارج فیما لو توفر لهم محل مطمئن لذلک، وهذا الأمر یؤدّی بدوره إلی مزید الخراب والفساد فی الأراضی والمنابع الاقتصادیّة، وتسود حالات الفقر والعوز، وتتزلزل أرکان الحکومة وتضعف سیطرتها وقدرتها، والتجارب تشیر إلی أنّ مثل هؤلاء الولاة قلّما یستطیعون الانتفاع من الأموال التی جمعوها، وقد رأینا وسمعنا نماذج کثیرة من مثل هؤلاء الملوک والحکّام حتی فی عصرنا الحاضر»(1).

وهذه النقطة جدیرة بالالتفات أیضاً، وهی أنّ الکثیر من البرامج العمرانیّة تستدعی زماناً طویلًا نسبیّاً، وعندما لا یکون للزعماء السیاسیین أمل ببقائهم فی مسند السلطة والحکومة فإنّهم لا یهتمون بمثل هذه المشاریع العمرانیة، وطبعاً فإنّ تلک المشاریع ستواجه التعطیل والرکود وبالتالی سیادة الفقر والحرمان فی فضاء المجتمع وخاصّة علی الطبقة المحرومة والفقیرة.

وآخر نقطة فی هذا الصدد ما ورد فی کلام آخر لأمیرالمؤمنین علیه السلام، فی بیان المعیار الأتم والفضیلة الأکمل للحاکم والتی تتمثّل فی عمار البلاد:

«فضیلة السلطان عمارة البلاد»(2)

، وعندما وصل للإمام علیه السلام خبر بأنّ بعض أهل الذمة یشکون فی داخل دائرة حکومته من نقص فیما یتصل بإعمار بعض الأنهر، فکتب الإمام علیه السلام کتاباً إلی والیه علی تلک المنطقة قرظة بن کعب الأنصاری یقول فیه:

«أمّا بعد، فإنّ رجلًا من أهل الذمّة من عملک ذکروا نهراً فی أرضهم قد عفا وادّفن وفیه لهم عمارة علی المسلمین، فانظر أنت وهم ثمّ


1- انظر نفحات الولایة، ج 11، الکتاب 53.
2- غرر الحکم، ص 341، ح 7810.

ص: 143

اعمر وأصلح النهر

). وفی ختام الکتاب کتب:

«فلعمری لأن یعمروا أحب الینامن أن یخرجوا وأن یعجزوا أو یقصروا فی واجب من صلاح البلاد»(1).

7. التعادل فی مستوی معیشة المجتمع

اشارة

ومن جملة أهداف النظام الاقتصادی فی الإسلام، إقامة العدالة الاجتماعیّة ورفع مستوی معیشة الطبقات المحرومة والارتقاء بها إلی مستوی سقف معیشة الطبقة المتوسطة الغالبیة فی المجتمع.

والإسلام فی ذات الوقت الذی یقرّ فیه من جهة بالفوارق الفکریّة والقابلیات الذاتیّة للأفراد ویعتبرها دخیلة ومؤثرة فی ظهور الاختلافات المالیّة والطبقات الاقتصادیّة فی فضاء المجتمع (خلافاً لأتباع التفسیر المادی للتاریخ، من المارکسیین، الذین یرون أنّ العوامل الاقتصادیّة فقط هی المؤثرة فی تشکل هذه الطبقات) ومن جهة أخری فإنّ الإسلام یری أنّ عنصر العمل وسعی الأفراد فی جمع الثروات واکتساب المال، وبالتالی وجود وظهور الاختلافات والتنوع فی رؤوس المال والثروة، تأثیراً جدّیاً ولکنّه فی ذات الوقت ومع الالتفات إلی هاتین الحقیقتین، فإنّ مسألة تمتع جمیع أفراد المجتمع بحیاة مقبولة ومناسبة، أمر ممکن.

یقول المرحوم الشهید الصدر قدس سره بعد الإشارة إلی هاتین الحقیقتین المذکورتین:

«إنّ نتیجة الإیمان بهاتین الحقیقتین هی السماح بظهور التفاوت بین الأفراد فی الثروة فإذا افترضنا جماعة استوطنوا أرضاً وعمروها وانشأوا علیها مجتمعاً، وأقاموا علاقاتهم علی أساس: أنّ العمل مصدر الملکیّة، ولم یمارس أحدهم أی لو من ألوان الاستغلال للآخر، فسوف نجد أنّ هؤلاء یختلفون بعد برهة من الزمن فی ثرواتهم، تبعاً لاختلافهم فی الخصائص الفکریّة والروحیّة والجسدیّة، هذا التفاوت یقرّه الإسلام»(2).

ثم یقول: «والتوازن فی مستوی المعیشة معناه أن یکون بحال وجوده لدی أفراد المجتمع متداولًا بینهم، إلی درجة تتیح لکلّ فرد العیش فی المستوی العام»(3).

ثم یضیف: «إنّ الإسلام لا یری إیجاد هذه الحالة من التوازن فی لحظة، وإنّما یعنی: جعل التوازن الاجتماعی فی مستوی المعیشة، هدفاً تسعی الدولة فی حدود صلاحیاتها إلی تحقیق والوصول إلیه، بمختلف الطرق والأسالیب المشروعة التی تدخل ضمن صلاحیاتها، وقد قام الإسلام من ناحیته بالعمل لتحقیق هذا الهدف بالضغط علی مستوی المعیشة من أعلی بتحریم الإسراف، وبالضغط علی المستوی من الأسفل بالارتفاع بالأفراد الذین یحیون مستوی منخفظاً من المعیشة إلی مستوی أرفع، وبذلک تتقارب المستویات حتی تندمج أخیراً فی مستوی واحد»(4).

وهذه المسألة من المتطلبات والأهداف الإنسانیّة الراقیة وقد وردت فی روایة عن أبی بصیر أنّه قال:


1- تاریخ الیعقوبی، ج 2، ص 203.
2- انظر: اقتصادنا، ص 673.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.

ص: 144

سألت الإمام الصادق علیه السلام عن رجل له ثمانمائة درهم وهو رجل خفاف وله عیال کثیر أله أن یأخذ من الزکاة، فقال:

«یاأبا محمّد أیربح فی دراهمه ما یقوت به عیاله ویفضل؟»

قال: نعم، قال:

«کم یفضل؟»

قال:

لا أدری، فقال:

«إن کان یفضل عن القوت مقدار نصف القوت فلا یأخذ الزکاة وإن کان أقلّ من نصف القوت أخذ الزکاة»

، قال: قلت: فعلیه فی مال الزکاة تلزمه؟ قال علیه السلام:

«بلی»

، قال: قلت: کیف یَصْنَع؟ (یعنی ما تعلق من الزکاة بماله) قال:

«یوسّع بها علی عیاله فی طعامهم وکسوتهم ویُبقی منها شیئاً یُناولُه غیرهم وما أخذ من الزکاة فضّه علی عیاله حتی یلحقهم بالناس»(1).

وعبارة «حتّی یلحقهم بالناس» فی عین کونها تدلّ علی سعة صدر وکرامة الشریعة الإسلامیّة التی لا ترضی بالذلة والمهانة لأفراد المجتمع والمواطنین فی المجتمع الإسلامی، تدلّ بوضوح علی أنّ الإسلام یهتم کثیراً بإزالة الفوارق الطبقیة بالمقدار الممکن ورفع مستوی الطبقة الضعیفة المحرومة وإیصالها إلی مستویات مقبولة من المعیشة الکریمة والحیاة الطیبة.

والملفت للنظر أنّ المراد من «قوت السنة» فی هذه الروایة لیست «مؤونة السنة» حتی یقال کیف یمکن أخذ الزکاة مع أنّه أضاف «نصف المؤونة»، بل المراد من القوت ما یسد جوع الإنسان، وأمّا المؤونة فتشمل سائر ما یحتاج إلیه الإنسان فی حیاته مثل اللباس أیضاً، وعلی هذا الأساس فإنّ أغلب الأشخاص الذین کتبوا فی مسألة زکاة الأموال استندوا إلی هذه الروایة.

وبعد أن ینقل المرحوم محمّدتقی المجلسی رحمه الله هذا الحدیث یقول: «إنّ هذا الحدیث وکذلک أحادیث کثیرة موثقة کالصحیح تدلّ علی أنّه لا یلزم التضییق علی العیال لأخذ الزکاة منهم فلا یقعوا فی مشقة»(2).

ویقول المرحوم السید عبدالأعلی السبزواری فی ذیل کلام صاحب العروة: «الثالث (من شرائط من یجوز دفع الزکاة الیه): أن لا یکون من تجب نفقته علی المزکّی کالأبوین وإن علوا والأولاد ... فلا یجوز إعطاء زکاته إیّاهم للإنفاق، بل ولا للتوسعة علی الأحوط وإن کان لا یبعد جوازه إذا لم یکن عنده ما یوسّع به علیهم»، ثمّ یقول بعد نقل الحدیث المذکور: «ولا ریب فی أنّ سیاق مثل هذه الأخبار سیاق الرأفة والاطمئنان والتوسعة علی الامّة من ولی الزکاة ... خصوصاً إذا کان العیال من ذوی العفة والنجابة الذین یتحملون المشقات فی حفظ شؤونهم وحیثیاتهم الدینیّة، وبذلک یمکن أن یجمع بین الکلمات (الفقهاء) من قال بعدم الجواز، فیما إذا أمکن التوسعة بطریق شرعی آخر هو الغالب علی أهل الزمان، ومن یقول: أی فیما إذ لا یمکن ذلک إلّا بالزکاة»(3).

والنقطة الجدیرة بالالتفات هنا والواردة فی هذه الروایة فی فقه الحدیث، هی أنّ المراد من الزکاة فی هذه الروایة زکاة مال التجارة التی یراها أکثر فقهاء


1- وسائل الشیعة، ج 7، کتاب الزکاة، الباب 8، أبواب المستحقین للزکاة، ح 4.
2- لوامع صاحبقرانی، ج 5، ص 529.
3- مهذب الأحکام، ج 11، ص 227.

ص: 145

مستحبة، ویراها بعضهم مثل صاحب الحدائق واجبة.

یقول المرحوم المحقق الهمدانی رحمه الله فی مصباح الفقیه «والزکاة التی أثبتها (الإمام علیه السلام) فی ماله هی زکاة المستحبّة التی لا محذور فی الأمر بصرفها فی التوسعة علی عیاله وإیصال شی ء منه إلی غیرهم»(1).

ویقول المحدّث الشهیر صاحب الحدائق: «أقول:

قوله علیه السلام: «إن کان یفضل عن القوت مقدار نصف القوت» لعل المراد به أنّه متی فضل هذا المقدار فإن یجزی ء للقیام بکسوتهم وسائر ضروریاتهم مثلًا یجوز له تناول الزکاة، وإن کان أقل من ذلک فإنّه لا یقوم بمؤنة السنة فیجوز له أخذ الزکاة»(2) ثمّ قال: «ولا یخفی ما فی هذا الخبر من الدلالة الظاهرة علی وجوب زکاة التجارة کما تقدّم فی تلک الأخبار التی قدّمناها فی أول المطلب الرابع: إلّاأنّه علیه السلام جعل مصرفها هنا فی الوسعة علی نفسه وعیاله، لأنّه إذا جاز أخذها من الغیر لذلک فبالأولی من نفسه، والظاهر أنّ الأمر باعطاء الغیر من زکاة ماله فی الخبر وغیره محمول علی الاستحباب»(3).

وعلی أیّة حال إنّ هذه النظریّة، وهی أنّ الحاکم الإسلامی یجب علیه السعی فی الارتقاء بمستوی معیشة الناس وحفظ الشؤون الاجتماعیّة لهم، لا تختص بفقهاء الإمامیّة وروایات أهل البیت علیهم السلام، بل من فقهاء أهل السنّة نری فقیهاً معروفاً کالشیبانی یصرح: « «علی الإمام ان یتقی اللَّه فی صرف الأموال الی المصارف، فلا یدع فقیراً إلّاأعطاه حقّه من الصدقات حتی یغنیه وعیاله، إن احتاج بعض المسلمین، ولیس فی بیت المال من الصدقات شی ء أعطی الإمام ما یحتاج إلیه من بیت مال الخراج، ولا یکون ذلک دیناً علی بیت المال الصدقة، لما بیّنا أنّ الخراج ما من معناه مصرف إلی حاجة المسلمین»(4).

ولعل أبلغ من روایة أبی بصیر فی هذا المجال موثقة إسماعیل بن عبدالعزیز نقلًا عن أبیه قال: دخلت أنا وأبو بصیر علی أبی عبداللَّه (الإمام الصادق علیه السلام) فقال له أبوبصیر: إنّ لنا صدیق هو رجل صدوق یدین اللَّه بما ندین به، فقال علیه السلام: من هذا یاأبامحمّد الذی تزکیه؟ فقال: العباس بن الولید بن صبیح، فقال: رحم اللَّه الولید بن صبیح ما له یاأبا محمّد؟ فقال: جعلت فداک له دار تسوی أربعة آلاف درهم وله جاریة وله غلام یستقی علی الجمل کلّ یوم ما بین الدرهمین إلی الأربعة سوی علف الجمل وله عیال أله أن یأخذ من الزکاة؟ قال علیه السلام:

«نعم»

، قال: وله هذه الفروض؟

فقال علیه السلام:

«یا أبامحمّد أفتأمرنی أن آمره أن یبیع داره وهی عزّه ومسقط رأسه أو یبیع جاریته الّتی تقیه الحرّ والبرد وتصون وجهه ووجه عیاله أو آمره أن یبیع غلامه وجمله وهو معیشته وقوته بل یأخذ الزکاة وهی له حلال ولا یبیع داره ولا غلامه ولا جمله»(5).

ومضافاً إلی الروایتین عن أبی بصیر وإسماعیل بن


1- مصباح الفقیه، ج 13، ص 493.
2- الحدائق الناضرة، ج 12، ص 158.
3- المصدر السابق.
4- انظر: المبسوط للسرخسی، ج 2، کتاب زکاة: نص کلام الشیبانی.
5- الکافی، ج 3، ص 562، ح 10.

ص: 146

عبدالعزیز التی مرّ ذکرهما، فثمة روایات کثیرة أخری فی هذا الباب، مثل الروایات الأحد عشر فی باب 24 من أبواب المستحقین زکاة، والتی ورد فیها تعبیران مثل «أعطه من الزکاة حتی تغنیه»، والتی تدلّ علی أنّه فی صورة ما إذا أخذ المستحق الزکاة ولم ینفقها فی معصیة ولم یسرف فی مصرفها، فإنّه یحق له أخذ الزکاة بمقدار یصل إلی مرتبة الغنی وعدم الحاجة إلی الآخرین، وکذلک ورد فی روایة فی الباب الحادی عشر عن الإمام موسی بن جعفر علیه السلام، قال الراوی:

سألته الرجل یکون أبوه أو عمّه أو أخوه یکفیه مؤنته، أیأخذ من الزکاة فیوسع به إن کانوا لایوسّعون علیه فی کلّ مایحتاج إلیه؟ فقال:

«لا بأس»(1).

وکذلک فی الروایة الاولی من باب 9، من جواز أخذ الزکاة من شخص یملک بیتاً وخادماً، عن سماعة قال سألت أباعبداللَّه علیه السلام: عن الزکاة هل تصلح لصاحب الدار والخادم؟ فقال الإمام علیه السلام:

«نعم ...»(2)

، وروایة الباب 24 تقول: قلت لأبی الحسن موسی علیه السلام: أعطی الرجل من الزکاة ثمانین درهماً؟ قال:

«نعم وزده»

، قلت: أعطیه مائة؟ قال:

«نعم وأغنه إن قدرت أن تغنیه»(3)

وروایة الباب 41 التی مرّ ذکرها تدل علی أنّ اللَّه تعالی نظر إلی أموال الأثریاء وحالة الفقراء ثمّ جعل حقوقاً فی أموال الأثریاء للفقراء إلی حدّ کفاتهم ولو أنّه لا یکفیهم لکان قد زادهم فقال علیه السلام:

«إنّ اللَّه نظر فی أموال الأغنیاء ثمّ نظر فی الفقراء فجعل فی أموال الأغنیاء مایکتفون به ولو لم یکفهم لزادهم بلی فلیعطه ما یأکل ویشرب ویکتسی ویتزوج ویتصدّق ویحجّ»(4).

وورد عن طرق أهل السنة أیضاً عن رسول اللَّه قال:

«خیر الصدقة ما أبقت غنی»(5).

*** والملفت للنظر أنّ فقهاء الفریقین عملوا بمضمون هذه الروایات وأفتوا علی أساسها، یقول العلّامة الحلی: «یجوز أن یعطی الفقیر ما یغنیه (علی مدی السنة» بل أکثر من مقدار حاجته (بحیث یستطیع حفظ شؤوناته ویحج ویتصدق) وهذا هو قول جمیع فقهائنا وأفتی به أصحاب الرأی أیضاً، ولکن الثوری ومالک والشافعی وأباثور قالو: یجوز فقط بمقدار یجعله غنیاً (فی حاجاته الأولیة) ولا یجوز أکثر من ذلک (مثلًا للحج وحفظ الشؤون)»(6).

ثم استدل بالروایة النبویة المذکورة:

«خیر الصدقة ما أبقت غنی»

والروایات التی وردت من طرق الإمامیّة التی أشرنا إلیها فیما سبق مثل:

«أعطه من الزکاة حتی تغنیه».

ویقول فی مورد آخر:

«جواز أخذ الفقیر للزکاة وإن کان له خادم ودابة ودار ممّا یحتاج إلیه مالًا یزید


1- وسائل الشیعة، ج 7، کتاب الزکاة الباب 11 من أبواب المستحقین الزکاة، ح 1.
2- المصدر السابق، الباب 9، ح 1.
3- المصدر السابق، الباب 24، ح 3.
4- وسائل الشیعة، ج 7، ص 289- 290، ح 2.
5- مسند أحمد، ج 3، ص 434، کنز العمّال، ج 6، ص 396، ح 16232، المعجم الکبیر للطبرانی، ج 12، ص 115، ح 12726.
6- انظر: منتهی المطلب، ج 8، ص 400- / 401 وانظر: مغنی ابن قدامة، ج 2، ص 530.

ص: 147

عن احتیاجه بقدر کفایة سنة»(1)

، وفی روایة سعید بن یسار عن الإمام الصادق علیه السلام قال:

«تحلّ الزکاة لصاحب الدار والخادم»(2)

وفی روایة أخری بهذا المضمون عن ابن اذنیة عن الصادقین علیهما السلام قالا:

«نعم إنّ الدار والخادم لیسا بمال»(3).

وثم یذکر روایة سماعة قال: سألت الإمام الصادق علیه السلام: عن الزکاة هل تصلح لصاحب الدار والخادم؟ فقال:

«نعم، إلّاأن تکون داره دار غلة فیخرج له من غلتها دراهم ما یکفیه لنفسه وعیاله، فإن لم یکن الغلة تکفیه لنفسه ولعیاله فی طعامهم وکسوتهم وحاجتهم من غیر إسراف، فقد حلّت له الزکاة، فإنّ کان غلتها تکفیهم فلا»(4).

وقد أفتی المرحوم صاحب العروة وجمیع المعلّقین علی کتاب العروة أیضاً بمضمون هذه الروایات (5).

ونقرأ فی المغنی لابن قدامة: «وجملة ذلک أنّه إذا ملک ما تتمّ به الکفایة من غیر الأثمان، فإن کان ممّا لا تجب فیه الزکاة والعقار ونحوه لم یکن مانعاً من أخذها، نص علیه أحمد ... وهذا قول الثوری والنخعی و الشافعی وأصحابه الرأی، ولا نعلم فیه خلافاً لأنّه فقیر محتاج فیدخل فی عموم الآیة:

«إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ»(6)

». ثم یقول: «فأمّا إذا ملک نصاباً زکویاً لا تتمّ به الکفایة کالمواشی والحبوب فله أخذ الزکاة».

ثم ینسب الکلام إلی أحمد وعمر والشافعی ویقول: یقول أصحاب الرأی لیس له أنّ یأخذ منها لأنّه لا تجب علیه الزکاة، ثمّ یقول فی مقام جوابهم: «ولنا (الحنابلة) أنّه لا یملک ما یغنیه ولا یقدر علی کسب ما یکفیه فجاز له الأخذ من الزکاة، لو کان ما یملکه لا تجب فیه الزکاة، ولأنّه فقیر فجاز له الأخذ لأنّ الفقر عبارة عن الحاجة»(7).

وبالنسبة لمقدار الزکاة التی یمکن أخذها من قِبل المستحق وأنّه یجوز له الأخذ إلی مقدار رفع الحاجة لا أکثر، یقول: ولنا (الحنابلة) إذا لم یخرجه إلی الغنی ...

وهذا قول الثوری ومالک والشافعی وأبی ثور، وقال أصحاب الرأی: یعطی ألف وأکثر إذا کان محتاجاً إلیها ویکره أن یزاد علی المئتین».

وطبعاً فی ختام کلامه ولإثبات عدم جواز أخذ أکثر من الغنی یبتلی بالقیاس العجیب ویقول: «ولنا أنّ الغنی وکان سابقاً منع فیمنع إذا قارن کالمجمع بین الاختین فی النکاح»(8).

النتیجة:

یتبیّن ممّا تقدّم بوضوح أنّ من جملة الأهداف فی النظام الاقتصادی الإسلامی، إیجاد التوازن والتعادل


1- المصدر السابق، الباب 9.
2- المصدر السابق، ح 4.
3- انظر: منتهی المطلب، ص 494- 495؛ وسائل الشیعة، ج 7، الباب 9، ح 2.
4- المصدر السابق، ص 334- 335.
5- انظر: عروة الوثقی، مع تعلیقات 15 نفر من الأکایر، طبع جماعة المدرسین، ج 4، ص 101- 102.
6- توبه، آیه 60.
7- انظر: مغنی ابن قدامة، مطبعة دار الکتاب العربی، ج 2، ص 692- 693.
8- انظر: المصدر السابق، ص 530.

ص: 148

فی المعیشة ومن أجل تحقق هذا الهدف المهم فإنّ الإسلام یقترح عدّة نشاطات مختلفة:

أ) فمن جهة وتحت عنوان «حرمة الإسراف والتبذیر» یحرم الإسلام جمیع أشکال البذخ والمصرف اللامعقول وهدر الأموال کما سیأتی الکلام عنه فی الفصول اللاحقة.

ب) ومن جهة أخری یمنع الإسلام تراکم الثروة واحتکار تداولها بید فئة خاصّة تحت عناوین مثل:

«الربا»، «إکتناز المال»، «التکاثر» و «إحتکار تبادل الثروة بید الأغنیاء» وهو قوله ( (دولةً بین الأغنیاء).

وسیأتی فی بعض الفصول اللاحقة تفصیل الکلام فی هذه العناوین.

ج) ومن جهة ثالثة شرع الإسلام قانوناً وهو قانون الإرث الذی یعمل علی تقسیم الثروات الکبیرة بعد وفاة أصحابها بین فئات مختلفة غالباً وتبدیل هذه الثروات الکبیرة إلی ثروات ورؤوس أموال صغیرة.

د) ومن جهة رابعة فإنّ الإسلام ألغی الاستفادة من الثروات الطبیعیّة الخام بدون إذن الحکومة الإسلامیّة، وعلی فرض الإذن، فإنّ هذه الاستفادة یجب أن تکون فی حدود معقولة ومتناسبة مع المصلحة العامّة للناس، ولم یسمح الإسلام أبداً بأن تکون المنابع المهمّة فی البلاد تحت اختیار فرد أو أفراد معدودین وبما یتسبب فی حرمان الآخرین منها والإضرار بعامة الناس.

ه) ومن جهة خامسة، ولغرض رفع الفقر وإغناء الطبقات الضعیفة، فإنّ الإسلام طرح مقترحات أساسیة ومتینة منها:

1. أوجب الخمس والزکاة، وهی بمثابة «الضرائب الثابتة والشاملة» فی النظام الاقتصادی الإسلامی.

2. أجاز الإسلام دفع الخمس والزکاة للمحتاجین إلی حد تحقق الاستغناء وعدم الحاجة وحفظ الشؤون العائلیة الاجتماعیّة للأفراد.

3. والطریقة الثالثة فی النظام الاقتصادی الإسلامی لرفع الفقر وتقلیل الفاصلة الطبقیة بین أفراد المجتمع، بسط ید الحاکم الإسلامی فیما یتصل بالاستفادة من سائر منابع بیت المال، مثل «الفی ء»، والفی ء طبقاً للروایة الواردة عن الإمام الباقر علیه السلام:

«الفی ء والأنفال ما کان من أرض لم یکن فیها هراقة الدماء وقوم صولحوا أو أعطوا بأیدیهم وما کان من أرض خربة أو بطون أو دیة فهو کلّه من الفی ء ...»(1)

، ومنها الأنفال، والأنفال لها مصادیق کثیرة أیضاً وتشمل جمیع منابع بیت المال والتی تقع تحت اختیار الحکومة الإسلامیّة.

ومن جهة أخری وطبقاً للآیة 7 من سورة الحشر:

«مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَی رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَی فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِی الْقُرْبَی وَالْیَتَامَی وَالْمَسَاکِینِ وَابْنِ السَّبِیلِ کَیْ لَا یَکُونَ دُولَةً بَیْنَ الْأَغْنِیَاءِ مِنْکُمْ»

فإنّ مصارف الفی ء هم المحتاجون والفقراء، والغایة التی ذکرت فی هذه الآیة هی إزالة الفاصلة الطبقیة فی فضاء المجتمع، وبالرغم من أنّ الآیة الشریفة تتعلق بقسم من الغنائم الحربیة، ولکن التعلیل الوارد فی هذه الآیة یستدعی سعة دائرة المفهوم منها وشموله، وأحد مصادیقه المعادن الکبیرة


1- انظر: وسائل الشیعة، ج 6، ص 368، ح 12641.

ص: 149

التی تقع فی دائرة اختیار الحکومة، من قبیل: منابع النفط والمعادن المهمّة الأخری التی تستخرج بواسطة الحکومة بشکل مباشر ویتمّ الاستفادة منها.

والنتیجة أنّه من أجل القضاء علی الفقر وإزالة الفواصل الطبقیة، فمضافاً إلی الخمس والزکاة، یمکن الاستفادة من منابع الأخری لبیت المال، یعنی «الفی ء، والأنفال أیضاً».

وقد تقدّم کلام الفقیه المعروف لأهل السنّة الشیبانی وهو: لو لم یبق من الزکاة شی ء بواسطته رفع حاجة الفقراء، فإنّ الحاکم الإسلامی یمکنه أن یصرف علیهم من خراج بیت المال (1).

4. الطریق الرابع، تطبیق العناوین الثانویة، مثل قاعدة «الأهم والمهم»، و «مصالح المهمّة للإسلام والمسلمین»، و «لا ضرر».

ولو افترضنا فی صورة عدم رفع الفقر والفواصل الطبقیة الکبیرة بهذه الطرق الثلاثة المذکورة آنفاً فإنّ النظام الإسلامی سیواجه الارباک والاهتزاز وینتهی أمر المجتمع الدینی إلی اضطراب الحیاة المعیشیة للطبقة الضعیفة المحدودة الدخل، وفی هذه الصورة تستطیع الحکومة الإسلامیّة، من خلال التدبر والتفقه وإقامة العدل، بسن قوانین ومقررات خاصّة بالضرائب ولمدّة معینة، علی الطبقات الغنیة والثریّة فی المجتمع، وعلی فئة خاصّة منهم، وذلک لحلّ هذه الأزمة وإنقاذ المجتمع من هذا المأزق الاقتصادی.

***

المنابع والمصادر

1. القرآن الکریم.

2. نهج البلاغة.

3. الأخلاق، بیرجاله، بدرالدین الکتابی، انتشارات إدارة کل التعلیم والرتبیة فی إصفهان، الطبعة الاولی، 1372 ه ش.

4. اسد الغابة، ابن الأثیر، بیروت، دار الفکر، 1409 ه ق.

5. اقتصادنا، السید محمّد باقر الصدر، مؤسسة بوستان کتاب، قم، الطبعة الثالثة، 1382 ه ش.

6. الأمالی، الصدوق، تحقیق استاد ولی وعلی أکبر الغفاری، مؤسسة النشر الإسلامی، قم، الطبعة الثانیة، 1404 ه ق.

7. بحار الأنوار، العلّامة المجلسی، مؤسسة الوفاء، بیروت، لبنان، 1404 ه ق.

8. نفحات الولایة (پیام امام أمیرالمؤمنین)، آیة اللَّه مکارم الشیرازی ومساعدیه، دارالکتب الإسلامیّة، طهران، الطبعة الاولی، 1379-/ ش.

9. تاریخ الیعقوبی، الیعقوبی، دار صادر، بیروت، لبنان.

10. تحف العقول، حسن بن شعبة الحرانی، انتشارات جماعة المدرسین، قم، 1404 ه ق.

11. تحلیل علی سائر المعرفة ومعرفة اسلوب علم الاقتصاد (تحلیل المعارف ومنهجیة علم الاقتصاد (تحلیلی بر سایر شناخت و روش شناسی علم اقتصاد) بالفارسیّة، السید مهدی زریباف (پایان نامه) کلیّة الاقتصاد المعارف


1- النظر: المبسوط السرخسی، ج 2، کتاب زکاة.

ص: 150

الإسلامیّة، جامعة الإمام الصادق علیه السلام، طهران، 1369 ه ش.

12. جواهرالکلام، الشیخ محمّد حسن النجفی، دار الکتب الإسلامیّة، الطبعة الثالثة، 1362 ه ش.

13. الحدائق الناضرة، المحقق البحرانی، تحقیق تقی الایروانی، انتشارات جماعة المدرسین، قم.

14. الخصال، الشیخ الصدوق، انتشارات جماعة المدرسین، قم، 1362 ه ش.

15. دعائم الإسلام، القاضی نعمان المغربی، دار المعارف، قاهره، 1383 ه ش.

16. سنن ابن ماجة، محمّد بن یزید القزوینی، دار الفکر.

17. سنن الکبری.

18. شرائع الإسلام، المحقق نجم الدین جعفر الحلی، مؤسسة اسماعیلیان، قم، الطبعة الثانیة، 1408 ه ق.

19. صحیح مسلم، الإمام أبی الحسین مسلم بن حجاج القشیری النیسابوری، دار إحیاء التراث العربی، الطبعة الاولی.

20. العروة الوثقی مع تعلیقات 15 نفر من الأکابر، مؤسسة النشر الإسلامی، جماعة المدرسین، الطبعة الثالثة، 1428 ه ق.

21. غررالحکم ودررالکلم، عبدالواحد بن محمّد التمیمی الآمدی، انتشارات الإعلام الإسلامی، قم، 1366 ه ش.

22. الفقر والتنمیة (فقر و توسعه) بالفارسیّة، السید هادی الحسینی، مکتب الإعلام الإسلامی شعبة خراسان، الطبعة الاولی، 1380 ه ش.

23. الفقه الإسلامی وأدلته، الدکتور وهبه الزحیلی، دار الفکر، دمشق، الطبعة الرابعة، 1997 م.

24. الکافی، ثقة الإسلام کلینی، دار الکتب الإسلامیّة، طهران.

25. کتاب البیع، الإمام الخمینی، مؤسسة تنظیم آثار الإمام الخمینی، طهران، الطبعة الاولی، 1421 ه ق.

26. کنز العمال، المتقی الهندی، مؤسسة الرسالة، بیروت، لبنان، 1409 ه ق.

27. المبسوط، السرخسی، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزیع، بیروت، لبنان.

28. المبسوط، الشیخ الطوسی، تحقیق محمّد علی الکشفی، مکتبة مرتضویة، طهران، الطبعة الثالثة، 1387 ه ش.

29. مجموعة مقالات الاقتصادیّة (مجموعه مقالات اقتصادی) بالفارسیّة، أولین مجمع بررسی های اقتصادی، تحت إشراف واعظ زادة الخراسانی، بنیاد پژوهش های اسلامی آستان قدس رضوی، 1369 ه ش.

30. مجموعه الورّام، أبوالحسین الورّام بن أبی فراس، المتوفی 605 ه ق، دار التعارف ودار صعب، بیروت.

31. مستدرک نهج البلاغة، المحمودی، بیروت.

32. مستدرک الصحیحین، الحاکم النیسابوری، دار المعرفة، بیروت، لبنان.

33. مسند أحمد، أحمد بن حنبل، دار صادر، بیروت، لبنان.

34. منتهی المطلب، العلّامة الحلی، حسن بن یوسف بن المطهر، مؤسسه طبع آستانه رضویه، الطبعة الاولی، 1423 ه ق.

35. مصباح الفقاهة، دار الهادی، الکویت، الطبعة الاولی، 1412 ه ق.

ص: 151

36. المعجم الکبیر، الطبرانی، تحقیق حمدی عبدالمجید السلفی، دار إحیاء التراث العربی.

37. المغنی، ابن قدامة، دار الکتاب العربی للنشر والتوزیع، بیروت، لبنان.

38. مفتاح الکرامة، السید محمّد جواد الحسینی العاملی، مؤسسة آل البیت للطباعة والنشر، قم.

39. من لا یحضره الفقیه، الشیخ الصدوق، انتشارات جماعة المدرسین، قم، 1413 ه ق.

40. النظام الاقتصادی العلوی (نظام اقتصادی علوی) بالفارسیّة، أحمد علی الیوسفی، منظمة انتشارات التحقیق فی مجال الثقافة والمعرفة.

41. النظام الاقتصادی الإسلامی، خصائصه وعناصره الأصلیّة (نظام اقتصادی اسلامی، ویژگی ها و عناصر اصلی)، الدکتور علی یوعلا، طبع فی کتاب ماهیة وبنیة الاقتصاد الإسلامی (ساختار اقتصاد اسلامی) بالفارسیّة.

42. نهایة الأحکام، الشیخ الطوسی، دارالکتب العربی، بیروت، 1390 ه ق.

43. الوافی، محسن الفیض الکاشانی، مکتبة أمیرالمؤمنین، اصفهان، الطبعة الاولی، 1406 ه ق.

44. وسائل الشیعة، الحر العاملی، تحقیق الشیخ عبدالرحیم الربانی الشیرازی، دار إحیاء التراث، الطبعة الخامسة، 1403 ه ق.

45. ماهیة وبنیة الاقتصادی الإسلامی (ماهیت و ساختار اقتصادی اسلامی) بالفارسة، مجموعه مقالات والحورات، باهتمام أحمد علی الیوسفی، مرکز نشر آثار التحقیق فی الثقافة والمعرفة، الطبعة الاولی، 1379 ه ش.

ص: 152

ص: 153

(3). إزالة الفقر أهم هدف للنظام الاقتصادی الإسلامی

اشارة

استعمالات مفردة الفقر

الفقر الاقتصادی:

البحث الأوّل: أنواع الفقر الاقتصادی

البحث الثانی: عوامل وأسباب الفقر فی المجتمع البشری

البحث الثالث: الذم الشدید للفقر فی الثقافة الإسلامیّة

البحث الرابع: التداعیات المخربة للفقر فی المجتمع البشری

البحث الخامس: طرق مکافحة الفقر

ص: 154

ص: 155

إزالة الفقر أهم هدف للنظام الاقتصادی الإسلامی

المقدّمة:

تعریف الفقر: الفقر، عبارة عن ضیق الید وقلّة ما یحتاجه الإنسان لمعیشته «والفقیر هو الشخص الذی لیس له مال وکسب لیتمکن من رفع حاجاته»(1).

إنّ تأمین المعیشة وإرضاء الحاجات فی دائرة الحیاة السلیمة والمطلوبة، تستدعی نفقات مختلفة، وهذه النفقات تشمل النفقات الشخصیّة، العائلیّة، الاجتماعیّة، المادیّة والثقافیّة.

وفی تقسیم کلی فیما یتصل بالأموال التی تنفق لحاجات الحیاة والمعیشة، فإنّها أحد أربعة أنحاء کالتالی:

أ) المسکنة؛ یعنی فقدان کلّ شی ء وعدم إمتلاک أی شی ء(2).

ب) الفقر؛ یعنی ضیق الید، بحیث إنّ الإنسان یفقد بعض ما یحتاجه فی حیاته ومعیشته.

ج) الغنی والکفاف؛ یعنی أن یکون لدی الإنسان مال یحصل علیه علی أساس الأصول والموازین العرفیة والشرعیة، ویمکنه بهذا المال أن یعیش معیشة طبیعیّة تلیق بشأنه، وبذلک یستطیع تأمین حاجاته وحاجات اسرته، أعم من الحاجات المادیّة أو المعنویّة، وتکون له حیاة بعیدة عن البخل والإسراف والامساک، وهذا هو الشی ء الذی ورد فی الروایات الإسلامیّة بعنوان:

«نعم العون علی تقوی اللَّه الغنی (3)

أو «

نعم العون علی تقوی اللَّه المال»(4).

د) الغنی المفرط؛ یعنی تراکم الثروة بالاقتران مع روحیة الطمع فی الزیادة والکثرة بحیث یکون همّ الشخص فی الإدخار وإکتناز الذهب والفضة وتحصیل المال من أی طریق کان بعیداً عن أی رابطة شرعیة وعرفیة ولا یراعی فی ذلک حقوق الآخرین، وقد ورد فی الروایات التعبیر عنه ب «سُکر المال»(5)، وبالنتیجة أنّ الإنسان یتوجه من جهة إلی الإسراف والترف، ومن جهة أخری یبتلی بالبخل والشح وعدم دفع الحقوق المالیّة الواجبة.

وجدیر بالذکر أنّ الحاجات المعیشیة لأفراد البشر تختلف باختلاف العصور والقرون وبحسب المناطق والأمکنة، بل تختلف بلحاظ شؤون الأفراد وحتی باختلاف الحاجات للفرد فی مراحل حیاته المختلفة.

ومن هنا یمکننا استنتاج هذه الحقیقة، وهی أنّ الفقر والغنی له مفهوم نسبی ومتغیر فی الأزمنة المختلفة وطبقاً لحاجات أو مستوی الدخل فی


1- مغنی المحتاج، ج 3، ص 106.
2- غنیة النزوع، ص 123، قسم الفقه، کتاب الزکاة.
3- وسائل الشیع ة، ج 12، ص 16، أبواب مقدمات التجارة، باب 6، ح 1.
4- کنز العمّال، ج 3، ص 239، ح 6342.
5- مستدرک الوسائل، ج 11، ص 371، ح 13293.

ص: 156

المجتمع، وقد ورد فی روایة سفیان الثوری أنّه دخل علی الإمام الصادق علیه السلام وعلیه ثیابٌ جیاد فقال: یاأبا عبداللَّه! إنّ آباءک لم یکونوا یلبسون مثل هذه الثیاب، فقال له:

«إنّ آبائی کانوا یلبسون ذلک فی زمان مقفر مقصر، وهذا زمان قد أرخت الدنیا عزالیها فأحقّ أهلها بها أبرارها»(1).

والنتیجة: أنّ کلّ شخص لا یملک من الإمکانات الضروریة فی زمانه ومکانه وأمثال ذلک ولا یکون مستوی معیشته متناسباً مع ظروف زمانه یحسب فقیراً.

استخدامات مفردة الفقر:

فی هذه المقدّمة من اللازم الإشارة إلی نقطة أخری، وهی أنّه بالرغم من أنّ الفقر فی مقابل الغنی فی المسائل الاقتصادیّة لا یملک إلّامعنی واحداً، ولکن بما أنّ هذا المصطلح یستخدم فی موارد أخری أیضاً، فمن اللازم الإشارة إلی تلک الموارد لیتبیّن الفرق بینها وبین الفقر والغنی فی الدائرة الاقتصادیّة.

1. الفقر الذاتی (2): وهذا المعنی للفقر یتعلق بکلّ ممکن الوجود، الذی یعیش الحاجة والفقر فی ذاته ولا یختص بالإنسان، وبما أنّ جمیع الممکنات محتاجة إلی الخالق جلّ وعلا والذی هو الغنی المطلق ولا یحتاج فی ذاته ووجوده وصفاته للآخرین، فإنّ کلّ ما سوی اللَّه تعالی فقیر له ومحتاج إلیه وهو الغنی الحمید:

«یَا أَیُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَی اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِیُّ الْحَمِیدُ»(3).

2. الفقر الثقافی: هذا المصطلح یستخدم کثیراً فی هذا الزمان، ویعنی قلّة أو انعدام المعرفة اللازمة بأمور الحیاة، ومن نتائجه التمسک بالسنن والعادات غیر المعقولة للقدماء والآباء أو للمجموعات الفاسدة فی کلّ عصر، والفقر الثقافی، یعنی الجهل وعدم الاطلاع، یعتبر من أسوأ أنواع الفقر کما ورد عن أمیرالمؤمنین علی علیه السلام:

«لا فقر أشدّ من الجهل»(4)

، لأنّ أساس الکثیر من المشاکل والتخلف والانحطاط ناتج عن هذا الفقر.

3. الفقر الإقتصادی (المادّی والمعیشی): ویعنی الحرمان من ضروریات الحیاة مثل الطعام واللباس والمسکن، وبالنسبة لهذا النوع من الفقر وردت أیات کثیرة فی القرآن الکریم تقرر هذا المعنی:

«لِلفُقَرَاءِ الَّذِینَ أُحْصِرُوا فِی سَبِیلِ اللَّهِ لَایَسْتَطِیعُونَ ضَرْباً فِی الْأَرْضِ ...»(5)

وهذه الآیة الشریفة تبیّن حال جماعة من المسلمین الأوائل المحرومین، وهم الذین اخرجوا من أوطانهم ولا یسمح لهم فی اشتراک فی میادین القتال ضد الباطل ولا یستطیعون الکسب والعمل لأجل تأمین ما یحتاجونه فی الحیاة ولا یستطیعون السفر للتجارة أیضاً.

وفی الآیات المتعلقة بمصارف الزکاة والخمس والإنفاق المندوب ورد الکلام عن هذا الفقر فی القرآن الکریم مراراً.

4. الفقر الروحی والأخلاقی: ویعبّر عن هذا الفقر ب «فقر النفس»(6)، وبما أنّ الإنسان مرکب من جسم وروح، وکما أنّ الجسم یحتاج إلی الغذاء وسائر الحاجات الأخری والشخص الفاقد لها یبتلی بالفقر المادی، فإنّ الروح أیضاً تحتاج إلی غذاءٍ مناسب، وقلّة هذا النوع من الغذاء الروحی یستلزم ابتلاء الإنسان بالفقر المعنوی والخواء الروحی، وطبعاً فإنّ هذا النوع من الفقر له فروع متعددة، مثل الفقر الناشی ء


1- وسائل الشیعة، ج 3، ص 350، أبواب أحکام الملابس، باب 7، حدیث 12.
2- مفردات للراغب، مادة« فقر».
3- سورة فاطر، الآیة 15.
4- وسائل الشیعة، ج 11، ص 162، أبواب جهاد النفس، باب 8، ح 9؛ کنز العمّال، ج 16، ص 120، ح 44135.
5- سورة البقرة، الآیة 273.
6- المفردات للراغب، مادة« فقر».

ص: 157

من الطمع والحرص وطلب الدنیا والبخل وما إلی ذلک.

ومن بین هذه الأقسام الأربعة، فإنّ القسم الأوّل «الفقر الذاتی» غیر اختیاری، والاعتراف والاذعان بهذه الحقیقة یعدّ أکبر افتخار للإنسان حیث یدعوه للوقوف أمام معبوده من موقع الخضوع والطاعة والعبودیة، ولذلک فإنّ هذا الفقر افتخار للبشر کما ورد عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«الفقر فخری»(1)

، کما فی تفسیر الفلاسفة لهذا الحدیث الشریف.

أمّا القسم الثانی والرابع، فهو من الفقر المذموم والسلبی للإنسان، وینبغی علی کلّ إنسان مواجهة هذین النوعین من الفقر، وعلی هداة الامّة وعلمائها مسؤولیّة رفع هذه الأمراض والآفات من فضاء المجتمع البشری.

النوع الثالث (الفقر الاقتصادی) هو الموضوع مورد البحث فی هذه المقالة، والمراد بمصطلح الفقر هنا هذا المعنی، والبحوث المتعلقة به فی هذه المقالة تتضمّن خمسة بحوث:

البحث الأوّل: أنواع الفقر الإقتصادی.

البحث الثانی: عوامل وأسباب الفقر فی المجتمع البشری.

البحث الثالث: الذم الشدید للفقر فی الثقافة الإسلامیّة.

البحث الرابع: التداعیات والآثار المخربة للفقر للمجتمع البشری.

البحث الخامس: طرق مکافحة الفقر.

***

1. الفقر المطلق:

وهو أن یکون الفرد معدماً من کلّ جهة ولا یستطیع تسدید نفقات أی حاجة من حاجاته وضروریات حیاته.

2. الفقر النسبی:

إنّ حاجات الإنسان متفاوتة ومختلفة، فإذا احتاج الفرد فی ظلّ ظروف معینة إلی


1- بحار الأنوار، ج 69، ص 30.

ص: 158

مخارج لإدارة حیاته بحیث لا یوجد لدی الأفراد الآخرین مثل هذه النفقات ولا یشعرون بالحاجة إلیها، فمثل هذه الحالة تستدعی الفقر النسبی، مثلًا الشاب الذی یحتاج إلی زواج وبالتالی یستدعی ذلک نفقات معینة، فإذا کان فاقداً لمثل هذه النفقات فإنّه یعدّ فقیراً، ورغم أنّ الأشخاص الآخرین أیضاً یفقدون مثل هذه النفقات ولکن بما أنّهم لا یحتاجون إلی الزواج فإنّهم لا یعتبرون فقراء.

البحث الأوّل: أنواع الفقر الاقتصادی

اشارة

ذکروا عدّة تقسیمات لهذا النوع من الفقر وبالإمکان استعراض ثلاثة أقسام له من زاویة معینة:

1. الفقر الفردی (الشخصی):

وفی هذه الحالة فإنّ الإنسان من جهة عدم قدرته علی تأمین نفقات حیاته ونفقات الأشخاص المتعلقین به یقع مورد البحث، وربّما یکون أکثریة أفراد المجتمع من طبقة المرفهین، ولکن ثمة فقراء فی هذا المجتمع.

2. الفقر العام (الفقر الجمعی):

وهو الفقر الذی یلقی بظلاله علی غالبیة أفراد المجتمع وله عوامل مختلفة من قبیل قلّة المنابع والذخائر الطبیعیّة، القحط والجفاف، الحالة الجغرافیة الخاصّة، الحروب، الزلازل المدمرة أو حالة الکسل والإهمال لدی أفراد المجتمع، وربّما یبرز من بین أفراد هذا المجتمع عدّة قلیلة من المترفین والمرفهین.

وفی هذا العصر فإنّ الفقر الجمعی یتمّ محاسبته عن طریق قلّة الدخل السنوی للأفراد أو بمعاییر خاصّة.

3. الفقر الحکومی:
اشارة

وذلک إذا فرغت خزینة الدولة من الأموال التی تعتبر رصیداً لدعم الحکومة، أو لم یکن هناک بقدر الکفایة من المال وکانت الطرق لتقویة هذه المیزانیة موصدة أمام الحکومة، أو أنّ التشکیلات الحکومیة لا تتحرک علی مستوی تقویة القدرة المالیّة من خلال جذب الاستثمارت الخارجیة أو الداخلیة، وفی هذا الوقت تکون الدولة فقیرة

***

التقسیم الآخر:

ویمکن تقسیم الفقر من زاویة أخری إلی قسمین:

البحث الثانی: عوامل وأسباب الفقر فی المجتمع البشری

اشارة

إنّ اللَّه تبارک وتعالی جعل من النعم المادیّة والمعنویّة فی الأرض بقدر کفایة جمیع أفراد البشر، بل بمقدار حاجة جمیع الحیوانات والنباتات وسائر الموجودات الأخری، ولکن هذه المنابع محدودة ولیست لا متناهیة، إذن فالبشر هم الذین یجب علیهم رعایة العدل والانصاف فی عملیّة الاستفادة من هذه النعم والمواهب الإلهیّة وأن یرضوا بحقّهم ولا یعتدوا علی حقوق الآخرین.

إنّ رشد ورقی الإنسان یرتبط بأمرین: وجود المواهب والنعم الإلهیّة بقدر الکفایة، وتوفر الظروف والإمکانات المتناسبة:

الأوّل: وفور الإمکانات والمواهب الإلهیّة؛

وهذه المواهب وضعها اللَّه تعالی فی اختیار جمیع أفراد البشر، بل جمیع الموجودات:

«هُوَ الَّذِی خَلَقَ لَکُمْ مَّا فِی الْأَرْضِ جَمِیعاً ...»(1).

الثانی: وجود الإمکانات المتناسبة؛

فیجب علی أفراد البشر توفیر حالة المتناسبة لأنفسهم، ولغرض توفیر هذه الحالة المتناسبة لابدّ من الاستعانة والاستمداد بالآخرین.

إنّ أصل وأساس البحث فی عوامل الفقر یرتبط بهذین الأمرین، وفی کلّ واحد من هذین الأمرین، مذاهب فلسفیة ومدارس اقتصادیّة معاصرة لها آراءها الخاصّة فی هذا المجال.

فجماعة ذهبوا إلی إنکار الأمر الأوّل وقالوا: إنّ مسألة الفقر (وأساساً المشکلات الاقتصادیّة) ناشئة من قلّة المواد الأولیّة ومحدودیة مصادر الإنتاج، وببیان آخر: إنّ حاجات البشر غیر محدودة، ومصادر الإنتاج محدودة، أی أنّ عدم التوازن بین العرض والطلب یستلزم الوقوع فی هوة الفقر والجوع والمشاکل الاقتصادیّة التی لا تنحل أبداً ویمکن اعتبارها من الضرورات الاجتماعیّة وبالتالی فإنّ حالة الحرمان والفقر لا تنفصل أبداً عن حیاة البشر.

نقد وتحقیق:

إنّ نظام عالم التکوین فی الرؤیة الإسلامیّة منسجم ومتسق إلی درجة أنّه لو تحرک البشر فی الاستفادة من المنابع الأولیّة فی عالم الطبیعة والتکوین، ومن موقع رعایة النظام التشریعی الإلهی وقاموا بالعمل بأحکام وقوانین الإسلام، فسوف لا یواجهون فی أی عصر مشکلة اقتصادیّة وأزمات ناشئة من حالات الفقر.

ویقرر القرآن الکریم فی هذا المجال هذه الحقیقة بتعبیرات مختلفة ویستفاد من مجموعها أنّ المائدة الإلهیّة الواسعة لا تواجه أی ندرة وقلّة فی الموارد:

1.

«أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَکُمْ مَا فِی السَّماوَاتِ وَمَا فِی الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَیْکُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ...»(2).


1- سورة البقرة، الآیة 29.
2- سورة لقمان، الآیة 20. والملفت أنّ فی ذیل هذه الإیة جملة یظهر منها أنّها تجیب علی أسئلة أنصار الرأسمالیّة:« وَمِنَ النَّاسِ مَنْ یُجَادِلُ فِی اللَّهِ بِغَیْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدیً وَلَا کِتَابٍ مُّنِیرٍ» وعلی هذا الأساس أنّ قلّة المواد الأولیّة فی الطبیعة لیست سوی أوهام لا تستند إلی دلیل علمی أبداً.

ص: 159

2.

«وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِی الْأَرْضِ إِلَّا عَلَی اللَّهِ رِزْقُهَا»(1).

3.

«وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَاتُحْصُوهَا»(2).

4.

«وَلَقَدْ مَکَّنَّاکُمْ فِی الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَکُمْ فِیهَا مَعَایِشَ قَلِیلًا مَّا تَشْکُرُونَ»(3).

ویستفاد من آیات قرآنیّة أخری أنّ المواهب الإلهیّة لیست لا متناهیة، بل کافیة، وعلی هذا الأساس یجب السعی لحفظها والاعتدال فی أمر الاستهلاک، یقول القرآن الکریم:

«وَإِنْ مِّنْ شَی ءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ»(4).

*** وتری المارکسیة أنّ عامل الفقر والجوع ناشی ء من مواقع التضاد بین شکل الإنتاج وعلاقات التوزیع، بمعنی أنّ المارکسیة تری أنّ مشکلة الفقر ناشئة من التضاد وعدم التجانس الموجود بین أشکال الإنتاج فی مرحلة العبودیّة والاقطاعیة والرأسمالیّة مع علاقات التوزیع، فالمارکسیون یقولون: فی هذه المراحل التاریخیّة فإنّ أدوات الإنتاج تقع بید أفراد أو فئات معینة فی المجتمع ونتیجة ذلک حرمان غالبیة أفراد المجتمع ولو أنّ البشریّة وصلت إلی مرحلة المجتمع الاشتراکی والشیوعی فبسبب وجود تجانس بین قوی الإنتاج وشکل التوزیع، فإنّ الفقر سیزول بنفسه، لأنّ الملکیّة الخاصّة فی ذلک الیوم لیس لها


1- سورة هود، الآیة 6.
2- سورة إبراهیم، الآیة 34؛ سورة النحل، الآیة 18.
3- سورة الأعراف، الآیة 10.
4- سورة الحجر، الآیة 21.

ص: 160

معنی.

وعلی هذا الأساس، فمادامت الملکیّة الخاصّة موجودة، فإنّ الدنیا ستبقی تحترق بنیران الفقر.

نقد وتحقیق:

یستفاد جیداً من مطالعة التاریخ البشری فی کلّ عصر وزمان وفی کلّ منطقة ومکان، أنّ الملکیّة الخاصّة أمر فطری ومن معطیات السنن الإلهیّة، وکلّ ما یقع علی خلاف الفطرة والسنّة الإلهیّة فهو محکوم بالفناء والإنعدام.

وعلی ضوء ذلک، فإنّ الرؤیة المارکسیة للمستقبل سوف لا تتحقق أبداً، وعلی فرض تحققها عن طریق استعمال القوّة والعنف، فلیس فقط لا تداوی جرحاً بل إنّها تزید من المشکلة الاقتصادیّة للبشر کما رأینا ذلک فی الاتحاد السوفیتی السابق.

*** وللمالتوستیین عقیدة أخری، ومعلوم أنّ توماس مالتوس (1) القس والعالم الاقتصادی المعروف وأتباعه یرون أنّ سبب الفقر والجوع یکمن فی زیادة نفوس العالم، والطریق الوحید لمواجهة الفقر، یکمن فی تحدید النسل وضبط عدد النفوس وربّما أحیاناً نتقبل الحوادث من قبیل الحروب والبلایا العامّة التی تؤدّی إلی قتل النفوس وسفک الدماء وانقطاع النسل، ومن هنا یتبیّن أنّ زیادة النفوس هی العامل الأساس فی المشکلة الاقتصادیّة التی تعیشها المجتمعات البشریّة(2).

نقد وتحقیق:

هذه النظریّة التی لا تری حفظ النفوس لازم فحسب، بل تبرر القتل وسفک الدماء وإثارة الحروب أیضاً، وبالتالی لیست منسجمة مع فطرة الإنسان السلیمة ولا مع نصوص الآیات القرآنیة والروایات الشریفة، لأنّ القرآن الکریم یری بأنّ قتل الإنسان البری ء یعاد قتل جمیع أفراد البشر:

«مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَیْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِی الْأَرْضِ فَکَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِیعاً»(3).

وفی آیة أخری یقول:

«وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَکُمْ خَشْیَةَ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِیَّاکُمْ»(4).

والنقطة الملفت للنظر هنا أنّ الآیة الأخیرة تنهی بشدّة عن القتل بسبب الخوف من الفقر، وجملة

«نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِیَّاکُمْ»

، تبیّن أنّ الوالدین فی الحقیقة هم الذین یجلسون علی مائدة الأبناء، وبالتالی ینتفعون من أرزاق السماء.

ومضافاً إلی ذلک، فإنّ مذهب «المالتوستیین» یری بأنّ سبب الفقر ازدیاد نفوس البشر وبالرغم من أنّ هذا المعنی ربّما یکون مقبولًا فی مواقع خاصّة (وفی ظروف معینة) فی قالب العناوین الثانویة حاله حال المسائل الأخری أیضاً، ولکن ازدیاد النفوس بعنوانه الأولی مطلوب ومحبذ إجمالًا ویتوافق مع تعالیم السماء أیضاً.


1- ولد توماس رابرت مالتوس، فی عام 1766 م فی اسرة ثریةانکلیزیة. وبعد انهاء الدراسة الأکایمیّة إلتحق بحوزة الروحانیّة المسیحیة وأصبح قسّاً. وألّف کتاباً سمّاه أصل کثرة النفوس وتأثیره فی ارتقاء المجتمع( اصل تکثیر نفوس و تأثیر آن در ارتقای جامعه). اعتبر فی هذا الکتاب أنّ العامل الأساس فی الفقر والمسکنة فی المجتمع غریزة کثرة تولید النسل. توفی مالتوس فی عام 1834 م.
2- انظر فی هذا المقام کتاب مسیرة علم الاقتصاد( سیر اندیشه اقتصادی) بالفارسیّة، ص 77، تألیف الدکتور باقر القدیری أصل وکذلک کتاب ملاحظات حول الرسائل الاقتصادیّة فی القرآن( ملاحظاتی پیرامون پیام های اقتصادی قرآن) بالفارسیّة، ص 594.
3- سورة المائدة، الآیة 32.
4- سورة الإسراء، الآیة 31.

ص: 161

العوامل الحقیقیّة (الداخلیة والخارجیة):
اشارة

بعد أن استعرضنا الآراء الآخری، ینبغی الآن التحقیق فی العوامل الحقیقیّة لظاهرة الفقر فی المجتمع البشری.

الفقر، بمعنی عدم انتفاع أفراد البشر من جمیع النعم التی یحتاجونها یعدّ آفة تعرض علی الإنسان بسبب العوامل العارضة.

وبعض هذه العوامل تتعلق بالآخرین (العوامل الخارجیة) من قبیل المدراء والمسؤولین والأثریاء فی المجتمع البشری وبعض هذه العوامل والعلل تتعلق بالفقراء والمحرومین أنفسهم (العوامل داخلیة).

أ) العوامل الخارجیة
مشکلات الإدارة:
اشارة

إنّ دور مدراء المجتمع فی إیجاد الفقر أکثر من سائر العوامل الأخری، وفی البدایة نستعرض العوامل المتصلة بهؤلاء المدراء:

1. سوء الإدارة والتخطیط:

إنّ کیفیة الإدارة لها تأثیر کبیر فی تطور أو رکود المجتمع وفی إیجاد حالات الفقر والغنی، فبعض شعوب العالم استطاعت بأقل الإمکانات والمعادن والذخائر، ولکن بإدارة صحیحة ونظام فاعل، من حلّ مشکلاتها الاقتصادیّة، فی حین أنّ الکثیر من البلدان تعیش حالات الإنهیار فی النظام السلیم للحیاة بسبب سوء إدارة القائمین والمسؤولین علیهم، یقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام:

«حسن التدبیر یُنْمی قلیل المال وسوء التّدبیر یُفْنی کثیره»(1).

ویقول النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أیضاً:

«ما أخاف علی امّتی الفقر ولکن أخاف علیهم سوء التّدبیر»(2).

وهذا الحدیث الشریف یشیر إلی أمر دقیق، وهو أنّ المجتمع الذی یعیش الفقر یستطیع بإدارة صحیحة أن یقف علی قدمه ولکن سوء التدبیر فی المجتمع هو المنشأ لظهور حالات الفقر والکثیر من الظواهر السلبیة الأخری فی المجتمع، ففی بلد یعیش إدارة ضعیفة وسیئة فإنّ القابلیات والإمکانات لدی الأفراد ستبقی راکدة ولا تتفتح وتنمو ولا یمکن الاستفادة الأفضل من تخصص النخب وأهل الخبرة وتبقی المنابع الطبیعیّة والثروات المادیّة (الأراضی، المیاه، والمعادن) متروکة لحالها.

وقد نهی الإسلام من إعطاء الأموال للسفهاء:

«وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَکُمُ الَّتِی جَعَلَ اللَّهُ لَکُمْ قِیَاماً»(3)

. وبدیهی أنّ تفویض المناصب الحساسة المتعلقة بالمجتمع للأشخاص الذین یفقتدون إلی قوة الإدارة أخطر بکثیر من إعطاء الأموال للسفهاء.

2. الخیانة:

مع الالتفات إلی أنّ أکثر أموال الناس بید الحکومات، فالخیانة فی حمایة تلک الأموال ووصولها إلی فئة قلیلة ومنع الآخرین من الاستفادة منها، سیؤدی إلی ظهور حالات الفقر فی المجتمع.

یقول رسول اللَّه صلی الله علیه و آله:

«الأمانة تجلب الغنی والخیانة تجلب الفقر»(4).

وهذا الکلام کما یصدق بالنسبة لأمانة وخیانة الفرد، فإنّه یصدق علی المجتمع کلّه، یقول لقمان الحکیم لابنه:

«کن أمیناً تکن غنیّاً»(5).

3. الإهمال فی جمع الضرائب الإسلامیّة

(الأوقاف، الخراج والمقاسمة، الزکوات والأخماس): إنّ بعض الحقوق المالیّة هی من حقّ الفقراء والمحتاجین، وینبغی أن تؤخذ من قِبل الحاکم الإسلامی وتنفق علی مواردها ومصارفها، کما قال الباری تعالی مخاطباً نبیّه الکریم صلی الله علیه و آله:

«خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً»(6)

، ومن هذه الجهة فإنّ النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله کان یرسل عمّالًا لجمع الزکوات وورد التعبیر عنهم فی الروایات بالمصدّق (7)، والخراج والمقاسمة أیضاً یجب أن تقوم الحکومة الإسلامیّة بجمعها بواسطة العاملین علیها ثمّ صرفها وإنفاقها علی مصالح المسلمین.

ویجمع فقهاء الشیعة علی أنّ أخذ مثل هذه الضرائب یجوز للأشخاص المستحقین لها من ید السلاطین وحکّام الجور مع أنّهم یفتقدون الولایة الشرعیة التی تسوّغ لهم أخذها من الناس.

والحال أنّه إذا کان ثمة قصور وضعف فی جمع هذه الأموال من قِبل الحکومة، فإنّ ظاهرة الفقر ستنتشر فی جو المجتمع (8)، یقول الإمام علی علیه السلام فی کتاب إلی أحد عمّاله: «

وَإِنَّ لَکَ فِی هذِهِ الصَّدَقَةِ نَصِیباً مَفْرُوضاً، وَحَقًّا مَعْلُوماً، وَشُرَکَاءَ أَهْلَ مَسْکَنَةٍ، وَضُعَفَاءَ ذَوِی فَاقَةٍ، وَإِنَّا مُوَفُّوکَ حَقَّکَ، فَوَفِّهِمْ حُقُوقَهُمْ، وَإِلَّا تَفْعَلْ فَإِنَّکَ مِنْ أَکْثَرِ النَّاسِ خُصُوماً یَوْمَ الْقِیَامَةِ، وَبُؤْساً لِمَنْ- خَصْمُهُ عِنْدَ اللَّهِ- الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاکِینُ وَالسَّائِلُونَ وَالْمَدْفُوعُونَ، وَالْغَارِمُونَ وَابْنُ السَّبِیلِ»(9).

4. نفوذ عملاء الاستعمار:

إنّ کلمة استعمار واستثمار فی المصطلح المعاصر تعنی عملیّة الاستغلال من طرف واحد والاستیلاء علی أتعاب الآخرین (10)، وهذا البلاء الاجتماعی تمظهر فی القرون الأخیرة بواسطة الحکومات الکبیرة بالنسبة للدول الضعیفة والشعوب الفقیرة وبالتالی تسبب فی حالات الفقر العام بین أفراد هذه المجتمعات الضعیفة، وفی المجتمعات البشریّة القدیمة کانت ظاهرة الاستعمار تأخذ صوراً أخری، وأحد رسوم وعادات الجاهلیة الاستیلاء علی أتعاب النساء من قِبل الرجال وإبقاهن فی حالة الفقر والعوز،


1- غرر الحکم، ح 8081.
2- عوالی اللئالی، ج 4، ص 39.
3- سورة النساء، الآیة 5.
4- بحار الأنوار، ج 72، ص 114، ح 6.
5- وسائل الشیعة، ج 8، ص 509، ح 33.
6- سورة التوبة، الآیة 103.
7- انظر: الکافی، ج 3، ص 536؛ صحیح البخاری، ج 2، ص 122 و 124.
8- المکاسب المحرّمة، الشیخ الأنصاری، ج 2، ص 201.
9- نهج البلاغة، الکتاب 26.
10- قاموس الاصطلاحات المعاصرة( فرهنگ اصطلاحات معاصر) بالفارسیّة، ص 61.

ص: 162

والقرآن الکریم مع شجبه هذه الظاهرة، یری بأنّ النساء حالهنّ حال الرجال فی مالکیتهن لأموالهنّ وهنّ مختارات فی إنفاق هذه الأموال:

«لِلرِّجَالِ نَصِیبٌ مِّمَّا اکْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِیبٌ مِّمَّا اکْتَسَبْنَ ...»(1).

إنّ قصّة استغلال واستعمار الشعوب وخاصّة فی القرون الأخیرة قصّة طویلة جدّاً ومحزنة، وقد سفک بسببها دماء الملایین من الشعوب، وحالیاً أیضاً فإنّ هذه الظاهرة مستمرة فیما یتصل بالبرامج الخادعة والمغریة بالنسبة لحقوق الإنسان، حیث تحترق شعوب وجماعات کثیرة من العالم بنیران الفقر والحرمان، وفی کلّ عام یموت ملایین الأشخاص بسبب الجوع أو سوء التغذیة، فی حین أنّ بعض الناس فی تلک الجهة من العالم تنفق ثروات عظیمة فی حیاة الترف والإسراف والتبذیر وبدوافع اشباع الأهواء والشهوات، وقد کتبت لحدّ الآن کتب ومقالات عجیبة فی هذا المجال.

أجل! إنّ أحد العوامل المهمّة للفقر یتمثّل فی قوی الظلم والهیمنة، الذین یستولون علی أتعاب الآخرین ویمتصون جهودهم ویقودونهم نحو هاویة الفقر والمسکنة.

إنّ أولیاء الإسلام الحقیقیین أکدوا کثیراً علی لزوم دفع ثمرة أتعاب الناس وحقوقهم إلیهم ولم یکونوا مستعدین لإعطاء دینار واحد من أتعاب الناس لغیرهم بدون حق.

وفی الخبر أنّ عبداللَّه بن زمعة، وهو أحد أصحاب الإمام علی علیه السلام، طلب من الإمام علیه السلام فی زمان خلافته مساعدة مالیة، فقال له الإمام علیه السلام:

«... إنّ هذا المال لیس لی ولا لک ... فَجَناة أیدیهم لا تکون لغیر أفواههم

...»(2).

العوامل الخارجیة الأخری:
اشارة

وثمة عوامل أخری أیضاً لا تتصل بوجود الزعماء والقادة، لأنّ جمیع أفراد المجتمع وبشکل فردی أو جمعی (حکّام، القضاة، التجّار، أرباب العمل أو الناس العادیین) بإمکانهم إیجاد أو تشدید الفقر، وجمیع هذه العوامل تعود للظلم أو الجهل.

وببیان آخر: إذا فقدت العدالة من أجواء المجتمع البشری أو سادت حالات الجهل علی الذهنیّة العامّة فإنّ الفقر سیستولی علی الناس، کما ورد فی روایة عن الإمام موسی بن جعفر علیه السلام أنّه قال:

«لو عُدِلَ فی النّاس لَاسْتغنوا»(3)

، وینهی القرآن الکریم عن أکل المال بالباطل:

«وَلَا تَأْکُلُوا أَمْوَالَکُمْ بَیْنَکُمْ بِالْبَاطِلِ ...»(4)

، وأکل المال بالباطل له معنی واسع جدّاً ویستوعب جمیع النشاطات الاقتصادیّة غیر المشروعة التی تشمل کلّ حقّ من حقوق الآخرین.

یقول الإمام الصادق علیه السلام فی کلام عمیق:

«إنّ النّاس ما افتقروا، ولَا احتاجوا، ولا جاعوا، ولا عروا إلّا بذنوب الأغنیاء»(5).

وبعض هذه العوامل والأسباب کالتالی:

1. غصب حقوق العمّال

إنّ أحد العوامل المهمّة للفقر فی عصرنا الحاضر بل فی کلّ زمان ومکان الظلم والجور الذی یقوم به أرباب العمل بالنسبة للعمّال، فلا یعطوهم من حصتهم وحقّهم إلّاسهماً قلیلًا، وبالرغم من وجود قوانین ومقررات فی عصرنا الحاضر لحفظ حقوق العمّال ولکننا نری بکلّ وضوح أنّ الکثیر من أرباب العمل، وخاصّة أصحاب المصانع والشرکات الکبیرة، یلقون بهذه القوانین جانباً أو یعملون علی تفسیرها بما یصب


1- سورة النساء، الآیة 32.
2- نهج البلاغة، الخطبة 232.
3- کافی، ج 1، ص 542.
4- سورة البقرة، الآیة 188.
5- وسائل الشیعة، ج 6، ص 4، ح 6.

ص: 163

فی مصلحتهم، وبالنتیجة یتمّ سحق حقوق العمّال، ویترتب علی ذلک ظهور حالات الفقر والعوز بین هؤلاء المساکین.

أمّا فی الإسلام فإنّ حفظ حقوق العمّال یحظی بأهمیّة فائقة وکبیرة، إلی درجة أنّ غصب حقوق العمّال یعتبر واحداً من الذنوب الثلاثة غیر قابلة للعفو والإغماض، یقول النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله:

«إنّ اللَّه غافر کلّ ذنب إلّامَنْ أحدث دیناً أو اغتصب أجیراً أجره أو باع حرّاً»(1).

ویقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام أیضاً فی حدیثه لأصبغ بن نباتة:

«ألا من ظلم أجیراً أجرته فلعنة اللَّه علیه»(2).

وهذا المضمون ورد فی مصادر أهل السنّة أیضاً بشکل حدیث قدسی؛ یقول تبارک وتعالی:

«ثلاثة أنا خصمهم یوم القیامة ... رجلٌ استأجر أجیراً فاستوفی منه ولم یعط أجره»(3).

2. الإحتکار، والإجحاف فی التسعیر

وأحد الأسباب الأخری لشیوع الفقر فی المجتمع البشری، یتمثّل فی الإجحاف من قبل المنتجین والبائعین والدلالین بالنسبة للمستهلکین، فهؤلاء یعملون بشتی أنواع الحیل وإیجاد السوق السوداء، للضغط علی الطبقة الضعیف من المجتمع من خلال التسعیرات غیر العادلة، وبالتالی یعملون علی زیادة حالة الفقر لدی هؤلاء المستضعفین.

یقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی عهده المعروف لمالک الأشتر فی إحدی توصیاته لمالک:

«فَامْنَعْ من الإحتکار فإنّ رسول اللَّه مَنَع منه، وَلْیَکُن البیع بیعاً سمحاً بموازین العدل وأسعار لا تُجْحِف بالفریقین من البایع والمبتاع»(4).

3. الامتیازات الخاصّة

وأحد العوامل الأخری فی تکریس الفقر لدی شریحة کبیرة من الناس استفادة طبقة خاصّة من الأموال العامّة، وهذه الامتیازات غیر المبررة تتسبب فی إزدیاد ثروة فئة معینة علی حساب الفئات الأخری وتکریس الذلة والفقر فی أفراد الطبقة الضعیفة.

القرآن الکریم فی مورد «الفی ء» والذی یشکل قسماً من بیت المال، یتحدّث بکلام بلیغ عن هذه الظاهرة:

«مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَی رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَی فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِی الْقُرْبَی وَالْیَتَامَی وَالْمَسَاکِینِ وَابْنِ السَّبِیلِ»

ثمّ یقول:

«کَیْ لَایَکُونَ دُولَةً بَیْنَ الْأَغْنِیَاءِ مِنْکُمْ»(5).

وفی الماضی کانت طبقة من الأشراف وحاشیة السلاطین والأفراد الذین یملکون ألقاباً خاصّة فی الدولة یملکون امتیازات منحصرة بهم، وحالیاً فإنّ الرأسمالیین الکبار والشرکات العظیمة والبنوک القویة والمصانع الضخمة تقع بید فئة قلیلة من الناس یملکون هذه الامتیازات.

وثمة احصاءات مخیفة انتشرت أخیراً فی الأخبار العالمیّة وأزاحت اللثام عن هذا الأمر وبیّنت


1- المصدر السابق، ج 13، أبواب أحکام الإجارة، باب 5، ح 4.
2- بحار الأنوار، ج 40، ص 45.
3- کنز العمال، ج 16، ص 36، ح 43826.
4- نهج البلاغة، الکتاب 53.
5- سوة الحشر، الآیة 7.

ص: 164

أنّ الأسباب الحقیقیّة للفقر تتمثّل فی تلک الامتیازات الخاصّة وأشکال التلاعب والاختلاس، إلی حدّ أنّه ورد فی الأخبار فی تاریخ 9/ 3/ 85 «أنّ نصف ثروة العالم یملکها ثلاثمائة نفر من الملیاریّة، والنصف الآخر بید سائر الناس فی العالم وعددهم ستة ملیار نفر تقریباً».

وجاء فی حدیث عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله:

«سبعة لعنتهم وکلّ نبیّ مجاب ... المستأثر بالفی ء»(1).

4. الإمتناع من دفع الحقوق المالیّة

نحن نعتقد أنّ برنامج الضرائب الإسلامیّة قد وضع بشکل دقیق ومنظم بحیث إنّه لو تمّ العمل به بشکل صحیح فإنّ الفقر سینقلع من جذوره فی المجتمع الإسلامی أو یصل إلی الحدّ الأدنی، کما ورد فی الحدیث الشریف عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال:

«لو أنّ النّاس أدّوا حقوقهم لکانوا عایشین بخیر»(2).

وفی حدیث آخر قال:

«ولو أنّ النّاس أدّوا زکاة أموالهم ما بقی مسلم فقیراً محتاجاً ولَاستغنی بما فرض اللَّه له»

. ثمّ یضیف:

«وإنّ النّاس ما افتقروا ولا احتاجوا ولا جاعوا ولا عروا إلّابذنوب الأغنیاء»(3)

، وعلی ضوء ذلک فإنّ الإمام یقرر أنّ کلّ فقر وحاجة وجوع وعری ناشی ء من عدم عمل الأغنیاء بواجباتهم.

5. تحریف المفاهیم الدینیّة

إنّ من أهم عوامل الفقر فی المجتمع الدینی والإسلامی، تحریف المفاهیم الدینیّة، والذی تارة یقع من قِبل المتدینین والمؤمنین أنفسهم بسبب عدم معرفتهم بتعالیم الإسلام الحقیقیّة، وأحیاناً أخری من قِبل الأعداء، سواء من الحکّام أو الفرق والمذاهب المعاندة والمضادة للإسلام.

والتحریف علی عدّة أقسام: أحدها: من قبیل تبدیل النصوص المقدّسة الدینیّة وتحویرها، یعنی القیام بتحریف لبعض ألفاظ وعبارات الکتب الدینیّة أو نصوص الأحادیث الشریفة وأقوال أولیاء الدین، والنوع الآخر من التحریف والذی یعتبر أخطر وأکثر تخریباً من التحریف اللفظی، هو التحریف المعنوی والذی یعدّ أیضاً من عوامل الفقر الاجتماعی.

والتحریف المعنوی هو التحریف الذی یقع فی المفاهیم، وذلک أنّه یتمّ التلاعب فی معنی ومفهوم النص الدینی بدون زیادة ونقیصة فی ألفاظه، وبالتالی یتمّ تفسیر النص بوحی من المیول النفسانیة.

ومثل هذا التحریف ورد التعبیر عنه بالنسبة لتفسیر القرآن الکریم، ب «التفسیر بالرأی»، وقد ورد شجبه بشدّة فی الروایات الشریفة(4).

والتحریف فی المفاهیم الدینیّة تارة یقع فی دائرة العقائد الإسلامیّة، مثل مسألة الجبر والاختیار،


1- کنز العمال، ج 16، ص 90، ح 44038.
2- وسائل الشیعة، ج 6، ص 3، أبواب ما تجب فیه الزکاة، باب 1، ح 2.
3- همان، ص 4، ح 6.
4- انظر: بحار الأنوار، ج 89، باب تفسیر القرآن بالرأی، ص 107 فصاعداً؛ سنن الترمذی، ج 4، ص 268 فصاعداً.

ص: 165

وأخری فی دائرة المفاهیم الأخلاقیّة والاقتصادیّة مثل مسألة الصبر، الزهد والقناعة، وذلک بأن یتصور الشخص من مفهوم الصبر التسلیم والاستسلام فی مقابل المشکلات والتحدیات، ومعنی الزهد هو ترک النشاطات الاقتصادیّة، ومعنی القناعة ترک السعی وبذل الجهد لتحقیق حیاة أفضل، فی حین أنّ مثل هذه الأفکار لا تنسجم أبداً مع تعالیم الإسلام والتفاسیر الواردة للنصوص الإسلامیّة لهذه الألفاظ والکلمات.

وما یدفع حکّام الجور وقوی السلطة إلی تحریف الدین هو الأغراض السیاسیّة من قبیل استثمار واستغلال الرعیة، تبریر وتسویغ تحمل الظلم والانظلام من قِبل الرعیة وتضییع حقوقهم، کما کان الحال فی امراء بنی امیة وبنی العباس حیث کان لدیهم فئة من وعاظ السلاطین وعلماء الدین بوصفهم رواة للحدیث ومفسرین للقرآن وعلماء فی الدین، حیث کانوا یقلبون حقائق الدین ویفسرون آیات القرآن وروایات النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله بما یحلوا لهم وبما یرضی خلفاء الجور عنهم، وبالتالی یحققون أطماعهم ویکرسون هیمنتهم علی المسلمین.

إنّ الکفّار والأجانب استخدموا طرقاً کثیرة لاضعاف قدرة المسلمین واستنزاف طاقاتهم والاستفادة منهم بما یحقق لهم مطامعهم.

یقول الباری تعالی فی القرآن الکریم:

«أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ یُؤْمِنُوا لَکُمْ وَقَدْ کَانَ فَرِیقٌ مِنْهُمْ یَسْمَعُونَ کَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ یُحَرِّفُونَهُ»

، فلم یکن تحریفهم عن عدم الوعی؛ بل کان تحریفهم بوعی ودرایة

«ثُمَّ یُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ»(1)

ولکن لغرض إضلال الآخرین عن المسار الأصلی:

«یُحَرِّفُونَ الْکَلِمَ عَنْ مَّوَاضِعِهِ»(2).

إن تحریف المفاهیم الدینیّة علی إمتداد التاریخ وقع من قِبل المسلمین أنفسهم أیضاً وإمتدت إلی دائرة الأشعار والمواعظ والنصائج أیضاً، وفی صدر الإسلام کان عثمان بن مظعون، وهو مسلم ملتزم ومخلص، یتصور أنّ سلوک طریق الرهبنة مقبول فی الإسلام، ولذلک ترک عمله ولبس ثیاب الرهبان واعتزل فی زاویة من البیت واشتغل بالعبادة، ولکن أدرک خطأه من خلال نصیحة النّبی صلی الله علیه و آله (3) له، فمثل هذه التحریفات وبدوافع مختلفة مستمرة لحد الآن.

وفی عصرنا الحاضر نری بعض المثقفین الدینیین أیضاً المتأثرین بمذاهب المادیّة والغربیة، یتحرکون علی مستوی تأویل وتفسیر النصوص الدینیّة بوحی من آرائهم وأهوائهم، وطبعاً فإنّ أعداء الإسلام لم یقفوا مکتوفی الأیدی وقد سعوا إلی القضاء علی الدین من خلال مقولة التحریف غالباً.

تحریف المفاهیم الإسلامیّة:
اشارة

بعد هذه المقدّمة نستعرض الآن بعض المفاهیم الدینیّة المقدّسة التی لم تسلم بدورها من عملیّة التحریف وترک ذلک تأثیراً کبیراً فی إشاعة الفقر فی المجتمعات الدینیّة:


1- سورة البقرة، الآیة 75.
2- سورة النساء، الآیة 46.
3- انظر الکافی، ج 5، ص 494، ح 1؛ مسند أحمد، ج 6، ص 226.

ص: 166

أ) القضاء والقدر (الجبر والاختیار)

إنّ بعض القضاء والقدر یعدّ من أقدم المسائل الکلامیّة وأکثرها غموضاً وفی هذه المسألة توجد نظریتان: افراطیة وتفریطیة وکلّ واحدة منهما استندت فی مقوماتها علی أساس الاستنباط من ظواهر بعض الآیات والروایات وکلا النظریتین مجانبتان للصواب.

النظریّة الاولی: تتعلق بمذهب «القدریة» أو «المفوّضة» وهؤلاء یعتقدون بالحریة المطلقة للبشر، والمعتزلة الذین هم أنصار هذا المذهب یقولون بأنّ مصیر الإنسان مفوّض إلیه نفسه وهو الذی یرسم مصیره وحیاته وأنّ اللَّه تعالی لا یتدخل فی مصیر الإنسان:

«فَمَا کَانَ اللَّهُ لِیَظْلِمَهُمْ وَلَکِنْ کَانُوا أَنفُسَهُمْ یَظْلِمُونَ»(1)

، فهؤلاء استفادوا من هذه الآیات لإثبات مقولة التفویض المطلق للإنسان.

النظریّة الثانیة: هی مقولة «الجبریین»، هؤلاء یقولون إنّ جمیع حوادث العالم تحدث فقط بمشیئة اللَّه، وهذه الحوادث مکتوبة ومثبتة فی کتاب غیبی ولا شأن للإنسان فی التأثیر علی مصیره وما سیقع له من حوادث مستقبلیة:

«مَا أَصَابَ مِنْ مُّصِیبَةٍ فِی الْأَرْضِ وَلَا فِی أَنْفُسِکُمْ إِلَّا فِی کِتَابٍ مِّنْ قَبْلِ أَنْ نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِکَ عَلَی اللَّهِ یَسِیرٌ»(2)

، وقد تصوروا أنّ مفهوم هذه الآیة هو أنّ الإنسان لیس حرّاً فی رسم مستقبله ومصیره، وأنّ کلّ شی ء یقع فی العالم البشر بشکل جبری وبدون اختیار من قبل الإنسان.

إنّ عقیدة الجبر ترتب علیها آثار اجتماعیّة خطیرة، وهذه العقیدة فتحت أیدی الحکّام الظالمین وسلاطین الجور للانتقام من المظلوم وتقیید أیدی المظلومین واستطاعوا علی أساس هذا المفهوم غصب أموال الناس وتکریس هیمنتهم وسلطتهم والاستیلاء علی حقوق الآخرین، لأنّ ذلک یدخل فی دائرة المشیئة الإلهیّة والإرادة الربانیة، وبالتالی فإنّ الفقراء والمستضعفین بدورهم لا یتجرؤن علی مواجهتهم والتصدی لهم، لأنّ هذه المواجهة للظالمین تعتبر مواجهة لإرادة اللَّه تعالی ولتقدیره، بل إنّهم غیر مستعدین أن یتحرکوا علی مستوی الکسب من أجل تحصیل نعم اللَّه تعالی، لأنّهم یقولون: لا یمکن مواجهة القسم والتقدیر الإلهی.

إنّ المعتقد بالجبر یتصور أنّ الظالم والمظلوم والغاصب والمغصوب، إنّما یقفون فی مواجهة الباری تعالی بشکل مباشر فصاحب الحقّ لیس له عمل بمن یأخذ حقّه، لأنّ الغاصب لم یسحق حقّه، لأنّ ما وقع یمثّل الإرادة الحتمیة للباری تعالی بعیداً عن تدخل إرادة الآخرین.

أمّا أتباع مدرسة أهل البیت علیهم السلام فإنّهم یرفضون کلا هاتین المقولتین ویدعون المسلمین إلی طریق وسط ومعتدل

«أمرٌ بین الامرین»

، والمراد من الطریق الوسط أنّ أفعال الإنسان تستند إلی الباری تعالی من جهة وإلی الإنسان من جهة أخری:

«لا جبر ولا تفویض بل أمرٌ بین الأمرین»

وفی هذه العقیدة ضمناً


1- سورة العنکبوت، الآیة 40.
2- سورة الحدید، الآیة 22.

ص: 167

أنّ الباری تعالی یعتبر مدبّراً لجمیع الأمور، فإنّ دور الإنسان فیها لا یکون مهملًا بل إنّ مصیره وتقدیره قد وضع بیده، وببیان آخر: إنّ اللَّه تعالی خلق الإنسان مختاراً وحرّاً وبإمکانه أن یختار طریق السعادة بنفسه (1) وعلی هذا الأساس فهو مکلّف بالتصدی ومواجهة عوامل الفقر ولا ینبغی له أن یخضع لعوامل الظلم والجور والاستغلال.

ب) التوکّل

وأحد المفاهیم الإسلامیّة الأخری التی تعرضت للتحریف من جهة بعض الأفراد، مفهوم التوکل.

إنّ الفهم الخاطی ء للتوکل هو أنّ الإنسان کما أنّه أحیاناً لا یقوم بالأعمال المتعلقة به بنفسه بل یتخذ وکیلًا لها، وهذا الوکیل یتحرک فی مجال العمل بدلًا من الموکّل، وعلی أساس مصالحه، وهکذا هو حاله فی مسألة التوکّل، حیث یفوّض أموره وأعماله إلی اللَّه کیما یقوم اللَّه تعالی بانجازها واتمامها، لأنّ اللَّه تعالی «نعم الوکیل»(2)، وأنّه علی کلّ شی ء قدیر، فالأفضل للإنسان أن یریح باله ویعطی للباری تعالی وکالة تامة ویستریح هو عن العمل والسعی (3).

وهذا الاستیحاء من مفهوم التوکلّ خطیر جدّاً، ویؤدّی إلی شیوع الفقر بین أفراد المجتمع، لأنّ وجود مثل هذا المنطق والمفهوم یمیت أی نشاط وحرکة فی الإنسان ویقضی علی قابلیاته وملکاته، وبالتالی یعیش حالة الکسل ویقبع فی بیته ویجلس وعینه تنظر إلی السماء وفمه مفتوح ینتظر اللقمة تنزل علیه وتصل إلی فمه.

ومن الواضح أنّ مثل هذا المفهوم من التوکّل غیر صحیح ولا ینسجم مع الإسلام، بل مخالف للعقل السلیم، فالإسلام قد أمر بشکل واسع بالعمل وبذل الجهد واعتبر العمل ردیفاً للجهاد فی سبیل اللَّه وقال:

«الکادّ علی عیاله کالمجاهد فی سبیل اللَّه»(4)

، فالعقل والشرع یقرران أنّ الدفاع عن العرض والنفس والمال والدین واجب علی الإنسان، والقرآن الکریم یقول فی مقام الجهاد:

«وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِّنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِّبَاطِ الْخَیْلِ»(5).

وقد ورد فی روایة معروفة تتحدّث عن جماعة من الصوفیة مع الإمام الصادق علیه السلام، حیث نقل لهم الإمام الصادق علیه السلام ضمن فی کلامه حدیثاً عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله قال:

«إنّ أصنافاً من امّتی لا یستجاب لهم دعاؤهم .... ورجل یقعد فی بیته ویقول: ربّ ارزقنی ولا یخرج ولا یطلب الرزق فیقول اللَّه عزّ وجلّ: عبدی ألم أجعل لک السبیل إلی الطلب والضرب فی الأرض بجوارح صحیحة فیکون قد أعذرت فیما بینی وبینک


1- وللمزید من الاطلاع علی مذهب الجبر والتفویض وأتباعه، وکذلک لتوضیح عقیدة أتباع أهل البیت انظر کتاب:« العدل الإلهی»، للعلّامة الشهید مرتضی المطهّری و نفحات القرآن، ج 4 لسماحة المؤلف.
2- سورة آل عمران، الآیة 173.
3- انظر:: المبسوط السرخسی، ج 30، ص 247( وفی هذا الکتاب نقلنا کلام واستدلال بعض العلماء فی مجال مفهوم التوکل، ثمّ أجبنا علیه).
4- الکافی، ج 5، ص 88، ح 1. وورد مثل هذا المضمون فی کنزالعمال( ج 4، ص 5، ح 9203 و ص 6، ح 9205).
5- سورة الأنفال، الآیة 60.

ص: 168

فی الطلب الاتّباع أمری لکیلا تکون کَلّاً علی أهلک»(1).

ومع الالتفات إلی ما ذکر یتبیّن أنّ هذا الاستنباط من مفهوم التوکّل غیر سدید ولا ینسجم مع ثقافة الإسلام، وهذا المفهوم الخاطی ء ربّما کان موجوداً فی زمان رسول اللَّه صلی الله علیه و آله بین الجهلاء من المسلمین، فقد ورد فی الخبر أنّ أعرابیاً جاء إلی النّبی فی مسجد المدینة وقد ترک ناقته خارج المسجد فقال له النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله:

«أعقلتَ ناقتک؟»

قال: کلّا، فقد توکّلت علی اللَّه، فقال النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله

«إعقلها وتوکّل علی اللَّه»(2).

والمفهوم الصحیح للتوکلّ فی دائرة تعالیم الإسلام هو أنّ الإنسان یجب علیه السعی وبذل الجهد ما أمکنه ذلک، وهو خارج عن قدرته وإرادته فإنّه یتوکّل علی اللَّه تعالی ولا ییأس من رحمة اللَّه.

وقد سأل النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله جبرائیل عن معنی التوکّل علی اللَّه، فقال له جبرائیل:

«العلم بأنّ المخلوق لا یضرّ ولا ینفع، ولا یُعطی ولا یمنع، واستعمال الیأس من الخلق، فإذا کان العبد کذلک لم یعمل لأحدٍ سوی اللَّه، ولم یَرجُ ولم یَخَف سوی اللَّه، ولم یَطْمع فی أحد سوی اللَّه، فهذا هو التوکّل»(3).

وفی روایة أخری عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه بعد نزول آیة:

«وَمَنْ یَتَّقِ اللَّهَ یَجْعَلْ لَّهُ مَخْرَجاً وَیَرْزُقْهُ مِنْ حَیْثُ لَایَحْتَسِبُ وَمَنْ یَتَوَکَّلْ عَلَی اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ»(4)

، إنّ قوماً من أصحاب رسول اللَّه لما نزلت

«وَمَنْ یَتَّقِ اللَّهَ یَجْعَلْ لَّهُ مَخْرَجاً وَیَرْزُقْهُ مِنْ حَیْثُ لَایَحْتَسِبُ»

أغلقوا الأبواب وأقبلوا علی العبادة وقالوا: قد کفینا، فبلغ ذلک النّبی صلی الله علیه و آله فأرسل إلیهم، فقال وما حملکم علی ما صنعتم؟ قالوا: یارسول اللَّه تکفّل لنا بأرزاقنا فأقبلنا علی العبادة، فقال رسول اللَّه صلی الله علیه و آله:

«انّه من فعل ذلک لم یُستَجَبْ له، علیکم بالطّلب»(5).

ج) العزلة

والمفهوم الآخر من المفاهیم الدینیّة التی لم یتبیّن معناها بشکل صحیح وبالتالی أساء البعض الاستفادة منه، مسألة العزلة أو إعتزال الناس، فقد ورد فی بعض الروایات الترغیب فی إعتزال الناس والإبتعاد عنهم، کما ورد عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال للسفیان الثوری:

«یا سفیان فسد الزّمان، وتنکّر الإخوان وتقلّب الأعیان، فاتّخذنا الوحدة سکناً»(6).

وأنصار هذا التحریف، مضافاً إلی ما ذکر یستندون إلی الحدیث التالی فی إثبات رأیهم، وهو أنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله ذکر یوماً علی المنبر حدیثاً من وصایا یوشع بن نون (وصی النّبی موسی علیه السلام) ومضمونه:

«ألا إنّ خیر عباداللَّه التقیّ النّقی الخَفیّ، وإنّ شرّ عباد اللَّه المشار إلیه بالْأصابع»(7).


1- الکافی، ج 5، ص 67.
2- إرشاد القلوب، ج 1، ص 121؛ انظر: المبسوط السرخسی، ج 30، ص 249.
3- بحار الأنوار، ج 74، ص 20، ح 4.
4- سورة الطلاق، الآیة 2 و 3.
5- الکافی، ج 5، ص 84، ح 5.
6- مستدرک الوسائل، ج 11، ص 391.
7- بحار الأنوار، ج 67، ص 111، ح 12؛ کنز العمال( ج 3، ص 152) باب تحت عنوان« الخمول» یعنی المجهول وغیر معروف، ثم نقلوا روایات فی هذا المضمون.

ص: 169

وکذلک ورد عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله:

«لا یزال العبد بخیر ما لم یُعرف مکانه، فإذا عُرف مکانه لبسته فتنة لا یثبت لها إلّامن ثبّته اللَّه»(1).

هؤلاء یذکرون للعزلة فوائد عدّة، منها أنّ الإنسان یحفظ نفسه من الغیبة والکذب والحسد والریاء، وأنّ صومعة المسلم هو بیته حیث یحفظ فیه عینه ولسانه ونفسه، وفی حین أنّ الناس مشغولین بالدنیا فإنّ هذا الإنسان یجد الوقت الکافی لعبادة الباری تعالی، وأمثال هذه العبارات والکلمات.

وینبغی الالتفات إلی أنّ العزلة والاعتزال عن أفراد المجتمع بمثابة أصل لا یؤیده الإسلام أبداً، لأنّه أولًا: إنّ الإنسان مدنی بالطبع وأنّ أفراد المجتمع هم أعضاء جسم واحد ویحتاج بعضهم للبعض الآخر وأنّ التقدم المادی والمعنوی للمجتمع البشریّة رهین بالحیاة الاجتماعیّة، ومن هنا فإنّ الإسلام وسائر الأدیان الإلهیّة لا یمکن أن تقع تعالیمها وأحکامها علی الضد من المیول الطبیعیّة والغریزیّة للإنسان.

ثانیاً: ثمة أحکام کثیرة وآداب المعاشرة فی الإسلام لا تنسجم أبداً مع العزلة بشکل مطلق، من قبیل صلة الرحم، الأمر بالمعروف النهی عن المنکر، زیارة الأخ المسلم، تشییع الجنازة، صلاة الجماعة، صلاة الجمعة، مناسک الحج، وأمثال ذلک.

یقول الإمام علی علیه السلام:

«خالطوا النّاس مخالطة إن متّم معها بکَوْا علیکم وإن عشتم حنّوا إلیکم»(2).


1- کنز العمال، ج 3، ص 157، ح 5950.
2- نهج البلاغة، الکلمات القصار، الکلمة 10.

ص: 170

ومن خلال التحقیق فی مجموع الآیات والروایات الواردة فی هذا المجال نستنتج أنّ العزلة والاعتزال عن الناس ربّما یکون مطلوباً ومحبذاً فی الإسلام بالنسبة لأفراد خاصین وفی ظروف خاصّة یقول القرآن الکریم:

«فَأَعْرِضْ عَنْ مَّنْ تَوَلَّی عَنْ ذِکْرِنَا وَلَمْ یُرِدْ إِلَّا الْحَیَاةَ الدُّنْیَا»(1)

؛ و

«وَإِذَا رَأَیْتَ الَّذِینَ

یَخُوضُونَ فِی آیَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ»(2)

، والإعراض ورد فی القرآن الکریم بخصوص المشرکین (3)، والمعاندین (4).

وهکذا إذا احتمل شخص أنّ مشارکته فی بعض الاجتماعات یترتب علیه تأثیر سلبی، فلیس فقط لا یستطیع التأثیر علی أجواء المجلس والأفراد فیه، بل ربّما یتأثر بهذه المجالس والمعاشرة أکثر، أو أنّ حال الزمان وهجوم المفاسد إلی درجة لیس فقط لا یستطیع إسداء النصیحة للآخرین، بل ربّما یتلوث هو أیضاً، ففی مثل هذه الموارد لیس فقط الإسلام بل العقل أیضاً یأمر مثل هذا الشخص المهزوز أن یبتعد عن مثل هذه المجالس لیحفظ له هویته الدینیّة والإنسانیّة.

ویبدو أنّ الأفکار المتعلقة بالعزلة واجتناب الاختلاط مع أفراد المجتمع هی من الأفکار المستوردة من قِبل الرهبان والصوفیة من قِبل بعض المرتاضین الهنود وبواسطة الرهبان والصوفیة والتی نفذت إلی فضاء الثقافة الإسلامیّة وترکت آثارها السلبیة علی مستوی الأخلاق والاقتصاد، وکرست فی البعض طلب الفقر وترک الکسب، وإلّا فإنّ کلّ شخص یملک أدنی معرفة بتعالیم القرآن یعلم جیداً أنّ الإسلام لا یوافق علی هذا العمل إلّافی بعض الموارد الاستثنائیة.

وبدیهی أنّ المستعمرین وعملاءهم ومن أجل تحقیق مطامعهم والوصول إلی أهدافهم یستفیدون کثیراً من الأفکار التی تدعو الناس إلی العزلة.

د) الصبر
اشارة

ومن جملة المفاهیم التی تعرضت للتحریف مفهوم «الصبر»، ومن بین البحوث الأخلاقیّة التی کثر الحدیث عنها فی الآیات القرآنیّة وقلّما نجد مفهوماً تحدّث عنه القرآن الکریم بهذه الکثرة فی أکثر من آیة هو مفهوم الصبر.

وقد ورد فی روایة أنّ منزل الصبر من الإیمان بمنزلة الرأس من البدن، وکما أنّ الرأس هو رئیس البدن وبدونه لا تتیسر الحیاة للإنسان فالصبر أیضاً له هذا الدور بالنسبة لأجزاء الإیمان المختلفة(5)، وعن أهمیّة الصبر یکفی أنّ الثواب علی کثیر من الأعمال والصفات الحسنة والخیرة معین من قِبل الباری تعالی، ولکن بالنسبة لأجر الصابرین یقول:

«إِنَّمَا یُوَفَّی الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَیْرِ حِسَابٍ»(6).

ومع کلّ هذه الأهمیة للصبر فی دائرة التعالیم الإسلامیّة، ولکن للأسف فإنّ بعض الأفراد وبفهمهم الخاطی ء تصوروا أنّه مرادف لتحمل الظلم والجور ونتیجة هذا المفهوم المنحرف عاش المسلمون علی إمتداد تاریخهم حالات التحقیر والذلة والاستهزاء من قِبل الآخرین.

ولکن الصبر والاستقامة فی ا لإسلام له أنواع وأقسام ولا یندرج أی واحد منها فی دائرة تحمل الظلم والانظلام والذلة والاستسلام للظالمین:

1. الصبر فی مقابل الأهواء النفسانیة

(الصبر علی الشهوات)(7)، یعنی مقاومة الأهواء الشهوات المنفلتة التی تدعو الإنسان إلی إرتکاب الذنوب والسقوط فی فخ الشهوات.

2. الصبر فی مقابل طاعة اللَّه؛

2. الصبر فی مقابل طاعة اللَّه؛(8)

ونعلم أنّ أداء الواجبات وترک المحرمات یقترن عادة بالصعوبات والمشکلات، بحیث إنّ الإنسان لو لم یملک الاستقامة فی هذا السبیل فسوف یترک العمل بها، کما ورد فی القرآن الکریم:

«فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ»(9)

، وذهب البعض إلی أنّ استخدام مفردة الاصطبار بدل الصبر والتی تدلّ علی المبالغة تحکی عن أهمیّة الصبر علی طاعة اللَّه تعالی (10).

3. الصبر فی التبلیغ والدعوة إلی الحقایق الدینیّة و
اشارة

1- سورة النجم، الآیة 29.
2- سورة الأنعام، آیه 68.
3- سورة الأنعام، الآیة 106.
4- سورة الأعراف، الآیة 199.
5- نهج البلاغة، الکلمات القصار، الکلمة 82.
6- سورة الزمر، الآیة 10.
7- وقد أشارت الروایات إلی هذا المعنی ب« الصبر فی مقابل المعصیة».( ر. ک: بحار الأنوار، ج 79، ص 136؛ کنز العمال، ج 3، ص 273، ح 6515).
8- عُبّر عنه فی الروایات بمعنی( انظر: المصدر السابق).
9- سورة مریم، الآیة 65.
10- الصبر فی القرآن( یوسف القرضاوی)، ص 46.

ص: 171

الاستقامة فی طریق الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر

؛ إنّ الأنبیاء الإلهیین علیهم السلام هم المصداق البارز والعینی لهذا الصبر، ولذلک یحکی القرآن الکریم عن قول بعض الأنبیاء فی مقابل أقوامهم:

«وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَی مَا آذَیْتُمُونَا وَعَلَی اللَّهِ فَلْیَتَوَکَّلِ الْمُتَوَکِّلُونَ»(1)

، وکذلک یوصی الباری تعالی نبیّه الکریم صلی الله علیه و آله من موقع التسلی بأنّه إذا رأیت المشرکین یکذبونک فی دعوتک فلا تقلق ولا تحزن لأنّ الأنبیاء السابقین وقعوا أیضاً مورد تکذیب أقوامهم ولکنّهم صبروا واستقاموا فی طریق الرسالة والمسؤولیّة:

«وَلَقَدْ کُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّنْ قَبْلِکَ فَصَبَرُوا عَلَی مَا کُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّی أَتَاهُمْ نَصْرُنَا»(2).

4. الصبر فی مقابل المشاکل والتحدیات والمصائب الفردیة والاجتماعیّة؛

4. الصبر فی مقابل المشاکل والتحدیات والمصائب الفردیة والاجتماعیّة؛(3)

، إنّ أغلب ما وقع من التحریف فی مفهوم الصبر یندرج فی هذا المورد، وهذا الصبر یعنی الاستقامة بالاقتران مع السعی لحل المشکل، لا التسلیم فی مقابل المشکلات وتحملها بدون قید وشرط، ومثل هذا الصبر وردت التوصیة به فی میادین القتال، یقول القرآن الکریم:

«یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِذَا لَقِیتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا

...

وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِیحُکُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِینَ»(4)

. ومثل هذا الصبر یستتبع الظفر ویقترن به، وقد أشار القرآن الکریم إلی هذه النقطة وقال:

«یَا أَیُّهَا النَّبِیُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِینَ عَلَی الْقِتَالِ إِنْ یَکُنْ مِّنْکُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ یَغْلِبُوا مِائَتَیْنِ وَإِنْ یَکُنْ مِّنْکُمْ مِّائَةٌ یَغْلِبُوا أَلْفاً

...

فَإِنْ یَکُنْ مِّنْکُمْ مِّائَةٌ صَابِرَةٌ یَغْلِبُوا مِائَتَیْنِ وَإِنْ یَکُنْ مِّنْکُمْ أَلْفٌ یَغْلِبُوا أَلْفَیْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِینَ»(5).

وقطعاً فإنّ مثل هذا الصبر فی میدان القتال لا یعنی التسلیم والهون والضعف فی مقابل العدو، بل یتجلّی فی الدفاع عن عزّة وکرامة المسلمین ویتسبب أن یکون عشرون نفراً مثلًا یملکون القدرة للوقوف أمام مائتین نفر، والنماذج البارزة لهذا النوع من الصبر فی القرآن الکریم وردت فی قصّة طالوت وأصحابه وکذلک أصحاب بدر والکثیر من الأنبیاء وأتباعهم، کما یقول القرآن الکریم:

«وَکَأَیِّنْ مِّنْ نَبِیٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّیُّونَ کَثِیرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِی سَبِیلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَکَانُوا وَاللَّهُ یُحِبُّ الصَّابِرِینَ»(6).

وبالنسبة للإمام الحسین بن علی علیهما السلام سیدالشهداء وهو الاسوة فی الصبر والاستقامة، فنقرأ فی أحد زیاراته:

«ولقد عجبت من صبرک ملائکة السماوات»(7).

5. الصبر فی العلاقات الاجتماعی والإنسانیّة؛

إنّ رعایة آداب المعاشرة وحسن الروابط الاجتماعیّة لا تتیسر إلّابالصبر والاستقامة، ویعبّر عن هذا النوع من الصبر بالمداراة(8)، وذلک بالصبر فی دائرة الروابط


1- سورة إبراهیم، الآیة 12.
2- سورة الأنعام، الآیة 34.
3- انظر: بحار الأنوار، ج 68، ص 96 فصاعداً؛ کنز العمال، ج 3، ص 273 فصاعداً.
4- سوة الأنفال، الآیات 45 و 46.
5- سورة الأنفال، الآیات 65 و 66.
6- سورة آل عمران، الآیة 146.
7- بحار الأنوار، ج 98، ص 240.
8- یقول رسول اللَّه صلی الله علیه و آله:« مداراة الناس نصف الایمان والرفق بهم نصف العیش»( الکافی، ج 2، ص 117). وفی هذا الشأن انظر: کنز العمال، ج 3، ص 407.

ص: 172

العائلیة مع الزوجة، الأولاد، الأقرباء، الجیران، المعاونین، الأصدقاء، القوم والقبیلة، وبکلمة جمیع الناس، مثلًا بالنسبة للمعاشرة مع الزوجة، ینبغی للرجل أن یملک حالة متعادلة متوازنة بعیداً عن الإفراط والتفریط، یقول القرآن الکریم:

«وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ»(1)

فلا یحوّل حیاتها إلی جحیم، ولا یشدد علیها بسوء الظن والحدّة والغضب فی تعامله معها.

وفی حدیث شریف عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله:

«من صبر علی سوء خلق امرأته أعطاه اللَّه من الأجر ما أعطاه أیّوب علیه السلام علی بلائه، ومن صبرت علی سوء خلق زوجها أعطاها اللَّه مثل ثواب آسیة بنت مزاحم»(2).

ب. العوامل الداخلیّة
اشارة

وهنا نتحرک باتّجاه العوامل المتعلقة بالفقراء ذاتهم، لأنّ الفقر لبعض الأفراد الذین یعیشون ضیق المعیشة یستند إلی سلوکیاتهم أو روحیاتهم أنفسهم:

1. کفران النعمة

یستفاد من الآیات القرآنیة الشریفة أنّ ملکة الشکر تعدّ عاملًا لإزدهار الحیاة الاقتصادیّة وزیادة النعم الإلهیّة علی الإنسان خلافاً لکفران النعمة التی یتسبب فی الإرباک الاقتصادی وزوال النعم:

«وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّکُمْ لَئِنْ شَکَرْتُمْ لَأَزِیدَنَّکُمْ وَلَئِنْ کَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِی لَشَدِیدٌ»(3)

؛ و

«أَلَمْ تَرَ إِلَی الَّذِینَ بَدَّلُوا

نِعْمَتَ اللَّهِ کُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ»(4)

وآیات أخری أیضاً.

نعلم أنّ حقیقة الشکر(5)، هو الشکر العملی؛ یعنی أن یستخدم الإنسان کلّ نعمة من أجل الغرض الذی خلقت له، ویستفاد أیضاً من آیات القرآن هذا المعنی وأنّ الشکر فی الغالب من مقولة العمل:

«اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُکْراً»(6).

ونظراً إلی مقولة «تُعرف الأشیاء بأضدادها» فإنّ کفران النعمة یقع فی مقابل الشکر العملی، وهو سوء استخدام النعمة وصرفها فی الأهداف والمجالات التی لم تخلق لها، فکلّ استفادة منحرفة من النعم الإلهیّة یعدّ کفراناً بهذه النعم ویدخل فی دائرة الإسراف والتبذیر وأمثال ذلک، ومن مصادیق کفران النعمة.

وصحیح أنّ زیادة النعمة بسبب الشکر وزوال النعمة بسبب الکفران، أمر معنوی والإلهی، ولکن من خلال التحلیل المنطقی یمکن الوصول إلی هذه الحقیقة، لأنّ الإنسان الشاکر یعرف قدر النعمة ویعمل علی حمایتها وحفظها وترشیدیها، ولا یستخدمها فی مجالات عبثیة بل یحاول أن یفید الآخرین منها أیضاً ویتجنب الإسراف والتبذیر ویسعی من خلال إقامة العدل والقسط نیل رضا اللَّه تعالی الواهب لهذه النعمة.


1- سورة النساء، الآیة 19.
2- مکارم الأخلاق، ص 214؛ وورد مثل هذا المضمون فی بحار الأنوار، ج 100، ص 247، ح 30؛ الکافی، ج 5، ص 513، باب تحت عنوان« مداراة الزوجة».
3- سورة إبراهیم، الآیة 7.
4- سورة إبراهیم، الآیة 28.
5- للشکر مراحل ثلاث: معرفة المنعم، الشکر اللسانی، الشکرالعملی.
6- سورة سبأ، الآیة 13.

ص: 173

ومن هذا المنطلق فإنّ شکر النعمة یمکنه أن یکون عاملًا مؤثراً فی زیادة الثروة الاجتماعیّة، وکفران النعمه من شأنه أن یکون سبباً وعاملًا للفقر وخاصّة إذا کان هذا الکفران مقترناً بالإسراف والتبذیر واستخدام النعمة فی موارد غیر جدیرة ولا یشرک الآخرین فی الاستفادة منها.

2. البطالة والتکاسل

إنّ أحد عوامل التقدم الاقتصادی فی المجتمعات البشریّة السعی والعمل، والعمل فی الإسلام یعتبر عبادة، والسعی لطلب الکسب والحیاة الطیبة یعتبر مرتبة من الجهاد فی سبیل اللَّه، وهکذا کانت السیرة العملیّة للأئمّة الأطهار علیهم السلام فیما یتصل بالسعی والعمل، فقد أحدث أمیرالمؤمنین علیه السلام بساتین کثیرة وشقّ قنوات وطرق عدیدة، وقد وردت التوصیات الأکیدة فی الإسلام علی السعی والعمل، ولا فرق فی نوع العمل، وببیان آخر إنّ العمل فی نظر الإسلام لا یعتبر عاراً والمهم أن یکون مفیداً ونافعاً للمجتمع، وللأسف فإنّ بعض الناس لا یقبل إلّابالأعمال التی یتصورها لائقة بشأنه ویعتبر الأقل منها من الذلة والمهانة، وقد ورد فی الروایات الإسلامیّة أنّه سیأتی زمان ینقلب فیه المعروف منکراً والمنکر معروفاً قال النّبی صلی الله علیه و آله:

«... کیف بکم إذا أمرتم بالمنکر ونهیتم عن المعروف؛ فقیل له: یارسول اللَّه ویکون ذلک؟ قال: نعم، وشرّ من ذلک، کیف بکم إذا رأیتم المعروف منکراً والمنکر معروفاً»(1)

، ویبدو أنّ المسألة مورد البحث هی أحد مصادیق هذه الروایات، فالبعض یتصور أنّ الشخص الذی یعمل ویبذل جهده فی طلب الرزق هو إنسان حریص، ودائماً یجب من یقول له: إلی متی وإلی من؟

ولماذا؟ والإحصاءات تشیر إلی أنّ الشعوب کشعب الصین والیابان یفتخرون بکلّ عمل مفید ویعتبرون البطالة عاراً، ومن هذه الجهة نری أنّهم تقدموا وتطوروا بسرعة، وفی الإسلام ورد التأکید والثناء علی الزراعة والرعی والصناعة والتجارة، رغم أنّ بعض الأفراد غیر مطلعین علی هذه التعالیم الإسلامیّة، وبعضهم لا یری أنّ هذه الأعمال مناسبة لشأنه.

وکان الإمام الباقر علیه السلام یعمل فی بستان له وفی جو قائض وکان العرق یتصبب من رأسه ووجهه:

«إنّی أجدنی أمقت الرجل متعذّر المکاسب فیستلقی علی قفاه ویقول: اللّهم ارزقنی، ویدع أن ینتشر فی الأرض ویلتمس من فضل اللَّه، فالذّرة تخرج من حجرها تلتمس رزقها»(2).

وفی حدیث آخر عن أمیرالمؤمنین علی علیه السلام قال:

«من لم یصبر علی کدّه صبر علی الإفلاس»(3).

3. التظاهر والتلقین

وأحد الأمور الباعثة علی الفقر، تلقین الفقر والتظاهر به، والتلقین من الجهة النفسانیة له تأثیر کبیر


1- الکافی، ج 5، ص 59، ح 14؛ کنز العمّال، ج 3، ص 688، ح 8470.
2- وسائل الشیعة، ج 12، ص 17، أبواب مقدّمات التجارة، باب 6، ح 4( مع تلخیص).
3- غرر الحکم، ح 8113.

ص: 174

علی حالة الإنسان وذهنه، یقول النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله:

«من تفاقر إفتقر»(1)

وکذلک عن الإمام الکاظم علیه السلام قال:

«لا

تحدّثوا أنفسکم بفقر فإنّه من حدّث نفسه بالفقر بخل»(2).

4. الإسراف

الإسراف هو إتلاف النعم الإلهیّة، وضده الاقتصاد فی المعیشة، الذی ورد التعبیر عنه فی الروایات ب «تقدیر المعیشة»(3)، وفی نظر الإسلام فإنّ کلّ استخدام للنعم الإلهیّة (من الإطعام واللباس والوقود، ووسائل الحیاة والمعیشة والمسکن، حتی الإنفاق والنقفة) یجب أن تقترن بالاعتدال والوسطیة، والإنسان یجب أن یقدر مصرفه بعیداً عن الافراط (الإسراف) والتفریط (البخل والإمساک).

یقول الإمام الصادق علیه السلام:

«ضمنتُ لمن اقتصد أن لا یفتقر»(4)

وقال الإمام علی علیه السلام أیضاً:

«من صحب

الإقتصاد دامت صحبة الغِنی له وجَبَر الاقتصادُ فقرَه وخَلَله»(5).

وکذلک نقرأ فی روایة شریفة:

«من اقتصد أغناه اللَّه ومن بذّر أفقره اللَّه»(6).

5. عادة السؤال والتسول
اشارة

یقول نبی الإسلام صلی الله علیه و آله:

«من فتح علی نفسه بابَ مسألة فتح اللَّه علیه سبعین باباً من الفقر لا یسدّ أدناها شی ء»(7)

، وقد ورد النهی الشدید الروایات الشریفة عن سؤال الناس ومد الید إلی الناس للتسول (8) ووردت التوصیة للأغنیاء أن یساعدوا الفقراء والمحتاجین قبل أن یطلبوا منهم شیئاً، حتی لا یتعودوا علی ذلک وتظهر ذلة السؤال علی وجوههم (9)، وأیضاً أنّ أحد أفضل السجایا الأخلاقیه روحیة الاستغناء(10).

النتیجة:

ما ورد أعلاه من الحدیث عن عوامل الفقر إذا تحرک عامّة الناس من مواقع دراستها والتحقیق فیها واختاروا طریقاً من الطرق للتصدی لها ومعالجتها بحیث تضحی هذه الحرکة تدریجیّاً قیمة ثقافیة تسود فی فضاء المجتمع فإنّ المجتمع الإسلامی یستطیع قطعاً التخلص بدرجة کبیرة من الفقر، الفقر الذی یربطه بالأجانب، ویفرض علیه التبعیة لهم، وهذه التبعیة


1- بحار الأنوار، ج 73، ص 316.
2- المصدر السابق، ج 75، ص 321.
3- تحف العقول، ص 292؛ بحار الأنوار، ج 47، ص 60، ح 112. در کنز العمال( ج 3، ص 49) وقد جاء فی هذا الموضوع باب تحت عنوان:« الاقتصاد والرفق فی المعیشة».
4- الکافی، ج 4، ص 53، ح 6؛ وورد فی کنز العمال( ج 3، ص 49):« ما عال من اقتصد».
5- مستدرک الوسائل، ج 13، ص 54.
6- کنز العمال، ج 3، ص 50، ح 5437.
7- وسائل الشیعة، ج 6، ص 306، أبواب الصدقة، باب 31، ح 8. وورد فی کنز العمال( ج 6، ص 506):« لا یفتح عبد باب مسألة إلّافتح اللَّه علیه باب فقر».
8- وسائل الشیعة، ج 6، ص 305- / 307.
9- بحار الأنوار، ج 75، ص 113؛ الصحیفة السجادیة، الدعاء 26.
10- انظر: الکافی، ج 2، ص 148 و 149؛ کنز العمال، ج 3، ص 403.

ص: 175

الاقتصادیّة، تستدعی التبعیة السیاسیّة والثقافیّة أیضاً وبالتالی نری نفوذ الأفکار والآداب والتقالید غیر السلیمة إلی المجتمعات الإسلامیّة، وللأسف أنّ علماء الإسلام لا یتحرکون فی سبیل نشر التعالیم والثقافة الإسلامیّة إلّاقلیلًا، ولا یؤکدون علیها فی مجالات التوعیة الثقافیّة والدینیّة، فی حین أنّها تعد من أوجب الواجبات فی عصرنا الحاضر، والابتعاد عنها یعدّ من أعظم الخسائر التی تواجهها المجتمعات الإسلامیّة.

البحث الثالث: الذم الشدید للفقر فی الثقافة الإسلامیّة

اشارة

ورد الکلام فی الروایات الإسلامیّة عن الفقر والغنی بتعبیرات مختلفة واقترنت بتفسیرات متفاوتة، بحیث إنّ الإنسان فی الوهلة الاولی یعیش التردد فی حقیقة رؤیة الإسلام للفقر، فهل أنّ ظاهرة الفقر مقبولة ومحبذة وأنّ الإسلام یوافق علیها، أو أنّها مذمومة وغیر مقبولة ومضرة بحال المجتمع؟

فی بعض الروایات، التی سنستعرضها لاحقاً، نری أنّها تقرر أنّ الفقر علامة الإیمان، وشعار الصالحین، ومن خصائص الأنبیاء الإلهیین علیهم السلام، بل یعتبر فخراً لنبی الإسلام صلی الله علیه و آله؛ ولکن فی البعض الآخر منها ورد بالذم الشدید للفقر والتعبیر عنه بالشر، والموت الأکبر، والشی ء الذی یجب الاستعاذة باللَّه منه وما إلی ذلک.

وإذا أردنا معرفة النظر النهائی للإسلام حول الفقر والغنی، فیجب قبل ذلک أن نعرف نظر الإسلام حول الدنیا والآخرة، لأنّ البحث فی مجال هذین الأمرین (الفقر والغنی، الدنیا الآخرة) لا ینفصل أحدهما عن الآخر.

موقع الدنیا والآخرة فی الآیات والروایات الإسلامیّة:

بالنسبة للدنیا والتوجه لها أو الإعراض عنها وردت آیات وروایات مختلفة کما فی مسألة الفقر، بدایة نستعرض طائفتین من هذه النصوص الدینیّة التی یظهر منها التعارض الابتدائی:

الطائفة الاولی: الآیات والروایات التی تذم الدنیا وتقرر أنّها محل المصیبة والعذاب وأنّها لعب ولهو وأنّ الحیاة فیها فانیة وزائلة، وأنّ الاهتمام بها یستوجب الغفلة والإعراض عن الغرض الأعلی والأسمی (الآخرة) وإذا قرأ الشخص هذه الطائفة من الآیات والروایات فقط فإنّه سینحو باتّجاه مسلک الصوفیة ویکون له تصور فی ذهنه عن الدنیا کما فی ذهنیة المرتاضین الهنود والرهبان النصاری، هنا نلفت النظر إلی بعض النماذج من هذه الآیات والروایات.

1.

«وَمَنْ کَانَ یُرِیدُ حَرْثَ الدُّنْیَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِی الْآخِرَةِ مِنْ نَّصِیبٍ»(1).

2.

«تُرِیدُونَ عَرَضَ الدُّنْیَا وَاللَّهُ یُرِیدُ الْآخِرَةَ»(2)

. إنّ فناء وزوال الدنیا یستفاد من کلمة «عَرَض» لأنّ هذه الکلمة فی اللغة تطلق علی الشی ء غیر الثابت (3).


1- سورة الشوری، الآیة 20.
2- سورة الأنفال، الآیة 67.
3- انظر: شرح وتفسیر مفردات القرآن علی أساس التفسیر الأمثل( شرح و تفسیر لغات قرآن بر اساس تفسیر نمونه) بالفارسیّة، ج 3، ص 150.

ص: 176

3.

«وَمَا الْحَیَاةُ الدُّنْیَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ»(1).

4. یقول رسول اللَّه صلی الله علیه و آله:

«الدنیا حرام علی أهل الآخرة»(2).

5. ویقول أمیرالمؤمنین فی نهج البلاغة:

«الدّنیا تَغُرُّ وَتَضُرُّ وَتَمُرُّ»(3).

وکذلک ورد فی الروایات أنّ الدنیا والآخرة بمثابة کفتی المیزان (4)، کلما تثقل کفة تخف وترتفع الأخری، وکذلک ورد أنّ من طلب الدنیا خسر الآخرة، ومن طلب الآخرة نقص فی دنیاه (5).

6. یقول الإمام علی علیه السلام:

«مثل الدّنیا مثل الحیّه، لیّنٌ مسُّها، قاتلٌ سمُّها»(6).

ومن مجموع هذه الآیات والروایات نستوحی هذه الحقیقة، وهی التأکید علی أنّ الدنیا مضرّة، وخادعة، ویوجب الاقتراب منها البعد عن السعادة الاخرویة الخالدة.

الطائفة الثانیة: مقابل ذلک نری طائفة أخری من الآیات والروایات تعبر عن الدنیا ومال الدنیا ب «الخیر»، «الفضل» و «الأجر» وترغب الإنسان فی تحصیلها وأنّها محبوبة للباری تعالی وهی رحمة وحسنة وأموال الدنیا مصدر قوام الناس وأنّ الفقر والحرمان مذموم، وهنا نستعرض بعض هذه


1- الأنعام، الآیة 32.
2- کنز العمال، ج 3، ص 184، ح 6071.
3- نهج البلاغة، الکلمات القصار، الکلمة 415.
4- بحار الأنوار، ج 70، ص 92، ح 6.
5- المصدر السابق، ص 61، ح 30.
6- نهج البلاغة، الکتاب 68.

ص: 177

الروایات:

1. نقرأ فی کلام قوم موسی علیه السلام فی مقام نصیحة قارون:

«وَلَا تَنسَ نَصِیبَکَ مِنَ الدُّنْیَا»(1).

2. بالنسبة للنشاطات الاقتصادیّة والکسب بعد صلاة الجمعة نقرأ قوله:

«فَإِذَا قُضِیَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِی الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ»(2).

3. ورد التعبیر عن المال فی آیات عدّة بکلمة «خیر» مثل الآیات 110، 180، 272 و 273 من سورة البقرة؛ مثلًا ورد فی الآیة 180:

«کُتِبَ عَلَیْکُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَکُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَکَ خَیْراً الْوَصِیَّةُ»

وکذلک ورد التعبیر فی آیات أخری عن الدنیا وأموال الدنیا بالثواب (3)، الحسنة(4) والرحمة(5).

4.

«وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَکُمُ الَّتِی جَعَلَ اللَّهُ لَکُمْ قِیَاماً»(6).

فی هذه الآیة ورد تعریف أموال الدنیا بأنّها وسیلة لقوام الحیاة، وورد النهی عن إعطائها للسفهاء.

فی بعض الروایات وصفت الدنیا بأنّها «مسجد أحبّاء اللَّه» و «مصلّی ملائکة اللَّه»(7) وورد التعبیر عنها:

«مطیّة المؤمن»(8).

إنّ الآیات والروایات الواردة فی کلا الطائفتین أکثر ممّا ذکر المهم أن نعرف نظر الإسلام الحقیقی فی هذه المسألة، وطبعاً کما تقدّمت الإشارة إلیه فإنّ البعض حکم من جانب واحد دون التحقیق فی جمیع الموارد وبالتالی نسب إلی الإسلام رؤی ومقولات افراطیة أو تفریطیة، وثمّة أشخاص أیضاً فی صدر الإسلام توجهوا إلی الزهد والرهبانیة المنهی عنها، حیث وقف النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله فی ذلک العصر بشدّة فی مقابل هذه الظاهرة وقال:

«لارهبانیّة فی الإسلام»(9)

. وهذه الأفکار استمرت بعد ذلک الزمان، والمناظرات التی وقعت بین الإمام الصادق علیه السلام مع الفرق الصوفیة والزهاد مشهورة ومعروفة(10).

إنّ الدین الإسلامی بالمقارنة مع إفراط وتفریط المسیحیة والیهودیة فیما یتصل بالدنیا والآخرة یوصی بالتعادل والتوازن فی سلوک هذا الطریق، یعنی أنّه من جهة یذم الرهبانیة المنسوبة إلی المسیحیة، ومن جهة أخری یرد علی توجه الیهود الدائم إلی الدنیا.

إنّ الدنیا والاستفادة من النعم فی عالم الطبیعة وحتی العلاقة معها لیس مذموماً فی نظر الإسلام، لأنّ المیول الفطریة والغریزیة التی أودعها اللَّه تعالی فی واقع الإنسان ووجوده، لا یمکن أن تکون زائدة وعبثیة، وقد ورد فی التعالیم الدینیّة والإسلامیّة تأیید التوجه للدنیا وتأمین الحیاة المادیّة فإنّ الغرض من


1- سورة القصص، الآیة 77.
2- سورة الجمعة، الآیة 10.
3- سورة آل عمران، الآیة 148.
4- سورة البقرة، الآیة 201.
5- سورة الشوری، الآیة 48.
6- سورة النساء، الآیة 5.
7- نهج البلاغة، الکلمات القصار، الکلمة 131.
8- کشف الخفاء، العجلونی، ج 2، ص 356، ح 3029.
9- مستدرک الوسائل، ج 14، ص 155، ح 16356؛ المصنف، لابن أبی شیبة، ج 3، ص 270.
10- انظر: الکافی، ج 5، ص 65- / 70.

ص: 178

خلق الإنسان دون الاستفادة من مواهب الدنیا غیر ممکن.

والمذموم من الدنیا أیضاً أن یجعل الإنسان الدنیا مقصده ومقصوده النهائی ویرتاح لها ویطمئن بها، وبکلمة یکون (عبداً وأسیراً للدنیا) کما ورد فی القرآن الکریم:

«انَّ الَّذینَ لَایَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَیَاةِ الدُّنْیَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا»(1).

إنّ اعتبار الحیاة الدنیا بمثابة وسیلة وقنطرة لا یعدّ عیباً، بل العیب نعدّها هدفاً وغایة، کما یستفاد من کلمة «واطمأنّوا بها» فی الآیة السابقة، وکذلک یستفاد هذا المعنی من آیة أخری یقول القرآن الکریم:

«فَأَعْرِضْ عَنْ مَّنْ تَوَلَّی عَنْ ذِکْرِنَا وَلَمْ یُرِدْ إِلَّا الْحَیَاةَ الدُّنْیَا* ذَلِکَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ الْعِلْمِ»(2).

وفی دائرة الثقافة الإسلامیّة بیع الإیمان والآخرة بالدنیا هو المذموم: (سورة البقرة، الآیة 86؛ آل عمران، الآیات 77 و 187؛ المائدة، الآیة 44؛ التوبة، الآیة 9) وشراء الآخرة بالدنیا ممدوح: (سورة التوبة، الآیة 111؛ الصف، الآیة 10 و 11). وفی نهج البلاغة مع وجود روایات کثیرة فی ذم الدنیا، فقد ورد فیه مدح الدنیا والترغیب فی الاستفادة الصحیحة منها(3).

ومن مجموع التعالیم الإسلام یمکن التوصل إلی رؤیة متعادلة، وهذه الرؤیة المتعادلة ترسم العلاقة الوثیقة والعمیقة فی الدنیا والآخرة وثمة قرائن وشواهد کثیرة علی هذا المعنی فی کلا الطائفتین من الآیات والروایات السابقة، وقد ورد فی الروایات الإسلامیّة وصف الدنیا والاستفادة الصحیحة من النعم الإلهیّة فیها بعنوان:

«نعم العون علی طلب الآخرة»(4).

وفی حدیث آخر یبیّن علاقة الدنیا بالآخرة بشکل شیق وجذّاب بحیث إنّ الإنسان ینبغی علیه أن یعیش دوماً بین حالتی الخوف والرجاء، یعنی أنّه فی الأعمال المرتبطة بالدنیا لا ینبغی بسبب تصور الموت والفناء أن یترک نشاطاته وأعماله فیها وبالتالی یجعل من فناء الدنیا ذریعة للتکاسل فی حرکة الحیاة.

وهذا هو معنی ما ورد فی الحدیث المعروف:

«اعمل لدنیاک کأنّک تعیش أبداً واعمل لآخرتک کأنّک تموت غداً»(5).

وفی هذا المجال ثمة آیات وروایات کثیرة یطول استعراضها کلّها، والملفت للنظر أنّ فی الآیات والروایات من الطائفة الاولی التی تقرر ذم الدنیا، هناک قرائن تشیر إلی أنّ ترک الدنیا وعدم الاهتمام بها بشکل تام، لا یعدّ عملًا عقلانیاً ولا مقبولًا لدی الشرع، لأنّه یؤدّی إلی انهدام النظم الاجتماعی وعدم تقدّم المسلمین وبالتالی زوال عزّتهم وکرامتهم.

ویقرر الشاعر والعارف جلال الدین الرومی فی شعره هذا المعنی مع ذکر مثال جمیل لذلک ویقول ما معناه:

- نحن السفینة والدنیا بحر

- فلو کان ماء البحر تحت السفینة فإنّه یوجب حرکتها وسلامتها.

- وإذا دخل فی السفینة فإنّه سیکون سبب الهلکة(6).

إنّ علاقة الإنسان بالدنیا تتلخص بهذه الصورة أیضاً، فالمهم الحصول علی رؤیة صحیحة وتفسیر سلیم لکیفیة العلاقة بین الإنسان والدنیا علی أساس الآیات والروایات الشریفة، ففی النصوص الإسلامیّة لم یرد ذم أصل الدنیا، بل حالة الاغترار بالدنیا(7) وعَرَض الدنیا(8)، والنظر إلیها فقط:

«وَلَا تَمُدَّنَّ عَیْنَیْکَ

إِلَی مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ»(9)

وأن یجعلها الإنسان هدفاً ومقصداً له ویقع بالتالی أسیراً لها.

هل أنّ الفقر افتخار؟
اشارة

ومن خلال التحقیق فی روایات الفقر نواجه أولًا الروایات التی یظهر منها مدح الفقر.

ومن بین روایات کثیرة فی هذا المجال نکتفی بذکر عدّة روایات:

1. فی الحدیث المعروف عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه


1- سورة یونس، الآیة 7.
2- سورة النجم، الآیات 29 و 30.
3- انظر: نهج البلاغة، الکلمات القصار، الکلمة 131.
4- وسائل الشیعة، ج 12، ص 17، أبواب مقدمات التجارة، باب 6، ح 5. وقد ورد ما یشبه هذا المعنی فی کنز العمال، ج 3، ص 239، ح 6341.
5- مستدرک الوسائل، ج 1، ص 146، ح 220.
6- یقول المولوی ما معناه: الماء فی داخل السفینة سبب فی هلاک أهل السفینة والماء تحت السفینة سبب لحرکة السفینة إلی الأمام.
7- سورة آل عمران، الآیة 185؛ الأعراف، الآیة 51؛ الأنعام، الآیة 70 و 130 و ....
8- سورة النساء، الآیة 94؛ الأعراف، الآیة 169؛ الأنفال، الآیة 67 و ....
9- سورة الحجر، الآیة 88.

ص: 179

قال:

«الفقر فخری وبه أفتخر»(1)

. وهذه الروایات تعطی مفهوم افتخار النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله بالفقر

2. وفی حدیث آخر قال صلی الله علیه و آله:

«اطّلعت علی أهل الجنّة فرأیت أکثر أهلها الفقراء»(2)

، ومفهومها أنّ غالبیة أهل الجنّة هم الفقراء.

3. وورد عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله وصف الفقر بأنّه خزائن إلهیّة حیث سئل النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله: «

ما الفقر؟

» فقال رسول اللَّه:

«خزانة من خزائن اللَّه»

. وتکرر هذا السؤال فقال صلی الله علیه و آله:

«کرامة من اللَّه»

وفی مرّة ثالثة کرر هذا السؤال أیضاً فقال صلی الله علیه و آله:

«شی ء لا یعطیه اللَّه إلّانبیّاً مرسلًا أو مؤمناً کریماً علی اللَّه تعالی (3).

وطائفة من الروایات تقع فی مقابل الطائفة الاولی ورد فیها ذم الفقر بشدّة:

1. ورد فی بعض الروایات وصف الفقر بالموت الأکبر:

«الفقر الموت الأکبر»(4)

و

«القبر خیرٌ من

الفقر»(5).

2. ونقرأ فی روایة أخری:

«الفقر سواد الوجه فی الدّارین»(6).

3. وفی روایات أخری تقرر أنّ الفقر شرّ(7)، وهذا التعبیر یقع فی مقابل التعبیر القرآنی بأنّه «خیر»(8).


1- عدة الداعی، ص 123.
2- مسند أحمد، ج 1، ص 234.
3- بحار الأنوار، ج 69، ص 47، ح 58.
4- نهج البلاغة، الکلمات القصار، الکلمة 163.
5- الکافی، ج 8، ص 21.
6- بحار الأنوار، ج 69، ص 30.
7- ورد فی بعض الأدعیّة الاستعاذة باللَّه تعالی من شرّ فتنة الفقرانظر:( صحیح بخاری، ج 7، ص 161).
8- سورة البقرة، الآیات 180، 215 و 272.

ص: 180

4. یقول أمیرالمؤمنین فی وصیته لابنه:

«یا بنیّ إنّی أخاف علیک الفقر، فاستعذ باللَّه منه فإنّ الفقر منقصةٌ للدّین مدهشةٌ للعقل داعیةٌ للمقت»(1).

5. وجاء فی سنن النسائی أیضاً عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله فی دعائه العمیق المعنی:

«أللّهم إنّی أعوذ بک من الکفر والفقر وعذاب القبر»(2)

، فی هذا الحدیث جعل الکفر والفقر وعذاب القبر فی عرض واحد.

إنّ مواجهة ومکافحة الإسلام الشدیدة للفقر، کما ورد فی هذه الروایات (الطائفة الثانیة) لا یعنی إیجاد العلاقة والمودة مع الأثریاء، إنّ مدرسة الإسلام کما أنّها تکافح الفقر، فإنّها تتصدی کذلک للثروة أیضاً:

«بمعنی الهدف والغایة» ولکنها تنظر إلی الثروة (باعتبارها وسیلة) بنظر الاحترام، والثروة الحاصلة من الکد والتعب لا من تعب الآخرین، والثروة التی یحصلها الإنسان من الاقتصاد السلیم ویجعلها فی خدمة المجتمع من جهة الإنتاج والتوزیع والخدمات الأخری، هی محترمة.

ونعلم أنّ قسماً مهماً من الأبواب الفقهیة یتحدّث عن التدبیر وتوسعة الأمور الدنیویّة، من قبیل أبواب التجارة، المعاملات، الرهن، الإجارة، القرض، المزارعة والمساقات، والشریعة الإسلامیّة ذکرت أحکاماً کثیرة فی الفقه تتحدّث عن الملکیّة والثروة، أعم من الأسباب فی تبدیل المباحات الأصلیّة إلی ثروة شخصیة من قبیل الحیاکة أو العمل علی المواد الخام قلیلة القیمة کالزراعة التی یبذر فیها الزارع البذر القلیل القیمة ویبدله إلی ثروة طائلة، أو الأسباب والعوامل التی تؤدّی إلی مبادلة الثروة مثل البیع والتجارة، هذه کلّها تحکی عن اهتمام الإسلام بالملکیّة الفردیّة وغنی المجتمع الإسلامی.

أمّا ما قیل أنّ المجتمع الإسلامی یجب أن یکون مجتمعاً ثریاً ومقتدراً من الناحیة الاقتصادیّة لکیما یقف فی مقابل المجتمعات الأخری مرفوع الرأس ویحفظ للمسلمین عزّتهم وکرامتهم، فهو ما یستفاد من الآیات القرآنیة وأحادیث النّبی صلی الله علیه و آله والأئمّة علیهم السلام ومن مذاق الشارع، فالقرآن الکریم یقول:

«وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِّنْ قُوَّةٍ»(3)

، وهذا یقتضی أن یکون المسلمون مستعدین من کلّ جهة فی مقابل المشرکین، وبالتالی فالمسلمون من الناحیة المالیّة أیضاً لابدّ أن یکونوا أعزّ من غیرهم:

«وَللَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِینَ»(4)

، والفقر وأشکال الضعف والخلل الاقتصادی لیس فقط یعرّض عزّة وکرامة الإنسان إلی الاهتزاز والوهن، بل یستوجب أحیاناً التکدی والتسول والفحشاء والانظواء تحت خیمة المستعمرین والمستکبرین، وهذا ما یتنافی مع العزّة والکرامة التی یریدها اللَّه تعالی للمؤمنین.

وفی روایات آخر تتحدّث عن آخر الزمان، والمجتمع الإسلامی فی عصر ظهور الإمام المهدی علیه السلام، والذی یعتبر نموذجاً للجمیع المجتمعات البشریّة، إنّ ذلک المجتمع وصف بأنّه یملک الکثیر من الثروات والخیرات، وعلی هذا الأساس فلو کان الفقر مقبولًا فإنّ مجتمع عصر ظهور الإمام المهدی علیه السلام یجب أن یکون فقیراً ومعدماً لیکون قدوة للمجتمعات البشریّة، لا ذلک العصر الذی تنزل فیه السماء برکاتها وتفتح الأرض ذخائرها(5)، وتزداد أموال الزکاة وتتراکم إلی درجة أنّه لا یوجد فقیر ومستحق لأخذها(6).

ویمکن أن تکون الروایات التی تمدح الفقر ترتبط بنفی ورفض طلب الدنیا والتجمل فیها، والنّبی الأکرم صلی الله علیه و آله والأئمّة علیهم السلام عاشوا حیاة بسیطة وأرادوا من الناس أن یعیشون هذه الحیاة بعیداً عن أشکال التکلّف والتجمل وإشاعة هذه الثقافة بین المسلمین، وأساساً فإنّ هدف النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله هو أن یعتاد الناس علی العمل والسعی ویتکاملوا من جهة القیم الإنسانیّة والأخلاقیّة، ولکن لا یعتادوا علی سکنی القصور وتجمیع الثروات:

«العاقل یطلب الکمال والجاهل یطلب المال»(7).

ولا توجد دولة بالعالم وصلت إلی مراتب متقدمة من التطور والتقدم من خلال التجمل والبذخ وحب المال، إنّ الشعوب کشعب الصین و الیابان هی شعوب تعیش القناعة والسعی والعمل الدؤوب، فلا تجد حالات التفریح والأعمال العبثیة بینها إلّاقلیلًا،


1- نهج البلاغة، الکلمات القصار، الکلمة 319.
2- سنن النسائی، ج 3، ص 74.
3- سورة الأنفال، الآیة 60.
4- سورة المنافقون، الآیة 8.
5- انظر: بحار الأنوار، ج 51، ص 97؛ مستدرک الحاکم، ج 4، ص 558.
6- بحار الأنوار، ج 52، ص 339.
7- میزان الحکمة، ج 3، ص 2043.

ص: 181

ویتجنبون إتلاف الوقت وتضییعه فی طلب الأهواء الرخیصة، ولذلک إزدهر اقتصادهم وعاشوا التطور والحرکیة والنشاط فی جمیع المجالات.

وإحدی المخططات والبرامج الاستعماریّة فی بلدان العالم الثالث ولغرض إبقائهم علی تخلفهم هی أنّهم یسوقونهم نحو الحیاة المرفهة والحیاة الاستهلاکیة، ولیکونوا مستهلکین أکثر ممّا هم منتجین، وللأسف أنّهم نجحوا نسبیاً فی هذا المجال.

ممّا تقدّم بیانه یمکن الخروج بهذه النتیجة، وهی أنّ الفقر والحاجة للآخرین فی نظر الإسلام یعدّ منافیاً للقیم، والغنی وعدم الحاجة المقترنة بالعزّة والشرف والاستقلال تحظی بقیمة عالیة.

ومع الالتفات إلی القرائن والشواهد الموجودة فی الآیات والروایات، فإنّ الفقر الممدوح یمکن تفسیره بأحد المعانی التالیة:

1. الفقر إلی اللَّه

کما ورد فی روایات مثل روایة:

«الفقر فخری»

- فیما لو صح سند هذه الروایة عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله (1)- فیمکن أن یکون من هذا القسم، فما یکون مصدراً للفخر والمباهات هو الفقر إلی اللَّه تعالی، لأنّ جمیع العالم محتاج إلیه واللَّه هو الغنی المطلق:

«یَا أَیُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَی اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِیُّ الْحَمِیدُ»(2)

، ویشبه هذا المعنی ما ورد فی حدیث أمیرالمؤمنین علی علیه السلام:

«إلهی کفی بی عزّاً أن أکون لک عبداً، وکفی بی فخراً أن تکون لی ربّاً»(3)

، إنّ الحاجة إلی الباری تعالی وحالة العبودیة والخضوع له یعدّ أعلی وسام وأسمی مراتب الافتخار، وفیه لا یمدّ الإنسان یده للآخرین بل یحصر طلبه وحاجته إلی باللَّه تعالی ویعرض علیه حاجاته ویری نفسه دوماً وأبداً وعلی کلّ حال فقیراً ومحتاجاً إلیه.

2. الفقر بمعنی البساطة فی المعیشة

وبعض الروایات التی تمدح الفقر ناظرة إلی بساطة العیش والحیاة بعیداً عن التجملات وأشکال الترف والبذخ، وهو ما ورد التعبیر عنه بالزهد، وهذا المعنی یقع فی مقابل الثروة التی تقود الإنسان للغرور والغفلة عن واقع الحیاة، وورد فی بعض الروایات التعبیر عنه ب «سکر المال» إلی جانب سکر الخمر والقدرة(4).

3. الفقر بسبب الاستقامة فی طریق الحق

وقسم من هذه الروایات فی مدح الفقر، تشیر إلی الفقر المفروض علی الإنسان من قِبل الأعداء بسبب


1- وسبب التردید فی سند هذه الروایة أنّ اللَّه تعالی ذکر من جملةمننه علی رسول اللَّه صلی الله علیه و آله هو:« وَوَجَدَکَ عَائِلًا فَأَغْنَی»( سورة الضحی، الآیة 8). وصرّح فی بعض کتب أهل السنّة أنّ هذه الروایة لا أصل لها فی جوامع الروائیة، وذهب البعض الآخر إلی أنّها روایة موضوعة.( انظر: تذکرة الموضوعات الفتنی، ص 178؛ تحفة الأحوذی المبارکفوری، ج 7، ص 17).
2- سورة فاطر، الآیة 15.
3- الخصال للشیخ الصدوق، ج 2، ص 420، ح 14.
4- قال علی علیه السلام:« السُّکر أربع سکرات: سکر الشراب، وسکر المال، وسکر النوم وسکر الملک».( بحار الأنوار، ج 73، ص 142).

ص: 182

أدائه واجبه واستقامته علی أصول دینه، مثلًا فی بدایة الإسلام، عاش النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله والمسلمون التصدی للشرک ومواجهة الباطل وبموجب هذه المقاومة فی مسیر الحقّ والإصرار علی التوحید تمّت محاصرتهم اقتصادیاً فی شِعب أبی طالب من قبل المشرکین، وکذلک بعد هجرة رسول اللَّه صلی الله علیه و آله إلی المدینة فإنّ جماعة کبیرة من المسلمین اضطروا للهجرة من مکة إلی المدینة ولم یتمکنوا من نقل أموالهم وإمکاناتهم من مکة إلی المدینة، وطبعاً أدّی ذلک إلی ابتلائهم بالفقر الشدید، فما کان من النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله فی مثل هذه الحالة إلی أنّه جعل یواسیهم ویؤکد لهم أنّ هذا الفقر مصدر افتخارهم وأنّه شعار الصالحین.

وکذلک فی العصور اللاحقة، فإنّ جماعة کثیرة من أتباع أهل البیت علیهم السلام ابتلوا بهذا الفقر المفروض علیهم حسب المثل المعروف

«البلاء للولاء»

، وهذا الأمر استمر إلی عصرنا الحاضر فی بعض نقاط المعمورة، وقد ورد فی الحدیث الشریف:

«من أحبّنا أهل البیت فَلْیُعِدَّ للفقر جِلْباباً»(1)

وهذا یشیر أیضاً إلی هذا المعنی فی عصر ظلمات بنی امیّة وبنی العبّاس.

إنّ المسلم الذی یراعی مسائل الحرام والحلال بدقة، یبتلی فی المجتمع المفعم بالفساد والحرام والانحطاط، بالفقر وقلّة المال، وهذا الفقر أیضاً من جملة أقسام الفقر المفروض، وطبعاً فهذا النوع من الفقر لا یعدّ عیباً فقط، بل مصدر افتخار للإنسان المؤمن، ولکن یجب علیه السعی لإزاحة غبار هذا الفقر عنه فی أولّ فرصة.

4. الحیاة البسیطة للقادة لمواساة الطبقة الضعیفة فی المجتمع

ومن أنواع الفقر الممدوح أنّ القادة فی النظام الإسلامی ومن أجل مواساة الطبقة الفقیرة والمحرومة فی المجتمع، یجب أن تکون لهم معیشة بسیطة ویقلّ استفادتهم من المواهب الطبیعیّة بسلوک حیاة الزهد التقشف فی واقع الحیاة والمجتمع.

وقیل إنّ النّبی یوسف علیه السلام فی سنوات القحط والجفاف کان یبیت جائعاً، فقیل له:

«أتجوع و أنت علی خزائن مصر؟»

. فأجاب:

«أخاف أن أشبع فأنسی الجیاع»(2).

ویقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام أیضاً فی عبارته المعروفة:

«إنّ اللَّه فرض علی أئمّة العدل أن یقدّروا أنفسهم بضعفة الناس کیلا یتبیّغ بالفقیر فقرُه»(3).

*** والنقطة المقابلة للفقر بمعناه المعروف، الغنی، أی التمتع بالإمکانات اللازمة لحیاة مقترنة برعایة الإعتدال وعدم التلوث بحیاة المترفین وأنواع ذنوب والمآثم التی یعیشها الکثیر من الأثریاء فی واقع حیاتهم المادیّة.

والغنی بهذا المعنی جید ومقبول ومورد مدح الإسلام، والروایات التی وردت فی ذم الفقر والثناء علی المال والثروة، ناظرة إلی هذا المورد وخاصّة


1- بحار الأنوار، ج 58، ص 135.
2- شرح نهج البلاغة، لابن أبی الحدید، ج 11، ص 237.
3- نهج البلاغة، الخطبة 209.

ص: 183

عندما تکون فی إطار ثقافة المجتمع وإمکاناته الاقتصادیّة فی البلد الإسلامی، فإنّها ستحظی بمفهوم أعلی وأجلی، والروایات الناظرة إلی عصر ظهور الإمام المهدی علیه السلام- والتی مرّ بیانها، ناظرة إلی هذه المسألة.

وقد ورد فی توصیة الإمام أمیرالمؤمنین علیه السلام لمالک الأشتر أیضاً فی خصوص جمع الضرائب والخراج وإعمار المدن::

«جبایة خراجها ... وعمارة بلادها»(1).

وجاء أیضاً فی هذا العهد المبارک لمالک الأشتر قوله علیه السلام:

«وَلْیَکُنْ نظرک فی عمارة الأرض أبلغ من نظرک فی استجلاب الخراج، لأنّ ذلک لایُدرک إلّا بالعمارة»(2).

وفی الحقیقة إنّ غنی المجتمع الإسلامی وقوته علی المستوی الاقتصادی یتسبب فی العزّة والفخر للمسلمین فی مقابل الأجانب ویحد من هیمنتهم وسلطتهم الثقافیّة والسیاسیّة علی البلاد الإسلامیّة، ومعلوم أنّ مثل هذا الغنی والقدرة الاقتصادیّة والثروة المالیّة مقبول ومحبذ ومورد تأکید الإسلام، بل یتسبب أیضاً فی إلفات نظر غیر المسلمین إلی المجتمع الإسلامی وتعرّفهم علی الإسلام أکثر، وبالتالی إمتداد الإسلام فی أجواء العالم.

البحث الرابع: المعطیات والآثار المخربة للفقر فی المجتمع الإسلامی

اشارة

تقدّم فی البحوث السابقة الحدیث عن موضوع إفرازات الفقر وتداعیاته، ولکن من اللازم استعراض هذا الموضوع بشکل مستقل ومفصل.

ورد فی المصادر الإسلامیّة کلام کثیر عن آثار الفقر السلبیة وتداعیاته المخربة فی المجال المادی والاقتصادی وکذلک المعنوی والثقافی، إنّ تداعیات وآثار الفقر فی المجتمع لیست أمراً یخفی عن الأنظار، بل إنّ الفقر من بین المعضلات الاجتماعیّة تتبیّن آثاره فی جو المجتمع أسرع من الأمور الأخری، وتکون آثاره محسوسة للجمیع، ولذلک ورد فی روایة أنّ لقمان الحکیم قال لولده:

«إعلم أی بُنیّ إنّی قد ذقت الصبر وأنواع المرّ فلم أر أمرّ من الفقر»(3).

وما ذکرناه آنفاً یؤیده بعض أرباب اللغة أیضاً، یقول الراغب:

«أصل الفقیر هو المکسور الفقار یقال فَقَرَتْهُ فاقرةٌ أی داهیةٌ تکسر الفقار»(4)

، ومن شأن ذلک التبعات والمشکلات التی یفرزها الفقر علی مستوی الفرد والمجتمع.

ویؤید ذلک ما ورد فی الحدیث الشریف عن نبی الإسلام صلی الله علیه و آله حیث قال:

«أربعة من قواصم الظّهر ... فقرٌ لا یجد صاحبه مداویاً»(5).

إنّ تأثیر الفقر فی العقائد والمزاج، وسلوک الإنسان، إلی درجة أنّه حتی لو کان الشخص قد عاش


1- المصدر السابق، الکتاب 53.
2- المصدر السابق.
3- بحار الأنوار، ج 69، ص 53.
4- المفردات للراغب، مادة« فقر».
5- مکارم الأخلاق، ص 513؛ بحار الأنوار، ج 69، ص 39، ح 35.

ص: 184

حالة الفقر فی قسم من عمره، وفی القسم الآخر عاش الغنی والثروة، فمثل هذا الشخص فی الغالب یملک شخصتین مختلفتین فی هاتین المرحلتین من حیاته من الناحیة العقائدیّة والحقوقیّة والأخلاقیّة.

وقد ورد فی روایة أنّ بعض الأمور قلیلها کثیر، مثل النار، العداوة، المرض والفقر(1).

وبعد ذکر هذه المقدمة نستعرض بعض الآثار السلبیة للفقر:

1. الفقر وضعف مبانی الأخلاق

لیس فقط البحوث والتحلیلات المنطقیة والعلمیّة، بل إنّ الآیات والروایات الشریفة أیضاً تشیر إلی أنّ الفقر یترتب علیه آثار سلبیة وخیمة فی تقیید الإنسان بالقیم الدینیّة والأخلاقیّة، لأنّه من جهة فإنّ قسماً من الواجبات والمستحبات تحتاج لمصادر مالیة، کالحج والعمرة، الأعمال الخیرة، توفیر مقدمات الزواج للأبناء و ... بدیهی أنّ الأشخاص الذین یعیشون تحت وطئة الفقر والحاجة محرومون من القیام بهذه الأعمال الخیرة، ولذلک ورد فی روایة عن الإمام الصادق علیه السلام أنّ هذا الإمام کان یدفع أموال الزکاة للمحرومین والفقراء لغرض الزواج والذهاب إلی الحج والتصدق بها(2).

ومن جهة أخری فإنّ الفقراء، یواجهون دائماً مشکلة تهیئة لوازم الحیاة الضروریة وقلّما یستطیعون المشارکة فی مجالس العلم والمعرفة لیتعلموا أحکام الشریعة والمعارف الدینیّة.

أضف إلی ذلک فإنّ الکثیر من هؤلاء الأشخاص یواجهون مشکلة الوساوس المختلفة فی عقائدهم، وأحیاناً یشککون فی العدل الإلهی، ولذلک نقرأ فی روایة:

«کاد الفقر أن یکون کفراً»(3)

و

«الفقر طَرَف من

الکفر»(4).

ویقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام لولده:

«یا بُنیّ من ابتلی بالفقر، ابتلی بأربع خصال بالضّعف فی یقینه ...

والرّقة فی دینه»(5).

مضافاً إلی أنّ الفقیر أحیاناً وبما أنّه ینظر إلی من هو أعلی منه مادیاً، فإنّه یبتلی بالحسد والغیبة والتهمة، وأحیاناً ومن أجل إمرار معاشه یتوسل بحالة التملق للأثریاء ویغض النظر عن الحلال والحرام فی تحصیل المال.

وقسم مهم من الجرائم والفحشاء والتلوث بالمخدرات مسبب عن الفقر ویعتبر من تداعیاته وإفرازاته فی واقع المجتمع کما ورد هذا المعنی فی حدیث عن الإمام الصادق علیه السلام:

«غنیً یَحْجِزک عن الظّلم، خیرٌ من فقر یَحْمِلک علی الإثم»(6).

وفی حدیث شریف آخر عن الإمام علی علیه السلام نقرأ:

«مَنْ عَدِم قوتَهُ کَثُر خطایاه»(7).

ویستفاد من الأحادیث الإسلامیّة أنّ أحد الآثار


1- بحار الأنوار، ج 75، ص 205.
2- دعائم الإسلام، ج 1، ص 260.
3- الخصال للصدوق، ج 1، ص 12؛ کنز العمال، ح 16682.
4- المصدر السابق.
5- المصدر الساق، ج 69، ص 47.
6- وسائل الشیعة، ج 12، ص 17، ح 7.
7- بحار الأنوار، ج 69، ص 47.

ص: 185

السلبیة للفقر قلّة الحیاء (وهذا المعنی ورد فی حدیث عن أمیرالمؤمنین علیه السلام حیث یذکر أربع آثار سلبیة للفقر کما تقدّم)(1).

ودلیل هذا الأمر واضح، لأنّ عندما یعیش الإنسان ضغوطاً قویة فی حیاته، أحیاناً یجد نفسه مضطراً للسؤال والطلب من الآخرین، وهذا الأمر تدریجیّاً یقلل من حیائه، ولذلک ورد فی الروایات الإسلامیّة أنّ السؤال والطلب من الآخرین، إلّافی موارد ضروریة جدّاً، ممنوع ومذموم (2)، وقد وردت التوصیة للأشخاص المتمکنین مالیاً أن یساعدوا الأفراد المحتاجین قبل أن یسألوهم.

یقول الإمام الحسن المجتبی علیه السلام:

«الإعطاء قبل السّؤال من أکبر السّؤدَد»(3).

2. التشویش والاضطراب

ومعلوم أنّ الفقر یوجب ضعف قوة التفکّر والتعقّل ویتسبب بحالة التشویش والاضطراب الفکری فی الإنسان، وبما أنّ الفقیر یفتقد لإمکانات الحیاة والمعیشة، فإنّه ورد تشبیه الفقر بالموت (4)، وعلی ضوء ذلک فإنّ الفقر یقف أمام نمو فکر الإنسان وعقله ویعیق بروز وتفتح القابلیات الذهنیة والنفسانیة، یقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام لابنه الإمام الحسن علیه السلام: «یابنی من ابتلی بالفقر، ابتلی بأربع خصال ...:

النقصان فی عقله»(5).

وفی لقاء الإمام الصادق علیه السلام لجماعة من الصوفیة تحدّث لهم الإمام علیه السلام کثیراً عن هذه الظاهرة، فکانوا جماعة من المتظاهرین بالزهد ویدعون الناس أن یکونوا معهم علی مثل الذی هم علیه ... فقال الإمام علیه السلام لهم:

«أما علمتم یا جهلة أنّ النّفس قد تلتأث علی صاحبها إذا لم یکن لها من العیش ما یُعتمد علیه، فإذا هی أحرزت معیشتها إطمأنَّتْ»(6).

3. العزلة الاجتماعیّة

إنّ ألم الفقر الاقتصادی من جهة، وما یعیشه الفقیر من مهانة فی أنظار الناس من جهة أخری، تجعله یعیش محنة قاسیة لعلها أشدّ وطأة وألماً من الفقر ذاته، وهو ما یتسبب له من حالة العزلة الاجتماعیّة والانزواء عن أنظار الآخرین، ونعلم أنّ العزلة الاجتماعیّة لها آثار وخیمة وتداعیات سلبیة علی مستوی الفرد والمجتمع.

والشاهد علی هذا المدعی قول الإمام علی علیه السلام فی حدیث معروف

«المقلّ غریب فی بلدته»(7).

وفی حدیث آخر نقرأ عن هذا الإمام علیه السلام قوله:

«لو کان الفقیر صادقاً یسمّونه کاذباً ولو کان زاهداً یسمّونه جاهلًا»(8).


1- المصدر السابق، ص 48.
2- انظر: الکافی، ج 4، ص 20، باب کراهیة المسألة.
3- بحار الأنوار، ج 75، ص 113.
4- قال الإمام علی علیه السلام:« الفقر الموت الأکبر»( نهج البلاغة، الکلمات القصار، الکلمة 163).
5- بحار الأنوار، ج 69، ص 48.
6- الکافی، ج 5، ص 68.
7- نهج البلاغة، الکلمات القصار، الکلمة 3.
8- بحار الأنوار، ج 69، ص 47.

ص: 186

وعلی ضوء ذلک فإنّ الأشخاص الفقراء یفقدون مکانتهم اللائقة فی مجتمعهم وینظر إلیهم الناس من موقع التحقیر والازدراء، وهذا الأمر یشدد من عزلتهم الاجتماعیّة.

وجاء فی حدیث آخر عن أمیرالمؤمنین علی علیه السلام أیضاً ما یؤید بوضوح هذا المعنی قال:

«الفقیر حقیر لا یُسمع کلامه ولا یُعرف مقامه»(1).

وهذا الکلام لا یعنی أنّ الأشخاص المؤمنین مسموح لهم أن یتعاملوا مع الفقراء بمثل هذا السلوک، بل یجب التعامل مع کافة الأفراد علی أساس المعاییر الإیمانیّة والأخلاقیّة بعیداً عن الالتفات إلی حالات الفقر والغنی لهم، بل ینبغی التعامل مع المحرومین فی المجتمع بمزید من الاحترام، رغم أنّ ما تقدّم من التعامل السلبی یشکل ظاهرة اجتماعیة غیر قابلة للإنکار.

ولا ینبغی أیضاً الغفلة عن هذه الحقیقة، وهی أنّ تحصیل العلم وسلوک طریق الکمال، وخاصّة فی عصرنا الحاضر یحتاج إلی نفقات مالیّة لا یستطیع الکثیر من الفقراء توفیرها، وهذا سبب من أسباب تخلف أبنائهم العلمی والثقافی فی دائرة الثقافة العامّة فی المجتمع، وبالرغم من أنّه یجب علی الحکومة الإسلامیّة جبران هذه المسألة من طریق بیت المال، ولکن علی أیة حال لا یمکن إنکار أصل هذا الموضوع.

ومن الأمور التی تساهم فی عزلة الفقراء عن المجتمع أکثر فأکثر، إنّ هؤلاء وبسبب عقدة الحقارة والدونیة التی یعیشونها فی أنفسهم لا یقدرون علی الدفاع عن أنفسهم کما ورد فی مضمون الحدیث المعروف عن الإمام علی علیه السلام:

«الفقر یُخرس الفَطِن عن حجّته»(2)

، فالأشخاص الأذکیاء فی حالة الفقر غیر قادرین عن الدفاع عن أنفسهم، فکیف الأمر بدفاع الأشخاص العادیین وغیر الأذکیاء.

4. الفقر وسوء التغذیة

ومن الآثار المؤلمة للفقر الجوع، فعدم توفر المال الکافی یؤدّی إلی حرمان الشخص من تحصیل الأغذیة اللازمة والطاقة الضروریة لبدنه، وهذا الأمر بدوره یزید من تحلل الجسم وضعف قواه البدنیة ویقلل من مقاومة البدن للأمرض وبالتالی تتوفر الأرضیة لظهور أنواع الأمراض فی الإنسان.

الشخص المبتلی بالفقر یعیش دوماً وهو یشکو من بعض الأمراض والتی ستقضی علیه فی نهایة المطاف.

یقول النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله:

«اللّهم إنّی أعوذ بک من الجوع فانّه بئس الضجیع»(3).

ویقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام:

«وإن عضَّته الفاقة شغله البلاء، وإن جهده الجوع قَعَد به الضّعف»(4).

ونعلم أنّ الجوع یستدعی الغم والحزن، وهذا


1- المصدر السابق.
2- نهج البلاغة، الکلمات القصار، الکلمة 3.
3- الجامع الصغیر، ج 1، ص 234؛ بحار الأنوار، ج 88، ص 75.
4- نهج البلاغة، الکلمات القصار، الکلمة 108.

ص: 187

بدوره یؤثر فی ضعف البنیة البدنیة والقدرة الجسمانیة، یقول الإمام علی علیه السلام:

«الهمّ یذیب الجسد»(1).

5. الفقر والتبعیة الاقتصادیّة
اشارة

ومن الآثار الخطیرة للفقر، سواء بشکل فردی أو فی دائرة المجتمع، التبعیة الاقتصادیّة وما یستتبع ذلک من التبعیة السیاسیّة والثقافیّة، لأنّ الأشخاص الذین یعیشون حالات الفقر والعوز وکذلک المجتمعات الفقیرة تجد نفسها مضطرة لمدّ الید للآخرین لنیل المساعدات الاقتصادیّة والمالیّة، وبدیهی أنّ غالبیة الأثریاء وخاصّة الدول الثریّة فی عالمنا المعاصر، لا تتحرک فی مجال الإعانة الاقتصادیّة للدول الفقیرة بدون قید وشرط، سواء کانت هذه القیود صریحة ومعلنة أو بصورة مستترة وخفیة، أو بتلفیق من هذه وهذه.

وهذه القیود والشروط تدور عمدة حول هذه المحاور، وهی أولًا: إنّ هذه الدول الفقیرة تتحوّل إلی سوق للاستهلاک ویتمّ استلاب ثروتهم وإمکاناتهم من هذا الطریق. ثانیاً: فی المسائل السیاسیّة یتمّ الاستغلالها والاستفادة منها أیضاً، ثالثاً: تسعی الدول الثریّة من أجل کسر شوکة المقاومة فی الدول الفقیرة أن تکسر ثقافتها وتقیید أیدیها وأرجلها بحیث لا تملک بعدها أی قدرة أو جرأة علی المخالفة.

ومثل هذا الفرد أو هذا المجتمع سیبتلی بمصیر مؤلم جدّاً، بحیث إنّ حیاتهم تتحرک أحیاناً الموت التدریجی.

ویتحدّث القرآن الکریم عن هذه الحالة بقوله:

«وَللَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِینَ وَلَکِنَّ الْمُنَافِقِینَ لَا یَعْلَمُونَ»

، وهذا الکلام القرآنی فی مقام جواب المنافقین الذین یستندون إلی ثروتهم ویرون أنفسهم أعزاء، وینظرون إلی المسلمین بنظرة المهانة والإزدراء ویتصورونهم فقراء، وقال بعضهم بعد غزوة بنی المصطلق:

«لَئِنْ رَّجَعْنَا إِلَی الْمَدِینَةِ لَیُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ»(2)

. وهکذا نری أنّهم یتصورون العزّة فی الثروة وأنّهم سیخرجون المسلمین الفقراء أذلاء من المدینة، وکما نعلم أنّ هذا التوهم الباطل لم یتجسد علی أرض الواقع أبداً، بل إنّ المنافقین ابتلوا بالعزلة والذلة والمهانة الاجتماعیّة.

قال رسول للَّه صلی الله علیه و آله:

«کثرة الحوائج إلی النّاس مذلّة وهو الفقر الحاضر»(3).

ویقول أمیرالمؤالمنین علی علیه السلام فی جملة قصیرة وعمیقة المغزی:

«إحتج إلی من شئت تکن أسیره»(4).

النتیجة:

ونتیجة هذا البحث أنّ الفقر یترک آثاراً سیئة وتداعیات وخیمة فی الثقافة، الدین، والأخلاق وشخصیة الإنسان ومن هذه الجهة ینبغی التحرک لمنع المجتمع الإسلامی من الوقوع فی هذه الهوة السحیقة.

من الواضح أنّه إذا کان الفقر بمقیاس الدولة والمجتمع فإنّ آثاره السلبیة ستکون أکثر وأشد،


1- غرر الحکم، ح 7453.
2- سورة المنافقون، الآیة 8.
3- بحار الأنوار، ج 74، ص 66، ح 4.
4- المصدر السابق، ج 71، ص 411، ح 21.

ص: 188

فالمجتمع الفقیر مضافاً إلی تلوثه بأنواع الذنوب والمفاسد الأخلاقیّة فإنّه یجد نفسه مضطراً للارتباط والتبعیة للآخرین، ونتیجة هذه التبعیّة تظهر فی المجالات الاقتصادیّة والسیاسیّة والثقافیّة، وبعبارة أخری ستکون البلاد عملًا مستعمرة سیاسیة وثقافیة للبلد المتبوع وتدریجیّاً سیفقد هذا المجتمع وهذا البلد هویته الأصلیّة.

إنّ حالة التدین بمعناه الحقیقی سیکون مشکلًا جدّاً فی مثل هذا المجتمع حیث تتحلل تدریجیّاً عزّته وشخصیته واستقلاله.

والهدف من التأکید علی مفاسد الفقر أن لا یقبل بعض الأشخاص بما ورد فی ظاهر بعض الروایات فی مدح الفقر وبالتالی یعملون علی جر المجتمع الإسلامی إلی هذه الحالة، وهذا خطر کبیر نأمل أن تکون البلدان الإسلامیّة فی عصرنا الحاضر مصونة عن هذه الآفة.

وخاصّة یجب الانتباه إلی فخاخ العدو ومصائده، العدو یسعی بأنواع الحیل أن یجر المجتمعات الإسلامیّة إلی منزلقات الفقر والتبعیة، ومن خلال ترغیبها بالمزید من الاستهلاک والاهتمام بالحیاة التجملیة وإبقائها فی التخلف العلمی والمعرفی وإیجاد مرض عدم اعتبار الذات واحتقارها ویجسد مخططه المشؤوم فی واقع حیاة المسلمین.

وننهی هذا البحث بدعاء من الإمام زین العابدین علیه السلام، الذی یشیر فیه إلی هذه الحقیقة فی دعاء النوافل من یوم الجمعة یقول:

«اللَّهم إنّی أسئلک خیرَ المعیشة، معیشةً أقوی بها علی طاعتک، وأبلغ بها جمیع حاجاتی، وأتوصّل بها إلیک فی الحیاة الدّنیا وفی الآخرة، من غیر أن تترفنی فیها فأطغی أو تقترها علیَّ فأشقی (1).

ونقرأ فی دعاء مماثل للإمام الباقر علیه السلام:

«أسألک اللّهم الرّفاهیة فی معیشتی أبداً ما أبقیتنی، معیشةً أقوی بها علی طاعتک، وأبلغ بها رضوانک ...

وارزقنی رزقاً حلالًا یکفینی، ولا ترزقنی رزقاً یطغینی، ولا تبتلنی بفقر أشقی به»(2).

ونعلم أنّ مفهوم الدعاء لا یعنی ترک العمل والسعی والجهاد فی حرکة الحیاة والمجتمع ثمّ نطلب هذه الأمور من اللَّه، بل إنّ الدعاء یعلمنا الاهتمام بالعمل والسعی أکثر، وما هو خارج عن قدرتنا وإرادتنا نسأل اللَّه تعالی إنجازه لنا، وهذا یمثّل شرط قبول هذه الأدعیة وفقاً لما ورد فی الروایات الشریفة.

البحث الخامس: طرق مکافحة الفقر

اشارة

تحدّثنا فی البحوث السابقة عن عوامل وجذور الفقر واستعرضنا بشکل إجمالی طرق مواجهة الفقر فی مطاوی هذا البحث، ولکن نظراً لأهمیة هذا الموضوع الکبیرة نری من اللازم أن نفرد له بحثاً مستقلًا یتناول هذا الموضوع.


1- بحار الأنوار، ج 87، ص 12.
2- المصدر السابق، ج 94، ص 379.

ص: 189

ولا شک أنّ طرق مکافحة الفقر متنوعة ومتعددة، کما أنّ جذور وخلفیات الفقر کذلک، ولکنّ الطرق الأساسیة لهذه المواجهة یمکن بیانها فیما یلی:

1. التخطیط الجید والإدارة الصحیحة

إنّ التخطیط المقترن برؤیة مستقبلیة ثاقبة وإدارة فاعلة ونشیطة، والتی ورد التعبیر عنها فی النصوص الإسلامیّة ب «التدبیر»، تعتبر من الطرق الأساسیة لقلع حالة الفقر من واقع المجتمع الإسلامی.

وتوجد فی الکثیر من المجتمعات منابع مفیدة وقوی إنسانیة وطبیعیة بالقدر الکافی (فی ظاهر الأرض وباطنها) ولکن مع عدم وجود الإدارة الصحیحة والتخطیط الدقیق تحوّل ذلک المجتمع إلی مجتمع فقیر، وفی مقابل ذلک ثمة مجتمعات أخری مع عدم وجود منابع وإمکانات طبیعیة، إلّاأنّها تحوّلت إلی مجتمعات متقدّمة ومتطورة، لأنّها استفادت من منابعها القلیلة مع إدارة صحیحة وتخطیط دقیق الحدّ الأقصی من الفائدة.

إنّ الإدارة الصحیحة بحاجة إلی تعلیم وتجربة والاستفادة من تجارب الآخرین ورؤیة مستقبلیة وعدم التعصب بالنسبة لتجاربها الفاشلة فی الماضی.

وتشیر الأحادیث التالیة إلی أهمیة الإدارة والتخطیط فی المجالات الاقتصادیّة لیتبیّن من ذلک اهتمام الإسلام بهذا المجال اهتماماً کبیراً.

یقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام:

«من ساء تدبیره تعجّل تدمیره»(1).

ویقول الإمام علی علیه السلام مخاطباً لعامة الناس:

«أیّها النّاس لا خیر فی دنیا لا تدبیر فیها»(2).

ویصرّح علیه السلام فی بیان آخر:

«سوء التّدبیر مفتاح الفقر»(3).

وکذلک یقول علیه السلام فی کلام آخر ضمن عبارة موجزة وعمیقة المغزی:

«حسن التّدبیر یُنمی قلیلَ المال وسوء التّدبیر یُفنی کثیرَه»(4).

ویستفاد من روایة شریفة عن أیوب بن الحر سمعت رجلًا یقول لأبی عبداللَّه (الإمام الصادق علیه السلام) بلغنی أنّ الاقتصاد وا لتدبیر فی المعیشة نصف الکسب، فقال أبوعبداللَّه علیه السلام:

«لا، بل هو الکسب کلّه، ومن الدین التدبیر فی المعیشة»(5).

وقد ورد التأکید کثیراً فی المصادر الإسلامیّة علی الإدارة القویة والجدیرة، فالقرآن الکریم یشیر باختصار فی قصة یوسف علیه السلام وفی إدارة الأمور الاقتصادیّة فی مصر والتی تسببت فی نجاة الناس من الأزمة الاقتصادیّة الشدیدة، إلی هذه النقطة:

«قَالَ اجْعَلْنِی عَلَی خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّی حَفِیظٌ عَلِیمٌ»(6).

وطبقاً لمفاد هذه الآیة الشریفة فإنّ النّبی یوسف علیه السلام اقترح علی ملک مصر أنّ یقوم بحفظ وحراسة المنابع الاقتصادیّة لمصر وأن یتولی هذا


1- غرر الحکم، ح 8091.
2- بحار الأنوار، ج 67، ص 307، ح 34.
3- غرر الحکم، ح 8090.
4- المصدر السابق، ح 8081.
5- بحار الأنوار، ج 68، ص 349، ح 20.
6- سورة یوسف، الآیة 55.

ص: 190

الجانب المهم من الإدارة، لأنّه یملک العلم الکافی والأمانة اللازمة.

یقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی کتابه لأهل مصر والذی دفعه إلی مالک الأشتر لایصاله لهم ویذکر فیه مواضیع مهمّة جدّاً: «

ولکنّنی آسی أن یلی أمر هذه الامّة سفهاؤها وفجّارها فیتّخذوا مال اللَّه دُوَلًا وعباده خَوَلًا والصّالحین حَرْباً والفاسقین حِزْباً»(1).

وفی هذه الرسالة صرّح الإمام علیه السلام أنّ تولی الأمور بواسطة الضعفاء والجهلاء یتسبب فی تراکم الثروة بید فئة قلیلة وبالتالی ستعیش شریحة کبیرة أخری تحت وطأة الفقر والعبودیة.

2. إصلاح المفاهیم والتصورات

والمراد من هذا العنوان أنّ الکثیر من مدراء المجتمع، بدلًا من الالتفات إلی المسائل العمیقة، فإنّهم یبتلون بالسطحیة والرؤیة الضیقة والمسائل الیومیة، فی حین أنّهم إذا توجهوا إلی الجذور الأصلیّة للمشاکل بدلًا من الاهتمام بهذه الأمور السطحیة، وسعوا لحل مشکلة الفقر من مواقع الصبر والمثابرة ویترکون الحلول السطحیة والفرعیة التی ربّما ترضی البعض بشکل موقت، فبالیقین أنّهم سیکونون ناجحین وموفقین أکثر.

یقول الإمام علی علیه السلام:

«یُستدّل علی إدبار الدّول بأربع: تضییع الاصول، والتّمسک بالفروع، وتقدیم الأراذل، وتأخیر الأفاضل»(2).

ویقول الإمام علی علیه السلام فی حدیث آخر:

«من اشتغل بغیر المهمّ ضیّع الأهمّ»(3).

3. إصلاح الثقافة العامّة

تقدّم فی بحث جذور وعوامل الفقر أنّ سوء فهم وتحریف المفاهیم الإسلامیّة البنّاءة وتفسیرها تفسیراً خاطئاً یعتبر أحد العوامل للتخلف فی بعض المجتمعات الإسلامیّة، فالزهد یفسّر بمعنی الابتعاد عن الدنیا، والقضاء والقدر صار موسوغاً للکسل والفرار من تحمل المسؤولیّات، والتوکّل علی اللَّه یفسر بمعنی ترک السعی والنشاط فی مجالات الحیاة، وترک الدنیا بمعنی ترک المال والثروة وأمثال ذلک من الأمور التی تسببت فی بقاء الفرد والمجتمع الإسلامی فی دوامة الفقر والجهل والتخلف.

ومن هنا یجب علی الأشخاص الذین یتولون مسؤولیّة التعالیم والثقافة الاجتماعیّة أن یبیّنوا لعامة الناس المفاهیم الصحیحة لهذه المفردات التی سبقت الإشارة إلیها، ومن الجلی أنّ جمیع هذه المفردات تدعونا لمزید من السعی والعمل لمکافحة الفقر لا الرضوخ له.

4. الدعوة للتقشف والمعیشة البسیطة

یعتقد بعض علماء الاقتصاد بأنّ منابع الحیاة علی الأرض ومصادر الطبیعة لیست بذلک المقدار بحیث یمکن تقسیمها بین جمیع أفراد البشر بشکل صحیح


1- نهج البلاغة، الکتاب 62.
2- میزان الحکمه، ج 2، ص 936، ماده« دولة».
3- غرر الحکم، ح 10944.

ص: 191

وینال کلّ واحد منهم حیاة مرفهة کما هو حال المرفهین فی الغرب، ومفهوم هذا الکلام أنّ التوجه إلی مثل هذه الحیاة المترفة یؤدّی قطعاً إلی حرمان شرائح أخری من المجتمع.

وعلی هذا الأساس فإنّ المعیشة البسیطة والابتعاد عن طلب التجملات فی الحیاة یتسبب فی أن یعیش جمیع أفراد المجتمع حیاة کریمة وسلیمة، وهذا ما هو ورد التأکید علیه فی الآیات والروایات الشریفة فی مقولة الزهد الإسلامی.

یقول الإمام علی علیه السلام بعد أن یقرر أنّ اللَّه تعالی وضع فی أموال الأغنیاء ما یحتاجه الفقراء:

«فما جاع فقیر إلّابما مُتّع به غنیّ»(1).

5. دمج الأخلاق بالاقتصاد

إنّ الاقتصاد العالمی فی هذا الزمان أجنبی عن القیم الأخلاقیّة حیث یدور فقط حول محور الربح الأکثر والتعب الأقل، وربّما نری أنّ بعض الدول تضع القوانین التی تصطبغ بصبغة أخلاقیّة لحفظ النظم الاجتماعیة فی ذلک البلد، ولکن مسألة مکافحة الفقر لا تقع مورد اهتمامهم إلّافی صورة أن تؤدّی إلی الانفجار الاجتماعی، أمّا فی الإسلام فإنّ المسائل الأخلاقیّة تندمج مع المسائل ا لاقتصادیة فی تشکیلة منسجمة، وأحد عوامل مکافجة الفقر یکمن فی هذه النقطة بالذت، فجمیع النشاطات الاقتصادیّة التی تعود بالضرر علی المجتمع أو علی طبقة خاصّة من الناس فإنّها ممنوعة فی نظر الإسلام، فالاحتکار وإدّخار المواد الأولیة فیما یحتاجه الناس لغرض کسب ربح أکثر، محرم فی الإسلام، وقد وردت التوصیة بالنسبة لبعض البضائع أن یقنع البائع بالحد الأدنی من الربح بما یؤمن له حیاته ومعیشته، وبالتالی یمنع من إیجاد السوق السوداء وتورم الأسعار.

ونقرأ فی آیات وروایات کثیرة التأکید علی مواساة الفقراء وأحیاناً التوصیة بالإیثار وفی موارد کثیرة التوصیة للأشخاص المتمولین بالإنفاق، وکلّ هذه الأمور لها تأثیر کبیر فی مکافحة الفقر والتقلیل من هذه الظاهرة المخربة، فمکافحة الإسراف والتبذیر وإکتناز الثروة واخراج رؤوس الأموال من دائرة النشاطات الاقتصادیّة تعدّ من العوامل المؤثرة الأخری فی هذا المجال والتی لا أثر لها فی الاقتصاد المادی للعالم المعاصر.

وثمة آیات وروایات کثیرة فیما یتصل بما ذکر أعلاه فی المصادر الإسلامیّة وسوف یأتی البحث فیها فی فصل «سیادة الأخلاق علی النظام الاقتصادی الإسلامی».

6. العزم الوطنی والإرادة العامّة

إنّ التصدی لظاهرة الفقر لیست شیئاً یمکن مواجهته فقط بواسطة الحکومة أو من خلال وضع قوانین خاصّة، وبالرغم من أنّ دور الحکومة والقوانین المعیقة لا یمکن إنکاره، ولکن العامل الأکثر تأثیراً فی هذا الأمر الإرادة العامّة فی المجتمع بحیث یعیش


1- نهج البلاغة، الکلمات القصار، الکلمة 328.

ص: 192

أفراد المجتمع العزم والتصمیم لمجابهة عوامل الفقر بشکل أکید، لأنّ بدون هذه المواجهة العامّة فإنّ الأمن والاستقرار والمحبّة والمودة لا تسود فی فضاء المجتمع.

یقول القرآن الکریم:

«إِنَّ اللَّهَ لَایُغَیِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّی یُغَیِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ»(1).

واللافت أنّ القرآن الکریم یقول فی آیة أخری:

«ذَلِکَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ یَکُ مُغَیِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَی قَوْمٍ حَتَّی یُغَیِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ»(2)

، وهذا یعنی أنّ هذا الأصل لا یتعلق بالبشر فی هذا العصر بل فی الماضی کذلک.

وفی هذا المجال یدعو الإسلام، الصغیر والکبیر، الشیخ والشاب، وجمیع الأشخاص الذین یملکون القدرة علی العمل، علی بذل مزید من الجهد والسعی وأن یعتبروا العمل فریضة شرعیة، ومعلوم أنّ هذا البرنامج إذا تجسد فی الواقع الاجتماعی فإنّ ظاهرة الفقر سوف لا یبقی لها محل من الإعراب.

وخاصّة ما ورد فی روایات عدّة من النهی بأن یکون الفرد فی المجتمع الإسلامی کَلّاً علی المسلمین، یعنی أن یتعب الآخرین وینتفع من عملهم وأتعابهم:

یقول الإمام علی علیه السلام:

«من لم یصبر علی کدّه صبر علی الإفلاس»(3).

ویقول الإمام الصادق علیه السلام أیضاً:

«ولا تکسل عن معیشتک فتکون کلّاً علی غیرک»(4).

ونقرأ فی حدیث شیّق عن أمیرالمؤمنین علی علیه السلام:

«إنّ الأشیاء لمّا إزدَوَجت إزدَوج الکسل والعجز فنُتجا بینهما الفقر»(5).

ولا شک أنّ مراعاة الموارد المذکورة أعلاه من شأنها أن تساهم فی رفع الفقر من المجتمعات البشریّة إلی حدود کبیرة وتوفر الغنی والعزّة والکرامة للمجتمع الإسلامی.

***

المنابع والمصادر

1. القرآن الکریم.

2. نهج البلاغة (مع تحقیق الدکتور صبحی صالح).

3. الصحیفة السجادیة.

4. إرشاد القلوب، حسن بن أبی الحسن الدیلمی، انتشارات الشریف الرضی، 1412 ه ق.

5. بحار الأنوار، العلّامة محمّد باقر المجلسی، مؤسسة الوفاء، بیروت، الطبعة الثانیة، 1403 ه ق.

6. تحف العقول، ابن شعبة الحرّانی، تحقیق علی أکبر الغفاری، نشر جماعة المدرسین، قم، الطبعة الثانیة، 1404 ه ق.

7. تحفة الأحوذی فی شرح الترمذی، لبمبارکفوری، دارالکتب العلمیّة، الطبعة الاولی، 1410 ه ق.

8. تذکرة الموضوعات فتنی، محمّد طاهر بن الهندی


1- سورة الرعد، الآیة 11.
2- سورة الأنفال، الآیة 53.
3- غرر الحکم، ح 8113.
4- الکافی، ج 5، ص 86، ح 9.
5- المصدر السابق، ح 8.

ص: 193

الفتنی.

9. جامع الصغیر، جلال الدین السیوطی، دار الفکر، بیروت، الطبعة الاولی، 1401 ه ق.

10. خصال الصدوق، الشیخ الصدوق، تحقیق علی أکبر الغفاری، نشر جماعة المدرسین، قم.

11. دعائم الإسلام، نعمان بن محمّد، دار المعارف، مصر، الطبعة الثانیة، 1385 ه ق.

12. سنن الترمذی، محمّد بن عیسی الترمذی، دار الفکر، بیروت، الطبعة الثانیة، 1403 ه ق.

13. سنن النسائی، أحمد بن شعیب النسائی، دار الفکر، بیروت، الطبعة الاولی، 1348 ه ق.

14. مسیرة الفکر الاقتصادی (سیر اندیشه اقتصادی) بالفارسیّة، الدکتور باقر القدیری أصل، انتشارات طهران، سنة 1376 ه ش.

15. شرح نهج البلاغة، ابن أبی الحدید المعتزلی، دار الکتب العلمیّة، قم، الطبعة الاولی، 1378 ه ق.

16. شرح وتفسیر مفردات القرآن علی أساس التفسیر الأمثل (شرح وتفسیر لغات قرآن بر اساس تفسیر نمونه) بالفارسیّة، تدوین جعفر الشریعتمداری، بنیاد پژوهش های اسلامی آستان قدس رضوی، مشهد، الطبعة الاولی، 1372 ه ش.

17. الصبر فی القرآن، یوسف القرضاوی، دار المتّحدة، الطبعة العاشرة، 1413 ه ق.

18. صحیح البخاری، محمّد بن إسماعیل البخاری، دار الفکر، بیروت.

19. عدة الداعی، أحمد بن فهد الحلّی، مکتبة الوجدانی، قم.

20. عوالی اللئالی، ابن أبی جمهور الاحسائی، مطبعة سیّد الشهداء، قم، الطبعة الاولی، 1403 ه ق.

21. غرر الحکم، عبدالواحد بن محمّد التمیمی الآمدی، مکتب الإعلام الإسلامی للحوزة العلمیّة، قم، 1366 ه ش.

22. غنیة النزوع، ابن زهرةه الحلّی، تحقیق الشیخ إبراهیم البهادری، مؤسسة الإمام الصادق، قم، الطبعة الاولی، 1417 ه ق.

23. الکافی، محمّد بن یعقوب الکلینی، دار صعب- دارالتعارف، بیروت، الطبعة الثالثة، 1401 ه ق.

24. کشف الخفاء العجلونی، إسماعیل بن محمّد العجلونی، دارالکتب العلمیّة، الطبعة الثانیة 1408 ه ق.

25. کنزالعمّال، المتّقی الهندی، مؤسسة الرسالة، بیروت، الطبعة الخامسة، 1405 ه ق.

26. المبسوط، للسرخسی، شمس الدین السرخسی، دارالمعرفة، بیروت، 1406 ه ق.

27. مستدرک الوسائل، المیرزا حسین النوری الطبرسی، مؤسسة آل البیت، قم، الطبعة الاولی، 1408 ه ق.

28. مسند أحمد، أحمد بن حنبل، دار صادر، بیروت.

29. مصنّف ابن أبی شیبة، ابن أبی شیبة الکوفی، دار الفکر، بیروت، الطبعة الاولی، 1409 ه ق.

30. مغنی المحتاج، محمّد بن الشربینی، دار إحیاء التراث العربی، 1377 ه ق.

31. المفردات، الراغب الإصفهانی، دار المعرفة، بیروت.

32. مکارم الأخلاق، الطبرسی، منشورات الشریف الرضی، الطبعة السادسة، 1392 ه ش.

ص: 194

33. المکاسب المحرّمة، الشیخ مرتضی الأنصاری، المؤتمر العالمی حول الشیخ الأنصاری، قم، الطبعة الاولی، 1417 ه ق.

34. ملاحظات حول الرسائل الاقتصادیّة فی القرآن (ملاحظاتی پیرامون پیام های اقتصادی قرآن) بالفارسیّة، الدکتور سید جمال الدین الموسوی الإصفهانی، مکتب نشر الثقافة الإسلامیّة، الطبعة الاولی، 1368 ه ش.

35. وسائل الشیعة، محمّد بن حسن الحرّ العاملی، دار إحیاء التراث العربی، بیروت، الطبعة الرابعة، 1391 ه ق.

ص: 195

(4). التنمیة الاقتصادیّة أحد الأهداف المهمّة الأخری

اشارة

البحث الأوّل: تعریف التنمیة وأهمیّتها

البحث الثانی: معالم التنمیة

البحث الثالث: أصول التنمیة فی الرؤیة الإسلامیّة

ص: 196

ص: 197

التنمیة الاقتصادیّة أحد الأهداف المهمّة الأخری

البحث الأوّل: تعریف التنمیة وأهمیّتها

اشارة

کلمة التنمیة فی اللغة العربیة تعادل Development . وهذه المفردة فی اللغة الانجلیزیة تعنی الرشد الکمی وزیادة المقدار.

ویری «جرالد مِیِر» أنّ التنمیة تعنی الرشد مع إضافة التغییر(1)، وذهب «تودارو»، إلی أنّ التنمیة تیار ذو عدّة أبعاد ویستلزم إیجاد تغییرات أساسیة فی البنیة الاجتماعیّة، وکذلک فی تلقی عامة الناس والمؤسسات الوطنیة وکذلک فی تسریع الرشد الاقتصادی، والتقلیل من الفوارق الطبقیة والقضاء علی الفقر المطلق (2).

وفی تعریف التنمیة الاقتصادیّة قالوا: «التنمیة الاقتصادیّة فی تعریف کلی عبارة عن النمو الاقتصاد المقترن بالتغییرات والتحوّل کیفی، وبعبارة أخری، أنّ التنیمة الاقتصادیّة تملک أبعاداً کیمیة وکیفیه فی عملیّة التغییر بالنسبة للمتغیرات الاقتصادیّة ولیست بشکل میکانیکی، بل بشکل مؤسساتی حیوی (ارغانیک)، وفی تعریف آخر «أنّ التنمیة الاقتصادیّة عبارة عن الارتقاء الشامل لجمیع أبعاد المعیشة والرفاه»(3).

ویقول «اگراوال»: «یمکن تعریف التنمیة الاقتصادیّة بزیادة دخل الفرد، مع تحسین الرفاه المادی، وعلی هذا الأساس فإنّ التنمیة الاقتصادیّة تتشکل من رکنین: 1. زیادة دخل الفرد، 2. تحسین حالة توزیع الرفاه المالی»(4).

وعلی ضوء ذلک فإنّ النمو المقترن مع التغییرات والتحوّلات الکیفیة وارتقاء مستوی المعیشة وتأمین الرفاه للناس یمکن أن یطلق علیه بالتنمیة الاقتصادیّة.

الاختلاف بین النمو والتنمیة:
اشارة

ذهب بعض علماء الاقتصاد إلی أنّ هاتان المفردتان مترادفتین، بینما ذهب البعض الآخر منهم فی العقود الماضیة مثل: آرتور لوئیس: «إنّ أغلب علماء الاقتصاد فی تحلیلهم للمتغیرات یعتمدون علی مفردة (النمو) وفقط لغرض التنوع یستخدمون أحیاناً کلمة التنمیة والتطور»(5).

والیوم نری الکثیر من علماء الاقتصاد یقولون بوجود تفاوت بین «التنمیة» و «النمو»، وفی تعریف


1- البحوث الأساسیة للاقتصاد التنمیة( مباحث اساسی اقتصاد توسعه) بالفارسیّة، ص 35.
2- التنمیة الاقتصادیّة فی العالم الثالث( توسعه اقتصادی در جهان سوم) بالفارسیّة، ص 23.
3- المصدر السابق، ص 12.
4- ر. ک: شاخص های توسعه اقتصادی از دیدگاه اسلام، ص 43.
5- الاقتصاد، والنمو والتنمیة( اقتصاد، رشد و توسعه) بالفارسیّة، ص 8.

ص: 198

«النمو» یؤکدون أکثر علی الروائز الاقتصادیّة وقلیلًا علی الدخل السنوی أو الإنتاج الذی یصل بشکل تدریجی وعلی مدّة طویلة فی ازدیاد مطّرد وبشکل تدریجی، ولکن فی مقابل ذلک یقولون بأنّ «التنمیة» تشمل التحوّلات والمتغیرات الفکریّة والاجتماعیّة فی المجتمعات النامیة.

وعلی ضوء ذلک فإنّ دائرة «التنمیة» أوسع من دائرة «النمو»، وکذلک فی کونها ذات أبعاد عدّة، فمضافاً إلی تحسین میزان الإنتاج والدخل، فإنّها تشمل المتغیرات الأساسیة فی البنیة الاجتماعیّة والإدارة أیضاً(1).

وکذلک من حیث الهدف فإنّ التنمیة، مضافاً إلی زیادة الکمیة فی المنتجات والخدمات، تشمل المتغیرات الکیفیة فی السیاقات الاجتماعیّة فی المجتمع والتوزیع العادل للثروات والعائدات، مکافحة الفقر، إیجاد فرص العمل، رفع الحرمان وتأمین الرفاه العام والرقی الثقافی (2).

وبعبارة أخری: «إنّ التنمیة الاقتصادیّة تملک مفهوماً واسعاً وشاملًا لأبعاد أکثر، فمضافاً إلی النمو الکمی فإنّها تشمل کیفیة التغیرات الفنیّة والتنظیمة فی کیفیة الإنتاج وقسم المصادر البشریّة والمادیّة والتقلیل من الفوارق الطبقیة والفقر، وعلی هذا الأساس فإنّ التنمیة الاقتصادیّة، مضافاً إلی زیادة الإنتاج، تتضمّن توفر شروط مساعدة فی البنیة الاجتماعیّة والاقتصادیّة للمجتمع حیث تضمن استمرار النمو الاقتصادی»(3).

وعلی ضوء ذلک فما یراد بحثه فی هذه المقالة فی مجال التنمیة الاقتصادیّة هو العمران والإحیاء، ووفرة الإمکانات، الارتقاء بالمستوی المعیشی للناس، التطور العلمی، سعة دائرة الأمن والعدالة بالاقتران مع المعنویّة، وفی هذا المجال ینبغی الالتفات إلی نقطتین:

1. الحیاة الطیّبة

فی دائرة الثقافة الإسلامیّة فإنّ المجتمع المتقدم یطلق علی المجتمع الذی یملک، مضافاً إلی المعاییر الاقتصادیّة، الحالات المعنویّة والأخلاق والإیمان، والمجتمع الذی یملک هذه الأمور یعیش «الحیاة الطیّبة».

یقول القرآن الکریم:

«مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّنْ ذَکَرٍ أَوْ أُنثَی وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْیِیَنَّهُ حَیَاةً طَیِّبَةً وَلَنَجْزِیَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا کَانُوا یَعْمَلُونَ»(4).

وقد وردت تفاسیر متعددة لعبارة «الحیاة الطیّبة» فی هذه الآیة الشریفة، ولکن لابدّ من الالتفات إلی نقطتین:

1. إنّ الحیاة الطیّبة بأی معنی کانت، تتعلق بهذه الحیاة الدنیویّة، «لأنّ الثواب الإلهی بشکل أفضل وقع بعدها ... والحیاة الطیبة بالحیاة الدنیا والجزاء الأحسن متعلق بالآخرة»(5).

2. للوصول إلی مرتبة «الحیاة الطیّبة» یجب توفر شرط الإیمان والعمل الصالح، وطبعاً فإنّ المجتمع الذی یتحرک فقط فی طریق النمو والرشد الاقتصادی ولا یهتم بالإیمان والمعنویّة فإنّ مثل هذا المجتمع یفقد «الحیاة الطیّبة».

وقد ذکر صاحب التفسیر الأمثل بعد نقله لأقوال المفسرین (6) عن «الحیاة الطیّبة»:


1- مقدمة علی عمل اجتماع التنمیة الریفیة( مقدمه ای بر جامعه شناسی توسعه روستایی) بالفارسیّة، ص 18.
2- مجله تازه های اقتصاد، خرداد و تیر 1369، ص 30. همچنین ر. ک: بن بست توسعه در جهان سوم، ص 19.
3- القیم والتنمیة( ارزش ها وتوسعه) بالفارسیّة، ص 34.
4- سورة النحل، الآیة 97.
5- التفسیر الأمثل، ج 7، ذیل الآیة البحوثة؛ سید قطب یعتبر تعلق« الحیاة الطیّبة» بالدنیا( فی ظلال القرآن، ج 4، ص 2193).
6- لقد ذکر المفسّرون فی معنی الحیاة الطیّبة تفاسیر عدیدة: فبعض فسّرها ب: الرّزق الحلال. وبعض ب: القناعة والرضا بالنصیب. وبعض ب: الرزق الیومی. وبعض ب: العبادة مع الرزق الحلال. وبعض ب: التوفیق لطاعة أوامر اللَّه ... وما شابه ذلک( التفسیر الأمثل، ج 7، ذیل الآیة المبحوثة).

ص: 199

«إنّ مفهوم الحیاة الطیّبة من السعة بحیث یشمل کلّ ما ذکروه وغیره، فالحیاة الطیّبة بجمیع جهاتها، خالیة من التلوّثات والظلم والخیانة والعداوة والذل وکلّ ألوان الآلام والهموم، وفیها ما یجعل حیاة الإنسان صافیة کماءٍ زلال»(1).

وعلی ضوء ذلک فإنّ النمو والتنمیة فی نظر الدین، مضافاً إلی الکثرة والسعة والکیفیة العالیة للمنتجات والمحصولات، فإنّها تتضمّن التوزیع العادل للثروة وما إلی ذلک، وتنطوی علی المعنویّة والأخلاق فی ثنایاها، والمجتمع الإسلامی مضافاً إلی الاستفادة من النعم والمواهب الإلهیّة الکثیرة:

«وَأَسْبَغَ عَلَیْکُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً»(2)

، یملک أیضاً الإیمان والمعنویّة ویصل فی مسالک التطور والتقدم بحیث یثیر إعجاب الجمیع ویثیر حسد الأعداء.

ویتحدّث القرآن الکریم بعبارات بلیغة عن وصف الناس فی مثل هذا المجتمع ویقول:

«... کَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَی عَلَی سُوقِهِ یُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِیَغِیظَ بِهِمُ الْکُفَّارَ»(3).

والناس فی هذا المجتمع، وبتبع ذلک المجتمع الإسلامی نفسه فیما إذا تحرک علی مستوی تطبیق التعالیم الإسلامیّة، فإنّهم یصلون إلی مراحل من الرشد والرقی إلی درجة أنّه یتسبب فی إعجاب القائمین علی هذا المجتمع والمبدعین لذلک التمدن، وأیضاً یورث عملهم هذا غضب قوی الهیمنة والسلطة الذین لا یفکرون إلّابمطامعهم ومنافعهم ویرون أنّ تطور المجتمع الإسلامی وإزدهاره ینتهی إلی ضررهم والقضاء علی منافعهم.

ولا ینبغی الغفلة عن أنّ ما تقدّم بیانه إنّما یتحقق فی صورة حاکمیة وسیادة المعاییر الإلهیّة والإسلامیّة.

2. أهمیّة التنمیة الاقتصادیّة فی الإسلام

إنّ الرشد والتنمیة فی الإسلام تحظی بأهمیّة واهتمام کبیرین، فالإسلام مضافاً إلی سعیه فی إزاحة الخرافة والجهل عن الذهنیة العامّة فإنّه اهتم بتصحیح العقائد والإعمار فی مجال الآخرة والرفاه والرشد والتنمیة الاقتصادیّة للناس فی مجال الدنیا.

فتارة یتحرک علی مستوی ترغیبهم فی الاستفادة من الدنیا:

«قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِینَةَ اللَّهِ الَّتِی أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّیِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ»(4)

، وأحیاناً أخری یتحرک علی مستوی تحذیر الأشخاص الذین حرموا علی أنفسهم الاستفادة من الطیبات فی الدنیا:

«یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَیِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَکُمْ»(5)

وبذلک یدعو المسلمین لبذل جهدهم وسعیهم فی کافة مجالات الحیاة.

وکذلک یطلب من الناس بصراحة أن یتحرکوا علی مستوی إعمار الدنیا:

«هُوَ أَنشَأَکُمْ مِّنَ الْأَرْضِ


1- التفسیر الأمثل، ج 7، ذیل الآیة مورد البحث.
2- سورة لقمان، الآیة 20.
3- سورة الفتح، الآیة 29.
4- سورة الأعراف، الآیة 32.
5- سورة المائدة، الآیة 87.

ص: 200

وَاسْتَعْمَرَکُمْ فِیهَا»(1)

، وبدیهی أنّ الدعوه للإعمار والإحیاء تتضمن الدعوة للسعی لغرض التنمیة والرشد الاقتصادی.

یقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام أیضاً: «

فأهبطه بعد التّوبة لیَعمُر أرضه بنسله»(2).

وکذلک عندما یتحدّث الإمام علی علیه السلام عن مرحلة الجاهلیة وقبل بعثة رسول اللَّه صلی الله علیه و آله، فمضافاً إلی ذکره للعقائد الباطلة والتی تمّ إصلاحها بتعالیم السماء والأحکام الدینیّة، یتحدّث عن حالات الفقر والعوز التی تمّ القضاء علیها من خلال تبعیة الناس للإسلام ومدرسة رسول اللَّه صلی الله علیه و آله ویقول:

«إنّ اللَّه بعث محمّداً صلّی اللَّه علیه وآله وسلّم نذیراً علی العالمین، وأمیناً علی التنزیل، وأنتم معشر العرب علی شرّ دین وفی شرّ دار، منیخون بین حجارة خُشْنٍ، وحیّات صُمّ، تشربون الکدر، وتأکلون الجَشِب»(3).

ونقرأ فی دعاء الإمام الحسن العسکری علیه السلام أنّه قال:

«صلّ علی محمّد وآل محمّد کما رحمت به العباد وأحییت به البلاد، ... وأضعفت به الأموال»(4).

ویقول الإمام أمیر المؤمنین علی علیه السلام فی عهده لمالک الأشتر فی مجال التوصیة للإعمار والتنمیة:

«ولیکن نظرک فی عمارة الأرض، أبلغ من نظرک فی استجلاب الخراج»

. ثمّ یضیف:

«لأنّ ذلک لایُدرک إلّا بالعمارة»(5).

ونقرأ فی دعاء الإمام زین العابدین علیه السلام أنّه یطلب من اللَّه تعالی أن یملک من الإمکانات الاقتصادیّة بحیث یتمکن من تأمین ما یحتاجه فی حیاته:

«... معیشة أقوی بها جمیع حاجاتی»(6)

، وفی دعاء آخر للإمام الباقر علیه السلام أنّه یطلب من اللَّه تعالی الرفاه فی المعیشة:

«أسالک اللّهم الرّفاهیّة فی معیشتی ما أبقیتنی»(7)

، فإنّ هذه الأقوال تحکی جمیعاً عن أهمیّة التنمیة والرفاه فی الحیاة. وطبعاً تشیر إلی التنمیة الشاملة التی تلاحظ فیها الدنیا والجوانب الآخرة والمادیّة والمعنویّة.

وترسم الروایات الإسلامیّة صورة رائعة عن عصر ظهور الإمام المهدی علیه السلام وما یعیشه الناس من تنمیة اقتصادیّة ورفاه تام بما یمثّل خصائص ذلک العصر یقول رسول اللَّه صلی الله علیه و آله:

«یتنعّم امّتی فی زمن المهدی علیه السلام نعمة لم یتنعّموا قبلها قطّ: یرسل السّماء علیهم مدراراً ولا تدع الأرض شیئاً من نباتها إلّا أخرجته»(8).

وورد فی مصادر أهل السنّة أیضاً فیما یتصل بالتنمیة الاقتصادیّة التی یبشر بها الإسلام عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«لا تقوم السّاعة حتّی یُکثر فیکم المال، فیفیض حتّی یُهِمَّ ربّ المال من یقبل صدقته، وحتّی یعرضَه فیقول الّذی یعرضه علیه: لا أرَبَ لی»(9).

وکما ورد فی مصادر أهل السنّة الحدیث عن حکومة الإمام المهدی علیه السلام بشکل واسع فی الأحادیث الواردة فی هذا الشأن حیث یتصل بعضها بالسعة والرفاه ووفور النعمة، ومن ذلک ما ورد عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«تَنعَم امّتی فیها نعمة لم ینعموا مثلها، یرسل اللَّه السماء علیهم مدراراً، ولا تدّخر الأرض شیئاً من النّبات، والمال کُدس، یقوم الرّجل فیقول: یا مهدی أعطنی، فیقول: خذ»(10).

والإسلام، مضافاً إلی اهتمامه بالنمو الاقتصادی، فقد اهتم معه بالنمو المعنوی، لأنّه بدون التقوی والتدین، فإنّ الثروة والمال یتسببان فی طغیان الإنسان:

«إِنَّ الْإِنسَانَ لَیَطْغَی* أَنْ رَّآهُ اسْتَغْنَی»(11)

وبالنتیجة فإنّ الدنیا سوف تمتلی ء من حالات


1- سورة هود، الآیة 61.
2- نهج البلاغة، الخطبة 91. ابن خلدون العالم الإسلامی المعروف( م 808) فی کتابه التاریخ أنّ الآیة طرحت علم« عمران» وبحثها فی المجلدات 1 و 2 بشکل مفصل. وجاءت هذه البحوث مماثلًا أو متقارباً لما نجده الیوم فی عالمنا المعاصر تحت عنوان« التنمیة».
3- نهج البلاغة، الخطبة 26.
4- بحار الأنوار، ج 91، ص 73.
5- نهج البلاغة، الکتاب 53.
6- بحار الأنوار، ج 87، ص 3.
7- المصدر السابق، ج 94، ص 379.
8- المصدر السابق، ج 51، ص 83.
9- صحیح البخاری، ج 2، ص 113.
10- مجمع الزوائد، ج 7، ص 317؛ معجم الأوسط الطبرانی، ج 5، ص 311( مع اختلاف یسیر).
11- سورة العلق، الآیة 6.

ص: 201

الاستعمار والاستکبار والظلم والجور.

ولذلک ورد عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أنّ قال:

«نعم المال الصالح، للمرء الصالح»(1).

ویقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی وصف المتقین فیما یتصل باستفادتهم من المال والدنیا:

«إنّ المتّقین ذهبوا بعاجل الدّنیا وآجل الآخرة»(2)

، وفی هذا المجال سنتحدّث فی البحث الثانی أکثر عن هذا الموضوع.

البحث الثانی: معالم التنمیة

اشارة

المعالم التی یذکرها علماء الاقتصاد للتنمیة الاقتصادیّة عبارة عن: نمو دخل الفرد، ارتفاع مستوی الإنتاج القومی، التوزیع العادل نسبیاً للثروة، القسم المهم والفعّال فی الصناعة، الرفاه الاجتماعی وتقدیم الخدمات، التعلیم المناسب والمتطور، فرص العمل، وسائط النقل المتناسبة، الأمن الفردی والاجتماعی، الصحة، التغذیة الکافیة، برامج الحمایة، الإنتاج الکثیر، الصادرات المتنوعة والکثیرة، ارتفاع نسبة الأمل فی الحیاة، السوق النشط، الثقافة الاقتصادیّة والعمل، روحیة المشارکة للناس (3) وبعض الأمور الأخری.

مضافاً إلی ذلک، فنحن نری أنّ الاهتمام بالمعنویة والأخلاق فی فضاء المجتمع وملاحظة روائزه ومنسوبه یعد من المعالم المهمّة للتنمیة الاقتصادیّة وبدون ذلک فإنّ الأبعاد الأخری للتنمیة ستکون ناقصة وبتراء، وفی هذا المقال نستعرض المعالم المهمّة للتنمیة فی نظر الإسلام تحت العناوین التالیة:

1. سقف المعیشة
اشارة

من المعالم المهمّة فی النمو والتوسعة فی عالم المعاصر، ارتفاع سقف معیشة الناس فی مجالات:

التغذیة، اللباس، والوسائل الترفیهیة، المسکن وأمثال ذلک.

ففی المجتمع المتطور والنامی یتمتع الناس بتغذیة مناسبة ولا یواجهون قلّة وضعف فی هذا المجال، وهکذا الحال فی مقولة المسکن والملابس ووسائل الترفیه أیضاً، أنّه تصل إلی الحدّ المطلوب، والإسلام أیضاً اهتم بهذه الموارد.

أ). التغذیة المناسبة

إنّ اللَّه تعالی وهب الناس رزقاً حلالًا طیّباً وکافیاً وسمح لهم بالاستفادة من مواهب الطبیعة، یتحدّث القرآن الکریم فی هذا الموضوع أحیاناً بتعبیر:

«قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِینَةَ اللَّهِ الَّتِی أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّیِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ»(4)

وبذلک یرغب الناس للاستفادة من الرزق الطیب والحلال، وتارة أخری یتحدّث عن هذا المعنی بصراحة ویأمر بالأکل من الطیبات:

«یَا أَیُّهَاالَّذِینَ آمَنُوا کُلُوا مِنْ طَیِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاکُمْ»(5).

یقول الإمام الصادق علیه السلام:

«إنَّ اللَّه خلق الخلق، وخلق معهم أرزاقهم حلالًا طیّباً»(6).

فلو أنّ البشریّة لم تتمکن من تحصیل الغذاء


1- مسند أحمد، ج 4، ص 197.
2- نهج البلاغة، الکتاب 27.
3- انظر: معرفة ظاهرة الفقر والتنمیة( پدیده شناسی فقر و توسعه) بالفارسیّة، ج 1، ص 51- / 52؛ القیم والتنمیة( ارزش ها وتوسعه بالفارسیّة، ص 34؛ التنمیة الاقتصادیّة، فی الماضی والحاضر( توسعه اقتصادی، گذشته و حال) بالفارسیّة، تألیف ریچاردتی. گیل، ترجمه محمود نبی زاده؛ وظیفة الروائز الاجتماعیّة- الاقتصادیّة( کاربرد شاخص های اجتماعی- اقتصادی) بالفارسیّة، جماعة من المؤلفین، ترجمة الدکتور هرمز الشهدادی.
4- سورة الأعراف، الآیة 32.
5- سورة البقرة، الآیة 172.
6- الکافی، ج 5، ص 81، ح 5.

ص: 202

المناسب، فإنّ حیاة البشر سیصیبها الخلل والإرباک، یقول الإمام الصادق علیه السلام:

«خمس خصال من فقد واحدة منهنّ لم یزل ناقص العیش، زائل العقل، مشغول القلب، ... ثالثها السّعة فی الرّزق»(1).

وبالنسبة إلی الماء الکثیر والعذب (الصحی) یعتبره القرآن الکریم من شروط الحیاة الطیبة والمناسبة، یقول الإمام الصادق علیه السلام:

«لا تطیب السّکنی إلّابثلاث ... الماء الغزیر العذب»(2).

والماء العذب والمناسب مهم إلی درجة أنّه ورد عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه أمر باتیانه الماء العذب من منطقة یقال لها سقیا:

«إنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله کان یستسقی له الماء العذب من بیوت السّقیا»(3).

ب) الملبس المناسب

ویدخل الملبس فی دائرة مستوی الحیاة المناسبة، فاللباس المناسب فی الحقیقة یتمّ قیاسه إلی کلّ عصر وزمان، بمعنی أنّ روائز ومشخصات الحیاة المناسبة، إمتلاک ملبس یتناسب مع ذلک العصر والمجتمع.

یقول الإمام الصادق علیه السلام:

«فخیر لباس کلّ زمان، لباس أهله»(4).

وطبیعی أنّ الشخص الذی یعیش فی عصرنا الحاضر لابدّ أن یتخذ لباساً متناسباً لخصوصیات هذا العصر، ولذلک فلو لم یتمکن من تهیئة اللباس المناسب لنفسه فإنّ ذلک یعدّ من علامات الفقر وعدم التنمیة.

یقول الإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام عندما اقترح علی جماعة من أصحابه أن یلبس اللباس الخشن:

«إنّ أهل الضَّعف من موالیّ یحبّون أن أجلس علی اللُّبود، وألبس الخشن، ولیس یتحمّل الزّمان ذلک»(5).

ومضافاً إلی ضرورة إمتلاک اللباس المناسب لکلّ زمان، فإنّ تهیئة الملابس المتعددة لکافة الفصول المختلفة یعدّ أیضاً من معالم التنمیة، کما ورد فی التوصیات الدینیّة فیما یتصل بهیئة الملبس للزوجة:

«ویکسوها فی کلّ سنة أربعة أثواب، ثوبین للشّتاء وثوبین للصّیف»(6).

ولا ینبغی الغفلة عن أنّ الشروط الجغرافیة وتنوع الماء والهواء فی المناطق المختلفة یؤثر فی تأمین الملابس المتنوعة والمتعددة، وفی الحیاة الجیدة یتمّ الأخذ بنظر الاعتبار جمیع هذه الموارد.

ج) المسکن المناسب

ویعتبر المسکن المناسب من الضروریات الأخری للحیاة المناسبة، فقد ورد فی المصادر والنصوص الدینیّة أنّ المنزل الواسع یعتبر من عوامل سعادة الإنسان، والمنزل الصغیر والضیق علامة علی الشقاء وصعوبة الحیاة.

ویری رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أنّ المنزل الواسع من جملة سعادة المسلم:

«من سعادة المرء المسلم المسکن الواسع»(7).

وکذلک ورد عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّ المنزل الصغیر والضیق یدلّ علی شقاء الإنسان وعدم سعادته:

«من شقاوة ابن آدم المسکن الضیق»(8).


1- وسائل الشیعة، ج 14، ص 31، ح 7.
2- بحار الأنوار، ج 75، ص 234، ح 46.
3- مستدرک الحاکم، ج 4، ص 138؛ وورد فی فتح الباری( ج 10، ص 65) بعد نقله هذا الحدیث الشریف:« کانت سُقیا عیناً تبعد عن المدینة فاصلة یومین».
4- الکافی، ج 1، ص 411، ح 4.
5- بحار الأنوار، ج 76، ص 309، ح 23.
6- الکافی، ج 5، ص 512، ح 5، عن الإمام الصادق علیه السلام.
7- مسند ابن مبارک، ص 175، ح 241؛ الکافی، ج 6، ص 526، ح 7.
8- مستدرک الحاکم، ج 2، ص 144. ووردت هذه الروایة عن الإمام الباقر علیه السلام أیضاً مع اختلاف یسیر.( الکافی، ج 6، ص 526، ح 6).

ص: 203

د) الأمور الرفاهیة فی الحیاة

مضافاً إلی ما تقدّم من لوازم الحیاة المناسبة، فإنّ تأمین الأمور الترفیهیة فی الحیاة والتی یؤدّی إلی تسکین الخاطر، تعد فی نظر الإسلام من شواخص التنمیة، فامتلاک الإمکانات الرفاهیة یدفع الإنسان لاشباع حاجاته المعقولة بشکل سهل ویسیر.

یقول الإمام علی علیه السلام فی دعائه:

«اللّهم ارزقنی رزقاً واسعاً، حلالًا طیّباً ... نستعین به علی زماننا»(1).

ویقول الإمام زین العابدین علیه السلام فی دعائه:

«اللّهم إنّی أسألک خیر المعیشة، معیشةً ... أقوی بها جمیع حاجاتی»(2).

ومن الأمور التی وضعها الإسلام کمعالم أساسیة للحیاة الطیّبة، إمتلاک معیشة جدیدة ومرفهة بحیث یملک الإنسان فیها المسکن الواسع، المرکب المناسب، إمکانات استقبال الضیوف، والترفیه عن العائلة بالحدود المعقولة.

وکما فی روایة عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله:

«من سعادة المسلم، المرکب الهنی ء»(3)

وفی روایة أخری عن الإمام الصادق علیه السلام:

«من سعادة المؤمن، دابّة یرکبها فی حوائجه»(4).

وطبقاً لما ورد فی روایة عن الإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام:

«صاحب النّعمة یجب علیه التّوسعة علی عیاله»(5).

ومن طبیعی أنّ تحصیل الإمکانات التی یستطیع بها الإنسان أن یعیش بها مع أهله وعیاله فی سعة وراحة، مطلوب، ولذلک أوجب الإمام علیه السلام هذه الأمور علی المتمکنین.

2. الأمن

الأمن بدوره یعتبر من الحاجات الأولیة للناس

«ثلاثة أشیاء یحتاج النّاس طُرّاً إلیها: الأمن ...»(6)

، بحیث إنّ المعیشة بدونها لا تهنأ:

«خمس من لم یکن فیه لم یتهنّأ العیش ... الأمن»(7)

، ومن هذه الجهة فإنّ الأمن یعتبر من معالم الرشد والتنمیة، فالمجتمع غیر الآمن وبشکل طبیعی لا یکون من المجتمعات النامیة، وذلک أنّ عامل عدم الأمن لا یفسح المجال لنمو وتطور سائر الأبعاد اللازمة للمجتمع السلیم والمتطور، وفی مثل هذا المجتمع ستکون الثروة والإنتاج والتجارة وحرکة المصانع وما إلی ذلک، راکدة ولا تملک الحیویة اللازمة لتطویر المجتمع وتوفیر الحیاة الطیّبة لأفراد هذا المجتمع، ویستتبع ذلک فرار العقول وأصحاب التخصص وبالتالی سیرزح هذا المجتمع تحت وطأة التخلّف والفقر.


1- بحار الأنوار، ج 87، ص 175.
2- المصدر السابق، ص 3.
3- الکافی، ج 6، ص 536، ح 8.
4- المصدر السابق، ح 7.
5- المصدر السابق، ج 4، ص 11، ح 5.
6- بحار الأنوار، ج 75، ص 234، ح 44 عن الإمام الصادق علیه السلام.
7- المصدر السابق، ج 1، ص 83، ح 3 عن الإمام الصادق علیه السلام.

ص: 204

والقرآن الکریم بعد أن عدّد نعم اللَّه تعالی علی قریش وبعد أن تحدّث عن هلاک جیش ابرهة وأصحاب الفیل، تطرق إلی ذکر نعمة اللَّه تعالی علیهم بإنقاذهم من الجوع والخوف (عدم الأمن):

«الَّذِی أَطْعَمَهُمْ مِّنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِّنْ خَوْفٍ»(1).

إنّ وجود نعمة الأمن إلی جانب الاطعام والغذاء الکافی، شاهد علی أهمیّة هذه النعمة والإرتباط الوثیق بینها وبین التغذیة الجیدة.

ونری أنّ إبراهیم الخلیل علیه السلام بعد أن بنی البیت رفع یدیه بالدعاء لأهل مکّة وقال:

«رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ»(2).

فالنعمة الاولی هی نعمة الأمن ثمّ الرزق الوفیر کما ورد فی دعاء إبراهیم الخلیل علیه السلام، وفی الحقیقة أنّ نعمة الأمن تعتبر مقدّمة للحرکة الاقتصادیّة والتنمیة وزیادة الخیرات.

وفی هذا المجال نقرأ فی الآیة 112 سورة النحل قوله:

«وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْیَةً کَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً یَأْتِیهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّنْ کُلِّ مَکَانٍ ...».

ونقرأ فی التفسیر الأمثل «ذکرت الآیات ثلاث خصائص لهذه المنطقة العامرة المبارکة: الخاصیّة الاولی الأمن، الخاصیّة الثّانیة: الإطمئنان فی إدامة الحیاة، الخاصیّة الثّالثة: جلب الأرزاق والمواد الغذائیّة الکثیرة إلیها، وترتبط هذه الخواص فیما بینها ترابطاً علّیاً وحسب تسلسلها، فکلّ خاصیّة ترتبط بما قبلها إرتباط علة ومعلول، فلو فُقِدَ الأمن لما اطمأن الإنسان علی إدامة حیاته فی مکانه المعیّن، وإذا فقد الإثنان فلا رغبة حقیقیة لأحد علی الإنتاج وتحسین الوضع الاقتصادی هناک»(3) وفی بیان بلیغ یقول الإمام علی علیه السلام:

«شرّ البلاد، بلد لا أمن فیه ولا خِصْب»(4)

، ومعلوم أنّ الحیاة بدون توفر حالة الأمن لا تتیسر فیها مقومات التنمیة والتطور فی واقع الحیاة الفردیة والاجتماعیّة.

3. الصحة والنظافة

ویری الإسلام للصحة والنظافة أهمیّة بالغة فی حیاة الإنسان والمجتمع إلی درجة أنّه ورد فی الحدیث المشهور عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«إنّ اللَّه بنی الإسلام علی النِّظافة»(5)

، وتبلغ هذه الأهمیّة إلی درجة أنّ نبی الإسلام صلی الله علیه و آله قال:

«الإسلام نظیف فتنظّفوا، فإنّه لا یدخل الجنّة إلّانظیف»(6).

والمجتمع الذی یریده الإسلام ویثنی علیه، هو المجتمع الذی یملک السقف المطلوب فی أمر النظافة والصحة، فالطعام السالم والماء الصحی ووسائل التنظیف فی الحمام وغیرها ینبغی أن تکون المستوی المطلوب لیعیش الناس بعیداً عن القذارة والتلوث.

یقول النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله:

«بئس العبد القاذورة»(7).

وأحیاناً یری النّبی صلی الله علیه و آله أشخاصاً لا یراعون مسألة النظافة، فیوبّخهم علی ذلک کما ورد فی الحدیث:

«إنّ النّبیّ صلی الله علیه و آله رأی رجلا وسخة ثیابه، فقال صلی الله علیه و آله أما وجد هذا ما ینقی ثیابه؟»(8).

ویقرر القرآن الکریم أنّ من نعم اللَّه تعالی التی تنزل علی الناس هی، نزول الماء الطاهر والمطهر من السماء:

«وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً»(9).


1- سورة قریش، الآیة 4.
2- سورة البقرة، الآیة 126.
3- التفسیر الأمثل، ج 7 ذیل الآیة مورد البحث.
4- غرر الحکم، ح 10255.
5- کنز العمال، ج 9، ص 277، ح 26002.
6- مجمع الزوائد، ج 5، ص 132.
7- الکافی، ج 6، ص 439، ح 6.
8- مسند أبی یعلی، ج 4، ص 23.
9- سورة الفرقان، الآیة 48.

ص: 205

وقد ورد فی التعالیم الدینیّة لزوم الاجتناب عن الماء الملوث، بل ورد أنّ النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله نهی عن التبول إلی جانب الأنهار:

«کره البول علی شطّ نهر جار»(1).

ومن الأمور المطلوبة والمؤثرة فی سلامة المحیط و البیئة، الهواء السلیم وغیر الملوث.

وقد ورد فی تعالیم أولیاء الدین أنّ الهواء النظیف والسالم یعتبر شرطاً من شروط محلّ السکن الهنی ء:

«لا تطیب السّکنی إلّابثلاث: الهواء الطیّب ...»(2).

وعلی أیة حال فممّا لا شک فیه أنّ من معالم التنمیة، توفر البیئة النظیفة، فتکون المدینة والشوارع والأزقة نظیفة والهواء نقیاً والطعام والماء سلیماً وصحیاً، لأنّ التنمیة إذا أخذناها بالمفهوم العام فإنّه تستوعب مساحات الحیاة المختلفة فی جمیع أبعادها، ولا شک أنّ الصحة والنظافة تعدّ من أرکانها، وإذا کانت التنمیة بمعناها الخاص، یعنی التنمیة الاقتصادیّة فلا شک أنّ المجتمع السلیم، یستطیع أن یتحرک علی مستوی الإنتاج أکثر وأفضل، لأنّ الأفراد من جهة یجدون فی أنفسهم باعثاً علی زیادة العمل ویتمتعون بمهارات وتخصصات أوفر، ومن جهة أخری فإنّ النفقات الباهظة للعلاج والصحة والتی تستدعی الکثیر من المال، ستقل کثیراً ولا تثقل علی کاهل المجتمع، ومن هذه الجهة سیکون الاهتمام بالصحة والنظافة واقعاً فی مسیر التنمیة الاقتصادیّة.

4. الدواء والعلاج

إنّ المجتمع النامی المتطور، مضافاً إلی إمتلاک الصحة والنظافة المطلوبة، فإنّه یحتاج إلی الدواء والعلاج الکافی والجید لکی یتمّ علاج المرضی والمصابین بیسر ودقّة ومن خلال أطباء حاذقین ومستشفیات مجهزة بما تحتاجه من أجهزة طبیة متطورة.

ونقرأ فی کلمات أولیاء الدین أیضاً أنّ وجود الطبیب الحاذق ضروری لکلّ مجتمع، یقول: الإمام الصادق علیه السلام:

«لا یستغنی أهل کلّ بلد عن ثلاثة یفزع إلیه فی أمر دنیاهم وآخرتهم، فإن عدموا ذلک کانوا همجاً: فقیه عالم ورع، وأمیر خیّر مطاع وطبیب بصیر ثقة»(3).

إنّ وجود الطبیب الماهر والحاذق إلی جانب الفقیه والورع والوالی الصالح والمقبول لدی الناس، یشیر إلی أهمیّة وجود الأطباء المتخصصین والحاذقین فی هذا المجتمع.

وفی عصر رسول اللَّه صلی الله علیه و آله کان النّبی یأمر باحضار الطبیب للأشخاص الذین أصابتهم جراحات بلیغة، ومن ذلک ما ورد فی الخبر أنّ شخصاً جرح فی زمان النّبی؛ فقال رسول اللَّه صلی الله علیه و آله:

«أدعوا له الطبیب

»، فقال بعضهم: هل هو بحاجة إلی الطبیب وهل أنّ الطبیب یستطیع عمل شی ء له:

«هل یغنی عنه الطبیب؟»

، قال رسول اللَّه صلی الله علیه و آله:

«نعم! إنّ اللَّه تبارک وتعالی لم ینزل داءً إلّا أنزل معه شفاء»(4).

وهذا المقطع من تاریخ النّبی صلی الله علیه و آله یشیر إلی وجود أطباء فی المدینة أو ما حولها وکانوا یعملون علی علاج المصابین، مضافاً إلی أنّ فحوی هذه الروایة تقرر أنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله لم یکن یری ترک الأمر للقضاء والقدر بدون اللجوء إلی العلاج والدواء، بل کان یوصی الناس بالتحرک فی المسار الطبیعی فی معالجة هذه الأمور.

وفی الحقیقة أنّ هذا المضمون فی الورایة یؤکد علی اهتمام النّبی صلی الله علیه و آله بالطب والطبیب فی ذلک المجتمع، وهذا یعنی أنّ مسألة القضاء والقدر تعنی أنّ الناس فی مثل هذه الأمور یجب أن یتحرکوا علی مستوی الأخذ بالأسباب والمسببات الطبیعیّة.

ومن الأطبّاء المعروفین فی عصر رسول اللَّه صلی الله علیه و آله حارث بن کلدة، فقد ورد فی التاریخ أنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله جاء یوماً لعیادة سعد بن أبی وقاص وبما أنّه کان یشکون من مرض قلبی، فأمره النّبی صلی الله علیه و آله بالتوجه إلی حارث بن کلدة لأخذ العلاج اللازم (5).

وفی هذا المجال فإنّ التعالیم الطبیة الواردة من


1- وسائل الشیعة، ج 1، ص 230، ح 9.
2- بحار الأنوار، ج 75، ص 234، ح 46، عن الإمام الصادق علیه السلام.
3- بحار الأنوار، ج 75، ص 235، ح 59.
4- المصنف ابن أبی شیبة، ج 5، ص 421، ح 1. وورد مثلها فی هذا الکتاب، ص 422، ح 7 أیضاً.
5- انظر: معجم الکبیر الطبرانی، ج 6، ص 50؛ الجرح والتعدیل ابن أبی حاتم الرازی، ج 3، ص 87؛ اسد الغابه، ج 1، ص 322 والإصابة، ج 1، ص 687( ذکر فی المعجم الکبیر، سمّاه سعد بن أبی رافع ولکن ورد فی أکثر الکتب باسم سعد بن أبی وقاص).

ص: 206

النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله و الأئمّه المعصومین علیهم السلام واهتمامهم بسلامة الناس والصحة العامّة، کلّها تحکی عن أهمیّة هذه الحقیقة فی مسیر الرشد والتنمیة فی المجتمع الإسلامی، وطبعاً لم تکن المسائل الطبیة والاجتماعیّة بمثل هذه السعة التی نشاهدها فی هذا الزمان، فکان العمل بها بذلک الإطار المحدود.

5. سقف العلم والتعلیم

إنّ وجود التعلیم الکافی للناس والقضاء علی الامیة یعتبر معلَماً آخر من معالم التوسعة، فالمجتمع الذی یعیش فیه الناس الامیّة والجهل، والمجتمع الذی لا یتوفر فیه المعلم والمدرسة والجامعة بمقدار کافی، هو المجتمع الذی یعیش بعیداً عن مظاهر التنمیة والتطور، والتجارب فی العالم المعاصر تعتبر أفضل شاهد علی هذا المعنی.

یقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام:

«الجهل أصل کلّ شرّ»(1)

وأنّه:

«الجهل معدن الشرّ»(2)

، وأنّه:

«الجهل أدوأُ

الداء»(3)

، ومن هذه الجهة فإنّ الإسلام یؤکد علی الأهمیّة الفائقة لمسألة التعلیم والمعرفة.

وقد ورد فی القرآن الکریم أنّ التعلیم بالقلم یعد من صفات الباری تعالی:

«الَّذِی عَلَّمَ بِالْقَلَمِ»(4)

ومن الیوم الذی خلق آدم علیه السلام فإنّ تعلیم الأسماء (معرفة بعض أسرار عالم الوجود) لآدم کان یمثّل سند افتخاره وتفوقه علی الملائکة:

«وَعَلَّمَ ءَادَمَ الْأَسْمَاءَ کُلَّهَا»(5)

ویقرر القرآن الکریم أنّ من أهداف بعثة نبی الإسلام صلی الله علیه و آله تعلیم الناس:

«وَیُعَلِّمُهُمُ الْکِتَابَ وَالْحِکْمَةَ»(6)

، ویؤکد رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أیضاً أنّ من أهداف بعثته السماویة هو تعلیم الناس:

«وبالتّعلیم أُرسلتُ»(7).

إنّ تعلیم العلوم والمعارف المختلفة إلی درجة من الأهمیّة فی الإسلام بحیث صار شعاراً إسلامیاً وفقاً لما ورد فی الحدیث المعروف وفریضة علی الرجل والمرأة المسلِمَین:

«طلب العلم فریضة علی کلّ مسلم ومسلمة»(8)

وعلی أیة حال فإنّ المسلم یجب أن یتحرک علی مستوی طلب العلم فی أی عمر کان:

«طلب العلم فریضة فی کلّ حال»(9)

، لأنّ الإنسان بالعلم والمعرفة یستطیع السیر فی دروب الرشد والتکامل العلمی والمعنوی:

«إنّ العلم ... یبلغ بالعبد ... الدرجات العلی فی الدّنیا والآخرة»(10).

وأهمیّة التعلیم فی الإسلام بلغت إلی درجة أنّ النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله فی غزوة بدر وبعد أن وقع جماعة من المشرکین أسری بید المسلمین، أمر صلی الله علیه و آله کلّ واحد من الأسری المتعلّمین أن یعلموا القراءة والکتابة لعشرة أشخاص من المسلمین وأطفالهم لینالوا بذلک حریتهم ویتخلصوا من حالة الأسر(11).

والبلد الذی یعیش فیه أکثر الناس أو شریحة مهمّة منهم فی حالات الامیّة والجهل أو غیر مطلعین علی العلوم والمعارف الجدیدة فی عالمنا المعاصر لا یستطیع الحرکة فی طریق الرشد والتنمیة والإزدهار، وبدیهی أنّ الخطوة الأساسیة فی هذا الطریق تتمثّل فی تأسیس المراکز التعلیمیة والعلمیّة والتحقیقیة وتربیة الأساتذة والمحقّقین والخبراء فی مختلف المجالات.


1- غرر الحکم، ح 1096.
2- المصدر السابق، ح 1093.
3- المصدر السابق، ح 1095.
4- سورة العلق، الآیة 4.
5- سورة البقره، الآیة 31.
6- سورة الجمعة، الآیة 2.
7- بحار الأنوار، ج 1، ص 206؛ المجموع النووی، ج 1، ص 20.
8- بحار الأنوار، ج 1، ص 177، ح 54. ورد هذا الحدیث عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله فی مصادر أهل السنّة بکلمة« مسلمة»( سنن ابن ماجة، ج 1، ص 81).
9- بحارالانوار، ج 1، ص 172، ح 27، عن الإمام الصادق علیه السلام.
10- المصدر السابق، ص 171، ح 24، عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله.
11- فروغ ابدیت، ج 1، ص 518.

ص: 207

وکلّما کان سقف المعرفة والتحقیقات العلمیّة فی بلد أعلی، فإنّ حرکة النمو والتربیة فی هذا البلد ستندفع بخطوات أسرع فی مجال التنمیة.

6. الإکتفاء الذاتی فی عملیّة الإنتاج

ومن المعالم الأخری للرشد والتنمیة الاقتصادیّة فی المجتمع، الوصول إلی مرتبة الاکتفاء الذاتی فی انتاج البضائع والمنتوجات الأساسیة والاستراتیجیة، وبدیهی أنّ الوصول إلی مرتبة الإکتفاء الذاتی والاستقلال فی جمیع الجوانب تقریباً غیر ممکن لجمیع البلدان، ولکن من اللازم فی مجال إنتاج الغلات والصناعات الغذائیّة (فی صورة توفر الظروف الطبیعیّة فی البلد) والأسلحة الدفاعیة، مراکز التعالیم، الطاقة، الدواء والعلاج، وسائل النقل وأمثال ذلک، أن یصل البلد إلی مرتبة الإکتفاء الذاتی فی هذه الموارد أو یقوم بتوفیرها فی عملیات تجاریة متعادلة ومطمئنة مع البلدان الأخری، لأنّ التبعیة فی هذه الأمور تستدعی التبعیّة السیاسیّة والثقافیّة، وستتحوّل إلی أدوات ضغط تمارسه الدول الأجنبیّة علی سیاسات واقتصاد البلد الإسلامی، ومن البدیهی أنّ هذه الضغوط تؤثر کثیراً علی حرکة الرشد والتنمیة الاقتصادیّة، لأنّ البلدان القویة تصر عادة علی إبقاء حالات التخلف والتبعیة للبلدان الضعیفة لتکون هذه البلدان أسواقاً لمنتجات البلدان الصناعیّة.

وفی نظر الإسلام فإنّ الحاجة تعتبر نوعاً من الأسر:

«احْتَجْ إلی مَنْ شِئْتَ تَکُنْ أَسیرَه»(1)

وقد وردت التوصیات من قبل أولیاء الدین فی أنّ المسلمین یجب أن یعتمدوا علی أنفسهم:

«إدفع المسألة ما وجدت التحمّل یمکنک»(2)

، وما لم تستدعِ الضرورة لبیان الحاجة والمسألة یجب علی الإنسان أن لا یمد یده للآخرین فی طلب شی ء من الأمور:

«لا تصلح المسألة إلّا فی ثلاثة ... فی غرم مثقل»(3).

وقد ورد فی التعالیم الدینیّة أنّ الاستغناء علی الآخرین والاعتماد علی الذات والاستقلال فی الأمور المالیّة سبب للعزّة:

«وعزّه استغناءه عن النّاس»(4)

، ومن هذه الجهة نری أنّ الإمام الصادق علیه السلام یعمل فی نشاطات اقتصادیّة فی أجواء الحر والقیض وعندما سئل سبب تحمله لهذه المعاناة فی هذا الیوم القائض قال: «

خرجتُ فی طلب الرّزق لأستغنی عن مثلک»(5).

ولعله من هذه الجهة ورد التعبیر عن السعی فی المجال الاقتصادی ب «العزّة» یقول معلّی بن خنیس:

«رآنی الإمام الصادق علیه السلام وقد تأخرت فی الذهاب إلی السوق (الدکان والحانوت) فقال:

«اغد إلی عزّک»(6).

واللافت أنّ الآیة الشریفة:

«وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِّنْ قُوَّةٍ ...»

رغم أنّها ناظرة للاستعداد القتالی وإمتلاک القوّة العسکریة، إلّاأنّ هذه التوصیة لا تتحدد بهذه الدائرة قطعاً: «ونحن نعتقد أنّ هذا الشعار الإسلامی الکبیر:

«وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة»

إذا أضحی شعاراً شاملًا فی کلّ مکان، ینادی به الصغیر والکبیر، والعالم وغیر العالم، والمؤلف والخطیب، والجندی والضابط، والفلاح والتاجر، والتزموا به فی حیاتهم وطبقوه، کان کافیاً لجبران التخلفّ والتأخر»(7).


1- بحار الأنوار، ج 71، ص 411، ح 21، عن الإمام علی علیه السلام.
2- مستدرک الوسائل، ج 13، ص 29، ح 8، عن الإمام الحسن العسکری علیه السلام.
3- بحار الأنوار، ج 75، ص 326، عن الإمام موسی بن جعفر علیه السلام.
4- الکافی، ج 2، ص 148، ح 1، عن الإمام الصادق علیه السلام.
5- الکافی، ج 5، ص 74، ح 3.
6- وسائل الشیعة، ج 12، ص 3، ح 2. وورد شبیه هذا التعبیر عن الإمام الکاظم علیه السلام مخاطباً أحد أصحابه یدعی« مصادف» وقال له:« اغد إلی عزّک- أعنی السوق- »( المصدر السابق، ص 4، ح 10).
7- التفسیر الأمثل، ج 7، ص 223، ذیل تفسیر الآیة 60 سورة الأنفال.

ص: 208

والنقطة الملفتة للنظر هنا أنّ القرآن الکریم فی ذیل هذه الآیة یقول:

«وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَیْ ءٍ فِی سَبِیلِ اللَّهِ یُوَفَّ إِلَیْکُمْ وَأَنْتُمْ لَاتُظْلَمُونَ»(1)

، توحی بأنّ هذا المقطع من الآیة الشریفة یرتبط کثیراً ببحثنا هذا، وکأنّه یرید أن یقول:: إنّ المسلمین کلّما أنفقوا من أموالهم وإمکاناتهم فی مسار تقویة الجوانب العلمیّة والدفاعیّة والاقتصادیّة وکان الباعث لهم علی ذلک رضا اللَّه تعالی وتقویة البلد الإسلامی والدین الحق، فإنّ نتیجة هذه المساعی تعود علی المسلمین أنفسهم وسوف لا یواجهون أی ضرر وخسارة فی هذا السبیل.

وقد ورد فی التعالیم الإسلامیّة التأکید الشدید علی الاعتماد علی الذات وعدم التبعیة للآخرین، ویعبّر عن ذلک فی الروایات الشریفة ب «قطع طمع من الغیر» أو «القناعة والإکتفاء»، وعلی سبیل المثال:

1. ورد أنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله قال لرجل طلب منه بعض الموعظة:

«علیک بالإیاس ممّا فی أیدی الناس وإیّاک والطّمع فإنّه الفقر الحاضر»(2).

2. وقال النّبی صلی الله علیه و آله أیضاً:

«علیکم بالقناعة فإنّ القناعة مال لا ینفد»(3).

3. ویقول الإمام زین العابدین علیه السلام:

«رأیت الخیر کلّه قد اجتمع فی قطع الطّمع عمّا فی أیدی النّاس»(4).

4. ویقول الإمام علی علیه السلام:

«ثمرة القناعة العزوف عن الطلب»(5).

5. ویقول الإمام علی علیه السلام أیضاً:

«القناعة رأس الغنی»(6).

7. المعنویّة والأخلاق

من المعالم المهمّة للتنمیة فی نظر الإسلام، وجود المعنویّة والأخلاق فی المجتمع، والمجتمع الذی ینمو ویتطور فی البعد المادی فقط دون أن یعیش الأخلاق والمعنویّة، فإنّه مجتمع متخلف وغیر راشد.

إنّ التنمیة الشاملة فی نظر الإسلام، تستوعب جمیع أبعاد حیاة الإنسان المادیّة والمعنویّة، وأساساً فإنّ سائر أهداف التنمیة یجب أن تصب فی هذا الهدف السامی، وهو ترشید جمیع قابلیات الإنسان فی مسار الکمال والمعنویّة.

إنّ العناصر المعنویّة والأخلاقیّة فی المجتمع تتجسد فی حرکة الإنسان فی خط العبودیة والسعی باتّجاه الرشد والتعالی المعنوی واکتساب الخصال الحمیدة مثل حبّ الآخرین، الإیثار، المودة والابتعاد عن الفحشاء والفساد والإسراف والنفعیة وما إلی ذلک.

إنّ القرآن الکریم عندما یستعرض لنا قصّة ملکة سبأ فإنّه یثنی علی حسن النظام والإدارة فی مجتمعها وفی ذات الوقت فإنّه ینتقد ظاهرة عبادة الشمس والشرک فی مجال معتقدهم الدینی.

فیقول بدایة:

«إِنِّی وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِکُهُمْ وَأُوتِیَتْ مِنْ کُلِّ شَیْ ءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِیمٌ»(7)

، ولکن یستطرد فی سیاق الآیة:

«وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا یَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَیَّنَ لَهُمُ الشَّیْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِیلِ فَهُمْ لَایَهْتَدُونَ»(8).

وهکذا نری النّبی سلیمان علیه السلام یسعی لهدایتهم إلی طریق التوحید وعبادة اللَّه وینهاهم عن عبادة غیر اللَّه:

«وَصَدَّهَا مَا کَانَتْ تَّعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ»(9).

وفی الحقیقة فإنّ النّبی سلیمان علیه السلام الذی کان یحکم علی بلد واسع وقوی، فإنّ مجرّد توفر


1- سورة الأنفال، الآیة 60.
2- مستدرک الحاکم، ج 4، ص 326.
3- معجم الأوسط، ج 7، ص 84.
4- الکافی، ج 2، ص 148، ح 3.
5- غرر الحکم، ح 9078.
6- غرر الحکم، ح 9030.
7- سورة النمل، الآیة 23.
8- سورة النمل، الآیة 24.
9- سورة النمل، الآیة 43.

ص: 209

الإمکانات المادیّة والرفاه الدنیوی لمملکة سبأ لا یعدّ کافیاً ولهذا تحرک علی مستوی هدایتهم للتوحید وعبادة اللَّه.

وأساساً فإنّ القرآن الکریم یقرر بأنّ الشرک هو الأصل والأساس للوقوع فی منزلقات الفساد والانحطاط والذنوب وبالتالی یتسبب فی هلاک الحضارة البشریّة ویقودها إلی هوة التخلف والانحطاط.

ونقرأ فی سورة الروم فی الآیة 41:

«ظَهَرَ الْفَسَادُ فِی الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا کَسَبَتْ أَیْدِی النَّاسِ»

فالفساد الذی یعم الأرض وخراب المدن والتمدن نسبته الآیة للناس وعلی أساس أنّه نتیجة عمل وسلوکیات الناس الخاطئة فی خط الانحراف والباطل.

وهنا نری أنّ الآیة الشریفة التالیة، (الآیة 42) تدعو الناس لأخذ العبرة من الماضین من خلال سیرهم فی آفاق الأرض:

«قُلْ سِیرُوا فِی الْأَرْضِ فَانظُرُوا کَیْفَ کَانَ عَاقِبَةُ الَّذِینَ مِنْ قَبْلُ کَانَ أَکْثَرُهُمْ مُّشْرِکِینَ».

وفی الحقیقة إنّ القرآن الکریم یری أنّ «الجذور الأصلیّة فی المفاسد تتمثّل فی الغفلة عن أصل التوحید والتوجه نحو آلیات الشرک والأفکار المنحرفة»(1)، ومع وجود الشرک فإنّ الفساد والتحلل والانحطاط ستجد طریقها فی ذلک المجتمع وبعد أن تصاب بالضعف والاهتزاز فإنّ نهایتها هو الهلاک والفناء.

وبعبارة أخری: أنّ المجتمع الذی یعیش بعیداً عن الإیمان والهدایة الإلهیّة، فإنّ لا یری الأمن فی ربوعه ولا یجد الاستقرار والصلح مجالًا للبقاء فیه:

«لأنّ مفارقة الدّین مفارقة الأمن»(2)

، وبالنتیجة فإنّ مثل هذا المجتمع لا یری حالات الرشد والتنمیة المستقرة.، ورغم أنّه من الممکن أن یصل هذا المجتمع إلی مستویات معینة من التنمیة ولمدّة قصیرة، وأساساً فإنّ الحیاة الحقیقیّة والإزدهار الاقتصادی والرشد الواقعی فی المجتمع یتجسد فقط فی ظلّ التدین والمعنویّة، لأنّه کما یقول الإمام علی علیه السلام:

«لا حیاة إلّابالدّین»(3).

إنّ اقتران التنمیة المادیّة بالتنمیة المعنویّة والسیر فی خط العبودیة والقیم الأخلاقیّة، وردت بتعابیر مختلفة فی القرآن الکریم، ومن ذلک ما ورد فی الآیة 15 من سورة سبأ التی تتحدّث عن أهالی مدینة سبأ وتمدنهم وتقول:

«کُلُوا مِنْ رِّزْقِ رَبِّکُمْ وَاشْکُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَیِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ».

ومن هذه العبارات الموجزة تتبیّن خصوصیات هذا التمدن فی ظلّ الشکر للَّه تعالی، فیما یترتب علیه توفّر النعم المادیّة والمعنویّة.

«هذه الجملة القصیرة تصوّر مجموعة النعم المادیّة والمعنویّة بأجمل تعابیر، فبلحاظ النعم المادیّة أرض طیّبة خالیة من الأمراض المختلفة، من السراق والظلمة، من الآفات والبلایا، من الجفاف والقحط، من الخوف والوحشة، وقیل خالیة حتی من الحشرات المؤذیة ... وأمّا بلحاظ النعم المعنویّة فمغفرة اللَّه التی شملتهم ...»(4).

ومن هذا المنطلق، فإنّ خصوصیّة هذه المدینة أنّها مزجت بین النعم المادیّة والمعنویّة، فکان الناس ینتفعون من الرزق الطاهر والطیب من جهة، ویؤدون شکر اللَّه تعالی علی ما أنعم علیهم من جهة أخری، ومادامت هذه الحالة مستمرة فی ربوع هذه المدینة کانت النعم والمواهب الإلهیّة متوفرة لهم علی الدوام، ولکن عندما أعرضوا عن شکر اللَّه تعالی علی هذه النعم، فإنّهم اصیبوا بالسیل المدمر، الذی انتهی بهم إلی الهلاک والدمار الشامل:

«فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَیْهِمْ


1- التفسیر الأمثل، ج 10، ذیل الآیة مورد البحث.
2- الکافی، ج 1، ص 27 عن الإمام علی علیه السلام، ح 30.
3- بحار الأنوار، ج 74، ص 420.
4- التفسیر الأمثل، ج 10، ذیل الآیة مورد البحث.

ص: 210

سَیْلَ الْعَرِمِ ... ذَلِکَ جَزَیْنَاهُمْ بِمَا کَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِی إِلَّا الْکَفُورَ»(1).

إنّ کفران النعمة هو العامل الأساس علی هدم هذا التمدن، وعلی حدّ تعبیر سید قطب «أعرضوا عن شکر اللَّه وعن العمل الصالح والتّصرف الحمید فیما أنعم اللَّه علیهم، فسلبهم سبب هذا الرخاء الجمیل الّذی یعیشون فیه»(2).

وکذلک یتحدّث اللَّه تعالی فی الآیة 112 و 113 من سورة النحل عندما یذکر تلک المدینة النموذجیة، فإنّه یستعرض ثلاث نعم مادیّة ونعمة واحدة معنویّة علیهم، بدایة یقول:

«وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْیَةً کَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً یَأْتِیهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّنْ کُلِّ مَکَانٍ

...» جل جلاله مّ یقول:

«وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ».

وعلی تعبیر التفسیر الأمثل «فبهذه النعم المادیّة الثلاثة (الأمن، الاطمئنان، باستمرار الحیاة وجلب الرزق) تصل المجتمعات إلی درجة تکامل حیاتها المادیّة فقط، ووصولًا للحیاة المتکاملة من کافة الجوانب (مادیاً ومعنویاً) تحتاج المجتمعات إلی نعمة الإیمان والتوحید، ولهذا فقد جاء بعد ذکر هذه النعم:

«وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ»»(3).

وکما یقول الطباطبائی رحمه الله فی تفسیر المیزان

«وهذه هی النعمة المعنویّة التی أضافها إلی النعم المادیّة المذکورة، وکان فیها صلاح معاشهم ومعادهم وتحذیر لهم من الکفران بأنعم اللَّه وشرح ما فیه من الشؤم والشقاء، لکنهم کذبوا رسولهم الذی هو منهم یعرفونه ویدرون أنّه إنّما یدعوهم لأمر إلهی ویهدیهم إلی سبیل الرشاد وسعادة الجد فظلموا ذلک فأخذهم العذاب بظلمهم»(4).

ونری أنّ النّبی إبراهیم علیه السلام أیضاً طلب فی دعائه من الباری تعالی الأمن فی أرض مکّة ثمّ طلب الإزدهار الاقتصادی:

«رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ»(5)

، وطبقاً لآیة أخری فإنّه یطلب حالة الأمن أولًا، ثمّ الابتعاد عن الشرک وعبادة الأوثان:

«رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِی وَبَنِیَّ أَنْ نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ»(6).

وفی الحقیقة فإنّ الالتفات والاهتمام بالمعنویة والابتعاد عن الشرک وعبادة الأوثان یقترن بالأمن والرفاه فی المدینة الفاضلة للنبی إبراهیم علیه السلام.

الحیاة بدون حضور اللَّه «المعیشة الضنکا»:

إنّ المعنویّة والتوجه إلی اللَّه إلی درجة من الأهمیّة فی التعالیم الإسلامیّة بأنّ کلّ شخص مهما امتلک من نعم ومواهب المادیّة کثیرة ولکنّه یعیش البعد عن اللَّه والغفلة عن ذکره فإنّ حیاته ستکون صعبة وسیعیش حالات الضنک والألم ولا یجد الرفاه والتنمیة الحقیقیّة طریقاً إلی حیاته، وإن کانت مظاهر هذه الحیاة جذّابة ومترفة وتتوفر فیها جمیع وسائل الراحة والتقدم.

القرآن الکریم یصرح بهذا المعنی:

«وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِکْرِی فَإِنَّ لَهُ مَعِیشَةً ضَنکاً»(7).

و «ضنک» الصعوبة والضیق و «المعیشة الضنکا» یعنی المعیشة الصعبة والضیقة(8) وأمّا کیف یتسبب الإعراض عن ذکر اللَّه وعدم الاهتمام بأحکامه وتعالیمه فی ضنک المعیشة وصعوبة الحیاة؟ فإنّ المفسرین طرحوا فی تفسیرها أقوالًا عدّة:

یقول العلّامة الطباطبائی رحمه الله: «ذلک أنّ من نسی ربّه وانقطع عن ذکره لم یبق له إلّاأن یتعلق بالدنیا


1- سورة سبا، الآیة 16 و 17.
2- فی ظلال القرآن، ج 6، ص 640.
3- التفسیر الأمثل،، ج 7، ذیل الآیة مورد البحث.
4- انظر: المیزان، ج 12، ص 363.
5- سورة البقرة، الآیة 126.
6- سورة إبراهیم، الآیة 35.
7- سورة طه، الآیة 124.
8- مفردات الراغب، مادة« ضنک».

ص: 211

ویجعلها مطلوبه الوحید الذی یسعی له ویهتم بها صلاح معیشته والتوسع فیها والتمتع منها، والمعیشة التی اوتیها لا تسعه سواء کانت قلیلة أو کثیرة لأنّه کلما حصل منها اقتناها لم یرض بها وانتزعت إلی تحصیل ما هو أزید وأوسع من غیر أن یقف منها علی حد فهو دائماً فی ضیق صدر وحنق ممّا وجد متعلق القلب بما وراءه مع ما یهجم علیه من الهم والغم والحزن والقلق والاضطراب والخوف بنزول النوازل وعروض العوارض من موت ومرض وعاهة وحسد حاسد وکید کائد وخیبة سعی وفراق حبیب»(1).

فالقلب المعرض عن اللَّه والمعنویّة سوف لا یجد الاستقرار والسکینة فی حرکة الحیاة، وعلی حد تعبیر سید قطب: «وما یشعر القلب بطمأنینة الاستقرار إلّافی رحاب اللَّه وما یحسّ راحة الثقة إلّامن هو مستمسک بالعروة الوثقی لا انفصام لها».

ثم یضیف: «إنّ اطمئنان الإیمان تضاعف الحیاة طولًا وعرضاً وعمقاً وسعة، والحرمان منه شقوة لا تعدها شقوة الفقر والحرمان»(2).

أمّا صاحب التفسیر الأمثل فبعد أن یبیّن حقیقة الضنک والصعوبة للمعرض عن اللَّه یقول: «إلی هنا کان الکلام عن الفرد، وعندما نأتی إلی المجتمعات التی أعرضت عن ذکر اللَّه، فإنّ المسألة ستکون أشدّ رعباً وخطراً، فإنّ المجتمعات البشریّة علی رغم تقدّمها الصناعی المذهل، وبالرغم من توفّر کلّ وسائل الحیاة، فهی تعیش فی حالة إضطراب وقلق شدید، ومبتلاة بضائقات عجیبة وتری نفسها سجینة.

لقد إعترف ریتشارد نیکسون الرئیس الأسبق للولایات المتحدة الأمریکیّة- بلد الشیطان الأکبر- بهذا الواقع فی خطابه الرئاسی الأوّل إذ قال: (إنّنا نری حولنا دائماً حیاة جوفاء، ونحن نأمل أن نرضی، ولکنّنا لا نرضی)!

رجل آخر من الرجال المعروفین کانت مهمّته إیجاد السرور والفرح فی المجتمع، یقول: إنّی أری الإنسانیّة تعدو فی زقاق مظلم لا شی ء فی نهایته إلّا القلق المطلق»(3).

ویتحدّث علماء الغرب أیضاً بصراحة عن حالة الحیاة المتکاسلة بدون دین ومنهم العالم البریطانی:

«مالاک» یقول: «إنّ التمدن بدون دین، سیترک عالماً متکاسلًا وبدون روح»(4).

ویقول روجیه غارودی: «ثمّة نوع من العبثیة والفراغ فی قلب الأیدیولوجیة الأمریکیّة [اللیبرالیة]»(5).

*** النتیجة، أنّ التنمیة الاقتصادیّة فی نظر الإسلام لا تحدد البشر فی قوالب دنیویة ومادیّة ضیقة وتحصره فی جدران حاجاته البدنیّة والغریزیّة، ففی الرؤیة الکونیّة للإسلامیّة ثمة آفاق واسعة للتنمیة والرشد للمجتمع الإنسانی تنسجم مع حاجاته الفطریّة والواقعیة وتبعده عن الرؤیة السطحیة والنظرة الضیقة فی مجال حاجاته وطموحاته، ونحن نعتقد بأنّ التنمیة الحقیقیّة لا تتیسر إلّامن خلال رؤیة الإسلام للنمو والتنمیة الاجتماعیّة والاقتصادیّة للمجتمعات البشریّة.

وعلی أیة حال، فإنّ الموارد السبعة المذکورة تمثّل أهم المعاییر والملاکات للرشد والتنمیة


1- المیزان، ج 14، ص 225.
2- فی ظلال القرآن، ج 5، ص 503.
3- التفسیر الأمثل، ج 13، ص 329- 330( مع مقدار من التلخیص).
4- اللیبرالیة والمحافظون( لیبرالیسم و محافظه کاری) بالفارسیّة، ص 199( طبقاً لنقل: حضارتنا المادیّة فی الغرب( تمدّن مادیگرانه ما غربی ها) بالفارسیّة، ص 18).
5- در سراشیبی به سوی گومورا، ص 163( طبقاً لما ورده المصدر السابق).

ص: 212

الاقتصادیّة التی یؤکد علیها الإسلام ویدعو أتباعه للوصول إلیها وتجسیدها علی أرض الواقع الاجتماعی.

البحث الثالث: أصول التنمیة فی الرؤیة الإسلامیّة

اشارة

المراد من عنوان هذا البحث بیان طرق الوصول إلی معاییر التوسعة الاقتصادیّة فی الإسلام، بمعنی ما هی رؤیة الإسلام للأصول والسیاسات التی توصلنا إلی هذه المعاییر والمعالم التی سبق ذکرها فی المقالة الثانیة؟

وعمدة هذه الأصول کالتالی:

1. الباعث الإلهی [محوریة اللَّه

إذا اصطبغ سعی الحکّام المسلمین والمسؤولین فی النظام الإسلامی بصبغة إلهیّة وکانت حرکتهم متجهة نحو التوحید ویدور برنامجهم حول محوریة اللَّه تعالی، فإنّ طریق الوصول إلی التنمیة والرشد سیتیسر لهم.

ویوصی القرآن الکریم جمیع المسلمین بدستور عام وشامل بأن یکون قیامهم وسعیهم علی المستوی الفردی والاجتماعی للَّه تعالی:

«قُلْ إِنَّمَا أَعِظُکُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للَّهِ مَثْنَی وَفُرَادَی»(1).

وفی هذا المجال ینبغی للمسؤولین أن یعلموا أنّ اللَّه تعالی ناظر إلی أعمالهم ویجب علیهم تحمل مسؤولیتهم أمام اللَّه تعالی ولا یغفلوا عن نقاط الضعف والقصور فی خدمتهم للناس وسعیهم فی تدبیر شؤونهم علی جمیع المستویات.

ونقرأ فی «دستور لنظام الحکم» فی عهد أمیرالمؤمنین علی علیه السلام لمالک الأشتر:

«... فإنّک فوقهم ووالی الأمر علیک فوقک، واللَّه فوق من ولّاک».

ثمّ یوصیه بالنسبة لخدمة الناس وقضاء حوائجهم ویقول:

«وقد استکفاک أمرهم وابتلاک بهم ولاتنصبنّ نفسک لحرب اللَّه»(2).

فی هذا مقطع من کلامه علیه السلام نجد أنّ الإمام یشبه عدم السعی فی خدمة الناس وقضاء حوائجهم بمثابة المحاربة مع اللَّه تعالی.

وعلی ضوء ذلک فإنّ الحاکم الذی یری بأنّ اللَّه تعالی ناظر إلیه ویعتقد بأنّ عدم الاهتمام بحلّ مشاکل الناس بمثابة الحرب ضد اللَّه، فإنّه سیتحرک ویبذل مزیداً من الجهد لخدمة الناس ورفع حاجاتهم وسیکون عمله وسلوکه له لون آخر وستکون بواعثه ودوافعه علی إعمار البلد والحرکة علی مستوی التنمیة الاقتصادیّة أکثر فأکثر.

وهکذا عندما نری وصیة الإمام علی علیه السلام لمالک الأشتر بالنسبة للطبقة المحرومة والضعیفة فی المجتمع فإنّه یبدأ بکلمة «

اللَّه اللَّه

» ویقول:

«اللَّه اللَّه فی الطبقة السّفلی من الّذین لا حیلة لهم، من المساکین والمحتاجین ...»(3).

وفی نصّ آخر یقول الإمام علیه السلام لأحد عمّاله:

«وبؤساً لمن خصمه عنداللَّه الفقراء والمساکین والسائلون والمدفوعون ...»(4).

رغم أنّ هذه الکلمات والتعبیرات وردت فی تأمین الحدّ الأدنی من معیشة المحتاجین، ولکن هذا الأمر ینطبق علی المسائل المتعلقة بالتنمیة الاقتصادیّة أیضاً، وتؤکد علی لزوم بذل الجهد فی المسائل المتعلقة بالنمو والتنمیة فی الإسلام التی تدور حول محوریّة اللَّه تعالی.


1- سورة سبأ، الآیة 46.
2- نهج البلاغة، الکتاب 53.
3- نهج البلاغة، الکتاب 53.
4- المصدر السابق، الکتاب 26.

ص: 213

2. المدراء الجدیرون

ومن الشروط الأساسیة للوصول إلی مرتبة عالیة من الرشد والتنمیة علی جمیع المستویات والصعد، وجود قادة ومسؤولین صالحین فی عملیّة إدارة الأمور.

ویقرر القرآن الکریم هذه الحقیقة الحاسمة، وهی أنّ الأشخاص الصالحین هم الذین سیرثون الأرض فی نهایة المطاف:

«أَنَّ الْأَرضَ یَرِثُهَا عِبَادِیَ الصلِحُونَ»(1)

، لأنّ الصالحین فقط هم الذین یستطیعون إصلاح الأرض ویقودون المجتمع البشری إلی ساحل الأمن والسلامة والسعادة.

وفی نظر الإسلام فإنّ الإمام والقائد والمدراء الصالحین هم الذین یستطیعون تدبیر الأمور الدنیویّة والأخرویة للناس بالتالی سیعیش المجتمع حالات الأمن والاستقرار النفسی، وهذا الأمر یساهم بشکل فاعل فی عملیّة الرشد والتنمیة.

یقول الإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام فی بیان جامع وشامل:

«إنّ الإمامة زمام الدّین ونظام المسلمین وصلاح الدنیا ... بالإمام تمام الصلاة والزکاة والصیام والحجّ والجهاد، وتوفیر الفی ء والصدقات، وإمضاء الحدود والأحکام، ومنع الثغور والأطراف»(2).

ویقول الإمام الصادق علیه السلام أیضاً فی هذا المجال:

«وذلک أنّ فی ولایة والی العدل وولاته، إحیاء کلّ حقّ وکلّ عدل، وإماتة کلّ ظلم وجور وفساد»(3).

وکذلک ورد عن هذا الإمام علیه السلام

«لایصلح الناس إلّا بالإمام، ولا تصلح الأرض إلّابذلک»(4).

ومن الضروری للمراحل اللاحقة ولغرض ترشید وتنمیة المجتمع علی کافة المستویات التوجه نحو القادة الصالحین والمسؤولین المدبّرین الذین یملکون النزاهة والحنکة فی تنشیط الفعّالیات الحیویة فی المجتمع.

یقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام:

«الواجب فی حکم اللَّه وحکم الإسلام علی المسلمین ... أن لا یعملوا عملًا ولا یُقدّموا یداً ورجلًا قبل أن یختاروا لأنفسهم إماماً عفیفاً، عالماً، ورعاً، عارفاً بالقضاء والسنّة، یجمع أمرهم ... ویأخذ للمظلوم من الظالم حقّه ... ویجبی فیئهم»(5).

إنّ الأفراد غیر اللائقین وغیر الجدیرین لا یستطیعون تنفیذ برامج التنمیة فی فضاء المجتمع، وحتی لو وضعت بین أیدیهم أفضل الخطط والبرامج للتنمیة، فإنّ عنصر اللیاقة والجدارة یمثّل المحرک الأساس لحرکة التنمیة والرشد، والجدیرون فقط هم الذین یستطیعون دفع حرکة المجتمع باتّجاه التطور والتقدم.

3. إقامة العدل ومنطق المخالفین
اشارة

3. إقامة العدل (6) ومنطق المخالفین

ومن أصول ومناهج التنمیة، إقامة العدل فی ربوع المجتمع، فالعدل وتوزیع الإمکانات والفرص بشکل صحیح وعادل من شأنه إیصال المجتمع إلی مراتب


1- انبیاء، آیه 105.
2- الکافی، ج 1، ص 200.
3- بحار الأنوار، ج 72، ص 347.
4- علل الشرایع، ج 1، ص 196، ح 9.
5- مستدرک الوسائل، ج 7، ص 123، ح 2.
6- مقولة العدالة تبحث فی دائرة أهداف النظام الاقتصادی فی الإسلام، وکذلک تبحث فی مجال عناصر التنمیة من جهة أخری، لأنّ العدالة تعتبر من معالم المجتمعات النامیة وتمتد إلی کافّة مفاصل المجتمع ومنها فی الاستفادة من فرص العمل والتوزیع العادل للإمکانات، ولکننا نعتقد أنّ إجراء العدالة یعد من الأسالیب والأصول التطبیقیّة لغرض الوصول إلی التنمیة الاقتصادیّة الصحیحة، وبدونها لا یمکن تحقیق التنمیة الواقعیة، ولذلک بحثنا هذه المسألة فی هذا المقطع.

ص: 214

عالیة من الرشد والتنمیة، ولکن البعض یتصور أنّه من أجل تنمیة المجتمع وإزدهار الاقتصاد لابدّ من التضحیة ببعض الأفراد لیتسنی تحقیق البرامج الاقتصادیّة، هؤلاء یعتقدون أنّه لابدّ من سحق بعض الناس تحت عجلة التطور بشکل لاإرادی، وإلّا لا یمکن التفکیر بعملیة التنمیة، لأنّ إجراء المخططات الاقتصادیّة علی أساس العدالة ومراعاة جمیع الجوانب وإرضاء جمیع شرائح المجتمع من شأنه تقیید حرکة التنمیة وابطائها، مثلًا بالنسبة لتفعیل النشاط الاقتصادی فی واقع الحیاة فإنّ حالات التضخم وتزریق المال فی المجتمع أمر لابدّ منه، وهذه المسألة ستعود بالضرر علی الشریحة الضعیفة من المجتمع.

وکذلک فی مسألة تجهیز المصانع بالأجهرة والوسائل الحدیثة وترک الأسالیب التقلیدیة فی عملیّة الإنتاج یتسبب فی بطالة جماعة من العمّال، ولکنه فی نهایة المطاف یؤدّی إلی رشد وتنمیة الاقتصاد وتقویته فی المجتمع من جهة الاقتصاد فی النفقات والأجور.

وأحیاناً یکون تعطیل المصانع والتوجه نحو استیراد المنتجات الصناعیّة من الخارج بسعر أقل نافعاً، وإن کان یتسبب فی بطالة جماعة کثیرة من الناس، ولکنه من الناحیة الاقتصادیّة نافع ویؤدّی إلی قلّة النفقات ویتسبب فی مجال السیاسات الاقتصادیّة العامّة فی البلد إلی زیادة الدخل الفردی، ولکنه لا یزیل الفقر والطبقیة من جو المجتمع وربّما یُزیدها حدةً.

وطبعاً فإنّ هذه الجماعة تعتقد بأنّ آثار هذه الحرکة فی نهایة المطاف ستؤثر أثرها علی طول المدّة وأنّ هذا البلد سیکون غنیاً وثریاً ومتطوراً فیما بعد وبالتالی سینتفع جمیع الأفراد من هذه السیاسة الاقتصادیّة، ولکن فی مدّة قصیرة لابدّ من التضحیة بجماعة من الناس لأجل تحقیق هذا الغرض، ولابدّ من قبول الظلم علی شریحة من الناس إلی أن نصل إلی الواقع من التنمیة فی البلد حتی نفکر فی إقامة العدل حینئذٍ(1).

وهذه النظریّة هی التی یسوغها العالم الرأسمالی والبنوک المقرضة- والمرتبطة بهذا التیار- لدول وبلدان والعالم الثالث.

نقد وتحقیق:

أوّلًا: إنّ الإسلام یؤکد علی القیمة الکبیرة للعدالة، فالعدالة تعتبر من الأصول التطبیقیّة للإسلام، وبالتالی فإنّ الإسلام لا یسمح باقصاء العدالة تحت أی ذریعة أو التضحیة بها من أجل أی منفعة.

والقرآن الکریم یصرح بضرورة إقامة القسط والعدل فی ربوع المجتمع الإسلامی:

«یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا کُونُوا قَوَّامِینَ بِالْقِسْطِ»(2)

وأمر الناس بالعدل والإحسان:

«إِنَّ اللَّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ»(3).

وکذلک یعتبر القرآن الکریم أنّ من جملة أهداف بعثة الأنبیاء إقامة القسط والعدل:

«لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَیِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْکِتَابَ وَالْمِیزَانَ لِیَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ»(4)

وقال رسول اللَّه صلی الله علیه و آله:

«ما من أمیر عَشَرةٍ إلّا

أتی اللَّه عزّوجلّ مغلولًا یوم القیامة لا یطلقه إلّا العدل»(5)

. ویقول صلی الله علیه و آله: «

إتّقوا الظّلم فانّ الظّلم ظلمات

یوم القیامة»(6).

ونقرأ فی کلمات أمیرالمؤمنین علی علیه السلام أنّ العدل


1- ولمزید من الاطلاع حول هذا البحث انظر: الإسلام والأزمة الاقتصادیّة( اسلام و چالش اقتصادی)، بالفارسیّة تألیف محمّد عمر جپرا ترجمة السید حسین میرالمعزّی، و ...، ص 240- 246.
2- سورة النساء، الآیة 135.
3- سورة النحل، الآیة 90.
4- سورة الحدید، الآیة 25.
5- مسند أحمد، ج 5، ص 284.
6- المصدر السابق.

ص: 215

أساس قوام العالم:

«ألعدل أساس به قوام العالم»(1)

، ویقول:

«ألعدل أقوی أساس»(2).

وفی مجال السیاسة والحکومة نری أنّ أفضل السیاسة هی ما تقوم علی أساس العدل:

«ألعدل أفضل السّیاستَیْن»(3)

، وأنّ:

«بالعدل تصلح الرعیّة»(4)

، وأنّ:

«ما عُمّرت البلدان بمثل العدل»(5)

، وأنّ البرکات الإلهیّة تزداد من خلال إجراء العدالة:

«بالعدل تتضاعف البرکات»(6).

وأن یوماً واحداً من إجراء العدالة من قِبل الحاکم العادل أفضل من عبادة ستین سنة:

«قال رسول اللَّه:

یوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستّین سنة»(7).

ویوصی الإمام أمیرالمؤمنین علیه السلام والیه علی مصر محمّد بن أبی بکر بأن یعمل بحیث یطمئن الناس من سیاسته ولا یملکهم الیأس:

«ولا ییأس الضّعفاء من عدلک علیهم»(8).

وکذلک یرد هذا الإمام علیه السلام بشکل حاسم جمیع أنواع الظلم والجور ویقول:

«واللَّه لأن أبیت علی حَسَک السَّعْدان مُسهَّداً، واجَرَّ فی الأغلال مُصَفَّداً، أحبُّ إلیَّ من أن ألقی اللَّه ورسوله یوم القیامة ظالماً لبعض العباد»(9).

إذا عرّفنا التنمیة بهذا الشکل وبهذه الصورة وأنّها لا تقتصر علی میزان الإنتاج والربح بل تشمل إزالة واقع الفقر، ورفع الحرمان، وتأمین الرفاه العام، وتعمیم وتوزیع الأرباح أیضاً واعتبرنا هذه الأمور من أرکان التنمیة المستقرة فی هذه العملیّة، فمن الطبیعی أن تکون العدالة من الأرکان الأصلیّة لهذا المنهج الاقتصادی ولا یمکن التضحیة بالعدالة بأمل المستقبل الزاهر ونبیح أعمال الظلم بأمل أن نصل إلی العدالة، لأنّ الظلم فی نظر الإسلام لا یملک أی مقومات المشروعیة.

ثانیاً: ومن عوامل تحقّق ونجاح التنمیة حضور الناس وتعاونهم مع المسؤولین فی هذا الشأن، وفی صورة تعرض العدالة للاهتزاز وشیوع حالات عدم الرضا بین جمهور العامّة فإنّ نسبت النجاح والتوفیق ستقل أیضاً وبالتالی تتزلزل أرکان الدولة والحکومة، یقول الإمام علی علیه السلام:

«ما حُصّن الدّول بمثل العدل»(10).

وقد ورد فی الخطبة المعروفة لفاطمة الزهراء علیها السلام فی عبارة مقتضبة وبلیغة فیما یتصل بفلسفة العدالة تقول:

«فرض اللَّه ... العدل فی الأحکام إیناساً للرعیّة»(11)

، ففی صورة عدم رعایة العدالة فإنّ الالفة


1- بحار الأنوار، ج 75، ص 83، ح 87.
2- مستدرک الوسائل، ج 11، ص 318.
3- غرر الحکم، ح 7732.
4- المصدر السابق، ح 7759.
5- غررالحکم، ح 7778.
6- المصدر السابق، ح 10226.
7- مجمع الزوائد، ج 5، ص 197.
8- نهج البلاغة، الکتاب 27.
9- المصدر السابق، الخطبة 224.
10- غرر الحکم، ح 7779.
11- بحار الأنوار، ج 6، ص 108.

ص: 216

والمودة ستنتهی بین الناس وبالتالی سیتعرض تعاونهم وتعاطفهم مع الحکومة للتزلزل والوهن، ونتیجة ذلک أنّ المسؤولین سوف یواجهون الإخفاق فی تنفیذ مشاریع التنمیة الاقتصادیّة، کما ورد فی تعبیر آخر عن فاطمة الزهراء علیها السلام:

«والعدل تنسیقاً للقلوب»(1)

وأساساً فی تقویة العلاقات الاجتماعیّة فی جو المجتمع.

ویقول أمیرالمؤمنین علیه السلام أیضاً فی عبارة عمیقة المعنی:

«إنّ أفضل قُرّة عین الولاة إستقامة العدل فی البلاد، وظهور مودّة الرعیّة»(2).

ثالثاً: ومع إلغاء العدالة وإهمالها، فحتی لو توصلنا إلی زیادة ورشد التنمیة الاقتصادیّة فی المجتمع، فإنّ الأقسام الأخری للتنمیة، وخاصة الثقافیّة، الأخلاق والمعنویّة، ستتعرض قطعاً للضرر والإرباک، لأنّ الاهتمام بالتنمیة (بدون العدالة) یتسبب فی زیادة الضغوط علی الشریحة الضعیفة والمحرومة فی المجتمع، وطبیعی فی مثل هذا الجو فإنّ التوجه والتحرک نحو الأمور غیر القانونیة واکتساب العوائد غیر المشروعة لتأمین نفقات الحیاة لطائفة من الناس سیکون حتمیاً، ویترتب علی ذلک عدم تأثیر البرامج المعنویّة والأخلاقیّة:

«کاد الفقر أن یکون کفراً»(3)

وتعرض دین الناس وإیمانهم إلی الخلل والاضطراب:

«یا بنیّ إنّی أخاف علیک الفقر ... إنّ الفقر منقصة للدّین ومدهشة للعقل»(4)

، وفی کلّ هذه الموارد تستلزم نفقات کثیرة علی کاهل الحکومة ویجب أن تتحرک الحکومة فی هذا الحال إلی تقویة القوی الأمنیة وأجهزة الشرطة، تقویة المراکز الصحیة والنفسیة وأمثال ذلک لمواجهة هذه الحالات المرَضیّة والمنحرفة، وهکذا تؤثر هذه الأمور تأثیراً سلبیاً فی طول المدّة علی التنمیة الاقتصادیّة.

رابعاً: نحن نعتقد أنّ الاهتمام بإقامة العدل والاهتمام بالمحرومین یتسبب فی مزید من اللطف الإلهی والرعایة الربانیة، وهذا بدوره یستتبع برکات کثیرة علی الناس فی مجال حلّ مشکلاتهم وزیادة التنمیة والرفاه فی فضاء المجتمع، یقول الإمام الصادق علیه السلام:

«إنّ النّاس یستغنون إذا عُدل بینهم، وتنزل السّماء رزقها، وتخرج الأرض برکتها بإذن اللَّه»(5)

، وأنّ الظلم والجور علی طائفة من الناس حتی لو کان بدافع الرشد الاقتصادی، فإنّه یتسبب فی زوال البرکات الإلهیّة:

«بالظلم تزول النِّعم»(6).

وقال رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أیضاً:

«إذا جارت الولاة قحطت السماء»(7)

، ویقول فی حدیث آخر مخاطباً معاذ بن جبل ویحذره من دعوة المظلوم:

«واتّق دعوة المظلوم فإنّها لیس بینها وبین اللَّه حجاب»(8).

خامساً: إنّ البلدان المتقدمة والتی جعلت التنمیة أصلًا وأساساً فی بدایة حرکتها الاقتصادیّة لتصل إلی إقامة العدل لم تتمکن من التوزیع العادل للثروة لجمیع فئات الناس وبالتالی انحصرت الثروات العظیمة بید فئة قلیلة وعدّة معدودة من أفراد المجتمع، وترتب علی ذلک ظهور إستثمار واستغلال من نوع جدید زاد من حدّة الطبقیة والفاصلة بین الفئات الاجتماعیّة، لأنّ تکدیس الثروة والحرص والطمع لیست حالة یمکن ازالتها بسهولة من قلوب الأثریاء حتی یمکن القول إنّه بعد الوصول إلی حالة من الرشد والتنمیة فإنّه من


1- بحار الأنوار، ج 29، ص 223.
2- نهج البلاغة، الکتاب 53. ولمزید من الاطلاع علی أهمیّة العدل فی الإسلام ودوره فی العمران ورشد المجتمع انظر: مستقبل علم الاقتصاد من منظور الإسلامی، الدکتور محمّد عمر بپرا، ترجمة الدکتور رفیق یونس المصری، ص 107- 110.
3- الخصال للصدوق، ج 1، ص 11؛ کنز العمال، ج 6، ص 492، ح 16682 عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله.
4- نهج البلاغة، الکلمات القصار، الکلمة 319 عن الإمام علی علیه السلام.
5- الکافی، ج 3، ص 568، ح 6.
6- غرر الحکم، ح 10413.
7- الکامل، عبداللَّه بن عدی، ج 3، ص 361.
8- صحیح البخاری، ج 3، ص 99؛ مسند أحمد، ج 1، ص 233.

ص: 217

الممکن توزیع الثروة بشکل عادل بین الناس وإقامة العدل والقسط فی ربوع المجتمع، بل إنّ قوی الثروة بنفوذها إلی أجهزة الحکم والتقنین تقوم کلّ یوم بسن قوانین بما یحقق لها مصالحها وزیادة هیمنتها واتساع دائرة عملها، وطبعاً فما یظهر للعیان أمام الناس، کثرة وزیادة العوائد المالیّة والعملة الصعبة واقتدار ونفوذ هذه البلدان علی المستوی السیاسی، ولکن هل أنّ هذه الدول عملت حقیقة بمسؤولیتها العالمیّة أو رسالتها الداخلیة وحققت شعاراتها البراقة؟ کلّا.

إنّ هؤلاء، ولغرض جمع الثروات، یتحرکون دوماً علی مستوی کبت کلّ صوت یطالب بالعدالة، وفی صورة الحاجة یقومون مع مساندة قوی الشرطة بسحق مطالب الفقراء وکبت الأصوات الداعیة للعدالة وفی النهایة لا یفکرون إلّابترشید وتقویة شرکاتهم ومشاریعهم، لا بالناس ومصالح المجتمع.

إنّ هؤلاء یریدون الناس وکذلک المتخصصین والخبراء من أجل تفعیل مصانعهم وإنجاح شرکاتهم لا من أجل القضاء علی الحرمان والفقر وبالتالی لا یفکرون بالتنمیة والرفاه العام، لأنّه مع رفع الحاجات الأولیة للناس فإنّه ستظهر أمامهم حاجات جدیدة، وهکذا تستمر عملیّة استغلالهم للناس بطرق جدیدة وتعود حصة کبیرة من الأرباح إلی جیوبهم مرّة أخری وتزداد وتتراکم ثرواتهم. علی حساب مصالح الناس الذین یزدادون فقراً یوماً بعد آخر(1).

ومع أنّ برامج التنمیة الاقتصادیّة بدأت منذ سنوات عدّة فی البلدان الرأسمالیّة وأعطت ثمارها ولکن مشکلة الفوارق الطبقیة لم تحلّ لحد الآن، بل إزدادت الفاصلة بین الغنی والفقر، والإحصاءات تؤید هذه الحقیقة:

«علی سبیل المثال، فی أمریکا وفی عام 1973 کان سهم خمس العائلات أدنی من جدول العائدات، 5/ 5 فی المئة من جمیع العوائد المالیّة، وسهم خمس واحد من العوائل أعلی من جمیع العائدات ب 1/ 41 فی المئة، وفی عام 1991 سهم خمس العوائل یصل إلی 5/ 4 والخمس الثانی إلی 2/ 44، وهذا التنزل فی العوائد والسهام مستمر مع بعض التغییرات الطفیفة»(2).

إنّ الإحصاء المذکور أعلاه یشیر إلی أنّه کلما تقدّم الزمان أکثر، فإنّ توزیع العائدات المالیّة یتعرض للاهتزاز وعدم التوازن أکثر.

وطبقاً لاحصاء آخر بالرغم من أنّ میزان الدخل القومی العام للفرد فیما بین سنوات 1973- 1994 فی أمریکا إزداد إلی أکثر من الثلث، ولکن متوسط الدخل العام لم یکن لجمیع الشاغلین والموظفین فی مناصب الإدارة، یعنی تمّ انخفاض الدخل لثلاثة أرباع القوی العاملة إلی 19 بالمئة(3).

وکذلک تشیر التقاریر عن تمرکز الثروة بید فئة خاصّة فی أمریکا وبعض البلدان الرأسمالیّة.

وفی نتائج إحدی التحقیقات مجلة فوربس (4) فی عام 1988 م عن 4000 نفر من أثریاء أمریکا کالتالی:

«إنّ ثروة کلّ واحد منهم بلغت أکثر من 225 ملیون دولار وتشیر إلی أنّ 185 نفر من هؤلاء یملک علی الأقل 500 ملیون دولار و 51 نفر یملکون علی الأقل ملیار دولار من الثروة»(5).


1- یقول الکاتب والمحقق البارز وعالم الاقتصاد المعروف فی العالم الإسلامی محمّد عمر جبرا فی نقده للنظام الرأسمالی: « إنّ المنتجین ولغرض الحصول علی مزید من الربح یقومون بعملیّة قصف إعلامی علی المستهلکین بواسطة الإعلانات التجاریّة من أجهزة الإعلام، إنّهم یثیرون- سرّاً أو علانیة- غریزة النفعیّة والأنانیّة وحبّ الاستهلاک والاهتمام بزخارف الحیاة لدی المستهلک، هؤلاء یعملون بشکل یقود المستهلک إلی الاعتقاد بأنّ شخصیّته الاجتماعیّة تعتمد علی زیادة عملیّة الشراء والاستهلاک ... ویؤکد غالبرایت بأنّ« جمیع أشکال إقناع المستهلک تقوم علی أساس إقناعه بأنّ الاستهلاک هو أکبر مصدر للسعادة وأعلی معیار للکمال البشری» الإسلام والأزمة الاقتصادیة( اسلام و چالش اقتصادی) بالفارسیّة، ص 78- 79 بتلخیص). ومعلوم أنّه فی أجواء الإعلانات التجاریة الحامیة وإیجاد حاجات کاذبة، سوق تعود أجور العمّال مرّة أخری إلی جیوب أصحاب الشرکات والمصانع المنتجة.
2- انتصار الأسود، والدن بیو، ترجمة أحمد سیف و کاظم فرهادی، ص 229.
3- شراک العالمیّة( دام جهان گرایی) بالفارسیّة، هانس پیتر مارتین، ترجمة عبدالحمید فریدی العراقی، ص 190.
4- 1. Forbes.
5- مقدمة علی المجتمع( درآمدی بر جامعه)، تألیف یان رابرتسون، ص 225 و 230( طبقاً لنقل المعالم الکلیّة للنظام الاقتصاد الإسلامی( ساختار کلان نظام اقتصادی اسلام) بالفارسیّة، ص 150).

ص: 218

وفی ألمانیا فإنّ الحالة شبیهة للحالة فی أمریکا:

«نّ ثروة ستمائة میغا ملیونیر ألمانی (سوپر ثری) بلغت ثلاثمائة ملیار مارک، وثروة کلّ واحد من هؤلاء الستمائة نفر بلغت بین مائة ملیون إلی عدّة ملیار مارک»(1).

وکذلک طبقاً للاحصاءات المنتشرة، فإنّ فی أمریکا 4/ 32 ملیون نفر یعیشون تحت خط الفقر، وتشمل 6/ 13 فی المئة من نفوس أمریکا(2)، ومن هذه الجهة فإن الدیمقراطیین صرحوا فی اللجنة الاقتصادیّة المشترکة للکونغرس بأنّ «تمرکز الثروة فی العقدین الماضیین ازداد بمقدار کبیر»(3).

وبدیهی أنّ البلدان الرأسمالیّة الأخری أیضاً لو لم یکن حالها أسوء من أمریکا، فإنّها لیست بأفضل منها(4).

وقد اعترف جماعة من علماء الغرب أیضاً بأنّ هذا النمط من التفکیر یؤدّی إلی التضحیّة بالجمهور، ومنهم: آدلمان وموریس استناداً إلی الإحصاءات المقطعیة، وقالوا: «إنّ التنمیة الاقتصادیّة لیست فقط اقترنت بانخفاض سطح الدخل النسبی، بل انخفاض متوسط الدخل المطلق للفقراء»(5).

ویقول هایمن مینسکی فی جملة واحدة: «إنّ المجتمعات الرأسمالیّة ظالمة وعاجزة (من الجهة الاقتصادیّة)»(6).

وهنا یوجد استثناء واحد، وهو أنّه لو تقرر حقیقة سیادة القیم الأخلاقیّة علی المجتمع البشری وتبدل التفکیر بمحوریة الفرد إلی محوریة المجتمع وفی مثل هذه الظروف استخدمت رؤوس الأموال فی مجال التنمیة والاستثمار الصحیح، بأمل القضاء علی أشکال الحرمان علی المدی الطویل بسبب هذه التنمیة الاقتصادیّة، وإن کانت علی حساب العدالة فی مدّة قصیرة، فهذا الأمر ربّما یمکن قبوله، ولکننا نعلم أنّ التنمیة الاقتصادیّة فی العالم المعاصر لم تتحرک فی هذا الاتّجاه أبداً، بل إنّ نتیجته، مزید من الثروة والأموال للأثریاء وزیادة الفواصل بینهم وبین الطبقات الضعیفة والمحرومة.

وأحد الشواهد الجلیة علی هذا الکلام هو أنّ هؤلاء یصرحون فی الکلام والعمل أیضاً أنّه یجب أن تکون المصانع بحیث یقلّ احتیاجها یوماً بعد آخر إلی العمّال لئلا یضطرون إلی إنفاق أموال کثیرة من أرباح هذه المصانع إلی المهندسین والعمّال الفنیین والعادیین، وهذا شاهد بیّن علی أنّ التنمیة الصناعیّة فی العالم المعاصر لا تتحرک أبداً فی طریق العدالة، حتی علی المدی الطویل، وأنّ النمو الاقتصادی هو الهدف الأساس لا العدالة والتنمیة، وفی الحقیقة فإنّ النمو وازدیاد الثروة هو الدافع الأصلی لا رفع الحرمان عن الناس.

والنتیجة، نحن نعتقد أنّ المسؤولین والحکّام لو راعوا الأصول الأخری للتنمیة ومن خلال الإدارة الصحیحة والتخطیط المعقول واستطاعوا جذب اهتمام الناس ومشارکتهم وتحرکوا فی مجال التنمیة من موقع


1- النقد، الفائدة، الأزمان الاقتصادیّة- الاجتماعیّة( پول، بهره، بحران های اقتصادی- اجتماعی) بالفارسیّة، ص 66( همان).
2- الإسلام والأزمة الاقتصادیّة( اسلام و چالش اقتصادی) بالفارسیّة، محمّد عمر جپرا، ترجمة السید حسین میر معزی و ...، ص 119- 120.
3- المصد السابق، ص 204.
4- انظر: المصدر السابق، ص 203- 205.
5- الفصلیة( الاقتصاد الإسلامی) فصلنامه اقتصاد اسلامی بالفارسیّة، العدد 16، ص 163.
6- الإسلام والأزمة الاقتصادیّة( اسلام و چالش اقتصادی) بالفارسیّة، ص 76. ولمزید من الاطلاع علی الفواصل الطبقیّة فی المجتمع الأمریکی وومجتمعات رأسمالیّة أخری وعللها، انظر: النظام الاقتصای فی الإسلام( نظام اقتصادی اسلام) بالفارسیّة، المبانی المذهبیّة، ص 76- 94.

ص: 219

الباعث الإلهی، فقطعاً تستدعی هذه النظرة العادلة للمشاریع نمو ورشد إمکانات المجتمع أیضاً ولا تتنافی هذه الحرکة مع التنمیة، بل نحن نعتقد أنّ هذه الحرکة ضروریة للوصول إلی المعاییر المرسومة للتنمیة الاقتصادیّة، لأنّ إجراء العدالة سینتهی من جهة إلی مشارکة الناس وخلق الباعث لهم علی ذلک، وکذلک التقلیل من النفقات الناشئة من حالات الظلم وعدم المساواة من جهة أخری، والأهم من ذلک أنّها تتسبب فی نزول البرکات الإلهیّة والألطاف الربّانیّة علی هذا المجتمع، وجمیع هذه الأمور تعدّ من الأصول التطبیقیّة للوصول إلی الرشد والتنمیة الاقتصادیّة فی المجتمع.

4. التقوی والورع

ینبغی علی القائمین والمسؤولین عن مشروع التنمیة أن یتمتعوا بحالة التقوی والورع لئلا یسقطوا فی دوامة الرؤیة الاحادیة وطلب الدنیا والتعلق بالمادیات وأن یجتنبوا الدوافع القومیة والعنصریة وینظروا إلی أفراد المجتمع بعین واحدة وعادلة، ویتحرکوا فی تنفیذ مشاریع التنمیة علی أساس العدالة.

ومن هنا یقرر القرآن الکریم أنّ التقوی تتسبب فی نزول برکات السماء:

«وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَی آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَیْهِمْ بَرَکَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ»(1).

وحالات التقوی والورع تقلل من وقوعهم فی الخطأ والزیغ:

«من زاد ورعه نقص إثمه»(2)

، وتساهم فی وصول مساعیهم إلی نتائج مثمرة:

«مع الورع یثمر العمل»(3)

، والورع یعدّ سراجاً ومصباحاً للتوفیق والنجاح:

«الورع مصباح النجاح»(4).

إنّ القیادة والزعامة فی المجتمع فی نظر الإسلام لا تصل إلّالمن تمتع بالورع والتقوی:

«لا تصلح الإمامة إلّالرجل فیه ثلاث خصال، ورع یحجزه عن معاصی اللَّه ...»(5).

ویقول أمیرالمؤمنین علیه السلام أیضاً فی خطبه وکتبه فی نهج البلاغة وفی توصیاته وتعالیمه لعمّاله أن یجعلوا التقوی علی رأس حرکتهم وسیاستهم، لأنّ الولاة لا یستطیعون التوصل إلی تحقیق الأهداف العالیة للتنمیة بدون حالات التقوی والورع.

یقول علیه السلام فی کتابه 26 بعد أنّ یأمر أحد ولاته بالتقوی وطاعة اللَّه:

«ومن لم یختلف سرّه وعلانیته، وفعله ومقالته فقد أدّی الأمانة».

وفی مورد آخر وعندما أرسل أحد عمّاله لجمع الزکاة، فإنّه أمره فی البدایة بتقوی اللَّه ثمّ حذّره من الظلم والجور:

«إنطلق علی تقوی اللَّه وحده لا شریک له، ولا تروعنّ مسلماً ولا تجتازنّ علیه کارهاً، ولا تأخذنّ منه أکثر من حقّ اللَّه فی ماله»(6).

لأنّه لو إنعدمت حالة التقوی عند المسؤولین ووقعت الحکومة بید الفاسدین والجاهلین، فإنّهم سیقومون بتقسیم الأموال والثروات فیما بینهم ویحرمون الناس منها:

«ولکنّنی آسی أن یَلیَ أمر هذه الامّة سفهاؤها وفجّارها فیتّخذوا مال اللَّه دولًا، وعباده خِولا»(7).

ومن إفرازات عدم التقوی هذه أن یقوم المسؤولون علی عملیّة التنمیة الاقتصادیّة بالتضحیة بالعدالة لحسب منافعهم الشخصیّة ومصالحهم الذاتیّة، ومن خلال دفع العملیّة الاقتصادیّة إلی جهة خاصّة یغفلون عن مصالح الطبقة المحرومة ویتسبب ذلک فی


1- سوة الأعراف، الآیة 96.
2- غرر الحکم، ح 5970.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.
5- الکافی، ج 1، ص 407، ح 8 عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله.
6- نهج البلاغة، الکتاب 25.
7- المصدر السابق، الکتاب 62.

ص: 220

تمرکز الثروة بید فئة من المرفهین والانتهازیین.

وکذلک بسبب عدم التقوی فإنّ الأبعاد الأخری من التنمیة الاقتصادیّة، وهی التنمیة الإنسانیّة وتغییر البنی وإصلاح المؤسسات ستقع فی زاویة الإهمال والغفلة ویتمّ التضحیة بالفضائل والقیم الجیدة فی المجتمع لحساب النمو الاقتصادی.

إنّ حالة التقوی تعدّ مانعاً أساسیاً فی مقابل مظاهر الخیانة والاختلاس والمادیّة وتؤثر إیحاباً علی مسار الرشد والتنمیة فی فضاء المجتمع.

5. معرفة وإدارة المسؤولین

إنّ الأشخاص الذین یستطیعون التخطیط لعملیة التنمیة ورسم معالمها وسیاستها لابدّ أن یملکوا المعرفة اللازمة والتخصص والإدارة الجیدة، فالتخصص والإدارة الجیدة لازم للورود إلی هذا النظام والسعی فی هذا المجال لرسم المصیر لهذه العملیّة.

ولا یمکن وضع مجالات ومشاریع التنمیة بید أشخاص غیر کفوئین، والقرآن الکریم یقول:

«وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَکُمُ الَّتِی جَعَلَ اللَّهُ لَکُمْ قِیَاماً»(1).

فنعلم أنّ الإسلام، مضافاً إلی شرط البلوغ الشرعی، طرح أمراً آخر یدعی ب «الرشد والبلوغ الاقتصادی» ممّا یدلّ علی ضرورة إحراز هذا الرشد فی مجال إعطاء الأموال للیتامی.

یقول القرآن الکریم:

«وَابْتَلُوا الْیَتَامَی حَتَّی إِذَا بَلَغُوا النِّکَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَیْهِمْ أَمْوَالَهُمْ»(2).

وعندما یکون إعطاء أموال قلیلة لشخص، مشروط بالرشد والبلوغ الاقتصادی، فلا یمکن وضع مشروع الرشد والتنمیة الاقتصادیّة فی المجتمع بید أفراد غیر کفوئین، ومن هذه الجهة عندما أراد النّبی یوسف علیه السلام أن یستلم منصب اقتصادی مهم فی بلد واسع کمصر، فإنّه مضافاً إلی صفة الحفظ والالتزام الأخلاقی، أکد علی العلم والتخصص أیضاً، وقال:

«اجْعَلْنِی عَلَی خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّی حَفِیظٌ عَلِیمٌ»(3).

وقد ورد فی وصیة النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله لابن مسعود أنّه قال:

«إذا عملت عملًا فاعمل بعلم وعقل، وإیّاک أن تعمل بغیر تدبّر وعلم، فإنّه- جلّ جلاله- یقول: «وَلَا تَکُونُوا کَالَّتِی نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنکَاثاً»(4)»(5).

إنّ الحرکة باتّجاه هذه المشاریع بدون تدبیر وتخطیط ومعرفة بجوانبها وأبعادها، حالها حال تلک المرأة الجاهلة التی نقضت جمیع ما عملته فی أمر الحیاکة، والأشخاص غیر الکفوءین من شأنهم إهدار جمیع ثروات البلد وبالتالی یزیدون من معاناة المجتمع.

6. العلم وتعلیم القوی العاملة

إنّ وجود القوی العاملة الفنیّة واللائقة ضروری لتنفیذ مشارع التنمیة، بمعنی أنّه علاوة علی وجود المشاریع المناسبة والمسؤولین الکفوئین فإنّ وجود القوی الفنیّة التی تستطیع تفعیل الأقسام المختلفة من الأجهزة والإدارة غیر قابل للإنکار.

إنّ القوی المتخصصة والفنیّة التی تستطیع أن تستلم المناصب الإجرائیة فی مراکز القرار وفی المصانع والمعامل، المزارع، المدارس والجامعات، قسم الخدمات وسائر المراکز الأخری، یرتبط بعملیة تنمیة هذه القدرات الکفوءة.

إنّ تربیة مثل هذه القوی الفنیّة وتوفیر الأرضیة اللازمة لغرض تعلیمهم وتقویة قدراتهم الفنیّة، یعتبر شرطاً من شروط التنمیة المستقرة.


1- سورة النساء، الآیة 5.
2- سورة النساء، الآیة 6.
3- سورة یوسف، الآیة 55.
4- سورة النحل، الآیة 92.
5- مکارم الأخلاق، ص 458.

ص: 221

«إنّ تربیة القوی العاملة الیدویّة والفکریّة والتی تعد رأسمال بشری للمشاریع العمرانیة یعد من الأرکان المهمّة للتنمیة الفنیّة»(1).

«وأحد عوامل الرشد والنمو للقدرات الفنیّة فی بلدان مثل بریطانیا، الیابان، فرانس، السوید، النرویج والبلدان الصناعیّة أخری هی أنّهم یهتمون بالتعلیم الفنی والمهنی، ففی بریطانیا فإنّ 50 فی المئة من الطلّاب یشتغلون فی الفروع التحقیقیّة والفنیّة، و 50 فی المئة یشتغلون بالفروع العلمیّة والمهنیة التی یصطلح علیها بفروع (العمل بالأدوات)»(2).

والقوی المهنیة المتعلمة لا یختص عملها بالتنمیة الفنیّة، فثمّة تنمیة أیضاً فی الفروع الأخری التی من الضرروی وجود أفراد خبیرین ومستعدین.

وکما أنّ وجود العمّال الفنیین المهنیین یمنع من هدر الطاقات ورؤوس الأموال ویزید من جودة العمل، فإنّ القوی الجدیرة والماهرة فی حقول الزراعة، والصناعة، الصحة والخدمات أیضاً لازمة وضروریة لتحقیق أهداف التنمیة والاستفادة الأفضل من عملیّة الاستثمار.

ویری الإمام الصادق علیه السلام أنّ المهارة فی المهنة أمر لازم لمن یشتغل فی شأن الصناعة: «

کلّ ذی صناعة مضطرّ إلی ثلاث خلال یجتلب بها الکسب، وهو أن یکون حاذقاً بعمله ...»(3).

وکذلک فإنّ الأفراد الجدیرین والماهرین یمکنهم إدارة الأقسام الثقافیّة، والمراکز العلمیّة والجامعات بنحو أفضل.

وفی حقل التجارة والعقود التجاریّة العالمیّة، فإنّ بلدان العالم الثالث وبسبب عدم اطلاعهم أو قلّة اطلاعهم علی الجوانب المختلفة للعقود فإنّها تضررت کثیراً، وأمّا البلدان الصناعیّة المتقدمة فی العالم وبسبب معرفتها بفنون العقود التجاریّة، الحقوق العالمیّة، والتجارة العالمیّة، فإنّها تعمل علی تنظیم علی تلک العقود بما یصب فی صالحها، ومن هنا استدعت الضرورة وجود أفراد متخصصین ومهنیین لحفظ مصالح البلدان النامیة.

إنّ عملیّة تثقیف القوی وتزریق المعنویات والقیم الأخلاقیّة والإیمان، والتی تعدّ من أهداف التنمیة الإسلامیّة أیضاً، إنّما یتیسر تحقیقها وتجسیدها علی أرض الواقع الاجتماعی مع وجود قوی لائقة وجدیرة، وفی غیر هذه الصورة فإنّ المجتمع ربّما یتطور من الجهة الاقتصادیّة فقط، ولکنه یعیش الفراغ من الجهة المعنویّة والأخلاقیّة وبالتالی یبتعد عن «الحیاة الطیّبة» التی یدعو إلیها القرآن الکریم.

وکیف ما کان فإنّ التغلب علی المشاکل والحرکة فی مسار التنمیة إنّما یتیسر بوجود المعرفة والتخصص والمهنیة لدی القوی العاملة.

وکما تقدّم فی الروایة الشریفة عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أنّه قال لابن مسعود:

«إذا عملت عملًا فاعمل بعلم وعقل، وإیّاک أن تعمل عملًا بغیر تدبّر وعلم»(4).

وهذا الحدیث یقرر بوضوح أنّ الدخول فی کلّ عمل مهم، ومنه التنمیة الاقتصادیّة، یجب أن یقترن بالعلم والمعرفة، ولا یمکن التحرک بهذا الاتّجاه بدون خبرة کافیة ومعرفة تجریبیة.

وفی نظر الدین فإنّ العلم یمثّل أصل جمیع


1- انتقال العلوم التکنولوجیة إلی العالم الثالث( علوم وتکنولوژی به جهان سوم)، محمّد عبدالسلام( طابقاً لنقل: معرفة مظاهر الفقر والتنمیة( پدیده شناسی فقر و توسعه) بالفارسیّة، ج 4، ص 214).
2- التکنولوجیة محور التنمیة( تکنولوژی محور توسعه) بالفارسیّة، ص 55( طبقاً لنقل: مظاهر الفقر والتنمیة( پدیده شناسی فقر و توسعه) بالفارسیّة، ج 4، ص 214).
3- بحار الأنوار، ج 75، ص 236، ح 64.
4- مکارم الأخلاق، ص 458.

ص: 222

الخیرات:

«العلم أصل کلّ خیر»(1)

، ومن شأنه أن یورث العزّة والسعادة للإنسان والمجتمع فی الدنیا والآخرة:

«لطالب العلم عزّ الدنیا وفوز الآخرة»(2).

ولعل التوصیات الأکیدة لنبی الإسلام صلی الله علیه و آله علی طلب العلم والتعلّم حتی ولو کان فی الصین:

«اطلبوا العلم ولو بالصّین»(3)

، ونظراً إلی أنّ الصین لیست من البلدان التی تتضمّن معارف دینیّة، فإنّ هذه التوصیات غیر ناظرة إلی العلوم الدینیّة، بل المقصود العلوم الدنیویّة، وهذا الکلام یشیر إلی الاهتمام الإسلام بجمیع العلوم التی تقع فی مسار التنمیة.

وکذلک نقرأ فی التاریخ أنّ النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أمر بارسال نفرین من المسلمین لتعلّم کیفیة استخدام بعض الأسلحة الجدیدة لتقویة جیش الإسلام (4).

وبسبب هذه التعالیم البنّاءة نری أنّ المسلمین وصلوا إلی درجة من الرشد العلمی والتنمیة الاقتصادیّة والمعرفیة بحیث إنّهم صاروا ملجأ المتعلمین الغربیین طیلة قرنین من الزمان، بحیث إنّ جماعة من تلک البلاد کانوا یأتون إلی البلدان الإسلامیّة لطلب العلم (5).

یقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی مقطع من توصیاته لمالک الأشتر فیما یتصل بالتطور العلمی والتنمیة والعمران:

«وأکثر مدارسة العلماء، ومناقشة الحکماء، فی تثبیت ما صلح علیه أمر بلادک»(6).

وفی الحقیقة فإنّ مجالسة ومشاورة أهل الخبرة والعلماء لإصلاح الأمور وتحقیق أهداف الحیاة، یعتبر ممهداً لإصلاح الفکر ووضع الأعمال والمسؤولیات بید أشخاص من أهل الخبرة والجدارة.

ویمکن القول: «إننا نستطیع التوصل إلی هذه الحقیقة، وهی أنّ البلدان المتقدمة التی تهتم بتربیة القوی البشریّة وکیفیة تعلیم المتخصصین وأصحاب المهارات المختلفة، قد حصلت علی التقدم فی المجالات المختلفة»(7).

«وفی نظر علماء الاقتصاد، فإنّ عنصر التعلیم فی هذه الأیّام لیس فقط مهماً من جهة القیمة الأخلاقیّة، بل بسبب أنّه یمثّل أحد أرکان التنمیة الاقتصادیّة وهذه النظریّة متفق علیها تقریباً فی أوساط أهل الخبرة، ولا نجد کتاباً فی مجال التوسعة الاقتصادیّة لا یتحدّث عن هذا الموضوع بعناوین مختلفة من قبیل: استخدام القوی فی مجال التعلیم والاستفادة من المنابع البشریّة»(8).

ولکن لابدّ من الالتفات إلی هذه الحقیقة، وهی أنّ التعلیم إنّما یکون مؤثراً فی مجال التنمیة والتقدم الاقتصادی فیما إذا کان متجانساً ومتسقاً مع حاجات


1- غرر الحکم، ح 17.
2- المصدر السابق، ح 90.
3- بحار الأنوار، ج 1، ص 177؛ کنز العمال، ج 10، ص 138، ح 28697.
4- طبقات الکبری، ج 1، ص 312. وورد فی هذا الکتاب: عروة بن مسعود وغیلان بن سلمة ارسلا إلی منطقة« جرش» حتی یتعلموا کیفیة صناعة المنجنیق والدبابات( نوع من لباس الحرب الابتدائی یتحرک بواسطة الأشخاص) وبهذه الأسلحة ذهب رسول اللَّه صلی الله علیه و آله إلی حرب مشرکی الطائف.
5- التاریخ السیاسی للإسلام( تاریخ سیاسی اسلام) بالفارسیّة، ج 2، ص 278( طباً لنقل: مبانی الإقتصاد الإسلامی( مبانی اقتصاد اسلامی) بالفارسیّة، ص 205).
6- نهج البلاغة، الکتاب 53.
7- استثمار الموارد البشریّة فی التنمیة الاقتصادیّة( سرمایه گذاری در نیروی انسانی و توسعه اقتصادی) بالفارسیّة، محمود المتوسلی، ص 24.
8- استثمار الموارد البشریّة والتنمیة الاقتصادیّة( سرمایه گذاری در نیروی انسانی و توسعه اقتصادی) بالفارسیّة، محمود المتوسلی، ص 243.

ص: 223

المجتمع، وإلّا فربّما یواجه البلد تراکماً فی مجال المتخصصین والمهنیین فی بعض المجالات، وبالتالی یتسبب فی زیادة البطالة فی هذا الجانب بالخصوص وقلّة المتخصصین وأهل الخبرة فی الجوانب والمجالات الأخری، وهنا یأتی دور الأقسام التعلیمیة لإصلاح بنیة التعلیم وترک المناهج التقلیدیة والتوجه إلی التعلیم المعاصر والمتناسب مع الحاجات.

7. الجرأة والشجاعة

إنّ الاصلاحات الاقتصادیّة والحرکة فی طریق الرشد والتنمیة الاقتصادیّة والعمل بها وتجسیدها فی جمیع الأبعاد، یحتاج إلی جرأة وشجاعة وحسم، ولا یمکن إعطاء مقود الرشد والتنمیة بید أشخاص جبناء یعیشون التردد والخوف.

إنّ تنفیذ المشاریع الاقتصادیّة مع قوة البرامج، والمقاومة والاستقامة فی مقابل المعیقات والتحدیات، یعتبر شرطاً أساساً فی هذا المنهج.

یقول رسول اللَّه صلی الله علیه و آله فی وصیته للإمام علی علیه السلام:

«یا علیّ! لا تشاور جباناً فانّه یضیّق علیک المخرج»(1).

فلو أفرزت مشاریع التنمیة بعض المشاکل والمآزق أو تسببت فی إلحاق الضرر لبعض أصحاب المناصب، أو استدعت بعض الانفعال واستیاء القوی الأجنبیّة، أو تسببت فی إثارة الأجواء ضد المسؤولین والقائمین علی تلک المشاریع، فإنّ الأشخاص الجبناء سیتخلون عن مسؤولیتهم ولا یمتلکون الجرأة علی الاستمرار فی مهمتهم إلی حین الوصول إلی الأهداف المنشودة.

یقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی عهده لمالک الأشتر، الذی یعد دستور إدارة البلاد والبناء والاعمار وفی الحقیقة هذا الشعار منقوش فیه بعبارات من قبیل:

جبایة خراجها ... واستصلاح أهلها وعمارة بلادها»

، یقول علیه السلام:

«ولا تدخلنّ فی مشورتک ... جباناً یُضعفک عن الأمور»(2).

وفی هذا العهد المذکور وردت التوصیة بلزوم التواصل مع الشجعان وأصحاب أهل الجرأة والنجدة:

«ثمّ الصق ... أهل النّجدة والشّجاعة»(3)

، وعلی ضوء ذلک فإنّ الشجاعة تعتبر من لوازم تنفیذ المشاریع الإصلاحیّة ومنها مشروع التنمیة الاقتصادیّة.

یقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی کلامه الجامع:

«لا یقیم أمر اللَّه سبحانه إلّامن لا یُصانع، ولا یُضارع، ولا یتّبع المطامع»(4).

وبدیهی أنّ الأشخاص الانتهازین والجبناء وغیر المهذبین فإنّهم غیر جدرین لاستلام هذا الدور الخطیر فی تفعیل برنامج التنمیة والإعمار والبناء.

8. المشارکة العامّة والسعی العام
اشارة

إنّ أفضل القوانین والبرامج، ما لم تکن مقترنة بالسعی العام ومشارکة جمیع الناس، فإنّها لا تحقق النتیجة المطلوبة، وعندما تکون الإرادة الجمعیة لتحقیق البرامج والمشاریع الإصلاحیة متوفرة، فإنّ الأرضیة ستکون مناسبة للرشد والتنمیة.

یقول الإمام علی علیه السلام:

«خوض النّاس فی الشّی ء مقدّمة الکائن»(5).

وهکذا یتبیّن أنّ الناس فی مجتمع معین ما لم یعیشوا الرغبة فی التغییر والتحوّل ولم یتحرکوا علی مستوی العمل فی هذا السبیل، فإنّه لا یمکن توقع تحوّل إیجابی فی مسار المجتمع، والقرآن الکریم یصرح بهذه الحقیقة ویقول:

«إِنَّ اللَّهَ لَایُغَیِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّی یُغَیِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ»(6)

. وبذلک یرسموا مصیرهم بأنفسهم.

وعندما یتحدّث أمیرالمؤمنین علیه السلام عن حقوقه


1- بحار الأنوار، ج 70، ص 304، ح 21.
2- نهج البلاغة، الکتاب 53.
3- المصدر السابق.
4- نهج البلاغة، الکلمات القصار، الکلمة 110.
5- غرر الحکم، ح 11042.
6- سورة الرعد، الآیة 11.

ص: 224

بوصفه إماماً للناس فإنّه یدعو الجمیع للاستجابة له:

«والإجابة حین أدعوکم»(1).

ومن الطبیعی أنّ الاستجابة لدعوة الحکومة من قِبل الناس ومشارکتهم فی مشاریع التنمیة الاقتصادیّة یوفر الأرضیة اللازمة للتنمیة وتقویة النشاط الاقتصادی، ومن هذه الجهة فإنّ الإمام أمیرالمؤمنین علیه السلام فی عهده لمالک الأشتر یؤکد علی دور جمهور الناس ویقول:

«وإنّما عماد الدّین وجماع المسلمین والعُدّة للأعداء، العامّة من الأمّة، فلیکن صغوک لهم ومیلک معهم»(2).

ومعلوم أنّ دور جمهور الناس کما هو مهم فی میدان الجهاد ضد العدو، فکذلک فی مجال البناء والتنمیة الاقتصادیّة أیضاً.

النتیجة:

من مجموع ما تقدّم فی هذا البحث، نصل إلی هذه النتیجة، وهی أنّ الإسلام قدّم تعالیم مهمّة ولازمة فی مجال التنمیة الاقتصادیّة والرفاه العام ورسم الطرق النافعة للوصول إلی ملامح ومشخصات مطلوبة للتنمیة، ولکننا نؤکد مرّة أخری أنّ مجرّد الاهتمام بالتنمیة الاقتصادیّة والغفلة عن المعنویّة والإیمان والعدالة لا تقع فی دائرة اهتمام الإسلام بل إنّ الإسلام یرفض مثل هذه التنمیة المادیّة، لأنّها لا تنسجم مع الأهداف العالیة لمدرسة الإسلام، وهی التکامل المعنوی والرشد الأخلاقی للبشر، وبالتالی فإنّ التنمیة بدون هذا الهدف السامی لا تکون تنمیة حقیقیة، کما نشاهد هذه الحالة فی عالمنا المعاصر، الذی یعیش التوجه المادی والخالی من المعنویّة.

والنکتة الأخری التی لا ینبغی الغفلة عنها، هی أنّه من أجل الوصول إلی تنمیة اقتصادیّة لابدّ من تشکیل حکومة إسلامیّة ووضع جمیع هذه المسائل الاقتصادیّة فی مسار منظم وهادف وممنهج، وفی الحقیقة أنّ الوصول إلی تنمیة اقتصادیّة حقیقیة من دون تشکیل حکومة إسلامیّة، أمر غیر ممکن أو علی الأقل صعب جدّاً.

ومن الممکن فی صورة فقدان حکومة إسلامیّة أن یقوم کلّ فرد مسلم فی حیاته الشخصیّة بالتفکیر فی مسألة التنمیة ویتحرک فی هذا الخط، ولکن هذه المساعی لا تستطیع أن تحقق الهدف المطلوب للإسلام من التنمیة للبلد الإسلامی، فالمساعی المقطعیة والجزئیة بإمکانها أن توصلنا فی الحدّ الأقصی إلی بعض روائز ومشخصات التنمیة وبشکل محدود، ولکن التنمیة المستقرة ومورد قبول الإسلام لا تحقق النتیجة المرجوة إلّابتشکیل حکومة إسلامیّة وبقیادة مسؤولین صالحین وحکّام جدیرین.

***

المنابع والصادر

1. القرآن الکریم.

2. نهج البلاغة (مع تحقیق الدکتور صبحی صالح).

3. القیم والتنمیة (ارزش ها و توسعه) بالفارسیّة، محمّدنقی نظرپور، پژوهشگاه فرهنگ واندیشه اسلامی، الطبعة الاولی، الربیع 1378 ه ش.

4. اسد الغابة، ابن الأثیر، دار الکتب العربی، بیروت.

5. الإسلام والأزمة الاقتصادیّة (اسلام و چالش اقتصادی) بالفارسیّة، محمّد عمر جپرا، ترجمة السید حسین میرمعزی- علی اصغر هادوی نیا- أحمد علی الیوسفی- ناصر جهانیان، پژوهشگاه فرهنگ و اندیشه اسلامی، الطبعة الاولی، 1384 ه ش.

6. الإصابة فی معرفة الصحابة، ابن حجر العسقلانی،


1- نهج البلاغة، الخطبة 34.
2- الصمدر السابق، الکتاب 53.

ص: 225

تحقیق الشیخ عادل أحمد عبدالموجود، دارالکتب العلمیّة، بیروت، 1415 ه ق.

7. الاقتصاد، الرشد والتنمیة (اقتصاد، رشد و توسعه) بالفارسیّة، الدکتور مرتضی قره باغیان، طهران، نشر نی، 1370 ه ش.

8. انتقال العلوم التکنولوجیة إلی العالم الثالث (انتقال علم و تکنولوژی به جهان سوم) بالفارسیّة، البروفسور محمّد عبدالسّلام، ترجمه هاله المعی- محمّد رضا بهاری، انجمن فیزیک ایران، طهران، 1367 ه ش.

9. بحار الأنوار، محمّد باقر المجلسی، مؤسسة الوفاء، بیروت، الطبعة الثانیة، 1404 ه ق.

10. موانع التنمیة فی العالم الثالث (بن بست توسعه در جهان سوم) بالفارسیّة، مهدی بازوکی، انتشارات کیهان، طهران، 1368 ه ش.

11. مظاهر الفقر والتنمیة (پدیده شناسی فقر و توسعه) بالفارسیّة، بإشراف محمّد الحکیمی، انتشارات مکتب الإعلام الإسلامی، قم، الطبعة الاولی، 1380 ه ش.

12. النقد، الفائدة، الأزمات الاقتصادیّة- الاجتماعیه (پول، بهره، بحران های اقتصادی- اجتماعی)، هلموت کروتیس، ترجمة حمیدرضا شهمیرزادی، کانون اندیشه جوان، طهران، 1378 ه ش.

13. انتصار الأسود (پیروزی سیاه)، والدن بیو، ترجمة أحمد سیف- کاظم فرهادی، انتشارات نقش جهان، طهران، 1376 ه ش.

14. التفسیر الأمثل، آیة اللَّه العظمی ناصر مکارم الشیرازی ومعاونوه، دارالکتب الإسلامیّة.

15. التکنولوجیة محور التنمیة (تکنولوژی محور توسعه) بالفارسیّة، الدکتور إبراهیم الرزاقی، نشر توسعه، طهران، 1370 ه ش.

16. حضارتنا المادیّة فی الغرب (تمدن مادیگرایانه ما غربی ها) بالفارسیّة، السید محمّد علی المدرسی، انتشارات شفق، قم، الطبعة الاولی، 1382 ه ش.

17. التنمیة الاقتصادیّة (توسعه اقتصادی) بالفارسیّة، الدکتور محمود المتوسلی، سازمان مطالعه و تدوین کتب علوم انسانی دانشگاهها (سمت)، طهران، الطبعة الاولی، 1382 ه ش.

18. التنمیة الاقتصادیّة فی العالم الثالث (توسعه اقتصادی در جهان سوم) بالفارسیّة، مایکل تو دارو، ترجمة الدکتور غلام علی فرجاد، انتشارات کوهسار، طهران، الطبعة الثالثة عشر، 1384 ه ش.

19. التنمیة الاقتصادیّة، فی الماضی والحاضر (توسعه اقتصادی، گذشته و حال)، ریچارد تی. گیل، ترجمة محمود نبی زاده، نشر گسترده، 1366 ه ش.

20. الجرح والتعدیل، ابن أبی حاتم الرازی، دار احیاء التراث العربی، بیروت، 1371 ه ق.

21. الخصال، الشیخ الصدوق، تحقیق علی أکبر الغفاری، نشر جماعة المدرسین، قم، 1403 ه ق.

22. الفتخ العالمی (دام جهان گرایی)، هانس پیتر مارتین، ترجمه عبدالحمید فریدی عراقی، پژوهشگاه فرهنگ و اندیشه، 1378 ه ش.

23. مقدمة علی المجتمع (درآمدی بر جامعه)، یان رابرتسون، ترجمه حسین بهروان، انتشارات آستان قدس رضوی، مشهد، 1374 ه ش.

24. استثمار القوة الإنسان والتنمیة الاقتصادیّة (سرمایه گذاری در نیروی انسانی و توسعه اقتصادی) بالفارسیّة، محمود المتوسلی، مؤسسة تحقیقات العملة والبنک، طهران، 1371 ه ش.

25. سنن ابن ماجة، محمّد بن یزید القزوینی، تحقیق محمّد فؤاد عبدالباقی، دارالفکر، بیروت.

26. معالم التنمیة الاقتصادیّة فی رؤیة الإسلامیّة (شاخص های توسعه اقتصادی از دیدگاه اسلام) بالفارسیّة، محمّد جمال خلیلیان، مؤسسه آموزشی و پژوهشی الإمام الخمینی، قم، الطبعة الاولی، 1384 ه ش.

27. صحیح البخاری، محمّد بن إسماعیل البخاری، دار

ص: 226

الفکر، بیروت، 1401 ه ق.

28. صحیح مسلم، مسلم النیسابوری، دار الفکر، بیروت.

29. طبقات الکبری، ابن سعد، دار بیروت للطباعة والنشر، الطبعة الاولی، 1405 ه ق.

30. علل الشرایع، الشیخ الصدوق، تحقیق السید محمّد صادق بحرالعلوم، مکتبة حیدریة، النجف الأشرف، 1385 ه ق.

31. غرر الحکم و درر الکلم، عبدالواحد الآمدی انتشارات مکتب الإعلام الإسلامی، قم، 1366 ه ش.

32. فتح الباری، ابن حجر العسقلانی، دار المعرفة للطباعة والنشر، بیروت، الطبعة الثانیة.

33. فروغ ابدیت، الاستاد جعفر السبحانی، مکتب الإعلام الإسلامی الحوزة العلمیّة قم، الطبعة العاشرة، 1374 ه ش.

34. الفصلیة الاقتصاد الإسلامی (فصلنامه اقتصاد اسلامی، بالفارشیة، پژوهشگاه فرهنگ و اندیشه اسلامی، العدد 16.

35. فی ظلال القرآن، سید قطب، دار إحیاء التراث، بیروت، الطبعة الخامسة، 1386 ه ق.

36. وظیفة الروائز الاجتماعیّة- الاقتصادیّة (کاربرد شاخص های اجتماعی- اقتصادی)، جماعة من المؤلفین، ترجمة الدکتور هرمز الشهدادی، سازمان برنامه و بودجه، طهران، الطبعة الاولی، 1376 ه ش.

37. الکافی، محمّد بن یعقوب الکلینی الرازی، دار الکتب الإسلامیّة، طهران، لسنة 1388 ه ق.

38. الکامل، عبداللَّه بن عدی، تحقیق یحیی مختار الغزاوی، دارالفکر، بیروت، الطبعة الثالثة، 1409 ه ق.

39. کنزالعمال، المتقی الهندی، مؤسسة الرسالة، بیروت، 1409 ه ق.

40. البحوث الأصلیّة للاقتصاد التنمیة (مباحث اساسی اقتصاد توسعه)، جرالد مِیِر، ترجمة غلامرضا آزاد، نشر نی، الطبعة الاولی، 1378 ه ش.

41. مجلة المستحدثات الاقتصادیّة (مجله تازه های اقتصاد)، خرداد وتیر 1369.

42. مجمع الزوائد، نورالدین الهیثمی، دار الکتب العلمیّة، بیروت، 1408 ه ق.

43. المجموع شرح المهذب، محیی الدین بن شرف النووی، تحقیق الدکتور محمود المطرحی، دار الفکر، بیروت، الطبعة الاولی، 1421 ه ق.

44. مستدرک، الحاکم النیسابوری، تحقیق یوسف عبدالرحمن المرعشلی.

45. مستدرک الوسائل، المیرزاحسین النوری الطبرسی، مؤسسة آل البیت، قم، 1407 ه ق.

46. مستقبل علم الاقتصاد من منظور الإسلامی، الدکتور محمّد عمر شابرا، ترجمة الدکتور رفیق یونس المصری، دار الفکر، دمشق، الطبعة الثالثة، 1426 ه ق.

47. مسند ابن مبارک، عبداللَّه بن مبارک، تحقیق مصطفی عثمان محمّد، دارالکتب العلمیّة، بیروت، الطبعة الاولی، 1411 ه ق.

48. مسند أبی یعلی، أبویعلی الموصلی، تحقیق حسین سلیم أسد، دارالمأمون للتراث، الطبعة الاولی، 1412 ه ق.

49. مسند أحمد، أحمد بن حنبل، دار صادر، بیروت.

50. مصنف ابن أبی شیبة الکوفی، تحقیق سعید اللحام، دارالفکر، بیروت، الطبعة الاولی، 1409 ه ق.

51. المعجم الأوسط، الطبرانی، دارالحرمین للطباعة والنشر، 1415 ه ق.

52. مقدمه علی عمل اجتماع التنمیة الریفیة (مقدمه ای بر جامعه شناسی توسعه روستایی) بالفارسیّة، محمود کیا، طهران، انتشارات اطلاعات، الطبعة الاولی، 1370 ه ش.

53. مکارم الأخلاق، حسن بن فضل الطبرسی، منشورات الشریف الرضی، قم، الطبعة السادسة، 1392 ه ق.

54. المیزان، العلّامة السید محمّد حسین الطباطبائی، دار الکتب الإسلامیّة، طهران، السنة الاولی 1372 ه ش.

55. النظام الاقتصادی الإسلامی، المبانی المذهبیّة (نظام

ص: 227

اقتصادی اسلام، مبانی مکتبی) بالفارسیّة، السید حسین میرمعزّی، مؤسسه فرهنگی دانش و اندیشه معاصر، الطبعة الاولی، 1380 ه ش.

56. وسائل الشیعة، محمّد بن الحسن الحرّ العاملی، دار إحیاء التراث العربی، بیروت، الطبعة الرابعة، 1391 ه ق.

ص: 228

ص: 229

(5). الأصول والقواعد التطبیقیة فی الاقتصاد الإسلامی

اشارة

1. حریة النشاطات الاقتصادیّة المقترنة مع مقولة التکلیف

2. أصل المنافسة السلیمة

3. أصل الاعتماد المتقابل بین الحکومة الإسلامیّة والنشطاء الاقتصادیین

4. الملکیّة المختلطة

5. المشارکة الاجتماعیّة والعامّة فی خط التنمیة الاقتصادیّة

6. سائر الأصول و المناهج

ص: 230

ص: 231

الأصول والقواعد التطبیقیّة فی الاقتصاد الإسلامی

المقدّمة:

تطلق الأصول التطبیقیّة فی النظام الاقتصادی الإسلامی علی القواعد والمناهج العلمیّة التی توصلنا إلی الأهداف المذکورة فی الفصل السابق، فکلّ منهج واسلوب اقتصادی یوصلنا من خلال هذه الأصول إلی تحقیق هدف أو أهداف اقتصادیّة، فإنّه یسمی بالأصل أو القاعدة التطبیقیّة وهذه الأصول عبارة:

1. حریة النشاطات الاقتصادیّة المقترنة مع مقولة التکلیف

إنّ الأهداف من قبیل الأمن الاقتصادی الذی سبق ذکره فی الفصل السابق، إنّما یمکن تجسیده فی الحیاة الاجتماعیّة فیما إذا لم نعتبر الناشط الاقتصادی أو الإنسان بشکل عام حاله حال الماکنة والجهاز الآلی الذی یرتبط مع مجموعة من العوامل الأخری فی تشکیلة جبریة وطبیعیّة بحیث تکون هذه العوامل الجبریة هی التی تعین حرکته وترسم مسیرته فی واقع الحیاة، فلو قبلنا أنّ إنسانیة الإنسان تتمحور حول حریته واختیاره، فیجب أن نعتبر الحریة والاختیار أصلًا أساسیاً فی نشاطاته وسلوکیاته الاقتصادیّة وبالتالی نفسح المجال لنشاطات الإنسان فی المجالات الاقتصادیّة بحریة کاملة ما لم تؤدّ هذه الحریة إلی الإضرار بحریة الآخرین: (تقدم مصالح المجتمع علی مصالح الفرد) والذی ورد التأکید علیه فی فصل المبانی الاقتصادیّة فی الإسلام، وعدم الخروج من إطار الأحکام الشرعیة.

إنّ الحکومة الإسلامیّة فی مجال تنظیم المقررات الاقتصادیّة لا ینبغی أن تعتمد وتهتم بکمیة العوائد المالیّة فی مجال الاقتصاد، بل لو فرضنا أنّ مشروعاً تقدّمنا به لنشطاء الاقتصادیین وتبقی فیه حریتهم واختیارهم محفوظة، ولکن مثلًا یؤدّی هذا المشروع إلی تحقیق النتیجة المطلوبة بنسبة 80 فی المئة ولکن ثمة مشروع آخر یحقق النتیجة المطلوبة 100 فی المئة ولکن علی حساب حریة الإنسان ویؤدّی إلی إجبار الناس علی المسیر فی خط معین فیما یستلزم الضغط علیهم، فإننا نرجح المشروع الأوّل علی هذا المشروع الأخیر.

وقد ورد فی روایة فی مصادر الشیعة وأهل السنّة

ص: 232

عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«دعوا الناس یرزق اللَّه بعضهم من بعض»(1).

وهذا المعنی ورد الحدیث عنه بتعبیرین: «

دعوا الناس فی غفلاتهم یرزق اللَّه بعضهم من بعض»(2) و

«ذروا الناس فی غفلاتهم یعیش بعضهم مع بعض»(3).

وشأن صدور هذه العبارات، وإن کانت ناظرة إلی الوسائط فی عملیّة التجارة (/ تلقّی الرکبان) وکذلک الوسائط أو الدلالیین فیما یتصل بالمحصولات الزراعیّة (بیع الحاضر للبادی)؛ ولکنها بالاصطلاح الفقهی أن «المورد، لا یخصّص الوارد» وخصوصیّة شأن الصدور بمورد خاص لا تلغی کلیّة وکبرویة هذا البیان.

وما نشاهده فی الروایات الإسلامیّة وفتاوی غالبیة الفقهاء الإمامیّة یدلّ بوضوح علی هذه الحریة، لأنّ هذه الروایات والفتاوی تقرر أنّ تعیین الأسعار بعهدة البائع، وحتی فی مورد الإحتکار فإنّ المحتکر الذی یجبر علی إخراج بضاعته التی یحتاج إلیها الناس من المخزن لیبیعها علیهم فإنّه لا یجبر علی التسعیر.

ویروی الشیخ الطوسی بسند معتبر عن عبداللَّه بن منصور عن أبی عبداللَّه (الإمام الصادق علیه السلام) قال:

«نفد الطعام علی عهد رسول اللَّه فأتی المسلمون فقال:

یارسول اللَّه فقد نفد الطعام ولم یبق شی ء إلّاعند فلان فمره یبیع. قال: حمد اللَّه وأثنی علیه ثمّ قال: یا فلان إنّ المسلمین ذکروا أنّ الطعام قد فقدوا الأشیاء عندک فأخرجه وبِعْه کیف شئت ولا تحبسْه»(4).

وفی روایة معتبرة أخری أنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله عندما اقترح علیه البعض تسعیر البضاعة وقال:

«فغضب حتی عرف الغضب فی وجهه فقال: أنا أقوّم علیهم إنّما السعر الی اللَّه تعالی یرفعه إذا شاء ویخفضه إذا شاء

». ویشبه هذا المضمون ما ورد فی روایات أهل السنّة(5) فی بحث «التسعیر» فی مجال (المکاسب المحرمة) التی سیأتی الحدیث عنها فی الأجزاء اللاحقة من هذا الکتاب، وعلی أساس الروایات المذکورة فإنّ غالبیة فقهاء الإمامیّة والشافعیّة من فقهاء أهل السنّة، لا یرون جواز التسعیر إلّاإذا أدّی إلی الإجحاف والإضرار(6).

وممّا تقدّم یتبیّن فرعین من فروع الحریة الاقتصادیّة، یعنی «الحریة فی المبادلة والمعاملة» و «الحریة فی التسعیر»، ویستفاد أصل الحریة فی المبادلة والمعاملة من بعض آیات القرآن الکریم أیضاً وذلک عندما ینهی القرآن عن بعض التصرفات الاقتصادیّة الباطلة ویقرر أنّ الطریق الوحید للخروج من هذا المأزق إحراز طیب الخاطر والرضا القلبی


1- انظر: کتاب الأم الشافعی، ج 3، ص 92؛ مختصر المزنی، إسماعیل المزنی الشافعی، المتوفی 264، ص 88؛ وسائل الشیعة، ج 17، ص 445.
2- حاشیة الدسوقی، الدسوقی المالکی، ج 3، ص 140.
3- المصدر السابق.
4- الاستبصار، ج 3، ص 114، ح 5.
5- انظر: سنن أبی داود، ج 3، ص 272 و سنن ابن ماجة، ج 2، ص 741.
6- انظر: المنتهی، ج 2، ص 1007؛ موسوعة الفقه الإسلامی، ج 3، ص 198، فی فصل« الرقابة علی النظام الإقتصادی» وسیأتی بحث فی هذا المجال من هذا الجزء أیضاً.

ص: 233

للطرفین فی المعاملة، وهذا المعنی یرتبط بالحریة فی المعاملة، یقول:

«یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لَاتَأْکُلُوا أَمْوَالَکُمْ بَیْنَکُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَکُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِّنْکُمْ»(1).

*** ویتبیّن من آیات عدّة أخری فی القرآن الکریم الفرع الثالث من فروع الحریة الاقتصادیّة یعنی «الحریة فی التملک» وهذه الآیات تقرر مسؤولیّة الإنسان فی أعماله ومعلوم أنّ هذه المسؤولیّة لا یمکن تحقیقها بدون الحریة فی تملک الثروات الطبیعیّة، وهی عبارة عن مسؤولیّة إعمار وإحیاء الأرض والتسلط والحاکمیّة والمالکیّة علیها، تقول الآیة الشریفة:

«وَلَقَدْ مَکَّنَّاکُمْ فِی الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَکُمْ فِیهَا مَعَایِشَ قَلِیلًا مَّا تَشْکُرُونَ»(2).

ویقول تعالی أیضاً:

«هُوَ الَّذِی جَعَلَ لَکُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِی مَنَاکِبِهَا وَکُلُوا مِنْ رِّزْقِهِ ...»(3)

ویقول تعالی فی الآیة الثالثة:

«الَّذِی جَعَلَ لَکُمْ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَکَ لَکُمْ فِیهَا سُبُلًا ...»(4).

وآیة رابعة یقول:

«هُوَ أَنشَأَکُمْ مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَکُمْ فِیهَا»(5).

وفی الروایات الإسلامیّة نری التأکید علی علی هذه الحقیقة وهی أنّ أفراد البشر أحرار فی الاستفادة من الأرض والطبیعة وأنّ إحیاء وتملک هذه الأرض یعتبر حقّاً مسلّماً للجمیع:

«من أحیی أرضاً میتةً فهی له»(6).

ومن مجموعة هذه الآیات والروایات یتبیّن جیداً أصل الحریة فی التملک، والذی یعتبر فرعاً من الفروع الأخری من الحریة الاقتصادیّة.

*** الرابع من الفروع الاقتصادیّة، الحریة فی اختیار العمل، وهذا النوع من الحریة الاقتصادیّة یستفاد أیضاً من الروایات الإسلامیّة بکلّ وضوح، الروایات التی تؤکد علی التفاوت فی القدرات والقابلیات وتصرّح بأنّ الناس یتحرکون دوماً فی طریق الخیر والصلاح حتی فی مواقع الاختلاف فیما بینهم، إذن یجب علی المسؤولین فی النظام الاقتصادی أن لا یغفلوا عن اختلاف الأفراد فی قابلیاتهم وملکاتهم ویلتفتوا إلی وضع کلّ قابلیة علی عمل معین فی الأفراد فی محلّها المناسب:

«لا یزال الناس بخیر ما تفاوتوا فإذا استووا هلکوا»(7)

، وببیان آخر، أن ینتبهوا إلی هذه الحقیقة، وهی عدم فرض التساوی فی جهات مختلفة بین الأفراد، لأنّ کلّ شخص خلق لعمل معین، فإذا اعطی عمل لائق بشأنه ومنسجم مع قابلیته وشخصیته ولم یکن مفروضاً علی جوهره وروحه، فإنّه یستطیع إنجاز هذا العمل بیسر وسهولة:

«اعملوا فکلٌّ میسّر لِما خلق له»(8).

وعلی هذا الأساس نری أنّ الإمام أمیرالمؤمنین


1- سورة النساء، الآیة 29.
2- سورة الأعراف، الآیة 10.
3- سورة الملک، الآیة 15.
4- سورة طه، الآیة 52.
5- سورة هود، الآیة 61.
6- من لا یحضره الفقیه، ج 3، ص 240، ح 3877.
7- بحار الأنوار، ج 74، ص 385.
8- سفینة البحار، ص 732.

ص: 234

علی علیه السلام فی جواب عامله فیما یتصل بنهر یحتاج إلی تعمیق وإزالة الرواسب الطینیّة، قال:

«أمّا بعد فإنّ قوماً من أهل عملک اتَوْنی ... وسألونی الکتاب إلیک لتأخذهم وتجمعهم لحفره والإنفاق علیه ولست أری أن أجبر أحد علی عمل یکدحه فأدعهم إلیک ... فمن أحبّ أن یعمل فمُرْه بالعمل ...»(1)

، ومن اللافت أنّه هناک تفاوت بین أفراد البشر من حیث تحمل المشاق وعدمه قال:

«وإن النهر لمن عمله دون من کرهه».

وببیان آخر، إنّ الإمام علیه السلام یری أنّ الاختلاف التکوینی بین أفراد البشر یعتبر سبباً لقوام واستمراریة الحیاة ویقول:

«... إذ خالف بحکمته بین هممهم وإرادتهم وسائر حالاتهم وجعل ذلک قواماً لمعایش ...

أتقن تدبیره لمخالفته بین هممهم»(2).

والملفت للنظر أنّ مجلس الخبراء والفقهاء الذین شرّعوا القانون الأساسی للجمهوریة الإسلامیّة الإیرانیة أکدوا علی: «رعایة حریة اختیار العمل وعدم إجبار الأفراد بعمل معین ومنع الاستغلال فیما بین الناس ...»(3).

*** الخامس من فروع الحریة الاقتصادیّة: الحریة فی الاستهلاک المعقول من النعم والمواهب الإلهیّة فی عالم الطبیعة، وقد ورد هذا المعنی بعبارات مختلفة فی النصوص الدینیّة من قبیل:

«حَیْثُ شِئْتُمْ رَغَداً»

، وفی الآیة:

«وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْیَةَ فَکُلُوا مِنْهَا حَیْثُ شِئْتُمْ رَغَداً»(4)

لأنّ کلمة «رغداً» تعنی الوفرة والکثرة و «حیث شئتم» یعنی فی أیة مکان تریدون، وهذا یدلّ بوضوح علی نوع الرخصة والحریة والسعة فی عملیّة الاستهلاک مع الأخذ بنظر الاعتبار جملة «کلوا» وهی کنایة عن مطلق التصرف (وطبعاً علی أن لا یصل إلی حد الإسراف والتبذیر).

وکما ورد فی قصّة آدم وزوجته حواء علیهما السلام عندما سکنوا لأوّل مرة فی جنّة أو بستان من بساتین الدنیا(5) إذ تلقوا الخطاب الإلهی:

«وَکُلَا مِنْهَا رَغَداً حَیْثُ شِئْتُمَا»(6)

رغم أنّهما منعا من بعض الموارد علی أساس الاختبار:

«وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ»(7).

وإطلاق عبارات مثل:

«کُلُوا مِنْ رِّزْقِ رَبِّکُمْ»(8)

تدلّ أیضاً علی هذه الرخصة والسعة فی الاختیار، کما أنّ الخطاب الذی یتضمّن نوعاً من العتاب فی الآیة:

«قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِینَةَ اللَّهِ الَّتِی أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّیِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ»(9)

، وخطاب

«یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لَاتُحَرِّمُوا

طَیِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَکُمْ ...»(10)

یزیل بدوره بعض القیود غیر المعقولة فی عملیّة الاستهلاک.


1- مستدرک نهج البلاغة، ج 5، ص 359.
2- وسائل الشیعة، ج 19، کتاب الإجارة، باب 2، ص 103، ح 3.
3- المادة 4 من الأصل الثالثة والأربعین من دستور للجمهوریة الإسلامیّة الإیرانیّة.
4- سورة البقرة، الآیة 58.
5- وعلی هذا الأساس فإنّ المراد من« الجنّه» جنّة من جنان الدنیا، کما ورد فی الکافی و العلل و تفسیر القمی عن الإمام الصادق علیه السلام:« إنّها کانت من جنان الدنیا یطلع فیها الشمس والقمر»( انظر: الصافی، ج 1، ص 34).
6- سورة البقرة، الآیة 35.
7- سورة سبأ، الآیة 35.
8- سورة سبأ، الآیة 15.
9- سورة الأعراف، الآیة 32.
10- سورة المائدة، الآیة 87.

ص: 235

وطبعاً فإنّ الحریات المذکورة لا تتنافی أبداً مع الإشراف الدقیق والهادف للحکومة الإسلامیّة فی هذا المجال وفرض بعض القیود فی مجال هذه الحریات، القیود التی تمنع أن تکون الحریة فی النظام الاقتصادی الإسلامی مطلقة ومنفلتة کما یلاحظ فی الاقتصاد الرأسمالی، وبذلک یتمیز الاقتصاد الإسلامی عن غیره، کما أنّ أصل الحریة أیضاً یمیز الاقتصاد الإسلامی عن الاقتصاد الاشتراکی الذی لا یعترف بالحریة والاختیار للنشاطات والفعلیات الاقتصادیّة.

وببیان آخر، بالرغم من أنّ قاعدة السلطنة «

الناس مسلطون علی أموالهم

» تقرر أنّ النشطاء الاقتصادیین أحرار فی التصرف بأموالهم وثرواتهم بأی شکل کان واستثمارها بأی طریق یریدون، وعلی أساس

«کلّ شی ء مطلق حتی یرد فیه نهی»(1)

، التی تقتضی إباحة کلّ نوع من النشاط الاقتصادی ما لم یرد فیه نهی خاص، ولکن بما أنّ المؤمن، یعنی الناشط الاقتصادی فی البلد الإسلامی الذی یؤمن بالمبدأ والمعاد، یتحرک باتّجاه منافع الأعلی وسعادة أکمل وأدوم ویرید تحصیل المنفعة والسعادة فی الدنیا والآخرة، فمن الطبیعی أنّه سیواجه علی أساس العقل والوحی بعض القیود والتکالیف فی حرکته الاقتصادیّة، وهذه القیود والتکالیف تعیق ظهور الشرکات الإحتکاریّة بدافع من تحقیق الربح الأعلی وطلب المنفعة الذاتیّة فقط، بحیث تسلب الحریة الحقیقیّة والبنّاءة من أفراد الطبقات الأخری فی المجتمع وبالتالی تتبدل إلی آلیات ضغط علی حساب سائر الأقسام والفئات الاجتماعیّة، وفی النهایة تقع جمیع طبقات المجتمع فی جمیع المسائل الاجتماعیّة والسیاسیّة أسیرة بید رغبات هذه الفئة من المستثمرین والرأسمالیین ....

*** وهذه التکالیف بشکل موجز عبارة عن:

أ) اجتناب الفساد:

«کُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِی الْأَرْضِ مُفْسِدِینَ»(2)

، واجتناب الحرام والخبیث:

«یَا أَیُّهَا النَّاسُ کُلُوا مِمَّا فِی الْأَرْضِ حَلَالًا طَیِّباً»(3).

ب) اجتناب الربا وإن کان علی شکل قرض أو ضمن المعاملات الربویّة، والقرآن الکریم یصرّح بهذه الحقیقة:

«أَحَلَّ اللَّهُ الْبَیْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا»(4)

ویقول أمیرالمؤمنین علیه السلام فی خطابه للتجّار:

«یا معشر التجّار الفقه ثمّ المتجر، الفقه ثمّ المتجر، الفقه ثمّ المتجر، واللَّه للربا فی هذه الامّة أخفی من دبیب النمل علی الصفا، شربوا إیمانکم بالصدق»(5).

ج) اجتناب الإحتکار، بمعنی جمع الطعام وخزنه لغرض زیادة قیمته، وهذا هو السائد فی العالم الرأسمالی الیوم (6).

ونقرأ فی الروایة أنّ النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله قال


1- من لا یحضره الفقیه، ج 1، ص 317، ح 937.
2- سورة البقرة، الآیة 60.
3- سورة البقرة، الآیة 168.
4- طورة البقرة، الآیة 275.
5- الکافی، ج 5، ص 150.
6- انظر: مصباح الفقاهة، العلّامة الخوئی، ج 3، ص 813، کتاب البیع، الإمام الخمینی، ج 3، ص 601.

ص: 236

للشخص الذی احتکر الأغذیة ومنع بیعها للناس مدّة أربعین یوماً لتزداد قیمتها ثمّ یبیعها:

«أیّما رجل اشتری طعاماً فکبسه أربعین صباحاً یرید به غلاء المسلمین، ثم باعه فتصدّق بثمنه لم یکن کفارة لما صنع»»(1).

ویقول أمیرالمؤمنین علیه السلام فی کتابه لمالک الأشتر:

«فامنَعْ من الإحتکار فإنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله مَنَع منه ...

فمن قارف حُکْرةً بعد نهیک إیّاه فنکِّل به وعاقبه فی غیر إسراف»(2).

د) اجتناب الغش والخدیعة. ومن أوضح نماذج الغش خلط اللبن بالماء بحیث إنّ المشتری لا یلتفت إلی ذلک، فنقرأ فی الروایات الإسلامیّة أنّ الشخص الذی یغشّ الناس فی المعاملات والنشاطات الاقتصادیّة لیس بمسلم:

«لیس منّا من غشّ مسلماً»(3)

، وسیأتی فی البحوث اللاحقة من هذا الکتاب تفصیل الکلام فی «المکاسب المحرمة).

ه) اجتناب إکتناز المال، وسیأتی الکلام فی هذا الموضوع بالتفصیل فی هذا الکتاب.

و) اجتناب الأعمال والمکاسب المحرمة، والتی سیأتی الکلام فیها فی البحوث اللاحقة بعنوان «المکاسب المحرمة» ونقرأ فی قوله تحت عنوان «أکل المال بالباطل»:

«یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لَاتَأْکُلُوا أَمْوَالَکُمْ بَیْنَکُمْ بِالْبَاطِلِ ...»(4)

، من قبیل بیع وشراء آلات اللهو والقمار، إنتاج الخمور، إنتاج المخدرات وتوزیعها، أو بیع وشراء أسلحة الدمار الشامل فی عصرنا الحالی.

ز) اجتناب أی نشاط اقتصادی یؤدّی إلی الإضرار بالآخرین ویعرض مصالح المجتمع للخطر، وبدیهی أنّ مسؤولیّة تشخیص هذا الموضوع بعهدة الحکومة الإسلامیّة، وفی الحقیقة یعود هذا الموضوع إلی حکومة العدالة والفقاهة، فالحکومة الإسلامیّة علی أساس قاعدة «لاضرر ولا ضرار فی الإسلام»(5) مکلّفة بالإشراف علی جمیع النشاطات الاقتصادیّة ومراقبتها، کما ورد فی الروایة المعتبرة أنّ النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله تدخل فی مسألة سقی بساتین النخل فی المدینة وحکم بعدم جواز منع الآخرین من الاستفادة الماء الزائد عن الحاجة:

«إنّه قضی بین أهل المدینة فی مشارب النخل: أنّه لا یمنع فضل ماء لیمنع فضل کلاء وقال: لا ضرر ولا ضرار»(6)

، ومع الالتفات إلی أنّ فقهاء الإسلام لا یرون أنّ مثل هذا المنع له حرمة ذاتیة وأولیة، یتبیّن أنّ تدخل الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله یعود إلی مسألة ضرورة إشراف الحکومة فی النشاطات الاقتصادیّة.

إنّ نشاط الشرکات الهرمیة والفارکس (7) وأمثال ذلک مشمول لهذا القانون الإسلامی، وکذلک العمل علی إنشاء السوق السوداء الذی نراه سائداً فی


1- وسائل الشیعة، ج 17، باب 27 من أبواب آداب التجاره، ح 6.
2- نهج البلاغة، الکتاب 53.
3- من لا یحضره الفقیه، ج 3، ح 3986.
4- سورة النساء، الآیة 29.
5- وسائل الشیع ة، ج 17، ح 32241.
6- الکافی، ج 5، ص 293. ووردت هذه الروایة فی مصادر أهل السنّة بتعبیر آخر« إنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله قضی فی مشارب النخل بالسیل الأعلی علی الأسفل حتی یشرب الأعلی»( انظر: کنز العمال، ج 3، ص 919).
7- سیأتی تعریف الشرکات الهرمیة والفارکس فی بحث المکاسب المحرمة.

ص: 237

الاقتصاد الرأسمالی، فإنّه مشمول لهذا الأصل أیضاً.

ح) اجتناب احتکار منابع الإنتاج، وتبیّن من بعض الأحکام والآداب فی النظام الاقتصاد الإسلامی أنّه لا ینبغی تنظیم الظروف الاقتصادیّة بحیث إنّ الناشطین فی مجال الاقتصاد یملکون الحریة إلی درجة أنّهم یحتکرون مصادر الإنتاج وعرض البضاعة والخدمات فی السوق بمعنی حصر الإنتاج أو بیع البضاعة أو الخدمة فی دائرة مرکز أو فرد واحد، فاللازم أن یکون الإنتاج أو عرض البضاعة والخدمة فی السوق یخضع للمنافسة السلیمة فی کلا الحقلین:

الإنتاج والعرض فی السوق.

وما تقدّم سابقاً من مقولة «حرمة الاختیار» وکذلک حرمة «التلقی الرکبان» و «بیع الحاضر للبادی» فهو فی الحقیقة یتعلق بالتجار والکسبة الذین یردون احتکار السوق لمنفعتهم، وکما ورد فی روایة فی کتاب «دعائم الإسلام»، فیما یتصل بالاحتکار فإنّ جمیع المنتوجات أو المحصولات الغذائیّة یقوم بعض الأشخاص بشرائها کلّها دفعة واحدة لحصر بیعها وعرضها فی السوق لهم ویملکوا امتیاز البیع بالنسبة لهذه المنتوجات:

«... وإنّما النهی من رسول اللَّه صلی الله علیه و آله عن الحُکرة أنّ رجلًا من قریش یقال له حکیم بن مزاحم کان إذا دخل المدینة طعام، اشتراه کلّه فمرّ علیه النّبی صلی الله علیه و آله فقال له: یا حکیم إیّاک وأن تحتکر»(1).

ولا شک أنّه لو کان الإحتکار وحصر بیع البضاعة ممنوعاً ومذموماً، فبإلغاء هذه الخصوصیّة العرفیة یمکن القول إنّ هذا الحکم یسری إلی مجال الخدمات أیضاً.

وأمّا فی مجال الإنتاج وبتعبیر أدق، التوزیع قبل الإنتاج الذی یعود إلی توزیع الثروات والمنابع الطبیعیّة، فنجد أنّ فقیهاً کصاحب الجواهر ینقل عن بعض المصادر الفقهیة للإمامیّة مثل کتاب الغنیة، والخلاف والتذکرة بأنّ فقهاء الإمامیّة متفقون علی أنّ الأراضی العامرة التی وقعت بید المسلمین فی فتوحات الإسلامیّة هی ملک عام للمسلمین سواء الأشخاص الذین کانوا موجودین حین الفتح أو الأشخاص الذین سیأتون بعدهم علی إمتداد التاریخ، ولا أحد من المسلمین یملک امتیازاً علی المسلمین الآخرین، وبالتالی فلا یجوز لأی شخص منهم أن یملک رقبة هذه الأراضی ملکاً شخصیاً(2).

ومن فقهاء أهل السنّة کالماوردی عن مالک، «إمام المالکیّة» یری بأنّ الأراضی المفتوحة حین الفتح وقف علی جمیع المسلمین بدون حاجة لإجراء صیغة الوقف من قِبل الحاکم الإسلامی فلا یجوز تقسیم هذه الأراضی بین المجاهدین فی الجیش الإسلامی (3).

وفی روایات أهل البیت علیهم السلام ما یدلّ بوضوح علی


1- مستدرک الوسائل، ج 13، ص 277، باب 22 من أبواب آداب التجارة، وانظر: الکافی، ج 5، ص 165.
2- انظر: جواهرالکلام، ج 21، ص 157. ما ورد أعلاه یتعلق بزمان تکون فیها هذه الأراضی مواتاً، أمّا عندما یتمّ احیاؤها بزراعتها أو بناء دار فیها فإنّ جماعة ذهبوا إلی جواز ملکیتها تبعاً لآثار الاحیاء فإذا زالت الآثار رجعت إلی الملکیّة العامّة.( انظر: انوارالفقاهة، کتاب التجارة، ص 643 فصاعداً).
3- انظر: الأحکام السلطانیة، ج 2، ص 137.

ص: 238

هذا الأمر أیضاً(1)، کما ورد فی مصادر أهل السنّة أیضاً روایات ناظرة إلی هذه الحقیقة(2).

ونقرأ فی الآیة 6 و 7 من سورة «الحشر» أنّ القرآن الکریم یصرح أنّ الأراضی التی إمتلاکها المسلمون بدون قتال یعنی» الفی ء» حالها حال سائر مصادیق الأنفال فی کونها تحت اختیار الحکومة الإسلامیّة، کما أنّ تدلّ بصراحة علی أنّ الحکمة من هذا الحکم وهی أنّ المنابع الطبیعیّة للانتاج لا یمکن حصرها بید الأغنیاء والثریاء:

«کَیْ لَایَکُونَ دُولَةً بَیْنَ الْأَغْنِیَاءِ مِنْکُمْ»(3)

، لأنّ الحکومة الإسلامیّة ینبغی أن تراعی العدالة فی تقسیم الأنفال بین المسلمین، ولا تسمح لفئة معینة أن تتملک قسماً مهماً من الأنفال وتعمل علی إحیاء تلک الأراضی بعد تملکها، وبالنسبة لمسألة حیازة المباحات أیضاً فالأمر کما تقدّم، یعنی أنّ الحکومة الإسلامیّة تتولی الإشراف علی الاستفادة منها من قِبل المسلمین لئلا تقع بید فئة خاصة ینتفعون منها أکثر من الحدّ المباح ویتسبب فی الإضرار بالآخرین، وبالنسبة للصناعات التی تشکل قسماً مهماً من النشاطات الاقتصادیّة ومصادر الإنتاج، فبما أنّ امتیاز تشکیل الشرکات والمؤسسات الصناعیّة یقع بید الحکومة، فإنّ أصل «لا ضرر» یستدعی أن لا تقع هذه المنابع بید فئة معینة وبالتالی حصر الاستفادة منها بیدهم.

ط) اجتناب استغلال العمّال والکادحین، ونری فی النظام الاقتصاد الإسلامی أحکاماً تدلّ علی أنّ الإسلام یرفض عملیّة استغلال الآخرین، علی سبیل المثال فی باب الزراعة لا یقبل الإسلام بمجرّد استئجار العامل ودفع الأجرة إلیه، بل یقرر أنّ المزارعة بعنوان شرکة بین طریفین: العمل من طرف المزارع والعامل، والأرض والبذور من ناحیة صاحب المزرعة، فالمزارع أو الفلاح مشارک فی المحصول مع ربّ العامل، بل إنّ المرحوم الشیخ الطوسی لا یری جواز غیر هذه الصورة من المسألة ویصرّح بأنّ عدم دفع البذور من قِبل صاحب المزرعة للفلاح والذی ورد فی الروایة النبویّة(4) التعبیر عنه ب «المخابرة»(5) لا یجوز ویؤدّی إلی بطلان المزارعة(6)، والعلّامة الحلی بدوره یصرّح بأنّ مسؤولیّة صاحب المزرعة فی عقد المزارعة لا یقتصر علی تفویض الأرض للفلاح وإعطائه البذور بل فی صورة اللزوم یجب علیه أن یتکفل الأسمدة أیضاً(7).


1- انظر: الاستبصار، ج 3، ص 109، ح( 1- 4)؛ وسائل الشیعة، ج 12، ص 274، ح 22767 و ج 11، ح 20199 و 20206؛ فروع الکافی، ج 5، ص 44، ح 4- 2.
2- انظر: صحیح البخاری، ج 16، ص 115، ح 3963 و الأموال لأبی عبید، ص 64 و 65 ح 150 و 151 و 152 و ص 62، ح 146 و 84، ح 196 و ص 87، ح 206.
3- سورة الحشر، الآیة 7.
4- مسند أحمد، ج 3، ص 389.
5- « مخابرة» یا« خِبْر» من مادة خُبْر و خُبْره(/ الامتحان والاختبار)، وبهذه المعنی یضع صاحب المزرعة الأرض تحت اختیار الزارع فی مقابل قسم من المحصول مثل الثلث أو الربع،( انظر: المعجم الوسیط مادة خبر) وکأنّه بهذه الوسیلة یمتحن مهارة الزارع فی الزراعة. وطیعاً ورد قید فی الروایة وهو أنّ البذور بعهدة الزارع مع أنّ البذور فی عقد المزارعة بعهدة صاحب الأرض.
6- انظر: المبسوط، ج 3، ص 253.
7- انظر: قواعد الأحکام، ج 2، ص 313؛ تحریر الأحکام، ج 3، ص 137- 145؛ جامع المقاصد، ج 7، ص 331.

ص: 239

ومن بین فقهاء أهل السنّة نری أیضاً أنّ ابن قدامة فی المغنی یصرّح بأنّ الفقیه المعروف أحمد بن حنبل وطبقاً؛ لنقل جماعة عنه، وهذا الرأی هو مختار عامة أصحابه وکذلک مذهب ابن سیرین والشافعی وإسحاق بأنّ عقد المزارعة إنّما یقع صحیحاً فیما إذا کانت الأرض والبذور من طرف صاحب الأرض والعمل من ناحیة الفلاح (1).

وهکذا فی مسألة عقد المساقاة أیضاً، یعنی یجب أن یکون العامل شریکاً لصاحب العمل فی الثمار(2).

وفی المضاربة أیضاً نری فضلًا عن أنّ العامل لا یعدّ عاملًا عادیاً فی هذه المعاملة بل شریکاً فی الربح الحاصل منها، وفیما إذا خسرت التجارة بدون التعدی وتفریط العامل، فالذی یتحمل هذا الضرر هو صاحب مال التجارة فقط، ولا یتحمل العامل قسطاً من هذا الضرر، بل یخسر عمله فلا یحصل علی شی ء من الاجرة فی هذه المعاملة، وأساساً لا یجوز لصاحب مال التجارة أن یشرک العامل فی هذه الخسارة، وفیما لو ألقی صاحب مال التجارة الخسارة علی عهدة العامل فإنّ عقد المضاربة سیتبدل إلی قرض، وبالتالی فإنّ جمیع الربح الحاصل من هذه التجارة یتعلق بالعامل ولیس لصاحب مال التجارة حقّ فیه (3)، کما ورد فی حدیث عن أمیرالمؤمنین:

«من ضمن تاجراً فلیس له إلّارأس ماله»(4)

، وأیضاً ورد فی حدیث شریف عن هذا الإمام علیه السلام:

«من ضمن مضاربة فلیس له إلّارأس المال ولیس له من الربح شی ء»(5).

وطبیعی أنّ هذه العقود الثلاثة: المزارعة، المساقاة، المضاربة، إنّما تکون شاهداً للمدعی (مخالفة الإسلام لاستغلال البشر) فیما إذا کان دفع الاجرة للعاملین والمنتجین الکادحین من خلال عقد الإجارة مرجوحاً ومکروهاً، ومن حسن الصدف أنّ القضیة تنحو هذا المنحی فی النصوص الدینیّة، یعنی أننا نری فی المصادر الروائیة والفقهیة باباً(6) یقرر بصراحة کراهة الأجیر لمثل هذه العقود، وهذا یحکی عن أنّ الإنسان فی المجالات الاقتصادیّة لا ینبغی أن یعمل بشکل ینتفع من عمله وتعبه الآخرون:

یقول الإمام الصادق علیه السلام فی ذم أخذ الاجرة علی العمل فی مثل هذه النشاطات الاقتصادیّة:

«من آجر نفسه فقد حظر علیها الرزق»

، ثمّ یقرر الإمام علیه السلام فی تبریر هذا المنع ویقول:

«وکیف لا یحظر علیها الرزق وما أصابه فهو لربّ آجره»(7).

واللافت أنّ صحیحة عمار الساباطی تؤکد علی أنّه فی صورة مساوة الأجر مع الربح من طریق التجارة فإنّ الإمام الصادق علیه السلام یرجح التجارة علی


1- انظر: المغنی، لابن قدامة، ج 5، ص 589.
2- انظر: المبسوط، ج 3، ص 207؛ شرح اللمعة، ج 4، ص 309.
3- انظر: المبسوط، ج 3، ص 167.
4- وسائل الشیعة، ج 19، ص 22.
5- المصدر السابق.
6- « باب کراهة إجارة الإنسان نفسه»، انظر: وسائل الشیعة، ج 17، ص 238.
7- وسائل الشیعة، کتاب التجارة، باب 66، ص 238، ح 4، ج 17.

ص: 240

الاجرة ویری أنّ التعامل بالاجرة یتسبب فی منع الرزق:

«قلت لأبی عبداللَّه علیه السلام: الرجل یتجّر فإن هو آجر نفسه أعطی ما یصیب فی تجارته فقال: لا یؤاجر نفسه ولکن یسترزق اللَّه جلّ وعزّ ویتّجر فإنّه إذا آجر نفسه فقد حظر علی نفسه الرزق»(1).

وجدیر بالذکر أنّ ما تقدّم بیانه فی مورد الاجرة واکتساب الربح من خلال کلا الطریقین (طریقة الشراکة فی المحصول وطریقة الاجرة) متوفرة ومفتوحة أمام العامل، ولکن إذا لم یکن له طریق سوی الاجرة فلا شک فی رجحانها (بل وجوبها فی صورة الحاجة)، وعلی هذا الأساس فإنّ عقد الإجارة بأن یؤجر الإنسان نفسه لغیره فی عمل معین یعدّ عملًا محترماً فی الروایات الإسلامیّة، وهکذا فیما إذا ترتبت علی هذا العمل مصلحة أهم مثل التربیة والتکامل النفسانی لدی المستأجر(2)، وربّما تکون هذه الغایة من هذا القبیل، کما ورد فی القرآن الکریم کما ورد فی سورة «القصص» فی قصّة موسی وشعیب علیهما السلام:

«... أَنْ تَأْجُرَنِی ثَمَانِیَ حِجَجٍ فَإنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِکَ»(3)

، ویقول المرحوم محمّد تقی المجلسی فی شرح من لا یحضره الفقیه «والظاهر أن إجارة موسی علیه السلام کان لأن یکون فی خدمة شعیب علیه السلام ویضل بخدمته إلی أقصی مراتب الکمال»(4).

أمّا الأحکام الاقتصادیّة الأخری (اجتناب رکود منابع الإنتاج والاستهلاک غیر العقلانی وغیر السلیم التی نراها فی ثنایا الشریعة الإسلامیّة فإنّها تشیر إلی أنّ هذه القیود المذکورة تعود إلی القیود فی مجال الإنتاج والتجارة والقیود فی مجال المالکیّة وحقّ التصرف الناشئة إمّا من عدم القدرة علی حفظ الأموال وصرفها أو تجمید منابع الإنتاج، أو ما یتسبب فی وجود خلل علی مستوی العمل أو العقیدة، علی سبیل المثال:

أ) یقرر الإسلام الحجر علی الشخص فی التصرف بأمواله بسبب السفه وعدم الرشد العقلانی بحیث لا یستطیع أن یتصرف فی أمواله تصرفاً صحیحاً.

یقول القرآن الکریم:

«وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَکُمُ الَّتِی جَعَلَ اللَّهُ لَکُمْ قِیَاماً ...»(5).

وفی ذیل الآیة الشریفة وردت روایات عن أهل البیت علیهم السلام فی تطبیق السفیه علی شارب الخمر،

«عن الصادق علیه السلام: کلّ من یشرب الخمر فهو سفیه»(6)

وکذلک الروایات الواردة من طرق الفریقین التی تقرر أنّ مصادیق السفیه هم الأطفال والنساء ممن لا یتحرکون فی سلوکیاتهم من موقع العقلانیة:

«عن الباقر علیه السلام:

فالسفهاء النساء والولد إذا علم الرجل أنّ امرأته سفیهة مفسدة وولده سفیه مفسد، لم ینبغ له أن یسلط واحداً منهما علی ماله الذی جعل اللَّه له قیاماً»(7).

یقول العلّامة الحلّی فی تذکرة الفقهاء: «وإنّ الفاسق إن کان ینفق ماله فی المعاصی کشراء الخمور


1- المصدر السابق، ح 3.
2- انظر: المصدر السابق، ح 2.
3- سورة القصص، الآیة 27.
4- شرح من لا یحضره الفقیه.
5- سورة النساء، الآیة 5.
6- مستدرک الوسائل، ج 14، ص 17.
7- المصدر السابق، ج 13، ص 241؛ وانظر: در المنثور، ج 2، ص 120.

ص: 241

وآلات القمار أو یتواصل به الفساد فهو غیر رشید ولا تدفع إلیه أمواله إجماعاً لتبذیره لماله وتضییعه إیّاه فی غیر فائدة»(1). ویقول الدکتو وهبة الزحیلی أیضاً نقلًا عن المذاهب الأربعة لأهل السنّة: والسفیه: هو من یبذر ماله ویصرفه فی موارد غیر صحیحة بما لا یتفق مع الحکمة والشرع (2).

ب) الشخص الذی یملک أدوات الإنتاج فی مجال من المجالات الاقتصادیّة إذا ترکها معطلة فی حین أنّ منتوجات هذه الآلات والأدوات تعد من الحاجات الضروریة فی المجتمع والعمل فی هذه المهنة من الواجبات الکفائیة، فإنّ الحکومة الإسلامیّة ولغرض حفظ النظام الاقتصادی فی المجتمع ملزمة بأخذ اجرة المثل من هذا الشخص وتدفع هذه الأدوات إلی شخص آخر لیقوم بإنتاج هذه المصنوعات والمنتجات.

ج) الشخص الذی یقوم بتحجیر أرض موات ثمّ یترکها بدون مبرر، فیقول غالبیة الفقهاء بأنّ هذه الأرض تخرج عن تصرفه واختیاره وأنّ الحاکم الإسلامی یستطیع أن یدفعها إلی شخص آخر لیستثمرها(3).

د) المرتدّ الفطری، أی الشخص الذی یکون أحد والدیه مسلماً وقد أظهر الإسلام بعد بلوغه ثمّ إرتد عن الإسلام فإنّه یفقد مالکیته بالنسبة لأمواله، ویتمّ تقسیم أمواله بین ورثته المسلمین فیما لو کان رجلًا بعد أداء دیونه (4).

2. أصل المنافسة السلیمة

إنّ النظام الاقتصادی فی الإسلام، إلی جانب نهیه عن عملیّة حصر البضاعة والبیع بید فئة معینة فی السوق، والذی تقدّم الکلام فیه فی الفصل السابق، فإنّه یوصی المسلمین بالمنافسة السلیمة فی المعاملات الاقتصادیّة فی السوق، لأنّه عندما یتمّ منع مسألة الاختصاص، وعلی حدّ تعبیر الإمام أمیرالمؤمنین علی علیه السلام «الاستئثار» (/ اختصاص الإمکانات الاقتصادیّة وطلب التفوق فیما یعتبر حقاً متساویاً لجمیع أفراد المجتمع)، فإنّ لازمه (5) تقسیم الإمکانات والموارد بین جمیع النشطاء الاقتصادیین وتزریق روحیة الأمل فی جمیع المشارکین فی مجال التنمیة والرشد الاقتصادی.

وعندما یؤدّی «الإستئثار» إلی حالات الحسد والتمییز کما یقول الإمام علیه السلام وبالتالی یتسبب فی الذلة والمهانة وزوال النعمة والدولة(6)، فمن الطبیعی أن یتسبب تقسیم المنابع والإمکانات الاقتصادیّة بین


1- تذکرة الفقهاء، ج 2، ص 75 فی أحکام السفیه.
2- موسوعة الفقه الإسلامی، ج 6، ص 4490- 4497.
3- انظر: تحریر الوسیلة، ج 2، ص 206، المسألة 24.
4- قواعد الأحکام، ج 2، کتاب الحدود فی حد المرتد، ص( 80- 574)؛ مسالک الأفهام، ج 15، ص 23.
5- « إیّاک والاستئثار بما الناس فیه اسوة»( الکتاب 53، لأمیرالمؤمنین إلی مالک الأشتر).
6- الاستئثار یوجب الحسد والحسد یوجب البغضة والبغضةتوجب الاختلاف والاختلاف یوجب الفرقة والفرقة توجب الضعف والضعف یوجب الذلّ والذلّ یوجب زوال الدولة وذهاب النعمة( شرح ابن أبی الحدید، ج 20، ص 345، دار إحیاء الکتب العربیة، ص 345).

ص: 242

جمیع النشطاء الاقتصادیین وإیجاد منافسة سلیمة فیما بینهم، فی زیادة قدرة وقوّة هذا المجتمع ووفرة النعم وکثرتها ویؤدّی إلی مزید من التکاتف الاجتماعی فی ظلّ هذه المنافسة، وتقوم عملیّة التسعیر علی أساس العدل والانصاف.

وکان الإمام أمیرالمؤمنین علیه السلام فی زمان حکومته، ومن أجل إیجاد مثل هذه المنافسة السلیمة ومنع حالات التفوّق والاستئثار، یوفّر لکلّ أصحاب مهنة معینة سوقاً خاصاً بهم، فهناک سوق للقصابین وسوق لباعة التمور وکذلک سوقاً لباعة السمک، البزازین، الصرافین، الخیاطین، باعة السمن والزیوت والخبازین و ...(1).

وما ورد فی الفصل السابق فیما یتصل بالنهی عن «تلقی الرکبان» من شأنه أیضاً أن یکون دلیلًا علی اهتمام الإسلام بمسألة التنافس السلیم فی الأمر الاقتصاد.

وطبعاً فإنّ تحقق مثل هذا السوق لابدّ له من شروط وقد أشرنا إلی بعضها فی فصل «المنابع الاقتصادیّة»، ومنها:

أ) أن یکون عدد المشترین والباعة إلی حدّ لا یکون لأی واحد منهم التأثیر فی قیمة السوق بمفرده.

ب) أن تکون البضاعة المنتجة عامة.

ج) أن لا یوجد مانع للورود والخروج من السوق.

د) أن یملک الباعة والمشترون معلومات کافیة وشفافة.

ه) أن تکون حرکة المشترین فی السوق حرة(2).

وجدیر بالذکر أنّ إیجاد منافسة سلیمة لا یعنی نفی کلّ أشکال الاستئثار، لأنّ بعض موارد الاستئثار طبیعیة ولا تنشأ من حالة إستئثار النشطاء الاقتصادیین، کأن یخترع شخص جهازاً وأداة ویکون له حقّ الامتیاز بهذا الاختراع، وطبعاً فإنّ منتوجات هذا الاختراع ستکون ملکاً له (وهذا أیضاً یقع فی ظلّ ضوابط معینة).

وکذلک اختصاص بعض البضاعة والخدمات بید الدولة لا من أجل زیادة قیمتها أو زیادة النفع المادی من عوائدها بل فقط من أجل زیادة الرفاه العام، نظیر اختصاص الدولة بخدمات الطیران أو بصناعة النفط وبعض الصنائع الأخری من الصناعات الأساسیة التی تستأثر بها الدولة فی بعض البلدان لتقدیم خدمات أفضل للناس وتکون المنتجات النفطیة أو غیر النفطیة أرخص سعراً.

وقد ذکر بعض علماء الاقتصاد شروطاً أخری أیضاً، وبعض هذه الشروط متداخلة مع الشروط المذکورة آنفاً، ومن جملة هذه الشروط، شرط الحریة فی إیقاع العقود والمعاملات، وهذا هو ما تقدّم ذکره بعنوان فرع من فروع أصل الحریة الاقتصادیّة.

الشرط الآخر الوفاء بالشروط ضمن العقد من باب

«المؤمنون عند شروطهم»

، لأن العمل فی مفاد هذه العقود والالتزامات الضمنیة لها یتسبب خلق جو


1- انظر: معارف الإمام علی( دانشنامه امام علی) علیه السلام بالفارسیّة، ج 7، مقالة السوق.
2- انظر: تاریخ العقائد الاقتصادیّة( تاریخ عقاید اقتصادی) بالفارسیّة، فریدون تفضلی، ص 84 و 85.

ص: 243

الاعتماد والاطمئنان بین المتعاملین، وبالتالی یوفر الأرضیّة اللازمة للمنافسة السلیمة.

الشرط الثالث، الصدق فی المعاملات والعقود واجتناب الکذب والغش والتدلیس.

الشرط الرابع، اجتناب الإضرار والمعاملات التی تتسبب فی الإضرار بالآخرین

العمل بهذه الشروط یعیق ظهور استئثارات کبیرة وتمرکز الثروة بید فئة محدودة ویزید الباعث علی السعی وبذل الجهد والإبداع والحیویة فی المستویات الدانیة والطبقة الضعیفة فی المجتمع (1).

3. أصل الثقة المتبادلة بین الحکومة الإسلامیّة والنشطاء الاقتصادیین

ومن جملة الأصول التی تؤدّی إلی رشد وتنمیة العملیات الاقتصادیّة، وتعتبر من جملة الآداب والأحکام الاقتصادیّة فی الإسلام، اعتماد المسؤولین بالنظام الاقتصادی الإسلامی علی الناس والنشطاء الاقتصادیین وحمایتهم لهم فی مجال نشاطاتهم الاقتصادیّة وأداء التکالیف المالیّة، وقد ورد فی حدیث معتبر عن غیاث بن إبراهیم عن الإمام الباقر علیه السلام: کان علی علیه السلام صلوات اللَّه علیه إذا بعث مصدّقه قال له:

«إذا أتیت علی ربّ المال فقل: تصدّق رحمک اللَّه ممّا أعطاک اللَّه

؛ ثمّ قال:

فان ولّی عنک فلا تراجعه»(2).

ونقرأ فی کتاب له فی نهج البلاغة (الکتاب 25) أنّ الإمام علیه السلام فی خطابه للعاملین علی الزکوات ما یدلّ بوضوح مدی إهتمام الإسلام فی نظامه الاقتصادی علی حفظ کرامة الأشخاص وحریتهم واختیارهم:

«انْطَلِقْ عَلَی تَقْوَی اللَّهِ وَحْدَهُ لَاشَرِیکَ لَهُ، وَلَا تُرَوِّعَنَّ مُسْلِماً وَلَا تَجْتَازَنَّ عَلَیْهِ کَارِهاً، وَلَا تَأْخُذَنَّ مِنْهُ أَکْثَرَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِی مَالِهِ، فَإِذَا قَدِمْتَ عَلَی الْحَیِّ فَانْزِلْ بِمَائِهِمْ مِنْ غَیْرِ أَنْ تُخَالِطَ أَبْیَاتَهُمْ، ثُمَّ امْضِ إِلَیْهِمْ بِالسَّکِینَةِ وَالْوَقَارِ؛ حَتَّی تَقُومَ بَیْنَهُمْ فَتُسَلِّمَ عَلَیْهِمْ، وَلَا تُخْدِجْ بِالتَّحِیَّةِ لَهُمْ، ثُمَّ تَقُولَ: عِبَادَ اللَّهِ، أَرْسَلَنِی إِلَیْکُمْ وَلِیُّ اللَّهِ وَخَلِیفَتُهُ، لآِخُذَ مِنْکُمْ حَقَّ اللَّهِ فِی أَمْوَالِکُمْ، فَهَلْ للَّهِ فِی أَمْوَالِکُمْ مِنْ حَقٍّ فَتُؤَدُّوهُ إِلَی وَلِیِّهِ؟ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَا، فَلَا تُرَاجِعْهُ، وَإِنْ أَنْعَمَ لَکَ مُنْعِمٌ فَانْطَلِقْ مَعَهُ مِنْ غَیْرِ أَنْ تُخِیفَهُ أَوْ تُوعِدَهُ أَوْ تَعْسِفَهُ أَوْ تُرْهِقَهُ فَخُذْ مَا أَعْطَاکَ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَخُذْ مَا أَعْطَاکَ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، فَإِنْ کَانَ لَهُ مَاشِیَةٌ أَوْ إِبِلٌ فَلَا تَدْخُلْهَا إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَإِنَّ أَکْثَرَهَا لَهُ، فَإِذَا أَتَیْتَهَا فَلَا تَدْخُلْ عَلَیْهَا دُخُولَ مُتَسَلِّطٍ عَلَیْهِ وَلَا عَنِیفٍ بِهِ. وَلَا تُنَفِّرَنَّ بَهِیمَةً وَلَا تُفْزِعَنَّهَا، وَلَا تَسُوأَنَّ صَاحِبَهَا فِیهَا، وَاصْدَعِ الْمَالَ صَدْعَیْنِ ثُمَّ خَیِّرْهُ، فَإِذَا اخْتَارَ فَلَا تَعْرِضَنَّ لِمَا اخْتَارَهُ. ثُمَّ اصْدَعِ الْبَاقِیَ صَدْعَیْنِ، ثُمَّ خَیِّرْهُ، فَإِذَا اخْتَارَ فَلَا تَعْرِضَنَّ لِمَا اخْتَارَهُ.

فَلَا تَزَالُ کَذَلِکَ حَتَّی یَبْقَی مَا فِیهِ وَفَاءٌ لِحَقِّ اللَّهِ فِی مَالِهِ؛ فَاقْبِضْ حَقَّ اللَّهِ مِنْهُ. فَإِنِ اسْتَقَالَکَ فَأَقِلْهُ، ثُمَّ اخْلِطْهُمَا ثُمَّ اصْنَعْ مِثْلَ الَّذِی صَنَعْتَ أَوَّلًا حَتَّی تَأْخُذَ


1- انظر: نظام الاقتصاد الإسلامی، المبانی المذهبیة( نظام اقتصادی اسلام، مبانی مکتبی) بالفارسیّة، السید حسین میرمعزّی، ص 168- 173.
2- وسائل الشیعة، باب 14 من أبواب زکاة الأنعام، ح 5، ج 9، ص 132.

ص: 244

حَقَّ اللَّهِ فِی مَالِهِ».

وهذا الکلام من للإمام أمیرالمؤمنین علیه السلام، المقترن بغایة المحبّة والثقة والاعتماد علی جمهور الناس الذین یجب علیهم دفع الضرائب الإسلامیّة (الزکاة) ویشیر إلی أنّ الحکومة الإسلامیّة یجب أن توثق إرتباطها مع الناس وتقوی جسور الاعتماد المتقابل، وهذا بدوره یتسبب فی زیادة اعتماد الناس وثقتهم بالحکومة من جانب آخر، وهذه الثقة المتبادلة تعتبر مفتاح الحل للکثیر من المشکلات الاقتصادیّة فی فضاء المجتمع الدینی.

4. الملکیّة المختلطة

إنّ تحقق الأهداف الاقتصادیّة من قبیل التوازن الاجتماعی، الرفاه العام، العدالة الاقتصادیّة و ... یکمن فی منع تمرکز الثروة واجتناب تراکمها بید الأغنیاء، ولا شک أنّ من جملة عوامل تحقق هذا الهدف، تشریع نوع من الملکیّة، الذی یدعی بالملکیّة المختلطة أو الملکیّة ذات الأشکال المتعددة(1)، فالنظام الاقتصادی فی الإسلام، ولغرض تحقیق هذه الأهداف المذکورة، فی ذات الوقت الذی یقرر أصالة الملکیّة الشخصیّة وخلافاً للنظام الاشتراکی، فإنّه یؤکد علی الدوافع الشخصیّة والمیول الفردیة بوصفها حقاً طبیعیاً وفطریاً لأفراد المجتمع، فإنّه یقرر وجود نوعین آخرین من الملکیّة: الملکیّة العامّة، وملکیّة الإمام (الحکومة الإسلامیّة) أیضاً، وخلافاً للنظام الرأسمالی فإنّه یقرر أنّ ملکیّة بعض المنابع الطبیعیّة عامّة، وبعض أقسام الإنتاج بید الحکومة.

توضیح ذلک: إنّ الإسلام یقرر من جهة حقّ الملکیّة الخاصّة، التی یمکن تقسیمها إلی نوعین:

الملکیّة الأولیّة أو الابتدائیة، والملکیّة الثانویة أو الانتقالیة، وأسباب الملکیّة الابتدائیة فی الإسلام عبارة عن حیازة المباحات المنقولة:

«من سبق إلی ما لم یسبقه إلیه مسلم فهو أحقّ به»(2)

، والعمل المفید والمشروع من قبیل إحیاء الأراضی:

«من أحیی أرضاً مواتاً فهی له»(3)

واستخراج المعادن الظاهرة؛ مثل:

الیاقوت، النفط والفیروزة بمقدار الحاجة(4) واستخراج المعادن الباطنیة؛ من قبیل: الحدید، الذهب والفضة وأنواع الفلزات (5)، والأسباب الإرادیّة للملکیّة الانتقالیّة هی العقود والإیقاعات والسبب القهری له


1- ومع هذا البیان فإنّ طرح هذا الأصل فی فصل: الأصول التطبیقیّة لا یخلو من حکمة، لأنّه یحقق بعض الأهداف التی سبق ذکرها فی فصل الأصول التطبیقیّة، وطبعاً لا یمکن إنکار أنّ هذا الأصل مع بعض الملاحظات والحیثیات قابل للطرح فی فصل مبانی الإقتصاد الإسلامی أیضاً،
2- مستدرک الوسائل، ج 3، ص 149 باب 1 من أبواب إحیاء الموات، ح 4.
3- وسائل الشیعة، ج 25 باب 1، من أبواب إحیاء الموات، ح 5، ص 412. ومقر؟ فی ورایة أخری عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال:« من غرس شجراً أو حفر وادیاً بدیّاً لم یسبقه الیه أحد أو أحیی أرضاً میتة فهی له قضاء من اللَّه ورسوله».( وسائل الشیعة، ج 25، ح 1، باب 2 من أبواب إحیاء الموات، ص 413).
4- انظر: تذکرة الفقهاء، ج 2، ص 403 کتاب إحیاء الموات.
5- أجمع فقهاء الشیعة علی أنّ المعادن الباطنیّة، سواء کان الإمام أو من المباحات الأولیة، إذا أحیاها شخص فهو له مالک( انظر: المبسوط، ج 3، ص 277 کتاب إحیاء الموات و جواهرالکلام، ج 38، ص 110 کتاب إحیاء الموات).

ص: 245

الإرث، ومن جهة أخری یقرر الإسلام حقّ ملکیّة الإمام، یعنی الحکومة الإسلامیّة، والتی تشمل ملکیّة الإمام بالنسبة للأنفال، الخمس، والجزیة، الخراج، الضرائب الحکومیة.

ومن جهة ثالثة فإنّ الإسلام یقرر الملکیّة العامّة، التی تشمل ملکیّة عامة المسلمین بالنسبة للأراضی المفتوحة عنوة وکذلک القسم الأعظم من الزکاة، رغم أنّ مسؤولیّة جمع الزکاة وحفظها ومصرفها بعهدة الإمام (الحکومة الإسلامیّة)(1)، کما أنّ بعض الثروات الأخری کالطیور والحیوانات الوحشیة والبحریة والتی تعتبر من جملة المباحات «الأولیّة» تقع أیضاً تحت إشراف وولایة الحکومة الإسلامیّة، ورغم أنّ الناس یستطیعون تملک مثل هذه المباحات عن طریق الحیازة والصید بشروط خاصّة(2)، فإنّ الحکومة الإسلامیّة لها الحقّ وعلی أساس رعایة مصالح المسلمین، أن تملک هذه المباحات أو منعها(3).

ولا شک أنّ ملکیّة الحکومة الإسلامیّة یؤدّی إلی استقلالها فی رسم الخطط الاقتصادیّة فی هذا المجال وحریتها فی إقامة العدالة الاقتصادیّة، فالحکومة التی تعتمد فی تحصیل المال علی الضرائب وتحتاج إلی تأمین نفقاتها إلی الدافعین للضرائب والخیرین فی أفراد المجتمع، فمن الطبیعی أنّ تتحرک علی مستوی إیجاد الانسجام والاتساق مع مصالحهم ومنافعهم ولا تکون مطلقة العنان فی رسم مسار السیاسات الاقتصادیّة فی المجتمع الإسلامی.

أضف إلی ذلک الآیة الشریفة:

«قُلِ الْأَنْفَالُ للَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَیْنِکُمْ»(4)

، وکذلک مسألة «إصلاح ذات البین» تقع إلی جانب مسألة تعلق الأنفال باللَّه والرسول، وربّما کانت ملکیّة الحکومة الإسلامیّة وکون الأنفال بید الإمام، مانعة من حدوث نزاعات بین النشطاء الاقتصادیین، لأنّه عدم تملک الإمام للمنابع الطبیعیّة والأنفال، یعنی أنّ النشطاء الاقتصادیین یجوز لهم تملک هذه المنابع والتصرف بها بأی شکل کان وبما یحلو لهم، وطبیعی أنّ مثل هذه الحریة، مع الالتفات إلی وجود حالات الحرص والطمع فی أفراد البشر، یتسبب فی وقوع نزاعات فیما بینهم.

وهذه الحقیقة وردت فیما یتصل ببعض أموال الإمام تحت عنوان «الفی ء» فی قوله تعالی:

«مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَی رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَی فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِی الْقُرْبَی وَالْیَتَامَی وَالْمَسَاکِینِ وَابْنِ السَّبِیلِ کَیْ لَایَکُونَ دُولَةً بَیْنَ الْأَغْنِیَاءِ مِنْکُمْ»(5)

، ولاسیما فی جملة:

«کَیْ لَا


1- یتمکن الحکومة الإسلامیة ومن أجل الحافظ علی مصالح المسلمین إیجاد محدودیات خاصّة، مثلًا إذا شاهدت الحکومة أنّ قطع أشجار الغابات وبلا هوادة وسبب ممّا یؤدّی فی مدّة قصیرة إلی الإضرار بالغابات أن یضع مقررات وقوانین للاستفادة من الغابات.
2- عن أبی عبداللَّه علیه السلام:« انّ أمیرالمؤمنین علیه السلام قال فی رجل أبصر طیراً فتبعه حتی وقع علی شجرة فجاء رجل فأخذه فقال أمیرالمؤمنین علیه السلام: للعین ما رأت وللید ما أخذت»( وسائل الشیعة، ج 23، ص 391، کتاب الصید والذبائح، باب 38، ح 1).
3- مثلًا لو لاحظت الحکومة فی صید السمک بدون ضابطة خاصة ما یؤدی إلی انقطاع نسل الأسماک أو یصاب المسلمون بأضرار کبیرة أن یضع مقررات وتوجد المحدودیّة وتقول لا یسمح صید السمک فی الفصل الکذائی أو أن یکون الصید بهذا المقدار فقط.
4- سورة الأنفال، الآیة 1.
5- سورة الحشر، الآیة 7.

ص: 246

یَکُونَ دُولَةً بَیْنَ الْأَغْنِیَاءِ مِنْکُمْ»

، حیث تبیّن بوضوح أنّ ملکیّة الإمام بالنسبة إلی «الفی ء» (بإلغاء الخصوصیّة بالنسبة لجمیع الأنفال) لغرض منع حدوث الفاصلة الکبیرة بین طبقات المجتمع، لأنّه تقرر أن تکون هذه المنابع داخلة فی ملکیة الأفراد أو فئة خاصّة من الناس، فإنّ جمهور الناس لا یستطیعون الاستفادة من ثمراتها، کما أنّه لو انعکس الحال وکانت هذه الموارد بید الحکومة الإسلامیّة، فإنّها تستطیع إیصالها إلی مختلفة فئات المجتمع وخاصّة إلی الطبقة الضعیفة منه.

وما تقدّم بیانه یتعلق بفلسفة ملکیّة الإمام والحکومة الإسلامیّة، أمّا فلسفة الملکیّة العامّة والتی یکون جمیع المسلمین وعلی امتداد الزمان مالکین لهذه الموارد من هذا القبیل، فیمکن القول فی تسویغ مثل هذه الملکیّة، إنّ الإسلام کما أنّه یقرر الوحدة بین المسلمین فی زمان معین، فإنّه یقرر أیضاً نوعاً من الوحدة والاشتراک لجمیع الأشخاص الذین یشترکون فی العقیدة علی طول الزمان، ومثل هذا الاعتقاد والاشتراک یستدعی النظر إلی مصالح الأجیال اللاحقة والعمل علی مستوی رفاه هذه الأجیال من خلال وضع خطط اقتصادیّة تحقق له هذا الهدف، وخاصّة عندما نری أنّ الإشراف علی هذا القسم من الأموال یقع بید الحکومة الإسلامیّة، لأنّ الحکومة تستطیع وضع مقررات معینة فی کیفیة الاستفادة من هذه الموارد بحیث تؤمن مصالح الأجیال اللاحقة من المسلمین.

5. المشارکة العامّة والتعاون الاجتماعی فی سبیل التنمیة الاقتصادیّة

اشارة

إنّ التعاون الاجتماعی، والذی یعبّر عنه ب «التکافل الاجتماعی»، یعنی أنّ کلّ فرد من أفراد المجتمع الإسلامی مکلّف فی نظر الإسلام بالعمل علی قدر طاقاته من أجل خدمة مصالح الامّة(1).

وورد التعبیر عن هذه المسألة فی دائرة الثقافة القرآنیّة بعنوان «التعاون»، وطبعاً أن لا یکون هذا التعاون والتکاتف یقع فی مسیر الظلم علی الآخرین بل لابدّ أن یصبّ فی مجال الإحسان والنفع العام:

«وَتَعَاوَنُوا عَلَی الْبِرِّ وَالتَّقْوَی وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَی الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ»(2)

، والتعاون فی المجالات الاقتصادیّة للمجتمع الإسلامی یعدّ من أهم مصادیق التعاون علی البر والتقوی.

وأشهر روایة تقع أساساً لهذا التعاون والتکاتف، ما ورد عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله نقله من مصادر الفریقین (3):

«کلّکم راع وکلّکم مسئول عن رعیته»

، واللافت أنّ صاحب کتاب «إرشاد القلوب» ذکر فی سیاق هذا الحدیث تطبیقات أخلاقیّة کلیّة علی موارد: منها:

الحاکم الإسلامی، الرجل بالنسبة لزوجته وأبنائه، والمسؤولون والموظفون بالنسبة لأموال الناس:


1- أحمد العنانی، مقالة« أربعة أبعاد للتکافل الاجتماعی الإسلامی» مجلة« الوعی الإسلامی» العدد 248.
2- سورة المائدة، الآیة 2.
3- مسند أحمد، ج 2، ص 111؛ إرشاد القلوب، ج 1، ص 184.

ص: 247

«والأمیر الذی علی الناس راع وهو مسؤول عن رعیّته والرجل راع علی أهل بیته وهو مسؤول عنهم والمرأة راعیة علی أهل بیت بعلها وولده وهی مسؤولة عنهم والعبد راع علی مال سیّده وهو مسؤول عنه»(1).

ومعلوم أنّ أحد أهم هذه المسؤولیات، التعاون والتکاتف فی المسائل الاقتصادیّة بما یحقق بعض الأهداف فی مجال التوازن الاجتماعی، الرفاه العام، الأمن الاقتصادی، تقویة وتعمیق القیم المعنویّة والأخلاقیّة ...

یقول القرآن الکریم فیما یتصل بهذه المسألة ومن خلال استخدام مفردة الولایة والتولّی:

«وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِیَاءُ بَعْض»(2)

. ویری المرحوم العلّامة الطباطبائی أنّ التعبیر بکلمة «اولیاء» تمثّل نوعاً من الولایة للمؤمنین فیما بینهم یقول: «لیدل بذلک علی أنّهم مع کثرتهم وتفرقهم من حیث العدد ...

واحدة لا تشعب فیها ولذلک یتولّی بعضهم أمر بعضهم ویدبره»(3) ویقول الآلوسی فی روح المعانی «وقوله سبحانه «بعضهم من بعض» یقابل قوله تعالی فیما مرّ «بعضهم أولیاء بعض» للإشارة إلی تناصرهم وتعاضدهم»(4).

وعلی أیة حال فإنّ هذا التعاون یتمظهر فی تجلیات عدّة فی دائرة التواصل الاجتماعی بین أفراد المجتمع الإسلامی:

أ). المراقبة الأخلاقیّة فی السوق والمؤسسات الاقتصادیّة، وبشکل عام فی المسائل المالیّة، وهذه الرقابة مضافاً إلی تأثیرها الإیجابی فی تحقق الأهداف المذکورة فإنّها تمنع من وقوع مفاسد عدّة، مثل الغش فی المعاملة، الإحتکار والإجحاف وأمثال ذلک ممّا شأنه إرباک النظام الاقتصادی من داخله، وبالتالی فإنّ تداعیات هذا الإرباک یمتد إلی جمیع أفراد الامّة، وعلی هذا الأساس نری أنّ القرآن الکریم یعبّر فی آیة أخری فی سورة العصر ب «التواصی» ویعتبره طریق النجاة من الوقوع فی الخسران بعد الإیمان والعمل الصالح، فبعد أن یوصی بالإیمان والعمل الصالح، فإنّه یؤکد علی مسألة التواصی بالحقّ والصبر:

«وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ»(5).

ویقول الإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام فیما یتصل بفوائد وبرکات الإقرار بالتوحید بأنّ من جملة آثاره وبرکاته، الرقابة والإشراف العام الذی یؤدّی إلی دفع الظلم والفساد، ومن مصادیقه الفساد والظلم فی المجال الاقتصادی:

«فاذا ... إرتکب کلّ إنسان ما یشتهی ویهواه من غیر مراقبة لأحدٍ کان فی ذلک فساد الخلق اجمعین ووُثوب بعضهم علی بعض فغصبوا الفروج والأموال وأباحوا الدماء والنساء وقتل بعضهم بعضاً من غیر حقّ وجرم»

، وفی خاتمة کلامه یقول علیه السلام:

«فیکون فی ذلک خراب الدنیا وهلاک الخلق وفساد الحرث والنسل»(6).


1- إرشاد القلوب، ج 1، ص 184.
2- سورة التوبة، الإیة 71.
3- المیزان، ج 9، ص 338.
4- روح المعانی، ج 5، ص 325.
5- سورة العصر، الآیة 3.
6- بحار الأنوار، ج 3، ص 10، ح 23.

ص: 248

وبدیهی أنّ التعبیر: «فغصبوا ... الأموال» و «فساد الحرث» فی هذا الکلام النورانی له بُعد مالی واقتصادی، وأنّ التحذیر الوارد فی هذه الروایة ناظر إلی النشاطات الاقتصادیّة.

ب) مدّ ید العون للمحتاجین وإیجاد فرص العمل للعاطلین أو الأشخاص الذین لا یملکون عملًا مناسباً لهم، وذلک من خلال تشکیل لجان ومراکز الإمداد والتعاون ودفع الحقوق المالیّة مثل الزکاة والخمس والصدقات المستحبة.

ویقرر القرآن الکریم، مضافاً لما تقدّم بیانه بعنوان «التعاون علی البرّ والتقوی»، قائمة من مصادیق الخیر والبر من قبیل مساعدة المحرومین فی المجتمع بوصفها أحد مصادیق البر:

«وَلَکِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْیَوْمِ الْآخِرِ ... وَآتَی الْمَالَ عَلَی حُبِّهِ ذَوِی الْقُرْبَی وَالْیَتَامَی وَالْمَسَاکِینَ وَابْنَ السَّبِیلِ وَالسَّائِلِینَ وَفِی الرِّقَابِ»(1).

وقد ورد هذا التعبیر فی أیة أخری من سورة «الدهر» فی وصف الأبرار وذلک فی قوله:

«إِنَّ الْأَبْرَارَ ... وَیُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَی حُبِّهِ مِسْکِیناً وَیَتِیماً وَأَسِیراً»(2).

*** وقد وردت فی الروایات الإسلامیّة فی مصادر کلا الفریقین (أهل السنّة والشیعة) تعبیرات عالیة فی التأکید علی فضیلة التعاون وتشویق المسلمین بهذا الأمر الاجتماعی المهم، وهنا نستعرض بعض ما ورد فی هذا المجال:(3) 1. ما ورد فی وصف الأولیاء والنخبة من أهل الجنّة وهم: «الأبدال» وفی بیان سبب دخولهم الجنّة تقول الروایة:: عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله:

«إن أبدال أمّتی لم یدخلوا الجنّة بالأعمال، ولکن إنّما دخلوها برحمة اللَّه وسخاوة الأنفس وسلامة الصدر ورحمة لجمیع المسلمین»(4)

، وورد فی بعض الروایات الاکتفاء بصفة «السخاء والنصیحة للمسلمین»، وعن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله:

«لا یزال أربعون رجلًا من أمتی ... یدفع اللَّه بهم عن أهل الأرض یقال لهم الأبدال، أنّهم لم یدرکوها بصلاة و ... قالوا یا رسول اللَّه فبم أدرکوها؟ قال: بالسخاء والنصیحة للمسلمین»(5).

2. ومن جملة ما ورد فی وسائل الشیعة «أبواب المعروف» باب «استحباب المعروف وکراهة ترکه» ویتضمّن هذا الباب 24 روایة؛ ونقرأ فی إحدی هذه الروایات أنّ بقاء الإسلام والمسلمین یکمن فی أن تکون الثروة والأموال بید أشخاص یعرفون حقّ هذه الأموال، وأنّ فناء وهلاک الإسلام والمسلمین یکمن فی وضع هذه الأموال بید من لا یعرف حقّ هذه


1- سورة البقرة، الآیة 177.
2- سورة الدهر، الآیة 8.
3- هذه الروایات المنتخبة تأتی عمدة من وسائل الشیعة الشیخ الحر العاملی؛ کنز العمال المتقی الهندی.
4- کنز العمال، ح 34601.
5- المعجم الکبیر، ج 10، ص 181. ونقرأ فی کتاب جمع الجوامع، ج 1، ص 111:« الأبدال ستون رجلًا لیسوا بالمتنطعین ولا بالمبتدعین ولا بالمتعمقین ولا بالمعجبین لم ینالوا ما نالوا بکثرة صیام ولا صدقة ولکن بسخاء الأنفس وسلامة القلوب والنصیحة لأئمتهم أنّهم یا علی فی امّتی أقلّ من الکبریت الأحمر».

ص: 249

الأموال:

«إنّ بقاء المسلمین وبقاء الإسلام أن تصیر الأموال عند من یعرف فیها الحقّ ویصنع المعروف وإنّ من فناء الإسلام وفناء المسلمین أن تصیر الأموال فی أیدی من لا یعرف فیها الحقّ ولا یصنع فیها المعروف»(1).

3. ومن أبواب المعروف الأخری، باب تحت عنوان: باب استحباب فعل المعروف مع کلّ واحد وإن لم یعلم کونه من أهله، وفی هذا الباب وردت تسع روایات، ومنها روایة جمیل بن درّاج المعتبرة عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال:

«اصنع المعروف إلی من هو أهله وإلی من لیس من أهله فإن لم یکن هو أهله فکن أنت من أهله»(2).

فرغم أنّ الوارد فی الروایات أخری (3) النهی عن صنع المعروف إلی غیر أهله، فإنّ الجمع بین هاتین الطائفتین من الروایات ممکن، وذلک بأن نقول إنّ الطائفة الاولی ناظرة إلی الموارد التی یعلم الشخص أنّ هذه الأموال لا تقع فی مسیر الذنوب والمعاصی، وأمّا الطائفة الثانیة فناظرة إلی الموارد التی یعلم الشخص بأنّ هذه الأموال ستصرف فی طریق الذنوب کشرب الخمر والمخدرات وما إلی ذلک.

4. وورد فی باب آخر من أبواب المعروف روایات متعددة، ومنها: معتبرة حدید بن حکیم عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال:

«أیّما مؤمن أوصل إلی أخیه المؤمن معروفاً فقد أوصل ذلک إلی رسول اللَّه»(4).

5. وورد فی أبواب المعروف باب یشتمل علی روایات متعددة فی تعظیم وإکرام العاملین بالمعروف، ومنها الروایة الواردة عن الإمام الباقر علیه السلام عن امّ سلمة عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«صنایع المعروف تقی مصارع السوء والصدقة خفیاً تطفی ء غضب الربّ وصلة الرحم زیادة فی العمر وکلّ معروف صدقة وأهل المعروف فی الدنیا أهل المعروف فی الآخرة ...»(5).

ونقرأ فی روایة معتبرة أخری عن الإمام الصادق علیه السلام:

«... إنّ اللَّه عزّ وجلّ إذا أدخل أهل الجنّة الجنّة أمر ریحاً عبقة فلصقت بأهل المعروف فلا یمرّ أحد منهم بملاء من أهل الجنة إلّاوجدوا ریحه فقالوا:

هذا من أهل المعروف»(6).

6. ومن جملة مصادیق التعاون علی البر، الإقراض الذی ورد فی أبواب المعروف تحت عنوان «الإقراض»، ویتضمّن روایات متعددة من قبیل الروایة المعتبرة التی تقرر إنطباق کلمة «معروف» فی الآیة:

«لَّاخَیْرَ فِی کَثِیرٍ مِّنْ نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ»(7)

علی الإقراض فی سبیل اللَّه: (... یعنی


1- وسائل الشیعة، ج 11، أبواب المعروف، باب 1، ص 285، ح 1.
2- المصدر السابق، باب 3، ح 1.
3- المصدر السابق، باب 5.
4- المصدر السابق، باب 4، ح 1.
5- وسائل الشیعة، ج 11، باب 6، ح 7؛ وانظر: جامع الأحادیث، ج 14، ص 26؛ سنن البیهقی، ج 10، ص 109؛ المعجم الکبیر، ج 8، ص 261.
6- المصدر السابق، ح 4.
7- سورة النساء، الآیة 114.

ص: 250

بالمعروف القرض)(1).

7. ومن مصادیق التعاون علی البر، إمهال المدین، بل فی صورة التمکن إبراء ذمّته من القرض، وذلک فی باب آخر تحت عنوان: «وجوب إنظار المعسر واستحباب إبرائه» ویتضمّن عدّة روایة، من قبیل صحیحة معاویة بن عمّار عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال:

«من أراد أن یظلّه اللَّه یوم لا ظلّ إلّاظلّه قالها ثلاثاً فهابه الناس أن یسألوه فقال: فلینظر معسراً أو لیدع له من حقّه»(2)

، وتکرار هذه الجملة ثلاثة مرات یبیّن عظمة وهیبة منع السؤال من الناس.

وقد وردت روایتان أخریتان فی باب آخر تحت عنوان «استحباب تحلیل المیت والحی من الدین»(3).

وورد من طرق أهل السنّة أیضاً أنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله:

«من أراد أن یظلّه اللَّه بظلّه فلا یکن علی المؤمنین غلیظاً ولیکن بالمؤمنین رحیماً»(4).

8. وجاء فی باب آخر یتضمّن روایات کثیرة فی باب «استحباب استدامة النعمة باحتمال المؤونة» یعنی أنّه یستحب للإنسان من أجل دوام واستمرار النعم الإلهیّة، أن ینفق بعض هذه النعم علی المحتاجین والمحرومین.

ومن جملة الروایات فی هذا الباب صحیحة أبان بن تغلب عن الإمام الصادق علیه السلام مخاطباً أحد أصحابه وهو الحسین الصحّاف:

«قال أبوعبداللَّه علیه السلام للحسین الصحّاف: یا حسین ما ظاهر اللَّه علی عبد النعم حتی ظاهر علیه مؤونة الناس فمن صبر لهم وقام بشأنهم زاده اللَّه فی نعمه علیه عندهم ومن لم یصبر لهم ولم یقم بشأنهم أزال اللَّه عزّ وجلّ عنه تلک النعمة»(5).

9. باب «استحباب إطعام الطعام» أیضاً، وهو من الأبواب الناظرة إلی التوکید وتعمیق التعاون والمشارکة ویتضمّن روایات کثیرة، منها، روایة الإمام الباقر علیه السلام عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«الرزق أسرع إلی من یطعم الطعام من السکّین فی السنام»(6).

وورد من طرق أهل السنّة أیضاً عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«الکفارات إطعام الطعام وإفشاء السلام والصلاة باللیل والناس نیام»(7).

10. ومن الأبواب المهمّة جدّاً باب «وجوب اهتمام بأمور مسلمین» وباب «استحباب قضاء حاجة المؤمن» حیث وردت فیها التأکید علی هذه المقولة من قبیل الحدیث المعروف:

«من أصبح ولایهتمّ بأمور المسلمین فلیس مسلم»(8)

، وقد ورد هذا المضمون فی روایات معتبرة من أهل البیت علیهم السلام (9) وبعض روایات أهل السنّة.


1- المصدر السابق، باب 11، ح 1 وانظر: تفسیر ابن أبی الحاتم، ج 4، ص 5962؛ تفسیر الطبری، ج 4، ص 276.
2- وسائل الشیعة، ج 9، باب 12 من أبواب فعل المعروف، ح 1.
3- المصدر السابق، باب 13، ح 1.
4- الأمالی المطلقة لابن حجر العسقلانی، ج 1، ص 116.
5- وسائل الشیعة، ج 16، ص 324، باب 14، ح 3.
6- المصدر السابق، ص 331، باب 16، ح 8.
7- مستدرک الحاکم، ج 4، ص 129.
8- وسائل الشیعة، ج 16، ص 336، باب 18، ح 2؛ شعب الإیمان البیهقی، ج 7، ص 361.
9- وردت هذه الروایة فی بابین 18 و 25 من وسائل الشیعة؛ وفی باب 18، أربع روایات، وفی باب 25، خمسة عشرة روایة.

ص: 251

وجدیر بالذکر أنّه ورد فی مثل هذه الروایات مدح أصل الاهتمام والتوجه القلبی لحاجات المسلمین وحلّ مشکلاتهم، ولذلک نقرأ فی الروایة الرابعة من هذا الباب:

«إن المؤمن لتردّ علیه الحاجة لأخیه فلا تکون عنده فیهتمّ بها قلبه فیدخله اللَّه تبارک وتعالی بهمّه الجنّة»(1).

11. ومن جملة أبواب المعروف، باب «استحباب رحمة الضعیف وإصلاح الطریق وإیواء الیتیم والرفق بالمملوک»، فی وصیّة النّبی صلی الله علیه و آله لعلی علیه السلام:

«یا علیّ أربع من کنّ فیه بنی اللَّه له بیتاً فی الجنّة، من آوی الیتیم ورحم الضعیف، وأشفق علی والدیه ورفق بمملوکه، ثمّ قال: یا علیّ من کفی یتیماً فی نفقته بماله حتّی یستغنی وجبت له الجنّة البتة، یا علیّ من مسح یده علی رأس یتیم ترحّماً له أعطاه اللَّه بکلّ شعرة نوراً یوم القیامة»(2).

12. وورد فی مصادر الإمامیّة وأهل السنّة فی أحد أبواب المعروف باب «استحباب بناء مکان علی ظهر الطریق للمسافرین، وحفر البئر لیشربوا منها، والشفاعة للمؤمن»(3).

13. ومن أجمل ما ورد من العبارات فی هذا المجال فیما یتصل بالتعاون والتکاتف بین جمیع أفراد المجتمع، من المسلمین وغیر المسلمین، والذی یعدّ من افتخارات الدین الإسلامی فی مجال حقوق الإنسان العالمیّة، التعبیر

«الخلق عیال اللَّه»

کما ورد هذا المضمون فی روایة عن الإمام الصادق علیه السلام عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله وعن طریق أهل السنّة عن أنس عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله.

ونقرأ فی الروایة الاولی: «

الخلق عیال اللَّه فأحب الخلق إلی اللَّه من نفع عیال اللَّه وأدخل علی أهل بیت سروراً»(4)

، وورد فی روایة أنس بن مالک:

«الخلق

عیال اللَّه فأحبّ خلقه إلیه أنفعهم لعیاله».

وجاء فی روایات أخری عن أهل البیت علیهم السلام فی هذا الباب عبارات من قبیل «نفّاع»(5)، «من کان وصولًا»(6)، «من قضی لأخیه حاجة»(7)، «من أطعم مؤمناً»(8) وکلّها تشیر إلی الأشخاص الذین یتحرکون فی خط الخیر والصلاح وما یترتب علی ذلک من مثوبات عظیمة.

14. ومن أبواب المعروف الأخری «استحباب إدخال السرور» وفیه روایات کثیرة (عشرون روایة) ومنها الروایة المعتبرة عن الإمام الباقر علیه السلام عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«من سرّ مؤمناً فقد سرّنی ومن سرّنی فقد سرّ اللَّه»(9).

15. ومضافاً إلی ما ورد تحت عنوان: «الاهتمام


1- وسائل الشیعة، ج 16، ص 337، باب 18، ح 4.
2- وسائل الشیعة، ج 16، ص 338، باب 19، ح 1؛ وانظر: جامع الأحادیث، ج 16، ص 244.
3- المصدر السابق، باب 20، ح 1؛ و ر. ک: جامع العلوم والحکم، ج 1، ص 237.
4- المصدر السابق، ص 342، باب 22، ح 1؛ الکامل، ج 7، ص 154.
5- المصدر السابق، ح 3.
6- المصدر السابق، ح 4.
7- المصدر السابق، ح 5.
8- المصدر السابق، ح 10.
9- وسائل الشیعة، ج 16، ص 349، باب 24، ح 1؛ الکافی، ج 2، ص 78.

ص: 252

بأمور مسلمین» بنحو عام کما تقدّم بیانه فثمة باب آخر تحت عنوان: «استحباب اختیار قضاء حاجة المؤمن علی غیرها من القربات حتی العتق والطواف والحج المندوب»(1).

ونقرأ فی روایة معتبرة عن إسحاق بن عمّار عن الإمام الصادق علیه السلام، بعد أن ذکر الإمام علیه السلام الثواب العظیم المترتب علی الطواف حول البیت، والذی اقترن بتعجب إسحاق من ذلک:

«قلت: جعلت فداک:

هذا الفضل کلّه فی الطواف؟ قال نعم، وأخبرک بأفضل من ذلک؟ قضاء حاجة المسلم أفضل من طواف وطواف حتّی بلغ عشراً»(2).

وجاء فی روایة أخری فی مورد أنّ قضاء حاجة المؤمن أفضل بکثیر من الطواف (3) وفی روایة رابعة أفضل من عدّة حجج مقبولة(4).

ونقرأ فی روایة من طرق أهل السنّة أیضاً عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله:

«... ولأن أمشی مع أخٍ فی حاجة أحبّ إلیّ من أن اعتکف فی هذا المسجد- یعنی مسجدالمدینة- شهراً»(5).

وجدیر بالذکر أنّ الوارد فی هذه الروایة أنّ مجرّد المشی فی قضاء حاجة الأخ المؤمن (حتی لو اتفق وجود مانع من قضاء هذه الحاجة یترتب علیه کلّ هذا الثواب، وعلی هذا الأساس ورد فی روایات أهل البیت علیهم السلام بابان آخران ورد فی أحدهما أنّ مجرّد السعی فی قضاء حاجة المؤمن هو موضوع کلّ هذه المثوبات العظیمة(6)، وفی باب آخر ورد:، «استحباب اختیار السعی فی حاجة المؤمن علی العتق والحج والعمرة و ...»(7).

16. ویذکر المرحوم الشیخ الحرّ العاملی فی وسائل الشیعة، أکثر من 50 روایة أخری تحت عناوین مثل «استحباب تفریج کرب المؤمن»، و «استحباب البر بالمؤمن والتعاون علی البرّ»، و «استحباب خدمة المسلمین ومعونتهم بالجاه وغیره»، «وجوب نصحیة المؤمن»، «تحریم ترک معونة المؤمن عند ضرورته»، ومن جملة هذه الروایات الواردة فی هذه الأبواب:

روایة فرات بن الأحنف عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال:

«أیّما مؤمن منع مؤمناً شیئاً ممّا یحتاج إلیه وهو یقدر علیه من عنده أو من عند غیره أقامه اللَّه یوم القیامة ... فیقال: هذا الخائن الذی خان اللَّه ورسوله ثمّ یؤمر به إلی النار»(8).

ونقرأ فی روایة أخری عن أمیرالمؤمنین علی علیه السلام:

«إن اللَّه فرض علیکم زکاة جاهکم کما فرض علیکم زکاة ما ملکت أیدیکم»(9).

والمراد من زکاة الجاه والمقام أن یستخدم


1- وسائل الشیعة، ج 11، باب 26 من أبواب فعل المعروف.
2- همان، ص 363، باب 26، ح 4.
3- المصدر السابق، ح 6.
4- المصدر السابق، ح 7.
5- الترغیب والترهیب، ج 3، ص 395، ح 22.
6- باب 27 من أبواب المعروف عن وسائل الشیعة، ج 16 والذی یتضمّن علی 11 روایة.
7- الباب 28 من وسائل الشیعة، ج 16 والذی یتضمّن 3 روایة.
8- وسائل الشیعة، ج 16، باب 39، ح 1.
9- المصدر السابق، باب 34، ح 3، ص 388.

ص: 253

الإنسان مکانته الاجتماعیّة لحل مشکلات الناس.

ویستفاد من روایة أخری بوضوح أنّ المشارکة والتعاون فی أعمال الخیر وردت بشکل مطلق، ویشمل قطعاً التعاون فی المجالات الاقتصادیّة لأنّه من جملة المصادیق البارزة للتعاون، فقد ورد فی روایة الإمام الصادق علیه السلام عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«رحم اللَّه ولداً أعان والدیه علی برّه ورحم اللَّه والداً أعان ولده علی برّه ورحم اللَّه جاراً أعان جاره علی برّه، رحم اللَّه رفیقاً أعان رفیقه علی برّه ورحم اللَّه خلیطاً أعان خلیطه علی برّه ورحم اللَّه رجلًا أعان سلطانه علی برّه»(1).

وورد عن طرق أهل السنّة أیضاً عن رسول اللَّه أنّه قال:

«من قضی حاجة المسلم فی اللَّه کتب اللَّه له عمر الدنیا سبعة آلاف سنة صیام نهاره وقیام لیله»(2).

ونقرأ فی روایة أخری عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«من کان وصلة لأخیه المسلم إلی ذی سلطان فی مبلغ برّ أو إدخال السرور رفعه اللَّه فی الدرجات العلی من الجنّة»(3).

ملاحظة:

ما تقدّم بیانه من الروایات الشریفة ربّما یرتبط شأن صدورها بالتعاون الشخصی بین أفراد المجتمع، ولکن لا شک فی أنّ روح وملاک هذه الروایات تستوعب مجال التعاون بین الحکومة والمسؤولین من جهة، وبین جمهور الناس من جهة أخری من خلال تشکیل اللجان الخاصّة والشرکات التعاونیة وإیجاد فرص العمل ودفع القروض للمحتاجین والعاطلین والاهتمام الخاص بالمخترعین والمبدعین وإیجاد لجان التخصص فی مجالات المشاریع الاقتصادیّة العامّة أیضاً.

6. سائر الأصول والمبانی

ومن أجل تحقیق أهداف النظام الاقتصادی، فثمة أصول تطبیقیة أخری أیضاً، منها:

أ). «حضور ورقابة الحکومة بشکل قانونی»، إنّ مسألة تدخل الدولة فی المسائل الاقتصادیّة وبأی مقدار یکون هذا التدخل، وما هو مقدار وسهم القسم الخاص منها، وما هی مکانته فی مجمل النشاطات الاقتصادیّة، یعتبر من البحوث المهمّة جدّاً والمصیریة فی النظام الاقتصادی فی الإسلام، ومسألة الإفراط والتفریط فی هذا المجال من شأنه أن یؤدّی إلی خسارات جسیمة، وتفصیل الکلام فی هذا البحث سیأتی فی مقالة دور الحکومة فی اقتصاد المجتمع، فی الفصل السادس من هذا القسم.

والآن نبحث مسألة کیفیة إشراف ورقابة الحکومة علی القسم الخاص والذی ورد التعبیر عنه بالنصوص الدینیّة ب «الحسبة والرقابة الخاصّة»، والکلام عن المسیرة التاریخیة لمقولة الحسبة، وکذلک الطرق والأسالیب فی رقابة الحکومة علی «النظام الاقتصادی» من قبیل مسألة «التسعیر» وآراء الفریقین


1- المصدر السابق، باب 32، ح 3.
2- کنز العمال، ج 6، ص 443، ح 16459.
3- المصدر السابق، ح 16460.

ص: 254

فی هذه المسألة، وکذلک مسألة «الإحتکار» ومنع إیجاد السوق السوداء، وکذلک رقابة الحکومة علی کیفیة «المصرف والاستهلاک» وهذه المسائل ورد الکلام فیها فی الفصل السابع من هذا القسم تحت عنوان «الإشراف علی النظام الاقتصادی».

وتفکیک هذا الأصل والکلام عنه ضمن فصلین مذکورین هو من قبیل ذکر الخاص بعد العام لغرض بیان أهمیّة هذا الخاص.

ب). ومن الأصول التطبیقة الأخری «البنیة الثقافیّة فی دائرة الاقتصاد الإسلامی» و «إکتناز الأموال وخروج الثروات من دائرة الإنتاج»، والابتعاد عن الاستئثار وتراکم الثروة وبید فئة خاصّة والذی سیأتی الکلام فیها من جهة أنّها تصطبغ بصبغة أخلاقیّة من هذا الکتاب تحت عنوان «الأخلاق والاقتصاد».

ج) وأحد الأصول الطبیقیة الأخری: «اجتناب أی شکل من الإسراف»، وصرف الأموال بدون حساب وکتاب، وهذه المسألة بدورها وبسبب اصطباغها بلون أخلاقی، سنتحدّث عنها فی القسم المذکور «الرابع».

د) ومن الأصول التطبیقیّة الأخری: «اجتناب النشاطات والأسالیب المضادة للقیم الأخلاقیّة» و «حفظ الثقافة الأصیلة والنشاطات الاقتصادیّة» و «تقدیم مصالح المجتمع علی المیول الشخصیّة» وکذلک «الاهتمام بالمصالح فی مقابل المنافع» و «محوریة الآخرة وکون الدنیا مقدّمة للآخرة فی مجال الإنتاج والمصرف»، وبما أنّ بعض هذه الأصول لها جهة أخلاقیّة، فسیأتی عنها فی مقالة «حاکمیة الأخلاق علی النظام الاقتصادی فی الإسلام» فی الفصل الرابع.

***

المنابع والمصادر

1. القرآن الکریم.

2. نهج البلاغة.

3. الأحکام السلطانیة، الماوردی، انتشارات المجمع العلمی، بغداد، الطبعة الاولی، 1409 ه ق.

4. إرشاد القلوب إلی الصواب، الشیخ الحسن الدیلمی، نشر الشریف الرضی، قم، 1409 ه ق.

5. الاستبصار، الشیخ الطوسی، دار الکتب الإسلامیّة، طهران، 1390 ه ق.

6. الأمالی المطلقة ابن حجر العسقلانی.

7. الأموال، ابن سلام أبی عبید، تحقیق خلیل هراس محمّد، دار الکتب العلمیّة، انتشارات الأزهر، الطبعة الاولی، 1406 ه ق.

8. أنوار الفقاهة، کتاب التجارة، آیة اللَّه مکارم الشیرازی، مطبوعات هدف، الطبعة الاولی، 1415 ه ق.

9. بحار الأنوار، العلّامة المجلسی، مؤسسة الوفاء، بیروت، لبنان، 1404 ه ق.

10. تاریخ العقائد الاقتصادیّة (تاریخ عقاید اقتصادی)، فریدون التفضلی، نشر نی، طهران، الطبعة الثانیة، 1375 ه ش.

11. تحریر الأحکام، العلّامة الحلی، مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام، الطبعة الاولی، 1420 ه ق.

ص: 255

12. تحریر الوسیلة، الإمام الخمینی، دار الکتب العلمیّة، النجف الأشرف، 1390 ه ق.

13. تذکرة الفقهاء، العلّامة الحلی، منشورات المکتبة المرتضویة.

14. الترغیب والترهیب، عبدالعظیم بن عبدالقوی المنذری، دار الکتب العلمیّة، بیروت، الطبعةالاولی، 1417 ه ق.

15. تفسیر ابن أبی حاتم، عبدالرحمن بن محمّد، مکتبة نزار مصطفی الباز، السعودیة، الطبعة الثالثة، 1419 ه ق.

16. جامع البیان فی تأویل القرآن، أبوجعفر محمّد بن جریر، دار الکتب العلمی، بیروت، لبنان.

17. تفسیر الصافی، الملا محسن الفیض الکاشانی، انتشارات الصدر، طهران، الطبعة الثانیة، 1415 ه ق.

18. تفسیر روح المعانی، السید محمود الآلوسی، دار الکتب العلمیّة، بیروت، الطبعة الاولی، 1415 ه ق.

19. جامع الأحادیث، السید البروجردی، منشورات مدینة العلم، آیة اللَّه الخوئی، قم، 1410 ه ق.

20. جامع العلوم والحکم، أبوفرج عبدالرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلی، دار المعرفة، بیروت، الطبعة الاولی، 1408 ه ق.

21. جامع المقاصد، المحقق الکرکی، مؤسسة آل البیت إحیاء التراث، قم، الطبعة الاولی، 1410 ه ق.

22. جمع الجوامع، السیوطی، علی أساس الکامبیوتر المکتبة الشاملة.

23. جواهر الکلام، الشیخ الجواهری، دار الکتب الإسلامیّة، طهران، الطبعة الثالثة، 1367 ه ش.

24. حاشیة الدسوقی، شمس الدین الشیخ محمّد عرفه الدسوقی، دار إحیاء الکتب العربیة.

25. معارف الإمام علی (دانشنامه الإمام علی علیه السلام) بالفارسیّة، بإشراف علی أکبر رشاد، التحقیقات الثقافیّة والعلوم الإسلامیّة، الطبعة الاولی، طهران، 1380 ه ش.

26. سنن أبی داود، أبو داود سلیمان بن الأشعث السجستانی، دار إحیاء سنّة نبویّة.

27. سفینة البحار، المحدث القمی.

28. سنن ابن ماجة، محمّد بن یزید القزوینی، دار الفکر طباعة ونشر.

29. سنن البیهقی، أبوبکر أحمد بن حسین البیهقی، دار الفکر.

30. شرح ابن أبی الحدید، عبدالحمید المعتزلی، مکتبة آیة اللَّه المرعشی النجفی، قم، 1404 ه ق.

31. شعب الإیمان، أحمد بن حسین البیهقی، دار الکتب العلمیّة، بیروت، الطبعة الاولی، 1410 ه ق.

32. صحیح البخاری، أبوعبداللَّه محمّد بن إسماعیل البخاری، دار الفکر، 1401 ه ق.

33. الضعفاء الکبیر، أبوجعفر محمّد بن عمر بن موسی العقیلی، دار المکتبة العلمیّة، بیروت، الطبعة الاولی، 1404 ه ق.

34. فروع الکافی، ثقة الإسلام الکلینی، دار صعب ودار تعارف، بیروت، الطبعة الثالثة.

35. القانون الأساسی للجمهوریة الإسلامیّة ایران.

36. قواعد الأحکام، العلّامة الحلی، جماعة المدرسین، قم، الطبعة الاولی، 1413 ه ق.

37. الکافی، ثقة الإسلام الکلینی، دار الکتب الإسلامیّة، طهران، 1365 ه ش.

38. الکامل، عبداللَّه بن عدی، دار الفکر، بیروت، الطبعة

ص: 256

الثالثة، 1409 ه ق.

39. کتاب الام، الشافعی، دار الفکر، الطبعة الثالثة، 1403 ه ق.

40. کتاب البیع الإمام الخمینی، مؤسسة تنظیم ونشر آثار الإمام الخمینی، طهران، 1421 ه ق.

41. کنزالعمال، المتقی الهندی، مؤسسة الرسالة، بیروت، لبنان، 1409 ه ق.

42. المبسوط الشیخ الطوسی، محمّد باقر البهبودی، مکتبة مرتضویة.

43. مسالک الأفهام، الشهید الثانی، مؤسسة المعارف الإسلامیّة، قم، الطبعة الاولی، 1416 ه ق.

44. مستدرک الحاکم، أبوعبداللَّه الحاکم النیسابوری، دار المعرفة، بیروت.

45. مستدرک الوسائل، المحدّث النوری، مؤسسة آل البیت، قم، 1408 ه ق.

46. مسند أحمد، الإمام أحمد بن حنبل، دار صادر، بیروت، لبنان.

47. مصباح الفقاهة، آیة اللَّه الخوئی، مکتبة الدواری، قم، الطبعة الاولی.

48. المعجم الکبیر، الطبرانی، دار إحیاء التراث العربی، الطبعة الثانیة، 1400 ه ق.

49. المغنی، ابن قدامة، دار الکتاب العربی، بیروت، لبنان.

50. منتهی المطلب، العلّامة الحلی، الطبعة الحجریة.

51. من لا یحضره الفقیه، الشیخ الصدوق، انتشارات جماعة المدرسین، قم، 1413 ه ق.

52. موسوعة الفقه الإسلامی، المجلس الأعلی للشؤون الإسلامیّة، القاهرة، 1390 ه ق.

53. المیزان فی تفسیر القرآن، السید محمّد حسین الطباطبائی، انتشارات جماعة المدرسین، قم، 1417 ه ق.

54. النظام الاقتصادی الإسلامی والمبانی المذهبیة (نظام اقتصادی اسلام مبانی مکتبی)، السید حسین میر معزی، مؤسسة الثقافة والعلم والعلوم المعاصرة، الطبعة الاولی، الربیع، 1380 ه ش.

55. نهج السعادة فی مستدرک نهج البلاغة، الشیخ محمّد باقر المحمودی، مطبعة نعمان، النجف الأشرف.

56. وسائل الشیعة، الشیخ الحر العاملی، مؤسسة آل البیت، قم، 1409 ه ق.

57. الوعی الإسلامی، مجلة، مقالة «أربعة أبعاد للتکافل الاجتماعی الإسلامی، أحمد العنانی»، العدد 248.

ص: 257

(6). التنمیة الاقتصادیّة هدف مهم آخر

اشارة

البحث الأوّل: ضرورة تدخل الحکومة بشکل محدود فی لاقتصاد

البحث الثانی: دور الحکومات فی النظریّة الاقتصادیّة

البحث الثالث: المبانی النظریّة فی تدخل الحکومة

البحث الرابع: مجالات حضور الحکومة فی الاقتصاد

ص: 258

ص: 259

دور الحکومة فی اقتصاد المجتمع

البحث الأوّل: ضرورة تدخل الحکومة بشکل محدود فی الاقتصاد

إنّ تأکید وإصرار الاقتصاد الکلاسیکی علی الحریات الفردیّة فی الاقتصاد وعدم تدخل الحکومة فی النشاطات الاقتصادیّة والذی یبتنی علی أصل محوریة النفع الفردی، تسبب فی خسائر وأضرار جسیمة لا تقبل التعویض، ومن ذلک: اتساع الفاصلة الطبقیة، التمییز والاختلاف وإهدار المنابع الاجتماعیّة العامّة وما إلی ذلک من تداعیات السلبیّة لهذه النظریّة الاقتصادیّة.

إنّ المشاکل الناشئة من هذه النظریّة الاقتصادیّة، إمتدت إلی دائرة الفکر والتنظیر وساهمت فی إیجاد وتشکّل النظریّة الاشتراکیّة فی الاقتصاد، وهی النظریّة التی تقف فی مقابل نظریّة الاقتصاد الحر، وتقرر أنّ جمیع النشاطات الاقتصادیّة منحصرة فی أمور الدولة وأنّ الحکومة هی التی تتولّی جمیع النشاطات الاقتصادیّة، ولکن هذه النظریّة منذ بدایتها لم توفّر الاستجابة المناسبة للحاجات الطبیعیّة والفطریّة للإنسان والمجتمع البشری، وبالتالی حدث ما کان متوقعاً لهذه النظریّة وشاهد العالم إنحلال وإنهیار هذه النظریّة الاقتصادیّة فی ظاهرة فشل وإخفاق المعسکر الإشتراکی.

وبالرغم من أنّ البشریّة دفعت ثمناً باهظاً للحصول علی النتائج من هاتین التجربتین القاسیتین ولکنّ هذین الإخفاقین، دعیا علماء الاقتصاد فی العالم لوضع نظریّة مرکبة فی مجال الاقتصاد، وما نشاهده الیوم فی البلدان العالم یعتبر نموذجاً من الاقتصاد المختلط، والذی یقوم علی أساس أصل تدخل الحکومة فی الاقتصاد إلی جانب الاقتصاد الحر «الفردی والجماعی» لأنّ الجمیع أدرکوا بشکل جلی أنّ ترک الاقتصاد بید السوق، لا یوفّر العدالة المقبولة للمجتمع البشری، ولا تتحقق الأهداف المنشودة من قبیل الرفاه العام، والعدالة الاجتماعیّة فی مسألة توزیع الثروة، کما أنّ الاقتصاد الحکومی بدوره لا یستطیع لوحده إشباع جمیع الحاجات الفطریّة للبشر، ومن هذا المنطلق لابدّ من إیجاد نظریّة تلفیقیة بین

ص: 260

هذین الاقتصادین، لیستطیع کلّ واحد من هذین الاقتصادین: السوق الحر والاقتصاد الحکومی من تأمین بعض هذه الحاجات.

وطبعاً فالمهم هنا وما وقع مورد البحث والجدال، مقدار وکیفیة تدخل وحضور الدولة فی السوق والاقتصاد.

وممّا لا شک فیه أنّ تعریفنا ورؤیتنا للحکومة ووظائفها واختیاراتها وأهدافها فی الاقتصاد، یؤثر تأثیراً کبیراً فی رؤیتنا لکیفیة ومقدار تدخل الحکومة فی الاقتصاد، کما هو ملاحظ فی إیران أیضاً، بعد مضی عقدین أو ثلاثة عقود من انتصار الثورة الإسلامیّة، حیث نشاهد مواقف مختلفة فی هذا الباب بالتناسب مع نوع رؤیة المسؤولین فی الحکومة الإسلامیّة إلی المسیرة الاقتصادیّة فی هذا البلد، فتارة ترتفع نسبة تدخل الدولة فی الاقتصاد وتارة أخری یرتفع شعار لزوم التقلیل من تدخل الحکومة فی السوق.

وهذا الاختلاف فی المواقف، یحکی عن هذه الحقیقة، وهی أنّه بالرغم من أنّ الجمیع یقبلون علی أصل تدخل الحکومة، ولکنّهم مختلفون فی تعیین حدود وکیفیة هذا التدخل، ولم یصلوا لحدّ الآن إلی نظریّة کاملة وشاملة فی هذا الجانب.

وهذا الموضوع مع أنّه یمکن استنباطه بوضوح من آیات القرآن وکلمات المعصومین علیهم السلام، ولکن بما أنّ علماء الدین علی إمتداد التاریخ لم یکن لهم دور مؤثر فی قرارات الحکومة، وخاصّة فیما یتصل بعلماء الشیعة، فإنّه قلّما وقع مورد البحث والاهتمام من قبل علماء الإسلام.

ویعتقد بعض المحققین (1) أنّ کتاب «الخراج لأبی یوسف یعقوب بن إبراهیم (م 182 ه ق) یعتبر أوّل کتاب الف لغرض بیان مکانة ودور الحکومة الإسلامیّة فی النشاطات الاقتصادیّة، وبعده ألّف علماء مسلمون فی المائة سنة الأخیرة، من علماء أهل السنّة محمّد عمر جپرا، الدکتور إبراهیم العسل، الدکتورة سعاد إبراهیم صالح، البرفسور خورشید أحمد، الدکتور منذر قحف، ومن کبار علماء الشیعة نری من بحث هذا الموضوع فی أبعاده المختلفة وبیّن مکانة ودور الحکومة فی الاقتصاد الإسلامی الإمام الخمینی قدس سره، الشهید الصدر والشهید المطهری.

والیوم بحمداللَّه وبعد قیام الحکومة الإسلامیّة فی ایران نأمل أن تکون نموذجاً مناسباً لسائر البلاد الإسلامیّة، فإنّ طرح هذا الموضوع وتقدیم طرق ومناهج مناسبة فی مقام التنفیذ والعمل، یحظی بأهمیّة کبیرة.

وکما سیأتی الکلام عنه لاحقاً بشکل تفصیلی فإنّ الإسلام یطرح نظریّة فی هذا المجال، وهذه النظریّة من جهة تؤکد علی إشراف الحکومة الإسلامیّة فی المسائل الاقتصادیّة، کما ورد التعبیر عن هذا المعنی فی قوله تعالی:

«کَیْ لَایَکُونَ دُولَةً بَیْنَ الْأَغْنِیَاءِ مِنْکُمْ»(2)

أو ما ورد فی الروایات:

«... وامنع من


1- دور الحکومة فی الاقتصاد( نقش دولت در اقتصاد) بالفارسیّة، السید عباس الموسویان، ص 155- 156.
2- سورة الحشر، الآیة 7.

ص: 261

الإحتکار»(1)

، وأمثال ذلک ممّا یعتبر شاهداً علی هذا المدعی، ومن جهة أخری فقد وردت عبارات فی النصوص الدینیّة:

«دعوا الناس یرزق اللَّه بعضهم من بعض»(2)

«إنّما السعر إلی اللَّه»(3)

، تشیر إلی عدم إمکانیة وعدم جواز إیصاد الطریق بشکل کامل علی النشاطات الاقتصادیّة الحرة.

البحث الثانی: دور الحکومات فی النظریّة الاقتصادیّة

اشارة

بالنسبة إلی تدخل أو عدم تدخل الحکومة فی الاقتصاد بشکل عام فثمة ثلاث نظریات مهمّة فی هذا الباب، والإسلام بوصفه دیناً سماویاً خالداً، طرح نظریّة رابعة فی هذا المجال، فتکون مجموع هذه النظریّات کالتالی:

1. دور الحکومة فی نظریّة الاقتصاد الکلاسیکی

إنّ النقطة المرکزیة فی مذهب الاقتصاد الکلاسیکی یبتنی علی نظریّات ومفکرین مثل: «جون لوک» و «آدام اسمیت» والتی تقوم علی ثلاثة عناصر:

«الحریة» و «الفرد» و «النفع الشخصی»(4).

وعلی أساس هذه النظریّة فإنّ الفرد هو کلّ شی ء فی عملیّة الاقتصاد وأنّ تدخل الحکومة فی السوق یعنی الاعتداء علی الحقوق الفردیّة ومخالف للاقتصاد الحر(5).

فی هذا النظام فإنّ کلّ فرد یسعی بدون الأخذ بنظر الاعتبار المنافع العامّة لتحقیق منفعته وزیادة أرباحه، ولذلک یجوز تحصیل الربح من أی طریق کان ولا مجال لرعایة الأصول الإنسانیّة والأخلاقیّة عملیاً فی هذه النظریّة، والمنتجون فی هذا النظام الاقتصادی مجاوزن حتی فی طرح إعلانات تجاریة کاذبة وإیجاد نوع من الاشتهاء الکاذب لدی المستهلکین وبإمکانهم حصر امتیاز بیع وشراء البضائع لهم.

هذه الرؤیة الاحادیّة البعد، ظهرت آثارها السلبیّة بسرعة علی مستوی: تلوث البیئة، البطالة، ثراء الأقلیّة إلی جانب فقر الأکثریّة و ... الخ، وهذه الآثار الوخیمة عرضت المنافع العامّة والأمن الاجتماعی للخطر، وتجاهلت حقوق الطبقة الضعیفة فی المجتمع وترتب علی ذلک ردود أفعال شدیدة فی فضاء المجتمع إلی درجة أنّ رواد هذه المدرسة اضطروا للاعتراف بلزوم تدخل الدولة لإیجاد الرفاه النسبی فی الطبقات الدانیة


1- نهج البلاغة، الکتاب 53.
2- صحیح ابن حبّان، ج 11، ص 338، ح 4962؛ انظر: التوحیدللصدوق، ص 388، ح 33؛ سنن أبی داود، ج 2، ص 132، ح 3442.
3- التوحید، الصدوق، ص 388، ح 33.
4- انظر: دور الحکومة فی الاقتصاد( نقش دولت در اقتصاد) بالفارسیّة، ص 44؛ السوق/ الحکومة( بازار/ دولت) بالفارسیّة، ص 41.
5- انظر: مبانی الاقتصاد الإسلامی( مبانی اقتصاد اسلامی) بالفارسیّة، ص 89- 92، دور الحکومة فی الاقتصاد( نقش دولت در اقتصاد) بالفارسیّة، ص 55.

ص: 262

من المجتمع، وفی الحقیقة منعوا بذلک من انتفاضة الطبقات المحرومة وتحرکوا علی مستوی تغییر الاتّجاه فی مسیرهم الاقتصادی إلی الاقتصاد «نئوکلاسیک» أو الکلاسیکیة الجدیدة(1).

وعلی أساس الاقتصاد ال «نئوکلاسیک» رغم أنّ الأصل فی هذه النظریّة یقوم علی أساس نظام السوق وفاعلیته، ولکنّه یبیح تدخل الحکومة بصورة خاصّة وبصورة تدریجیة ویرسم حدود هذا التدخل فی مجال تصحیح انحراف السوق من الفاعلیة فی تخصیص المنابع، وأنّ الهدف الوحید للحکومة ینبغی أن یأخذ بنظر الاعتبار الرفاه العام للمجتمع، وفی هذه النظریّة فإنّ المستهلکون هم الأصل، والمؤسسات الحکومیّة هی «الوکیل»(2).

وفی الحقیقة فإنّ الحکومة فی نظریّة «الاقتصاد نئوکلاسیک» موظفة بمراقبة عملیات السوق والإشراف علی الحرکة الاقتصادیّة من خلال ترجیح منافع الأفراد، ولا تتدخل فی أمور الاقتصاد إلّافیما إذا واجه السوق إرباکاً فی مسیرة الحرکة الاقتصادیّة(3)

2. الحکومة فی نظریّة الاقتصاد الاشتراکی

یعود ظهور هذا النوع من الحکومات إلی القرن الثامن عشر والتاسع عشر، فی الحقیقة یمثّل نوعاً من ردة الفعل الطبیعیّة فی مقابل إمتداد وتوسع النظام الرأسمالی فی الغرب وهذا النظام الاشتراکی مع تجاهله للملکیة الشخصیّة، فإنّه یعمد إلی ضبط النشاطات الاقتصادیّة المهمّة ووضعها بید الدولة.

ولکن من المعلوم أنّ إلغاء الملکیّة الشخصیّة، یعدّ نوعاً من المخالفة للفطرة البشریّة ویتسبب فی اطفاء وکبت الدوافع الاقتصادیّة فی الإنسان، ولذلک فإنّ هذه النظریّة أدت بعد فترة من ظهورها إلی جفاف وجمود حالات الابداع والابتکار فی نفوس الأفراد وساقت الاقتصاد فی البلدان الشرقیّة إلی طریق مغلق، وأفضل دلیل علی بطلان هذه النظریّة ما شاهدناه من إخفاق وفشل حکومة «الاتحاد السوفیتی السابق» وإنیهار القطب الشرقی فی العالم.

3. حکومة (دولة الرفاه)

وهذه الدولة، التی اکتسبت اسمها من علماء اقتصاد مشهورین مثل: «جون مینارد کینز» (1883- 1946)، الذی یری بأنّ السوق الحر (الید الخفیة) غیر قادرة علی حلّ جمیع المشاکل والمآزق الاقتصادیّة من دون حضور الدولة (القبضة المرئیة)، فدولة کینز أو دولة الرفاه فی ذات الوقت الذی لا تخالف التمرکز فی الاقتصاد فإنّها لا تؤید تأمیم جمیع النشاطات الاقتصادیّة ووضعها بید الدولة(4).


1- انظر: الإسلام والأزمة الاقتصادیّة( اسلام و چالش اقتصادی) بالفارسیّة، ص 37، ص 108- 117.
2- دور الحکومة فی الاقتصاد الإسلامی( نقش دولت در اقتصاد اسلامی) بالفارسیّة، ص 56.
3- مبانی وأصول علم الاقتصاد( مبانی و اصول علم اقتصاد) بالفارسیّة، ص 189- 190.( للمزید من الاطلاع انظر: مقالة« مکانة الدولة فی المدرسة اللیبریالیة)( جایگاه دولت در مکاتب لیبرالیستی» بالفارسیّة، تألیف الدکتور إلیاس نادران، کتاب دور الحکومة فی الاقتصاد( نقش دولت در اقتصاد) بالفارسیّة، ص 37- 60.
4- وللمزید من الاطلاع انظر: مبانی وأصول علم الاقتصاد( مبانی و اصول علم اقتصاد) بالفارسیّة، ص 190.

ص: 263

وکأنّ الاقتصاد فی هذه الدولة ینظر برؤیة ترکیبة إلی الجوانب الإیجابیّة فی کلا النظامین الاشتراکیّة والرأسمالیّة، ومن هذه الجهة فإنّ کلا من السوق والدولة یساهمان ویتعاونان فی مجال حلّ المشکلات الاقتصادیّة والاجتماعیّة فی البلد(1).

ولکن فی مقابل هذه النظریّة الاقتصادیّة لا نجد مقترحات حول ضبط العملیات الربویّة وإیجاد الرغبة الکاذبة والموهومة لدی المستهلکین، الإحتکار، اختصاص الإنتاج بید فئة معینة، الاستهلاک المفرط و ... الخ، ومن هذه الجهة وبالرغم من أنّ غالبیة البلدان فی العالم تتخذ هذا المنهج المختلط فی اقتصادها ومع ذلک تئنّ تحت وطأة الأزمات والمشکلات الکثیرة، بل حالیاً نشهد حالات تسونامیّة کبیرة تهدد أرکان هذا النوع من الاقتصاد.

4. الحکومة الدینیّة الإسلامیّة

إنّ الحکومة بالمعنی العام للکلمة(2) فی النظام الدینی لا یمکن تفکیکها عن الرؤیة الکونیّة فی نظر الإسلام، لأنّ الحکومة الدینیّة مضافاً إلی الاهتمام بالمسائل الدینیّة، فإنّها تهتم کثیراً بالأمور العقائدیّة والقیمیّة.

ووجه الاختلاف والتفاوت بین النظام الاقتصادی فی الحکومة الدینیّة مع سائر أنواع الاقتصاد المختلط الغربی، فی أنّ الاقتصاد فی الرؤیة الدینیّة وخلافاً للمدارس المادیّة لیس وسیلة لرفع وإشباع حاجات الإنسان المادیّة بل وسیلة لإشباع حاجات الإنسان المعنویّة فی خط الرشد والتعالی، ومن هذه الجهة فإنّ الحکومة الدینیّة لا یمکنها أن تقف موقف الحیاد فیما یتصل بحاجات الأفراد وإشباعها فی حرکته التکاملیّة کما هو الحال فی بعض المجتمعات اللیبرالیة(3).

فی الرؤیة الشمولیّة للدین فإنّ عجز السوق عن زیادة نشاطه الاقتصادی لا یمثّل السبب فی تدخل الدولة فی الاقتصاد، بل إنّ الرؤیة الدینیّة فی وظیفة الدولة فی مجال التدخل والإشراف علی الأمور الاقتصادیّة تهدف للوصول إلی الأهداف المتعالیّة کإقامة العدل وتوفیر الأرضیّة اللازمة لرشد وتعالی الإنسان وتحسین القیم والمثل الإنسانیّة والعقائدیّة، وطبعاً فإنّ مثل هذه الحکومة لا یمکنها أن تترک حقل الاقتصاد ولا تتدخل فیه.

وسوف نشیر فی الفصول اللاحقة إلی نوع ومیزان تدخل الحکومة الإسلامیّة لتحقیق الأهداف المذکورة.

البحث الثالث: المبانی النظریّة فی تدخل الحکومة

اشارة

من المعلوم أنّ اللَّه تعالی خلق الإنسان حرّاً


1- وللمزید من الاطلاع انظر مقالة« الدولة فی الاقتصاد الکینزی»( دولت در اقتصاد کینزی) تألیف الدکتور موسی غنی نجاد بالفارسیّة، کتاب دور الحکومة فی الاقتصاد( نقش دولت در اقتصاد) بالفارسیّة، ص 65- 79.
2- المراد من الحکومة هنا، لیست القوّة التنفیذیة فحسب، بل عبارة عن مجموعة القوی التنفیذیة، القضائیّة والتقنینیّة.
3- وللمزید من الاطلاع انظر: السوق- الدولة( بازار- دولت) بالفارسیّة، ص 68- 71؛ مبانی أصول علم الاقتصاد( مبانی اصول علم اقتصاد) بالفارسیّة، ص 190- 191.

ص: 264

ومختاراً، ولا ینبغی سلب هذا الاختیار من الإنسان تحت أی ذریعة، وعلی أساس ما ورد فی القرآن الکریم فإنّ أحد الأهداف المهمّة لنبی الإسلام صلی الله علیه و آله، مواجهة وفک القیود والأغلال التی تسلب من الإنسان حریته واختیاره:

«الَّذِینَ یَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِیَّ الْأُمِّیَّ الَّذِی یَجِدُونَهُ مَکْتُوباً عِنْدَهُمْ فِی التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِیلِ یَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَیَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنکَرِ وَیُحِلُّ لَهُمُ الطَّیِّبَاتِ وَیُحَرِّمُ عَلَیْهِمْ الْخَبَائِثَ وَیَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِی کَانَتْ عَلَیْهِمْ»(1).

وطبقاً لهذه الآیة الشریفة فإنّ رسول الإسلام صلی الله علیه و آله هو الذی یتولّی کسر هذه الأغلال والسلاسل التی تکبل ید الإنسان وقدمه وتحریره من هذا الأسر.

وعلی أساس هذه الرؤیة الدینیّة لا أحد حتی الحکومة الإسلامیّة له الحقّ فی سلب الحریة والاختیار من أفراد البشر فی الظروف العادیة أو فرض قیود ومحدودیات فی مجال النشاطات الاقتصادیّة، العمل، اختیار نوع العمل والمهنة، تغییر مکان الکسب و ...، ولکن من جهة فإنّ تحقق قسم المهم من أهداف المجتمع والمصالح العامّة یستوجب تدخل الحکومة فی تلک الدائرة الخاصّة، وهذا یبتنی علی عدّة مبانی نشیر إلی أهمها:

1. المسؤولیّة العامّة

(ترجیح المصالح العامّة علی المصالح الفردیّة)

إنّ الإنسان فی دائرة التعلیم الدینیّة، فی ذات کونه حرّاً ومختاراً، فإنّه مسؤول أیضاً، بل إنّ حریة الفرد مقترنة مع مسؤولیّاته، ومنها مسؤولیّته فی مقابل المجتمع، ومن هذه الجهة نری أنّ القرآن الکریم یقرر تکالیف ومسؤولیات علی الامم مضافة للمسؤولیات المتوجهة للأفراد أیضاً، وفی یوم القیامة فإنّ الأفراد یسألون عن تکالیفهم الجمعیة کما یسألون عن تکالیفهم الفردیّة(2).

فمع أنّ أفراد البشر أحرار ومختارون من الجهة الفردیّة، ولکن بما أنّ هذه الحریة تقترن بالتکلیف والمسؤولیّة الاجتماعیّة فیما یتصل بالقیم الإلهیّة فإنّ تحقق هذه القیم بصورة طبیعیّة فی المیادین الاجتماعیّة ومنها فی مجال النشاطات الاقتصادیّة لا یتیسر بدون حضور وتدخل الحکومة الإسلامیّة.

یقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی عهده لمالک الأشتر: إنّ الواجب علی الحاکم الإسلامی أن یتدخل فی السوق والاقتصاد لتحقیق القیم الإلهیّة، وبالتالی یسعی لتوفیر الأرضیّة المناسبة لحرکة الإنسان فی خط التعالمی والمعنویّة.

وکما أشرنا سابقاً أنّ الإمام علی علیه السلام بعد أن یوصی مالک الأشتر بالتجّار والکسبة وأنّهم یمثّلون طبقة من الکادحین والنافعین للمجتمع یقول: «

واعلم- مع ذلک- أنّ فی کثیر منهم ضیقاً فاحِشاً وشُحّاً قبیحاً واحتکاراً للمنافع وتحکّماً فی البیاعات وذلک بابُ مضرّة للعامة وعیب علی الوُلاة فامنع من الإحتکار ... ولیکن البیع بیعاً سَمحاً بموازین عدل وأسعارٍ لا تُجْحِفُ بالفریقین


1- سورة الأعراف، الآیة 157.
2- انظر: سورة النحل، الآیة 89؛ سورة الجاثیة، الآیة 28.

ص: 265

من البایع والمبتاع، فمن قارَفَ حُکرةً بعدُ نهیک إیّاه فنکِّلْ به وعاقِبهُ فی غیر إسراف»(1).

یقول «النووی» وهو من علماء أهل السنّة، إنّ العلماء متفقون علی أنّهم إذا کان لدی شخص طعاماً یحتاج إلیه الناس ولا یوجد فی مکان آخر، فإنّ هذا الشخص یجبر علی بیع ذلک الطعام (بواسطة الحاکم)(2).

وسیأتی أکثر تفصیل عن هذا الموضوع فی الصفحات اللاحقة.

2. إقامة العدل

(إشاعة العدالة)

لا شک أنّ کلّ الموجودات فی عالم الطبیعة خلقت لأجل الإنسان:

«هُوَ الَّذِی خَلَقَ لَکُمْ مَّا فِی الْأَرْضِ جَمِیعاً»(3)

، ولکنّ التوزیع العادل للأموال والثروات وضبطها والإشراف علی تجسیدها وتوزیعها بشکل عادل یتحقق فی نظر الإسلام فی ظلّ اتباع الشرائع الإلهیّة، لأنّه بالرغم من أنّ الإنسان یستطیع بالعلم والتجربة إیجاد النظم الاجتماعیّة فی حیاته، ولکنّ تأمین العدالة تعتبر مقولة أخری لا یستطیع البشر، وبسبب تأثره بالدوافع النفعیّة والذاتیّة، من خلقها وإیجادها فی فضاء المجتمع لوحدهم، ومن هذه الجهة احتاجت البشریّة للأنبیاء الإلهیین والکتب السماویة لبناء صرح النظام العادل فی الواقع الحیاة الاجتماعیّة:

«لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَیِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْکِتَابَ وَالْمِیزَانَ لِیَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ»(4).

ومن جهة أخری فإنّ أحد الوظائف المهمّة والخطیرة للحکومة الإسلامیّة، إعمار وإصلاح المجتمع، یقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی عهده لمالک الأشتر فیما یتصل بوظیفة الحاکم الإسلامی:

«واستصلاح أهلها وعمارة بلادها»(5).

إنّ إعمار الحیاة الاجتماعیّة التی تستوعب فی دائرتها جمیع شرائح وفئات المجتمع، لا یتیسر بدون إجراء العدالة الاجتماعیّة، لأنّه ما لم یتمّ إجراء العدالة، فمثل هذا البناء لا یتحقق، یقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام:

«لا یکون العمران حیث یجور السلطان»(6).

وکذلک یقول علیه السلام:

«ما حُصّن الدول بمثل العدل»(7)

، إنّ إجراء العدالة ضامن لبقاء الحاکمیّة، فالعدالة تضمن نجاة الامّة أکثر من أی جیش وحرس.

ویقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی کلام آخر:

«اجعل الدین کهفک والعدل سیفک تَنْجُ من کلّ سوء وتظهر علی کلّ عدوّ»(8).

ومعلوم أنّ العدالة الاجتماعیّة فی الکثیر من الموارد تحتاج لتجاوز المنافع الشخصیّة إلی حالات الإیثار والتضحیّة، وهذا الأمر لا یتیسّر بدون دوافع دینیّة وإیمان راسخ بعالم الغیب.

والآن یثار هذا السؤال الرئیسی، وهو کیف یمکن تحقیق القاعدة للعدالة وظروف إقامتها فی واقع


1- نهج البلاغة، الکتاب 53.
2- شرح مسلم، النووی، ج 11، ص 43.
3- سورة البقرة، الآیة 29.
4- سورة الحدید، الآیة 25.
5- نهج البلاغة، الکتاب 53.
6- غرر الحکم، ح 8050.
7- عیون الحکم والمواعظ، ص 476.
8- غرر الحکم، ح 1422.

ص: 266

المجتمع؟

لا شک أنّ أحد المیادین المهمّة فی إقامة العدل والقسط تتمثّل فی السوق، لأنّ السوق بحدّ ذاته إذا لم تتحقق فیه العدالة، فإنّ تداعیات هذه الظاهرة السیئة تتجسد فی حالات الإجحاف، عدم الانصاف، سحق حقوق المنتجین، الإحتکار، الاستغلال وظاهرة الوسائط المتعددة فی التجارة وما إلی ذلک، وسیکون السوق بذاته لا یملک أی طریقة لمواجهة هذه الظواهر المنحرفة والسیئة، ومن هذه الجهة فإنّ تواجد الحکومة الدینیّة لتحقیق القسط والعدل ومنع الإجحاف والظلم فی ساحات السوق والاقتصاد، یعدّ أمراً ضروریاً وحیویاً.

ومن هذه الجهة ولغرض إجراء العدالة منعت الشریعة الإسلامیّة تسعیر البضائع بأقل من حقها وقیمتها (وهذا المعنی یندرج فی دائرة المعنی الواسع لکلمة بخس)، الوارد فی الآیة الشریفة عن قول نبی اللَّه شعیب علیه السلام:

«أَوْفُوا الْمِکْیَالَ وَالْمِیزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْیَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِی الْأَرْضِ مُفْسِدِینَ»(1).

ومن الجلی أنّ هذه الآیة الشریفة لیست ناظرة للأفراد فقط، بل ناظرة لعلاقات الحکومة مع أفراد المجتمع أیضاً، وخاصّة أنّ المعیار لبیان قیمة الأموال والثروة فی العصر الحاضر لیست المعاییر التقلیدیّة المتداولة، بل فی الغالب إنّ نشاطات المؤسسات الحکومیّة یؤدّی غالباً إلی انخفاض أو ارتفاع سعر البضاعة أو یؤثر فی استقرار وعدم استقرار الأسعار، کما ورد فی القرآن الکریم التأکید علی التسعیر الحقیقی والصحیح للبضائع، وعلی ضوء ذلک فإنّ الحکومات أیضاً من المخاطبین الأصلیین لهذه الآیة وخاصّة أنّه من الممکن عدم وجود دوافع حقیقیّة لتجسید العدالة فی السوق بالنسبة لهذه الأمور، لأنّ السوق یتحرک علی أساس التجارة الفردیّة وافق رؤیة الفرد محدودة، فربّما لا یتوفر للفرد معلومات واطلاعات کافیة لحاجات المجتمع الکلیّة، أو لا یجد الفرد فی نفسه علاقة خاصّة بمنافع المجتمع والمصالح العامّة، ومن هنا فإنّ الحکومة فی الواقع مسؤولة عن إجراء هذا الأصل.

وبالرغم من أنّ الأخیار والصالحین من الناس یبادرون لتحقیق هذه الأمور فی واقع السوق، ولکن لا یمکن حلّ هذه الأمور دائماً بواسطة هؤلاء الأشخاص، ومن البین أنّ إشراف الحکومة لا یتقاطع مع التجارة الحرة وعملیّة الخصخصة.

ونقرأ فی حدیث عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله:

«ما من أمیر یلی أمر المسلمین ثمّ لا یجهد لهم وینصح إلّالم یدخل معهم الجنّة»(2).

3. التعادل النسبی

إنّ أفراد المجتمع بصورة طبیعیّة أو اختیاریّة یختلفون بلحاظ الذکاء، الاستعداد، القدرة الروحیة والبدنیّة و ... فیما بینهم، وهذا الاختلاف یعنی إذا


1- سورة هود، الآیة 85.
2- صحیح مسلم، ج 1، ص 88؛ سنن الکبری للبیهقی، ج 9، ص 41.

ص: 267

فرضنا التعامل منذ البدایة فی مسألة توزیع الثروات بمعیار المساواة بالنسبة لجمیع الأفراد، فسوف نری بعد مدّة ظهور تفاوت واختلاف کبیر وغیر معقول فی میزان الأرباح والعائدات المالیّة للأفراد، وبالتالی یؤدّی إلی تعمیق الهوة الطبقیّة بین شرائح المجتمع، وهنا مع الالتفات إلی عدالة النظام الاجتماعی بشکل عام، فإنّ الحکومة الإسلامیّة مکلّفة من خلال الاستفادة من بعض المعادلات الاقتصادیّة، منع تراکم وإکتناز الثروات بید أفراد معدودین، وذلک من خلال وضع ضرائب معینة علی هذه الثروات، وتعیین قیمة بعض البضائع، وتعیین حقوق العمّال ورواتبهم فی افق مناسب لشأنهم، ومع اقتراح وضع قوانین محسوبة بعملیّة خاصّة لمنع تراکم الأموال الکثیرة بید أشخاص معدودین، لأنّ مثل هذا التراکم للأموال والثروات لیس فقط یتسبب فی مشاکل اقتصادیّة، بل یفضی إلی مشاکل وأزمات سیاسیة خطیرة دائماً.

یقول الإمام الخمینی قدس سره فی هذا المجال: «

للإمام علیه السلام ووالی المسلمین أن یعمل ما هو صلاح للمسلمین من تثبیت سعر أو صنعة أو حصر تجارة أو غیرها ممّا هو دخیل فی نظام وصلاح للمجتمع»(1).

البحث الرابع: میادین حضور الحکومة فی الاقتصاد

اشارة

إنّ الإسلام، مع تأکیده علی تبیین الأصول والمقررات الاقتصادیّة فی قوالب أبواب فقهیّة وحقوقیّة مختلفة، وفی مقابل رؤیة شمولیّة خاصّة تحرک علی مستوی بیان الدعائم الأخلاقیّة والفضائل الإنسانیّة فی الأمور الاقتصادیّة والاهتمام بطبقة الفقراء والمحرومین، وفی ذات الوقت لم یفوّض إجراء هذه الأمور إلی الباعث الوجدانی والباطنی للناس، بل اعتبر أنّ الحاکم الإسلامی یمثّل قوّة خارجیّة ودعامة أساسیّة لإجراء القوانین فی المجتمع.

وبدیهی أنّ مجرّد بیان المقررات والقوانین لا یمکنه توفیر منافع المجتمع بشکل عام ولا یمنع من تعرض المجتمع للإرباک والهرج والمرج، بل إنّ إجراء القانون أیضاً حاله حال إقرار أصل القانون یحظی بأهمیّة بالغة.

ومن هذه الجهة فإنّ الإسلام ومن أجل الوصول إلی الأهداف الإلهیّة والأخلاقیّة وضع للحکومة الإسلامیّة اختیارات خاصّة کیما تتمکن فی إطارها من التدخل فی السوق والاقتصاد، وهذه الأمور عبارة عن:

أ) الرقابة والهدایة

لو ألقینا نظرة عابرة علی الأحکام الحقوقیّة فی الإسلام فیما یتصل بمواجهة المتخلفین عن القانون فی مجال الاقتصاد وضرورة التصدی للعناصر المخربة فی مجال معیشة الناس، وکذلک مطالعة سیرة النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله فی حکومته، لرأینا أنّ الإسلام وضع حق الإشراف وضبط السوق والمعاملات التجاریّة والنشاطات الاقتصادیّة بعهدة الحاکم الإسلامی.


1- تحریر الوسیلة، ج 2، ص 626.

ص: 268

إنّ الرقابة علی السوق فی صدر الإسلام کانت متداولة ویسمی المشرفون علی السوق ب «عامل السوق»، ومن وظائفهم المهمّة الرقابة والإشراف علی الوزن والمکیال وجمع الضرائب التی تضعها الحکومة علی مراکز الکسب وأهل الحرف والمهن المختلفة(1).

ومعلوم أنّ هذه عملیّة لیست مجرّد رقابة وإشراف فقط، بل رقابة مقترنة مع إعمال وإجراء القانون.

ونقرأ فی روایة: أنّ النّبی صلی الله علیه و آله مرّ علی جماعة من المحتکرین فأمر باخراج البضاعة المحتکرة وعرضها فی السوق أمام الملأ:

«مرّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله بالمحتکرین فأمر بحکرتهم أن تخرج إلی بطون الأسواق وحیث تنظر الأبصار إلیها»(2).

والرقابة من قِبل النّبی صلی الله علیه و آله علی الأمور الاقتصادیّة کانت إلی درجة من الدقّة أنّها أحیاناً ومن أجل تحریک عجلة الاقتصاد فی السوق بشکل صحیح وسلیم، أنّ النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله کان یستخدم سلطته الحکومیّة.

ویورد المحدّث الشهیر البخاری فی صحیحه روایة عن سالم عن أبیه:

«لقد رأیت الناس فی عهد رسول اللَّه صلی الله علیه و آله یبتاعون جزافاً یعنی الطعام، یُضربون أن یبیعوه فی مکانهم حتّی یؤوه إلی رحالهم»(3)

، یعنی أنّهم یجبرون من قِبل الشرطة علی بیعه لمن یشتریه.

وکذلک طبقاً لما ورد فی التواریخ أنّ النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله بعد فتح مکة، أمر سعید بن العاص أن یتولّی مسؤولیّة أمور سوق مکّة(4).

وکذلک نقرأ فی کتب المؤرخین مرّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله برجل یبیع طعاماً قد خلط جید بردی ء. فقال له النّبی صلی الله علیه و آله:

«ما حملک علی ما صنعته؟»

قال: أردت أن ینفق. فقال النّبی صلی الله علیه و آله

«میِّز کلّ واحد منهما علی حدة، لیس فی دیننا غشّ»(5).

ونقرأ فی التاریخ أیضاً عندما کان أمیرالمؤمنین علی علیه السلام بالکوفة یفتدی کلّ یوم بکرة من القصر فیطوف فی أسواق الکوفة سوقاً سوقاً ...- ویعظ الناس- فینادی:

«یا معشر التجّار اتقوا اللَّه ...»

(فإذا اتفق أن شاهد مخالفة للقانون فإنّه یصدر الحکم فوراً ویعمل علی تنفیذه فی ذلک الموقع)(6).

وقد أمر الإمام علی علیه السلام مالک الأشتر فی عهده المعروف أن یمنع التجّار والکسبة من إحتکار الطعام:

«فامنع من الإحتکار فإنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله منع منه»(7).

وکذلک أمر الإمام علیه السلام قاضیه علی الأهواز «رفاعة» بأنّ یعاقب المحتکرین بأشد العقوبة ویأخذ منهم البضاعة المحتکرة ویعرضها علی الناس:

«أنْهِ عن الحکرة، فمن رکب النهی فأوجعه ثمّ عاقبه بإظهار ما احتکر»(8).

إنّ هذه الرقابة علی السوق والاهتمام بحلّ مشاکل


1- انظر: السوق- الدولة( بازار- دولت) بالفارسیّة، ص 70.
2- الاستبصار، ج 3، ص 115، ح 408.
3- صحیح البخاری، ج 3، ص 23.
4- الاستیعاب، ج 2، ص 619، الرقم 984.
5- کنز العمال، ج 4، ص 159، ح 9974.
6- انظر: وسائل الشیعة، ج 12، ص 283، باب 2 من أبواب آداب التجارة؛ کنز العمال، ج 5، ص 816.
7- نهج البلاغة، الکتاب 53.
8- دعائم الإسلام، ج 2، ص 36.

ص: 269

الکسبة والتجّار استمر کذلک فی عصر الخلفاء.

وطبقاً لما ذکره المؤرخون فإنّ الخلیفة الثانی کان یتدخل شخصیاً فی السوق ویتولّی أمور الحسبة ویقوم بالإشراف علی المعاملات التجاریّة ویراقب الموازین:

«کان عمر بن الخطاب یقوم بوظیفة الحسبة بنفسه فکان یشارف السوق ویراقب الموازین»(1).

وکان هذا الخلیفة قد أمر امرأتین وهما «الشفاء» و «سمراء» بنت «نُهیک الأسدی» بمراقبة سوق المدینة(2)، وکذلک أمر «عبداللَّه بن عتبة» لیتولّی الإشراف علی الکسب والعمل فی السوق (3).

ب. وضع المقرّرات
اشارة

ومن الاختیارات الأخری للحکومة الإسلامیّة وضع المقررات فی المسائل الإجرائیّة، فالحکومة الإسلامیّة لها الحقّ فی وضع مقررات خاصّة بما یتناسب مع مصالح الفرد والمجتمع، کما ورد فی صدر الإسلام أنّ النّبی صلی الله علیه و آله والخلفاء بوصفهم حکّام المجتمع الإسلامی، کانوا یضعون مقررات تتصل بالنشاطات الاقتصادیّة، وهنا نشیر إلی جملة منها:

1. الإلزام برعایة قوانین الکسب والعمل

إنّ رعایة قوانین التجارة، یعنی أنّه إذا لم یراعِ لشخص شروط العمل فی السوق أو لا یلتزم بها، فإنّه سیمنع من العمل فی السوق، ونقرأ فی الروایة أنّ النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله منع «حکیم بن حزام» من التجارة: ( [

إنّ

] رسول اللَّه صلی الله علیه و آله لم یأذن لحکیم بن حزام فی تجارة حتّی ضمن له إقالة النادم وإنظار المعسر وأخذ الحقّ وافیاً أو غیر وافٍ)(4).

وکذلک ورد أنّ الخلیفة الثانی أمر بهدم حانوت بنی فی موقع من السوق (علی خلاف المقررات)(5)، بل إنّ الخلیفة الثانی أحیاناً یقوم بمعاقبة التجّار والکسبة لإلزامهم علی رعایة قوانین السوق:

(رأیت عمر بن الخطاب یضرب التجار بدرّته إذا اجتمعوا علی الطعام بالسوق ...»(6).

2. منع الإضرار

أحیاناً یؤدّی بقاء بضاعة خاصّة لدی البائع وعدم بیعها إلی إلحاق ضرر بفرد أو عدّة أفراد، ومع ذلک یمتنع البائع من بیعها، ففی مثل هذا المورد للحکومة الحقّ فی إجبار هذا الشخص ببیع البضاعة أو إجارتها، ودلیل الفقهاء علی هذا الأمر ما ورد فی قصّة سمرة بن جندب، الذی ورد فی الروایة: إنّ سمّرة بن جندب کان له عذق فی حائط رجل من الأنصار وکان منزل الأنصاری ببان البستان وکان یمرّ إلی نخلته ولا یستأذن کلّمه الأنصاری أن یستأذن إذا جاء فأبی سمرة، فلمّا تأبی جاء الأنصاری إلی رسول اللَّه صلی الله علیه و آله


1- معالم القربة، ص 13.
2- الحسبة، ص 29، نقلًا عن القضاء فی الإسلام، ص 181- 182.
3- کنز العمال، ج 5، ص 815، ح 14467. وللمزید من الطلاع انظر: مقالة« الرقابة علی النظام الاقتصادی» فی هذا الکتاب.
4- التهذیب، ج 7، ص 5.
5- انظر: کنز العمال، ج 5، ص 815، ح 14466.
6- المصدر السابق، ح 14468،

ص: 270

فشکاه إلیه وخبّره الخبر، فأرسل إلیه رسول اللَّه صلی الله علیه و آله وخبّره بقول الأنصاری وما شکا وقال: إن أردت الدخول فاستأذن فأبی فلمّا أبی ساومه حتی بلغ به من الثمن ما شاء اللَّه، فأبی أن یبیع ... فقال رسول اللَّه صلی الله علیه و آله للأنصاری:

«اذهب فاقلعها وارم بها إلیه فإنّه لا ضرر ولا ضرار»(1).

وأمّا إجبار البائع علی بیع العطام فی حالة حاجة الناس إلیه ولا یتوفر فی مکان آخر، فإنّ النووی من علماء أهل السنّة ادعی الإجماع علی ذلک (2).

وهکذا بالنسبة لمنع شراء البضاعة من القوافل التجاریّة فی خارج المدینة، ودلیل هذا النهی عدم اطلاع أصحاب القافلة علی القیمة فی السوق، وجاء فی بعض الروایات ثبوت حقّ الخیار لمثل هؤلاء الأشخاص لمنع إلحاق الضرر بهم (3).

3. تحدید دخول البضاعة إلی البلد علی أساس مصالح المجتمع

إنّ الحکومة الإسلامیّة لها الحقّ فی وضع القوانین والمقررات الخاصّة لمنع أو تقیید إنتاج أو استیراد الأجناس التی تضر بالمجتمع من قبیل البضائع التجملیة وغیر الضروریّة التی تستلزم خروج العملة الصعبة من البلاد أو البضائع المفیدة التی تستدعی إضعاف السوق وتؤثر سلباً فی إنتاج المحاصیل الزراعیّة، أو المنتجات الصناعیّة الداخلیة.

وکذلک وضع المقررات التی تحدد استیراد أو إنتاج البضاعة التی تؤدّی إلی هیمنة الأجانب علی شؤون المجتمع الإسلامی.

ونقرأ فی روایة أنّ: أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی کتابه إلی أحد عمّاله یأمره فیها بمنع أهل الذمّة من عمل الصیرفة

، «عن أمیرالمؤمنین علیه السلام أنّه کتب إلی رفاعة یأمره بطرد أهل الذمّة من الصرف»(4)

(لئلا یتلوث المجتمع الإسلامی بالعملیات الربویّة).

4. وضع المقررات الضروریّة

ومضافاً إلی الموارد السابقة، فإنّ الحکومة الإسلامیّة تستطیع وضع مقررات أخری مع ملاحظة مصالح المسلمین والإشراف علی الأمور الاقتصادیّة، ومن باب المثال:

أ). وضع مقرّرات لمنع الاستئثار وتنظیم سلوک المراکز الاقتصادیّة لغرض منع بعض الامتیازات وأشکال الاستئثار.

ب) المقرّرات المتعلقة بحفظ البیئة ومنع النتائج والتداعیات المخربة الناشئة من بعض الفعالیات الاقتصادیّة.

ج) المقرّرات المتعلقة ببعض عمل الولاة والمحافظین بالنسبة لعملیات الإنتاج والاستهلاک لغرض المنع من الغش والتدلیس.


1- انظر: الکافی، ج 5، ص 292؛ من لا یحضره الفقیه، ج 3، ص 103.
2- انظر: شرح مسلم، النووی، ج 11، ص 43.
3- تلقی رکبان، یعنی تلقی القوافل التجاریّة قبل دخولهم المدینة وعدم اطلاعهم عن حالات السوق.
4- مستدرک الوسائل، ج 13، ص 354.

ص: 271

د) المقرّرات المتعلقة بالصحة فی مجال العمل، فمن جهة تحفظ هذه المقررات سلامة العمّال والموظفین، ومن جهة أخری تحفظ منافع المستهلکین.

ه) المقرّرات المتعلقة بالمالک والمستأجر، والناظرة إلی منع تخلیة المستأجر لمحلّ الإجارة مع مطالبة المالک.

و) المقرّرات المتعلقة بتنظیم حرکة المال فی السوق، ومن قبیل تحدید بیع وشراء العملة الصعبة، أو الإشراف علی افتتاح الحسابات المصرفیة وصنادیق القرض.

ز) المقرّرات المختلفة لحفظ التعادل والانسجام الاجتماعی، من قبیل منع إنتاج وتوزیع المخدرات، منع تسویق البضاعة المسروقة، تحدید وتقیید البرامج التلفزیونیة، شبکة الانترنیت، المطبوعات، الفضائیات و ...(1).

بل إنّ الحکومة الإسلامیّة تستطیع فی عقودها ومعاملاتها مع الشخصیات الحقیقیّة والحقوقیّة أن تضع بعض المواد القانونیة فی شروط خاصّة ومع الأخذ بنظر الاعتبار المصالح العامّة للمسلمین بأن یکون لها الحقّ فی الفسخ من طرف واحد.

یقول الإمام الخمینی قدس سره فی هذا المجال: «إنّ الحکومة الإسلامیّة تستطیع فسخ العقود الشرعیة التی عقدتها مع الناس فی مواقع معینة إذا کانت مخالفة لمصالح البلد والإسلام، وتستطیع منع کلّ أمر یخالف مصالح الإسلام سواءً کان أمراً عبادیاً أو غیر عبادی، مادام یخلّ بمصالح الإسلام (من قبیل منع الحجّ فی بعض السنوات لغرض حفظ کیان الإسلام والمسلمین)»(2).

وقد کتب الشهید المطهری فی کتاب الإسلام ومقتضیات الزمان (3) بحوث مفیدة فی هذا المجال، ویری المطهری أنّ الحکومة الإسلامیّة لها الحقّ فی منع المعاملات المباحة فی حدّ ذاتها (بالعنوان الأولی رعایة للمصلحة الأهم)(4).

ج. السیاسات الهادفة لتکریس الاستقرار الاقتصادی

إنّ الحیلولة دون وقوع اضطرابات کبیرة فی الأسعار وإیجاد استقرار نسبی فی السوق یعدّ من جملة المساحات التی یکون للحکومة الإسلامیّة دور أکبر فیها، ولا شک أنّ استقرار السوق واضطراب الأسعار یعود إلی عوامل مختلفة، وترتبط مباشرة بإعمال سیاسات خاصّة من قِبل الحکومة الإسلامیّة.

إنّ عدم التناسق بین العرض والطلب یؤدّی إلی اضطراب الأسعار بشدّة، وکذلک مسألة الواردات والصادرات والزمان المعین لکلّ واحد منها، له أثر مباشر فی تعدیل حرکة السوق وإیجاد التوازن


1- وللمزید من الاطلاع انظر: السوق- الدولة( بازار- دولت) بالفارسیّة، ص 53- 55.
2- صحیفة النور، ج 20، ص 170.
3- انظر: الإسلام ومقتضیات العصر( اسلام و مقتضیات زمان) بالفارسیّة، ج 2، ص 70- / 86.
4- انظر مسألة الربا( مسأله ربا) بالفارسیّة، ص 113.

ص: 272

المطلوب.

إنّ تزریق العملة للسوق ووفرة السیولة النقدیّة له تأثیر محسوس علی الأسعار، ومن العوامل الأخری التی تؤثر علی السوق الداخلی، حالة الأسواق الخارجیة أیضاً.

ومعلوم أنّ التأثیر علی هذه الأمور أو اتخاذ مقررات عامّة فی مجالها خارج عن عهدة السوق، لأنّ هذه الأمور تدخل فی مجال سلطة الحکومة التی تستطیع وضع سیاسات مناسبة فیما یتصل بکلّ واحد منها لکی یتیسر لها ضبط الأسعار ومنع حدوث التضخم والرکود الاقتصادی.

وخلاصة الکلام أنّ الحکومة الإسلامیّة مکلّفة، من خلال وضع المقررات المحسوبة والمناسبة، بحفظ استقرار السوق والوقایة من الإرباک الاقتصادی وظهور أزمات مالیّة مضرّة.

وکما سبقت الإشارة إلیه بأنّ عمدة الدلیل الشرعی فی هذا النوع من المسائل وجوب حفظ کیان الإسلام، وقاعدة «لا ضرر» وتقدیم مصالح المجتمع علی مصالح الفرد، وعلی أساس هذه الأصول غیر القابلة للتغییر یجب علی الحکومة الإسلامیّة الإشراف علی النشاطات الاقتصادیّة فی الحقل الخصوصی، والصنائع و ... فی الإطار المعین، وتعمل علی تقویة وتفعیل الکسب والتجارة علی أساس محور العدل والانصاف ومنع کلّ أشکال العداون والإجحاف بالنسبة لحقوق الآخرین.

***

المنابع والمصادر

1. القرآن الکریم.

2. نهج البلاغة (مع تحقیق الدکتور صبحی صالح).

3. الاستبصار، الشیخ الطوسی، تصحیح الآخوندی، دار الکتب الإسلامیّة، طهران، 1390 ه ق.

4. الاستیعاب، ابن عبدالبر، تحقیق علی محمّد البجاوی، دار الجیل، بیروت، 1412 ه ق.

5. الإسلام والأزمة الاقتصادیّة (اسلام و چالش اقتصادی) بالفارسیّة، محمّد عمر جپرا، ترجمة میرمعزی ومساعدیه، التحقیقات الثقافیّة و العلوم الإسلامیّة، 1384 ه ش.

6. الإسلام ومقتصیات العصر (اسلام و مقتضیات زمان)، الشهید مرتضی المطهری، انتشارات صدرا، طهران، الطبعة الثالثة، 1373 ه ش.

7. أصول الکافی، محمّد بن یعقوب الکلینی، دار الکتب الإسلامیّة، قم، الطبعة الثالثة، 1388 ه ق.

8. السوق- الحکومة وحقوق المستهلکین (بازار/ دولت بالفارسیّة/ حقوق مصرف کننده)، الدکتو أحمد باقرزاده، انتشارات تنمیة القلم، قم، 1381 ه ش.

9. السوق- الدولة الأرباح والخسائر (بازار- دولت، کامیابی ها و ناکامی ها)، الدکتور أحمد التوکلی، سازمان سمت، طهران، 1380 ه ش.

10. تحریر الوسیلة، الإمام الخمینی، مؤسسة مطبوعات اسماعیلیان، قم، الطبعة الثانیة، 1390 ه ق.

11. التوحید، الشیخ الصدوق محمّد بن علی، مؤسسة نشر

ص: 273

الإسلامی، قم.

12. تهذیب الأحکام، الشیخ الطوسی، دار الکتب الإسلامیّة، طهران، الطبعة الثانیة، 1365 ه ش.

13. الحسبة أو الرقابة علی سلامة إجراء القانون (حسبه یا نظارت بر سلامت اجرای قانون) بالفارسیّة، قدرة اللَّه المشایخی ب، انتشارات أنصاریان، قم، 1376 ه ش.

14. دعائم الإسلام، القاضی ب نعمان المغربی ب، دار المعارف، القاهرة، مصر، الطبعة الثانیة.

15. سنن أبی داود، سلیمان بن الأشعث السجستانی، دار الفکر، بیروت، 1410 ه ق.

16. سنن الکبری، البیهقی، دار الفکر، بیروت.

17. شرح مسلم، النووی، دار الکتاب العربی، بیروت، 1407 ه ق.

18. صحیح ابن حبان، محمّد بن حبان بن أحمد، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانیة، 1414 ه ق.

19. صحیح البخاری، محمّد بن إسماعیل، دار الفکر، بیروت، 1401 ه ق.

20. صحیح مسلم، مسلم النییابوری، دار الفکر، بیروت.

21. صحیفة النور، بیانات الإمام الخمینی، مؤسسة نشر آثار الإمام، وزارة الإرشاد.

22. عیون الحکم والمواعظ، علی بن محمّد الواسطی، دار الحدیث.

23. غرر الحکم ودرر الکلم، عبدالواحد بن محمّد التمیمی الآمدی، انتشارات مکتب الإعلام الإسلامی، قم، 1366 ه ش.

24. القضاء فی الإسلام، الدکتور محمّد سلام مدکور، القاهرة، دار النهضة العربیة.

25. کنز العمال، المتّقی الهندی، مؤسّسة الرّسالة، بیروت، 1409 ه ق.

26. مبانی الاقتصاد الإسلامی (مبانی اقتصاد اسلامی) بالفارسیّة، مکتب التنسیق بین الحوزة والجامعة، سازمان سمت، طهران، 1371 ه ش.

27. مبانی وأصول علم الاقتصاد (مبانی و اصول علم اقتصاد) بالفارسیّة، الدکتور یداللَّه دادگر والدکتور تیمور الرحمانی، مکتب الإعلام الإسلامی، قم، 1380 ه ش.

28. مسألة الربا (مسأله ربا) بالفارسیّة، الشهید مرتضی المطهری، انتشارات صدرا، طهران.

29. مستدرک الوسائل، الحاج النوری الطبرسی، مؤسسة آل البیت، قم، 1407 ه ق.

30. معالم القربة فی أحکام الحِسبة، محمّد بن محمّد بن أحمد القرشی، (معروف بابن الإخوة)، مکتب الإعلام الإسلامی، قم، 1408 ه ق.

31. من لا یحضره الفقیه، الشیخ الصدوق، محمّد بن علی، دار الکتب الإسلامیّة، قم، الطبعة الثالثة، 1408 ه ق.

32. دور الحکومة فی الاقتصاد (نقش دولت در اقتصاد) بالفارسیّة، (مجموعه مقالات) سعید فراهانی فرد، التحقیقات الثقافیّة والعلوم الإسلامیّة، طهران، 1381 ه ش.

33. وسائل الشیعة، محمّد بن الحسن الحرّ العاملی، دار إحیاء التراث العربی، بیروت.

ص: 274

ص: 275

(7). الرقابة علی النظام الاقتصادی

اشارة

البحث الأوّل: رقابة الحکومة الإسلامیّة علی النظام الاقتصادی

البحث الثانی: الرقابة العامّة

البحث الثالث: رقابة وسائل الإرتباط الجمعی

ص: 276

ص: 277

الرقابة علی النظام الاقتصادی

المقدّمة:

إنّ النظام الاقتصادی فی الإسلام، لیس مثل النظام الاشتراکی الذی یتمحور حول اقتصاد الدولة، ولا من قبیل النظام الاقتصادی الرأسمالی الذی یعتمد بصورة کاملة علی السوق الحر، فالإسلام وفی ذات الوقت الذی یقبل بنظام السوق الحر وتفویض تعیین الأسعار من خلال قانون العرض والطلب، فإنّه لم یترک النظام الاقتصادی وسوق المجتمع بشکل کامل، بل استخدم طرقاً مختلفة وآلیات مناسبة مع ضبط رقابة الأمور الاقتصادیّة والاهتمام بها.

وعلی هذا الأساس، فإنّ الحکومة الإسلامیّة أحیاناً ومن خلال التوصیة والنصحیة، وأحیاناً أخری بالتدخل فی مجال الرقابة ومنع الإحتکار، وتارة بتنفیذ القانون بالمنع من استئثار البعض وإجحافهم بحق الناس، وتقوم بأداء وظیفتها فی شأن الرقابة علی الحقل الاقتصادی فی المجتمع.

وببیان آخر أنّ الحکومة الإسلامیّة سواء فی مجال السیاسات أو التخطیط، أم فی مجال النشاطات الاقتصادیّة تقوم بدفع مسیرة التنمیة الاقتصادیّة إلی الأمام، وهکذا تدفع عجلة الإنتاج، والمنتجین والتجّار والنشطاء فی المیدان الاقتصادی بهذا الاتجاه، لکی یتاح لها تحقیق وتجسید برامجها ومخططاتها الاقتصادیّة لتستوعب جمیع شرائح المجتمع المختلفة ویستطیع کلّ فرد الاستفادة من الإمکانات الطبیعیّة فی البلد وبسط العدالة الاجتماعیّة من جهة، وإجراء الرقابة المستمرة علی هذه المعاملات وحرکة السوق من جهة أخری.

وتستطیع الحکومة فی هذا المجال استخدام العناصر المشوقة والمحفزة، وکذلک الاستعانة بعناصر الرقابة المستمرة، وأیضاً استخدام عناصر المنع فی صورة الضرورة، ولکن علی أیة حال فاللازم أن لا تتدخل الحکومة بشکل مباشر فی السوق إلّاأن تستدعی الضرورة لذلک وتتجنب الأمر والنهی فی جزئیات وتفاصیل الإنتاج والتوزیع والمعاملات التجاریّة، بل تکتفی بدور تعیین السیاسات العامّة والإشراف علی السوق.

وطبعاً فإنّ المنابع الطبیعیّة والصناعات المهمّة والقسم الحیوی والاستراتیجی فی الاقتصاد لابدّ أن

ص: 278

یکون بید الدولة، التی تتولّی التدخل بشکل مباشر فی هذه الأمور، وإن کانت تملک الخیار فی إعطاء هذه الموارد بید الناس والقطاع الخاص وبشروط معینة ویبقی لها دور تعیین السیاسات والإشراف العام علیها.

إنّ سیاسة الحکومة الإسلامیّة فی هذا القسم لا یعنی إبقاء هذه الموارد والثروات فی دائرة ملکیة وسلطة الدولة ولا تستخدم القسم الخاص فی إدارة هذه الموارد.

«إنّ الحکومة الإسلامیّة من جهة تملک هذه الثروات والموارد الاقتصادیّة المهمّة، وخلافاً للنظام الرأسمالی فإنّها تملک حقّ الإشراف علی التوزیع الابتدائی لهذه الثروات، وخلافاً للنظام الاشتراکی فإنّ السیاسات الاقتصادیّة للحکومة الإسلامیّة تقوم علی أساس انتفاع جمیع أفراد المجتمع من هذه الموارد الطبیعیّة»(1).

وفیما إذا کان المجتمع الإسلامی یعیش الحالة الطبیعیّة فی مجال الاقتصاد ولم تطرأ علیه عوارض خاصّة تتسبب فی إرباکه، فإنّ تدخل الحکومة الإسلامیّة لا مبرر له، لأنّ أفراد المجتمع یتحرکون فی نشاطاتهم الاقتصادیّة علی أساس الدوافع الفردیّة وفی إطار البرامج والسیاسات الاقتصادیّة المعینة من قِبل الحکومة، وسیاسة الحکومة الاقتصادیّة فی مثل هذه الظروف یجب أن تقوم علی أساس تقویة البواعث الفردیّة والاجتماعیّة فی مسار تحقیق الأهداف المشخصة والمرسومة.

وفی صورة اضطراب الظروف وتعرض المجتمع لحالات اضطراریّة فإنّ الحکومة الإسلامیّة ومن خلال مقتضیات المصلحة العامّة تستطیع الاستفادة من اختیاراتها فی ضبط اقتصاد المجتمع فی مجال الإنتاج والتوزیع والمصرف، بل تعمل علی تمرکز هذه الأمور بیدها لمدّة معینة، ولکن الأصل الأولی لابدّ أن یقوم علی أساس السوق الحر والنظام غیر المتمرکز التی تتولّی فیه الحکومة الإسلامیّة تعیین السیاسات العامّة والرقابة علی مجمل النشاطات الاقتصادیّة.

ومضافاً إلی دور الحکومة، فإنّ الناس أنفسهم لهم دور مهم فی عملیّة الرقابة والإشراف علی أمور السوق ومن باب الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر یستطیعون إعمال مسؤولیتهم فی الرقابة والإشراف علی النظام الاقتصادی فی المجتمع، وهکذا الحال بالنسبة لأجهزة الإعلام فإنّها تتولّی دور الرقابة علی هذا المیدان بوصفها العین الیقظة للُامّة والحکومة.

البحث الأوّل: رقابة الحکومة الإسلامیّة علی النظام الاقتصادی

اشارة

إنّ الحکومة الإسلامیّة وبالالتفات إلی مسؤولیتها فیما یتصل بالرابطة مع الناس وترشید وتنمیة الحرکة الاقتصادیّة فی البلاد، یجب علیها کما هو الحال فی


1- انظر: مبانی الاقتصاد الإسلامی( مبانی اقتصاد اسلامی) بالفارسیّة، ص 505.

ص: 279

الأقسام الأخری من أمور المجتمع، القیام بالدور الرقابی علی النظام الاقتصادی فی البلاد فی مجالات الإنتاج والتوزیع والتجارة والاستهلاک، فتارة من خلال زیارة الوالی أو أعوانه للسوق بشکل مباشر، وتارة أخری من خلال تسعیر البضاعة والمحصولات، وأحیاناً بإصدار القوانین والمقررات ومواجهة عناصر الفساد والمخلین بالنظام الاقتصادی.

إنّ ورود الحاکم الإسلامی إلی السوق واطلاعه عن کثب علی المعاملات التجاریّة من شأنه تقویة النظام الاقتصادی من جهتین:

1. مسؤولیّة الحکومة أمام الناس

یقول رسول اللَّه صلی الله علیه و آله:

«کلّکم راع وکلّکم مسؤول عن رعیّته، فالأمیر راع علی رعیّته وهو مسؤول عنهم»(1).

إنّ قسماً مهماً من مسؤولیّة الحکومة أمام الناس، یرتبط بالرقابة علی السوق والنظام الاقتصادی ووضع سیاسات صحیحة للتنمیة الاقتصادیّة وبسط العدالة الاجتماعیّة ومنع حالات الإجحاف والظلم علی الناس.

وبالنسبة لمسؤولیّة الحکومة فی الأمور الاقتصادیّة والمعاملات التجاریّة یقول الإمام أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی عهده المعروف لمالک الأشتر، ضمن توصیته بالإحسان والمحبّة للتجّار وأهل الصناعات وتقدیر سعیهم والاهتمام بأمورهم یقول:

«واعلم- مع ذلک- أنّ فی کثیر منهم ضیقاً فاحشاً، وشُحّاً قبیحاً، واحتکاراً للمنافع، وتحکّماً فی البیاعات، وذلک باب مضرّة للعامّة، وعیب علی الولاة»(2).

وفی هذه التوصیة للإمام علی علیه السلام بمراقبة التجّار وأهل الصناعات، توجد نقطتان مهمتان:

الأُولی أنّ عملیّة التسعیر غیر المنصفة من شأنها أن تقترن مع فتح ألسن الناس بنقد الولاة وأعمالهم، وطبعاً مع الأخذ بنظر الاعتبار مسؤولیّة الحکومة فی مجال عدم الإضرار بالناس، ینبغی علیها مراقبة السوق والأسعار فیه.

الثانیة: أنّ الإحتکار وارتفاع الأسعار من قِبل التجار والکسبة یعتبر عیباً علی المسؤولین فی الحکومة الإسلامیّة، لأنّ لسان الناس الناقد لهم والأضرار الاقتصادیّة المترتبة علی هذه الحالات السلبیّة من قِبل النفعیین والانتهازیین، تعتبر علامة ضعف الأجهزة الحکومیّة، ومن هذه الجهة تعتبر عیباً للحکومة.

2. عنوان الحسبة
اشارة

ومضافاً إلی المسؤولیّة العامّة للحکومة فی مقابل الناس فیما یرتبط بالرقابة والإشراف علی النظام الاقتصادی فی المجتمع، فقد وردت فی الروایات الإسلامیّة توصیات خاصّة بالنسبة للرقابة علی المجتمع ومن ذلک الرقابة علی السوق، والذی عبّر عنه


1- مسند أحمد، ج 2، ص 111؛ صحیح البخاری( ج 1، ص 215)؛ عوالی اللئالی( ج 1، ص 129) بدلًا« فالأمیر» کلمة« الإمام».
2- نهج البلاغة، الکتاب 53.

ص: 280

الفقهاء بعنوان «الحسبة» ویسمی المأمور علی هذا الشأن ب «المحتسب»، رغم أنّ الحسبة فی الحقیقة تعدّ قسماً من الحکومة الإسلامیّة ویتمّ تعیین المحتسب من قِبل الحکومة.

یقول «ابن منظور»: «الحسبة». مصدر احتسابک الأجر علی اللَّه: تقول: فعلته حِسبة والحَسَبَ فیه، إحتساباً، الإحتساب، طلب الأجر، وکذلک یقال: إنّ لحسن الحسب فی الأمر أی حسن التدبیر والنظر فیه، وتأتی أحیاناً بمعنی التجسس ویتحسسها ویطلبها یقال:

«فلان یتحسّب الأخبار أی یتجسّسها»

. وکذلک أتی بمعنی الإنکار والعمل القبیح:

«احتسب فلان علی فلان أی أنکر علیه قبیح عمله»(1).

وجاء فی مجمع البحرین بعد استعراض معانٍ متعددة لکلمة «حسب»:

«الحِسبة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر»(2).

وفی الحقیقة فإنّ هذا المعنی للحسبة یعتبر اصطلاحاً بین الفقهاء، ومن هذه الجهة فإنّ الشهید الثانی فی کتاب الدروس یعبّر عن کتاب الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر ب «کتاب الحسبة».

وعلی أیة حال، فالحسبة والتحسب هی ذات المسؤولیّة التی تقع علی عاتق الولاة والمسؤولین ووکلائهم فیما یتصل بأمر الرقابة لمنع وقوع المنکرات فی المجتمع وکیفیة مواجهتها(3)، ومن جملة وظائف المحتسبین الرقابة علی السوق والعمل علی منع الإجحاف والتطفیف والغلاء والإحتکار وأمثال ذلک.

یقول ابن خلدون فی هذا الصدد: «إمّا الحسبة فهی وظیفة وبنیّة من باب الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر الذی هو فرض إلی القائم بأمور المسلمین، یعیَّن لذلک من یراه أهلًا له، فیتعیّن فرضه علیه، ویتخذ الأعوان علی ذلک، ویبحث عن المنکرات، ویُعزر ویؤدّب علی قدرها، ویحمل الناس علی المصالح العامّة فی المدینة، مثل المنع من المضایقة فی الطرقات ... والحکم علی أهل المبانی المتداعیة للسقوط یهدمها ...، ولیس له إمضاء فی الدعاوی مطلقاً، بل فیما یتعلق بالغش والتدلیس فی المعایش وغیرهما، وفی المکاییل والموازین، وله أیضاً حمل المماطلین علی الانصاف، وأمثال ذلک ممّا لیس فیه سماع بیّنة، ولا إنفاذ حکم، وکأنّها أحکام ینزّه القاضی عنها لعمومها وسهولة أغراضها، فتدفع إلی صاحب هذه الوظیفة لیقوم بها»(4).

إنّ سیرة النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله وکذلک سیرة الإمام علی علیه السلام تبیّن أنّ هذین العظیمین أحیاناً یدخلون بأنفسهم إلی السوق ویقومان بتقدیم المواعظ والنصائح والتحذیرات للتجّار والکسبة ویعرفوهم بتکالیفهم الشرعیّة والاجتماعیّة، وفی الحقیقة أنّ کلّ واحد منهما یقدم علی هذا العمل بوصفه «رئیس الحسبة»، ونستعرض هنا نماذج من ذلک:


1- لسان العرب، مادة« حسب».
2- مجمع البحرین، مادة« حسب».
3- المحتسب بهذا المعنی ورد فی أشعار الشعراء بصورة کثیرةیقول الحافظ ما معناه: کلّ من رآی عینیه قال أین« محتسب» کی یسکره
4- تاریخ ابن خلدون، ج 1، ص 225- 226( مع تلخیص).

ص: 281

1. دخل رسول اللَّه صلی الله علیه و آله یوماً إلی السوق وأخذ یخاطب التجّار ویقول:

«یا معشر التّجار، إنّ سوقکم

هذه یخالطها اللّغو والحلف، فشوِّبُوه بشی ء من

الصدقة»(1).

2. ویروی أبوهریرة عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه دخل یوماً إلی السوق، فرأی تمراً مکدساً ومتراکماً علی بعضه فأدخل النّبی یده فیه وشاهد رطوبة فی التمر فقال:

«ألا من غشّنا فلیس منّا»(2).

3. وینقل الإمام الباقر علیه السلام عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله قال: مرّ النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله فی سوق المدینة بطعام، فقال لصاحبه: «ما أری طعامک إلّاطیّباً، وسأله عن سعره، فأوحی اللَّه عزّ وجلّ إلیه أن یدس یده فی الطعام ففعل فأخرج طعاماً ردیّاً، فقال لصاحبه:

«ما أراک إلّاوقد

جمعت خیانةً وغشّاً للمسلمین»(3).

4. کان الإمام علی علیه السلام یأتی إلی السوق ویقول:

«یا أهل السّوق، إتّقوا اللَّه وإیّاکم والحلف، فإنّه ینفق

السِّلعة

، ویمحق البرکة، فإنّ التّاجر فاجر إلّامن أخذ

الحقّ وأعطاه».

وفی سیاق هذه الروایة ورد أنّ الإمام علی علیه السلام عاد مرّة أخری إلی السوق بعد عدّة أیّام وأعاد ذلک الکلام علی أهل السوق (4).

وطبقاً لنقل کنز العمّال أنّ الإمام علی علیه السلام کان یتخذ مکاناً خاصاً فی السوق ویقف فیه کلّما مرّ علی السوق، ویحدّث الناس بهذه الکلمات (5).

5. قال الإمام الباقر علیه السلام:

«کان أمیرالمؤمنین علیه السلام

بالکوفة عندکم یغتدی کلّ یوم بکرة من القصر فیطوف

فی الأسواق سوقاً سوقاً

ومعه الدرّة ... فیقف عل أهل

کلّ سوق فینادی: یا معشر التّجار ...»(6)

. (أمّا السوط الذی کان یحمله الإمام علیه السلام فهو من أجل تأدیب الأشخاص المتمردین وتعزیر الجانحین).

6. عن الأصبغ بن نباتة: قال:

«خرجنا مع علی علیه السلام

... وهو یطوف فی السوق، یوفی الکیل والمیزان ...

فیأمرهم بوفاء الکیل والمیزان»(7).

وأحیاناً یأمر الإمام علیه السلام الباعة بأوامر خاصّة، مثلًا ما ورد فی روایة أنّ الإمام علیه السلام دخل السوق یوماً وقال:

«یا معشر اللّحّامین، من نفخ منکم فی اللّحم

فلیس منّا»(8).


1- کنز العمال، ج 4، ص 127، ح 9870. ونقل الإمام علی بن الحسین علیهما السلام عن أبیه أنّ الإمام علی علیه السلام کان یمرّ من السوق ویقول بصوت عالٍ:« إنّ أسواقکم هذه یحضرها أیمان، فشوِّبُوا أیمانکم بالصدقة»( مستدرک الوسائل، ج 7، ص 262، ح 8195).
2- مستدرک الحاکم، ج 2، ص 9.
3- وسائل الشیعة، ج 12، ص 209، ح 8.
4- مستدرک الوسائل، ج 13، ص 250، ح 15274. ومثل هذه الروایة ورد فی کنز العمال، ج 4، ص 175، ح 10043. وفی حاشیة بحار الأنوار( ج 40، ص 332)« ینفق السلعة» بمعنی ینفد ویفنی، ویکون معنی الجملة أنّ القسم یفنی السلعة والمتاع ویذهب البرکة.
5- انظر: کنز العمال، ج 4، ص 175، ح 10043.
6- الکافی، ج 5، ص 151، ح 3. وورد أیضاً فی أنساب الأشراف( ص 140):« کان علی علیه السلام یطوف فی السوق ومعه درّة».
7- بحار الأنوار، ج 41، ص 271.
8- بحار الأنوار، ج 100، ص 102، ح 45. وردت هذه الروایة مع اختلاف بسیر فی کنز العمال، ج 4، ص 158، ح 9969. بیان: النفخ فی اللحم یحتمل الوجهین: الأوّل: ما هو الشایع من النفخ فی الجلد لسهولة السلخ. والثانی: التدلیس الذی یفعل بعض الناس من النفخ فی الجلد الرقیق الذی علی اللحم لیری سمیناً وهو أظهر. فهذا النوع من النفخ غش وحرام کما أشار إلیه العلّامة المجلسی فی البحار والمعنی الثانی هنا أنسب.( انظر: بحار الأنوار، ج 62، ص 326).

ص: 282

یستفاد من مجموع الروایات المذکورة آنفاً، مقدار وکیفیة إشراف الحاکم الإسلامی ورقابته للسوق والعملیات الاقتصادیّة فی المجتمع وضبطه للمعاملات بشکل مباشر.

نظرة علی تاریخ الحسبة فی الإسلام:

إنّ مسألة الحسبة والرقابة الخاصّة وعملیات التفتیش والتدقیق للأقسام المختلفة فی المجتمع، لها جذور فی تاریخ الإسلام وقد ورد فی کتاب «نفحات القرآن» فیما یتصل بهذا المورد:

«وکانت دائرة «الحسبة» من الدوائر المعروفة فی زمن الخلفاء وتشرف علی نشاطات الکسبة والتجّار والفلاحین وشرائح المجتمع الأخری من حیث المخالفات والمنکرات، وکلما رأی المحتسبون مخالفة کانوا ینهون مرتکبیها لها، فإن لم یؤثر فیهم النهی والتذکیر والموعظة، کانوا یعاقبون المخالف فی نفس المکان مباشرة، أو یقبضون علیه ویسلّمونه إلی القاضی فیأمر بحبسه.

وباعتقاد البعض، فإنّ جذور هذه المسألة تعود إلی عصر النّبیّ صلی الله علیه و آله حیث کان صلی الله علیه و آله یمارس عمل المحتسب بنفسه الشّریفة، وتارة کان یوکل الأمر إلی شخص ینتخبه لهذا الغرض، ولکن لابدّ من الإلتفات إلی أنّ استعمال هذا المصطلح لم یکن معمولًا به فی ذلک العصر، ولم یکن موجوداً فی کلام الفقهاء المتقدمین، ویبدو أنّ هذا المصطلح استعمل لأول مرّة، فی عصر خلفاء بنی أُمیّة وبنی العبّاس، حیث انتخب لهذا الشق من الأمر بالمعروف والنّهی عن المنکر.

وعلی أیّة حال، فإنّ الأخبار الواصلة عن عصر النّبیّ صلی الله علیه و آله تدل علی أنّ کلمة «الحسبة» وإنْ لم تکن متداولة فی ذلک العصر بمعناها ومفهومها المعهود الیوم، ولکن مفهومها الواقعی أی، النظارة علی المسائل الاجتماعیّة من قبل الحکومة الإسلامیّة، کان مراعیً تماماً حینذاک، فتارة کان الرسول صلی الله علیه و آله یقوم بنفسه بهذه الوظیفة، واخری یوکلها إلی آخرین.

ومن جملة الشّواهد علی ذلک، ما ورد من أنّ الرّسول صلی الله علیه و آله قد أمر سعید بن سعید بن العاص- بعد فتح مکة- بالإشراف علی السّوق، حیث ورد فی الحدیث:

«استعملَ رَسولُ اللَّهِ سعید بنَ سَعید بن العاص بَعْدَ الفَتح

علی سُوق مکّة»(1).

حتی أنّ المستفاد من بعض الرّوایات، أنّ بعض النّساء کنَّ یمارسن وظیفة الإشراف علی المسائل النّسائیة (کمسائل الحجاب وأمثال ذلک)، ومن جملة تلک النّسوة امرأة باسم «سحراء» بنت نهیک (2) التی أدرکت عصر النّبیّ صلی الله علیه و آله، کانت مأمورة بالقیام بتلک الوظیفة، فکانت تدور فی الأسواق وتأمر بالمعروف وتنهی عن المنکر (وإن ذهب البعض إلی أنّها لم تقم بذلک الدور فی عصر النّبیّ صلی الله علیه و آله وإنّما کان ذلک فی زمن


1- التّراتیب الإداریة، للکتانی، ج 1، ص 285( ینقل الرّوایة عن إبن عبد البرّ فی الإستیعاب).
2- نهیک علی وزن شریک، وفی الأصل بمعنی الجمل القوی، والسّیف القاطع، ویطلق علی الرجل الحازم أیضاً.

ص: 283

عمر بن الخطاب)(1).

وفی کثیر من المواضع، کان النّبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله یتولی ذلک بنفسه، خاصة فی مسائل الإحتکار والغش والتدلیس فی المعاملة وأمثال ذلک.

ونقرأ أیضاً فی أحوال الإمام علیّ علیه السلام أنّه کان یتولی بنفسه الأُمور المرتبطة بالحسبة، فکان أحیاناً یمرُّ فی سوق القصابین وینهاهم عن المخالفة(2).

وکان علیه السلام یمرَّ تارة فی سوق السّماکین وینهاهم عن بیع الأسماک المحرّمة(3).

ولکن، وبمرور الزّمان، اتسعت مسألة «الحسبة» واتّخذت تدریجیّاً صورة دائرة مهمّة من دوائر الدولة الإسلامیّة، فکان المأمورون باسم «المحتسبین» یدورون فی الأزقة والأسواق والشّوارع الکبیرة لیل نهار ویراقبون الأمور الاجتماعیّة المختلفة، فیعاقبون المخالفین فی محل إرتکاب المخالفة أحیاناً، وأحیاناً أخری یأخذونهم إلی القاضی (کما فی شرطة المرور هذه الأیّام).

وأتّسعت دائرة «الحسبة» إلی درجة أنّ «جرجی زیدان» المؤرخ المعروف ذکر فی کتابه «تاریخ الحضارة الإسلامیّة» یقول:

«الحسبة»: وهی إحدی المناصب الإسلامیّة، شأنها شأن منصب القضاء وللمحتسب حقّ ردع الناس عن القیام بالمنکرات، وله حقّ الإشراف علی التعزیر والتأدیب، وأمر الناس بضرورة رعایة المصالح فی المؤن، ومنعهم من الوقوف فی الطرقات، ومراقبة شؤون النقل، ومنع أصحاب السفن من تحمیل السفینة أکثر من طاقتها، وذلک حفاظاً علی أموال وأرواح الناس، ویأمر بإقامة وتعدیل الجدران المشرفة علی السقوط وکل شی ء من شأنه تعریض المارة للخطر، وکل شی ء یلحق بهم الضرر، ویمنع الغش والتدلیس فی الکسب والعمل، ویأمر بمراعاة المکیال والمیزان والإشراف علی منع کلّ ما من شأنه أن یلحق الأذی والإجحاف بالناس.

وکل ما ذکر هو مسؤولیات القاضی، ولکن لکون القاضی لا یستطیع ممارسة کلّ هذه الأعمال بشکل عملی، لذا فُصلت هذه المسؤولیّة من مهامه، وأصبحت مستقلة.

المتصدی لهذا المنصب أو المسؤول یجب أن یکون فرداً صالحاً ومن ذوی الوجاهة، لأنّ هذه المسؤولیّة تمثل خدمة دینیّة «ومن دون هذه الوجاهة لا یمکنه القیام بهذه المسؤولیّة».

ورئیس امور الحسبة یقوم بتعیین ممثلین عنه فی کافة المناطق ویستطیع أن یجلس کلّ یوم فی أحد المساجد المهمّة، ویقوم مُمثِّلوه بممارسة الأعمال المختلفة الملقاة علی عاتقهم فی الإشراف علی المشاغل المختلفة والسوق.

وفی مصر کان رئیس امور الحسبة یجلس یوماً فی مسجد القاهرة ویوماً فی مسجد الفسطاط، ویرسل ممثلیه إلی الشوارع والأزقة لکی یقوموا بالإشراف علی وضع اللحوم ومراکز الطبخ والأغذیة، وکذلک


1- المصدر السابق.
2- کنز العمال، ج 4، ص 158.
3- وسائل الشیعة، ج 16، ص 332.

ص: 284

الإشراف علی الحمولة التی تحملها الحیوانات، حیث لا یسمحون تحمیلها أکثر من طاقتها، ویأمرون سقاة الماء بأن یغطوا أوانیهم بقطع من القماش، وأن یراعوا الموازین الصحیة والإسلامیّة فی أعمالهم.

ویحذرون معلمی المدارس والمکاتب بأن لا یضربوا تلامذتهم ضرباً شدیداً إذا ما أذنبوا، وإذا ما ضربوهم فلیتجنبوا المناطق الحساسة والخطرة من الجسم.

والمحتسب له حقّ الإشراف علی محل ضرب العملة لکی لا یحصل الغش أثناء ضرب السکة فتخرج عن العیار المطلوب.

وفی الأندلس کان یسمی هذا المنصب «الاحتساب» والمسؤول عنه أحد القضاة، ویقوم هذا الشخص برکوب مرکباً والتجوال فی الأسواق یحیط به أعوانه وموظَّفوه، ویحمل معه میزان لیزن به الخبز، فاذا کان أقل مِمّا هو مقرر فیعاقب البائع.

ویجب علی القصاب أن یعلق قیمة للحومه فی دکانه، وذلک لکی لا یتلاعب بالأسعار.

وفی بعض الأحیان یقوم المحتسب بإرسال طفلٍ أو امرأة لکی یشتریا من السوق، ویقوم المحتسب بوزن ما اشتریاه، فاذا رای نقصاً فی الوزن فیقوم بمجازاة البائع.

هؤلاء، لدیهم قوانین واسعة لها علاقة بالحسبة یقومون بتدریسها فی مدارسهم، کما یدرس فقهاء الإسلام دروسهم (1).

ومن مجموع هذا الکلام والمطالب الأخری المذکورة فی الکتب المصنفة فی «الحسبة»، یظهر أنّ «دائرة الحسبة» کانت تتولی کثیراً من الأمور التی تتولاها الیوم الدوائر الحکومیة کأمانة العاصمة وقوی الأمن، وقوی التعزیرات والغرامات الحکومیة، والتّربیة والتعلیم، والقضاة، وأنّها أحد أرکان الحکومة الإسلامیّة الفعالة، وخاصة فی دورها الواضح والبارز فی محاربة المنکرات، ولذا فإنّ قصائد الشعراء تضمنّت مصطلح «المحتسب» ووظائفه بشکل موسع (2).

أسالیب رقابة الحکومة علی النظام
الاقتصادی
اشارة

إنّ الحکومة الإسلامیّة من أجل إعمال الرقابة علی السوق والنظام الاقتصادی فی المجتمع تملک آلیات وأسالیب مختلفة، ومن خلال استخدام هذه الأسالیب تقوم بتنفیذ رقابتها وإشرافها فی المجال الاقتصادی بما یتناسب مع مقتضیات الواقع، وفیما یلی بعض هذه الآلیات والأسالیب:


1- تاریخ الحضارة الإسلامیّة« جرجی زیدان»، ج 1، ص 252، مع التصرف.
2- نفحات القرآن، ج 10، ص 268- 272( مع التلخیص). وللمزید من الاطلاع علی بحث المحتسب والحسبة وأنواعها وأرکانها، وشروط المحتسب، وآداب المحتسب، والموارد التی یحق للمحتسب أن یتدخل فیها، ومراتب الاحتساب وسائر البحوث المتعلقة بالحسبة انظر: الأحکام السلطانیّة، الماوردی؛ الأحکام السلطانیة أبی یعلی؛ معالم القربة فی أحکام الحسبة، ابن الإخوة، الموسوعة الفقهیة الکویتیة، ج 17، ص 223- 268 و قاموس دهخدا( لغت نامه دهخدا) بالفارسیّة، ج 20، مادة حسبة.

ص: 285

1. التسعیر
اشارة

یترتب علی ظاهرة الغلاء آثار سیئة اجتماعیّة ونفسیّة وعلی حدّ تعبیر الإمام الصادق علیه السلام:

«غلاء

السعر یسیّی ء الخُلق ویُذهب الأمانة ویضجر المرء

المسلم»(1).

ورغم أنّ الأساس فی حریة النشاطات الاقتصادیّة، یدور حول تعیین السعر علی أساس العرض والطلب، فالحکومة لا ینبغی أن تتدخل فی عملیّة التسعیر للبضاعة(2)، ولکن فی موارد خاصّة وبالنسبة لمنتوجات معینة تقوم الحکومة بتسعیرها للحیلولة دون وقوع الإجحاف فی حقّ الناس فلا یترتب علی اضطراب الأسعار الآثار المخربة النفسیّة والاجتماعیّة.

وفیما یتصل بجواز أو عدم جواز التسعیر بواسطة الحکومة، فثمة کلام بین الفقهاء ناشی ء من اختلاف الروایات فی هذا المجال.

وقد ورد فی کتب متعددة ومعتبرة روایة مشهورة تقول: إنّ بعض المبیعات والمحصولات فی عصر رسول اللَّه صلی الله علیه و آله ارتفعت أسعارها، فجاء الناس إلی رسول اللَّه صلی الله علیه و آله یطلبون منه تسعیر البضائع فقال رسول اللَّه صلی الله علیه و آله:

«إنّ اللَّه هو المُسعِّر القابض الباسط الرّازق،

إنّی لأرجو

أن ألقی اللَّه عزّوجلّ ولیس أحد منکم

یطلبنی بمظلمة فی دم ولا مال»(3).

وورد فی روایة أخری أنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله مرّ علی المحتکرین فأمر بحکرتهم أن تخرج إلی بطون الأسواق، وحیث تنظر الأبصار إلیها، فقیل: لرسول اللَّه صلی الله علیه و آله: لو قوّمت علیهم فغضب رسول اللَّه صلی الله علیه و آله حتی عرف الغضب فی وجهه، فقال:

«أنا اقوّم علیهم؟ إنّما

السّعر إلی اللَّه یرفعه إذا شاء

، ویخفضه إذا شاء»(4)

، وهذا التعبیر یمکن أن یکون إشارة إلی مسألة العرض والطلب.

وطبقاً لروایة أخری قیل للنبی الأکرم صلی الله علیه و آله: لو سعرت لنا سعراً فإنّ الأسعار تزید وتنقص، فقال:

«ما

کنت لألقی اللَّه ببدعة لم یحدث إلیّ فیها شیئاً، فدعوا

عباد اللَّه

یأکل بعضهم من بعض وإذا استنصحتم

فانصحوا»(5).

ویقول العلّامة الحلّی فی إشارة إلی الروایة المستفیضة عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله فی الحکمة من امتناعه عن التسعیر:

«ولأنّ الأصل تحریم نقل مال الغیر عنه

بغیر إذنه ولأنّه ماله فلم یجز منعه من بیعه»(6)

أی بالقیمة التی یطلبها.

رأی فقهاء أهل السنّة بالتسعیر

یقول وهبة الزحیلی هو یتحدّث عن الروایة المشهورة عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله: «فالنبی صلی الله علیه و آله لم یسعّر. ولو


1- الکافی، ج 5، ص 164، ح 6.
2- یقول وهبة الزحیلی:« الأصل عدم التسعیر، ولا یسعّر حاکم علی الناس، وهذا متفق علیه بین الفقهاء»( الفقه الإسلامی وأدلّته، ج 4، ص 2695).
3- مسند أحمد، ج 3، ص 286؛ سنن الدارمی، ج 2، ص 249؛ سنن ابن ماجة، ج 2، ص 741.
4- وسائل الشیعة، ج 12، ص 317، ح 1.
5- وسائل الشیعة، ج 12، ص 318، ح 2.
6- منتهی المطلب، ج 2، ص 1007.

ص: 286

جاز، لأجابهم إلیه، وعلل بکونه مظلمة، والظلم حرام، ولأنّه ماله فلم یجز منعه من بیعه بما تراضی علیه المتبایعان، کما اتفق الجماعة إلیه، ولأنّ فی التسعیر إضرار بالناس. إذا زاد تبعه أصحاب المتاع. وإذا نقص أضر بأصحاب المتاع»(1).

ولکن الملاحظة الجدیرة بالبحث هی: هل أنّ للحاکم الحقّ فی التسعیر فی حالة الضرورة وعندما یکون الناس فی حاجة شدیدة إلی تلک البضاعة ولا یقبل البائع ببیعها إلّابقیمة عالیّة، أم لا؟

یقول النووی فی المجموع «قال الرافعی: وهل یجوز التسعیر؟ إن کان فی وقت الرخص فلا، وإن کان وقت الغلاء فوجهان: أحدهما به قال مالک یجوز رفقاً بالضعفاء، وقال الآخرون: بعدم الجواز» ثمّ أضاف الرافعی: «وأوضحها: أنّه لا یجوز تمکیناً للناس من التصرف فی أموالهم، ولأنّهم قد یمتنعون بسبب ذلک عن البیع، فیشتدّ الأمر علی الناس».

وینقل النووی آراء الآخرین أیضاً ویقول فی ختام کلامه: «فإذا باع الناس سلعهم علی الوجه المعروف وقد ارتفع السعر إمّا لقلّة الشی ء أو لکثرة الخلق، فهذه إلی اللَّه، کما فی حدیث أنس، فإکراه الناس علی أن یبیعوا بقیمة یعینها إکراه غیر مشروع، أمّا إذا امتنع أصحاب السلع من بیع سلعهم مع ضرورة الناس إلیها إلّابزیادة علی القیمة المعروفة، فهنا وجب بیعهم السلع بقیمة المثل، والتسعیر هنا جائز وعادل»(2).

طبقاً لرأی النووی فإنّ جواز التسعیر فی الحقیقة یتعلق بالغلاء الموهوم فی السوق وذلک عندما یقوم جماعة من التجّار باحتکار البضائع وإیجاد السوق السوداء وبالتالی یبیعون ما یحتاجه الناس من ضروریات الحیاة بقیمة عالیة، فهنا یستطیع الحاکم أنّ یتحرک علی مستوی التسعیر، ولکن إذا کان غلاء البضاعة ناشی ء من مقولة العرض والطلب، وکان ارتفاع السعر بسبب قلّة البضاعة وعدم التعادل بین العرض والطلب، فهنا لا یمکن إجبار الباعة علی بیع بضاعتهم بقیمة معینة، لأنّه من الطبیعی فی صورة قلّة البضاعة فإنّ الباعة أیضاً یجب علیهم شراء البضاعة بقیمة أغلی أیضاً، فهنا لا یجوز إجبارهم علی قیمة معینة.

یقول صاحب کتاب الفقه الإسلامی وأدلّته

«وأجاز المالکیّة والحنفیّة للإمام تسعیر الحاجیات.

دفعاً للضرر عن الناس. بأن تعدی أصحاب السلعة عن القیمة المعتادة تعدیاً فاحشاً. فلا بأس حینئذٍ بالتسعیر بمشورة أهل الرأی والبصر. رعایة لمصالح الناس والمنع من غلاء السعر علیهم. والافساد علیه.

ومستندهم فی ذلک القواعد الفقهیّة: «لا ضرر ولا ضرار».

ثم یشیر إلی الروایة المشهورة عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله ویقول: ... فامتناع الرسول من التسعیر لا لکونه تسعیر. وإنّما لکون علة التسعیر وهی ظلم التجّار أنفسهم غیر متوفر. فهم کان یبیعون بسعر المثل. وإنّما کان ارتفاع السعر لیس من قبل التجّار. وإنّما بسبب


1- الفقه الإسلامی وأدلّته، ج 4، ص 2696.
2- المجموع، ج 13، ص 49- 50.

ص: 287

قانون العرض والطلب. فقد قلّ عرض البضاعة فارتفع السعر(1).

رأی فقهاء أهل البیت علیهم السلام
فی عملیّة التسعیر

یقول الشهید الثانی فی کتاب المسالک بعد اختیاره قول المشهور، المبنی علی عدم جواز التسعیر، ویذکر کلاماً جامعاً فی هذا الشأن: «والأظهر أظهر إلّا مع الإجحاف والّا انتفت فائدة»(2).

وجاء فی کتاب الجواهر: «نعم لا یبعد رده مع الإجحاف کما عن ابن حمزة والفاضل فی المختلف وثانی الشهیدین وغیرهم لنفی الضرر والإضرار. لأنّه لولا ذلک لإنتفت فائدة الإجبار. وإذ یجوز أن یطلب فی ماله مال ما لا یقدر علی بذل ویضر بحال الناس والغرض رفع الضرر. ولیس ذلک من التسعیر»(3).

أمّا آیة اللَّه الخوئی رحمه الله، فیقول فی باب الإحتکار وبعد بیان هذه النقطة:، «إنّ الحاکم یجوز له أن یجبر المحتکر علی البیع وهذا ممّا لا خلاف فیه بینهم، نعم لا یمکنه التسعیر علی ماله بل یجبره علی أن یبیع الطعام بأیّة قیمة أراد،

«النّاس مسلّطون علی أموالهم»

ثمّ یذکر هذا الحدیث النبوی المعروف، ویضیف: ما لم یبلغ حدّاً یمنع منه الناس عن الاشتراء، لأنّه ممنوع لرجوعه إلی الإحتکار فی السوق فللحاکم إجبار المالک علی البیع بقیمة السوق أو بقیمة أکثر بقلیل من السوق»(4).

ویری الإمام الخمینی قدس سره أیضاً: أنّه فی صورة ما إذا عرض البائع بضاعته بسعر مرتفع فی الحقیقة فهو یهدف إلی التهرب من بیع بضاعته وإبقائها واحتکارها فإنّ الحکومة الإسلامیّة تستطیع منعه من هذا العمل:

«کما لو سعر- فراراً من البیع- بقیمة لا یتمکن أحد من الاشتراء بها فلا إشکال فی أنّ أمثال ذلک إلی الوالی، والأخبار لا تشمل مثله»(5).

النتیجة:

ویستفاد من مجموع کلمات فقهاء أهل البیت علیهم السلام وأهل السنّة أنّ الأصل الأولی فی هذه المسألة أنّ الحاکم الإسلامی لا یحق له تسعیر البضاعة، وبالتالی فإنّ سعر البضاعة، وطبقاً لمفاد:

«إِلَّا انْ تَکُونَ تِجارَةً

عَنْ تَراضٍ مِنْکُم»(6)

و

«النّاس مسلّطون علی أموالهم»

والحدیث النبوی المشهور، یکون بید الباعة والتجّار وعلی أساس من قانون العرض والطلب، ولکن فی صورة أن یکون المبیع من اللوازم الضروریّة للناس ومن حاجاتهم الملحة وفی ذات الوقت یحاول التجّار من خلال خلق حالات التوتر والإحتکار وإیجاد سوق سوداء للتوصل إلی مطامعهم المادیّة ومزید من الربح وبالتالی یمتنعون من بیع هذه البضاعة بقیمة عادلة، فإنّ الحاکم یحقّ له أن یقدم علی تسعیرها، لأنّه:


1- الفقه الإسلامی وأدلّته، ج 4، ص 2696- 2697.
2- مسالک الافهام، ج 3، ص 193.
3- جواهرالکلام، ج 22، ص 486.
4- مصباح الفقاهة، ج 5، ص 500.
5- کتاب البیع، ج 3، ص 416.
6- سورة النساء، الآیة 29.

ص: 288

أوّلًا: إذا کانت ید الباعة والتجّار مفتوحة فی عملیّة تسعر البضائع، وکانت الأسعار مرتفعة بحیث إنّ جمهور الناس لا یستطیعون شراءها، فهذا فی الحقیقة یعدّ نوعاً من الإحتکار وإعادة البضاعة إلی مخازن المحتکرین.

ثانیاً: إنّ الحدیث النبوی الشریف منصرف عن مثل هذه الحالة.

ثالثاً: إنّ قاعدة «لا ضرر»، حاکمة علی هذه الآیة والروایة وکذلک الروایات المشابهة الأخری.

أمّا فی صورة أن یکون غلاء القیمة متسبب عن قلّة العرض ووجود أزمة طبیعیّة من قبیل القحط والجفاف وأمثال ذلک، فهنا لا یحقّ للحکومة إجبار الباعة والتجّار علی بیع بضاعتهم بقیمة سنوات الوفرة، رغم أنّها تستطیع الحیلولة دون زیادة غیر متوقعة وغیر طبیعیّة للأسعار من خلال الرقابة المستمرة، وکذلک من خلال استیراد البضاعة وتزریقها للسوق وتوفیر تسهیلات جمرگیة والسماح بالإستیراد من مناطق أخری حتی تتعادل الأسعار طبقاً لقانون العرض والطلب.

وبکلام آخر، إالمسألة المهمّة فی ظاهرة غلاء المبیعات هی لزوم أن یبحث المتخصصون وأهل الخبرة فی مجال الاقتصاد هذه المسألة من أساسها، والقضاء علی الغلاء وقلعه من جذوره، فلو کانت قلّة البضاعة والعرض المحدود لها فی مقابل الطلب المتزاید لها هو السبب فی غلائها فیجب توفیر عوامل زیادة العرض والإنتاج بواسطة الحکومة، حتی یمکن تقلیل السعر ذاتیاً من خلال زیادة العرض.

والتجربة تشیر إلی أنّ الضغط علی المنتجین وکذلک البائعین فی هذه الموارد یعطی نتیجة عکسیة بحیث یحاولون إخفاء هذا المقدار القلیل من البضاعة، وبالتالی یتسبب فی زیادة السعر أکثر، ولکن إذا کانت زیادة القیمة معلولة لإیجاد السوق السوداء وحالة إستئثار بعض الأفراد بالبیع والشراء، وعلی رغم زیادة البضاعة فإنّ فئة من الناس یتحرکون علی مستوی انتقال المبیعات من ید إلی أخری فتتحقق قلّة العرض بشکل غیر طبیعی وبالتالی زیادة السعر، فهنا یجب علی الحکومة أن تکسر السوق السوداء وتمنع من تداول البضاعة بید فئة من النفعیین والانتهازیین لیعود العرض إلی حالته الطبیعیّة وتهبط الأسعار إلی مستویاتها العادیة.

والإحتکار أیضاً یعدّ سبباً لإیجاد السوق السوداء، ونعلم أنّ الحکومة الإسلامیّة لها الحقّ فی فتح مخازن المحتکرین وعرض البضاعة للناس.

وثمة موارد أخری أیضاً یکون عرض البضاعة کثیراً وعملیّة الإنتاج بمقدار کاف، ولکن التجّار، وبتنسیق مسبق یتحرکون علی مستوی الإجحاف وزیادة الأسعار بشکل کبیر وبدون مبرر، وهنا تستطیع الحکومة أن تتدخل وتفرض أسعاراً مناسبة أو تقوم بعرض البضائع التابعة لها والمدخّرة فی مخازنها فی السوق، ومثل هذه الطریقة تستطیع کسر السعر.

والنتیجة أنّ النهی عن التسعیر الوارد فی الروایات الإسلامیّة، أو ببیان آخر، إنّ وضع السعر بید اللَّه یتعلق

ص: 289

بموارد خاصّة، وأنّ الاستفادة من قاعدة «لا ضرر» یتعلق بموارد أخری.

ومن اللازم الإشارة إلی هذه النقطة، وهی أنّ بعض الفقهاء یری أنّ الوالی أو المسؤول الحسبة کما أنّه یجب علیه الحیلولة دون زیادة الأسعار فیجب علیه أیضاً الحیلولة دون انخفاض الأسعار أیضاً إذا کان بقصد إلحاق الضرر بالتجّار الآخرین.

وقد نقلوا هذه الفتوی عن مالک- أحد الأئمّة الأربعة لأهل السنّة-(1)، ومع الالتفات إلی اتساق هذه الفتوی مع قاعدة «لا ضرر» فلا مانع من القول بها.

2. الحیلولة دون تشکیل السوق السوداء

إنّ السوق السوداء والتی تسمّی فی الاصطلاح الفقهی ب «الإحتکار»، من الأمور التی ورد النهی عنها بشدّة فی الإسلام.

والإحتکار من مادة «حُکر» ویعنی الإدّخار والخزن والحفظ(2)، وفی اصطلاح الفقهاء «عبارة عن شراء البضاعة فی حال غلائها وحاجة الناس لها وحفظها وخزنها لغرض زیادة قیمتها»(3).

وقد نهی الإسلام بشدّة عن الإحتکار وفی بعض الموارد إذا کان الجنس المحتکر یمثّل حاجة ضروریّة للناس فهو حرام فی نظر الإسلام، والإحتکار یؤدّی إلی زیادة الثروة بشکل سریع واستغلال المحتکرین لوضع السوق وبسبب ذلک فإنّ الأسعار ترتفع بشکل خیالی وغیر حقیقی وتتسبب فی زیادة الضغط علی الطبقة الضعیفة فی المجتمع.

ولغرض الحیلولة دون الإحتکار وإیجاد السوق السوداء یجب علی الحکومة الإسلامیّة استخدام حقّها فی الرقابة وعملیّة الإشراف علی السوق والمعاملات الاقتصادیّة والتصدی للمحتکرین والنفعیین بالوقت المناسب والحیلولة دون وقوع الظلم علی الناس.

یقول أحد شرّاح نهج البلاغة فی شرح العبارة المعروفة للإمام أمیرالمؤمنین فی عهده لمالک الأشتر:

«فمن قارف حُکْرة بعد نهیک إیّاه فنکّل به، وعاقبه فی

غیر إسراف»(4):

«وقارف حُکرة: واقعها. والحاء مضمومة. أمره (أی الإمام علیه السلام) أن یؤدب فاعل ذلک من غیر إسراف.

وذلک أنّه دون المعاصی التی توجب الحدود. فغایة أمره من التعزیر الإهانة والمنع»(5).

ونقرأ فی روایة أخری عن هذا الإمام علیه السلام:

«إنّ

رسول اللَّه مرّ بالمحتکرین، فأمر بحُکرتهم أن تخرج

إلی بطون

الأسواق وحیث تنظر الأبصار إلیها»(6)

. وعلی هذا الأساس فإنّ أحد الطرق لمجابهة المحتکرین هو إخراج بضاعتهم من مخازنهم وعرضها فی السوق علی الناس لبیعها.

وهذا هو الحکم الوارد فی رسالة أخری لأمیرالمؤمنین علی علیه السلام لأحد عمّاله أنّه قال:

«ثمّ عاقبه


1- انظر: المجموع، النووی، ج 13، ص 50؛ الموسوعة الفقهیة( الکویتیة)، ج 11، ص 310، مادة التسعیر.
2- لسان العرب، مادة« حکر».
3- المجموع، النووی، ج 13، ص 44.
4- نهج البلاغة، الکتاب 53.
5- شرح نهج البلاغة، ابن أبی الحدید، ج 17، ص 85.
6- وسائل الشیعة، ج 12، ص 317، ح 1.

ص: 290

بإظهار ما احتکر»(1).

وعلی أیة حال، فإنّ بعض وظائف رقابة الحکومة علی النظام الاقتصادی والسوق تتعلق بظاهرة الإحتکار والإجحاف، والتی توصی المحتکرین ببیع أجناسهم بصورة عادلة بالتعاون مع الناس، وفی حال مخالفة المحتکرین تأمر الحکومة بعرض بضاعتهم للسوق وبیعها «بسعر عادل» ومضافاً إلی ذلک فإنّ الحکومة الإسلامیّة تستطیع من خلال إیجاد المنافسة وإدخال البضاعة للسوق، کسر هذا الاستئثار وتمنع بذلک من استغلال النفعیین والانتهازیین للمعاملات الاقتصادیّة.

یقول صاحب کتاب الفقه الإسلامی وأدلّته «فإنّه یجوز للحاکم أن یمنعه من البیع أو التسعیر دفعاً للضرر»(2).

وطبعاً فإنّ مسألة الإحتکار وشروطه وکیفیة التعامل مع المحتکرین تعتبر مسألة فقهیّة واسعة وسیأتی بحثها بشکل مفصّل فی البحوث الاقتصادیّة فی الإسلام (3)، والغرض هنا الإشارة إلی أحد الطرق لتجسید رقابة الحکومة الإسلامیّة علی المسائل الاقتصادیّة.

3. الرقابة علی کیفیة بالاستهلاک

إنّ الاستهلاک الواسع والإسراف والتبذیر من قِبل فئة من المترفین والجاهلین یتسبب فی إلحاق الضرر بالنظام الاقتصادی فی المجتمع، فالاستهلاک غیر المتوازن من شأنه إهدار ثروات الامّة واهتزاز البنیة الاقتصادیّة للدولة ویؤدّی إلی زیادة الضغوط النفسانیّة علی جمهور الناس وخاصّة الطبقة المحرومة.

ومن مصادیق هذا الاستهلاک غیر المتوازن والذی یتسبب فی الإضرار بالنظام الاقتصادی فی المجتمع، بناء القصور الفارهة وتناول المخدرات والتدخین واستیراد أدوات التجمیل الفاخرة واستهلاک الطاقة بشکل کبیر وبدون حدود.

إنّ بعض العمارات السکنیة ووسائل التجمیل والأثاث الفاخر الذی یستخدم فیها یعد من مصادیق الإسراف وأحیاناً من مصادیق التبذیر.

وهکذا بالنسبة إلی إنتاج وبیع وتناول المخدرات والتبغ یعدّ من المصادیق البارزة للتبذیر ویتسبب فی إهدار قسم عظیم من ثروات المجتمع.

واستهلاک الطاقة بشکل مسرف ومفرط وإهدارها یعدّ أیضاً من مصادیق التبذیر حیث یلحق الضرر باقتصاد البلدان بملیارات الدولارات سنویاً.

والإسلام لا یسمح لأفراد المجتمع بمجرّد إمتلاکهم للثروات ورؤوس أموال کبیرة أن یتحرکوا علی مستوی تبذیرها وهدرها، وعلی أساس أصل «ملکیّة اللَّه» فإنّ هؤلاء مکلّفون أن یستعملوا ثرواتهم فی مسارها الصحیح فی الحدود المرسومة من قِبل اللَّه وینفقونها فی مجالاتها المعینة والمعقولة.


1- مستدرک الوسائل، ج 13، ص 277، ح 1.
2- الفقه الإسلامی وأدلّته، ج 7، ص 4996.
3- انظر: جواهرالکلام، ج 22، ص 477 فصاعداً؛ المجموع، النووی، ج 13، ص 44.

ص: 291

یقول الإمام الصادق علیه السلام فی روایة یخاطب فیها «أبان بن تغلب»:

«... المال مال اللَّه یضعه عند الرّجل

ودائع، وجوّز لهم أن یأکلوا قصداً، ویشربوا قصداً

، ویلبسوا قصداً، ویرکبوا قصداً، وینکحوا قصداً،

ویعودوا بما سوی ذلک علی فقراء المؤمنین، ویلمّوا به

شعثهم، فمن فعل ذلک کان ما یأکل حلالًا، ویشرب

حلالًا ویرکب حلالًا، وینکح حلالًا، ومن عدا ذلک کان

علیه حراماً ثمّ قال: «لا تسرفوا إنّه لا یحب المسرفین»

أتری اللَّه ائتمن رجلًا علی مال یقول له: أن یشتری

فرساً بعشرة آلاف درهم، وتجزیه فرس بعشرین

درهماً»(1).

وطبقاً لمفاد هذه الروایة، فإنّ الأثریاء لیس فقط لا یحقّ لهم الاستفادة من أموالهم بشکل مسرف وبدون ضابطة، بل إنّهم لا یستطیعون أیضاً إدّخارها وکنزها ویجب علیهم أن ینفقوا ممّا تبقی من عوائدهم المالیّة إلی المحرومین فی المجتمع.

وطبعاً فإنّ هذا الحکم غیر واجب من الناحیة الفقهیّة ولکن یستفاد جیداً من هذه الروایة أنّ مجرّد إنفاق ما زیاد علی الأموال لإنقاذ المحرومین یعدّ فی نظر الإسلام عملًا جیداً ومحبذاً، أمّا استدلال الإمام علیه السلام بآیة تحریم الإسراف، فیمکن أن یکون ناظراً إلی حرمة النفقات الزائدة وغیر نافعة.

إنّ رقابة الدولة فی الحیلولة دون ظهور هذه المظاهر السلبیّة یشمل الأجهزة الحکومیّة والشرکات المرتبطة بها، وأیضاً یشمل القطاعات الخاصّة والشعبیّة کیما یتجتنبوا الاستهلاک الکبیر فی الأموال ویبتعدوا عن حالات التجمل والبذخ والترف، وکذلک یجب علی الحکومة القیام بواجب الرقابة المستمرة علی السوق والنظر لکیفیة صرف الأموال والنفقات.

البحث الثانی: الرقابة العامّة

بالنظر للمسؤولیّة الجمعیة والرقابة العامّة لجمهور الناس، فإنّ الناس مکلّفون أیضاً بمراقبة النظام الاقتصادی والسوق ومن خلال التوصیات وإرسال الأخبار یستطیعون التصدی لمظاهر الإجحاف، الإحتکار، الغش وکلّ ما یتسبب فی توهین النظام الاقتصادی فی المجتمع.

یقول الإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام فیما یتصل بلزوم الرقابة علی أعمال الناس:

«إذا فعل الناس هذه

الأشیاء (المنهیّات) وارتکب کلّ إنسان ما یشتهی

ویهواه، من غیر مراقبة لأحد، کان فی ذلک فساد الخلق

أجمعین»(2).

إنّ ضرورة رقابة الناس بعضهم علی البعض الآخر، ومنها رقابتهم علی السوق، یستند إلی دلیل «وجوب الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر» وکذلک إلی «لزوم التعاون مع الحکومة الإسلامیّة» یقول القرآن الکریم:

«وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِیَاءُ

بَعْضٍ یَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَیَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنکَرِ»(3).


1- وسائل الشیعة، ج 8، ص 366، ح 5.
2- عیون أخبار الرضا، ج 1، ص 107.
3- سورة التوبة، الآیة 71.

ص: 292

وبتعبیر العلّامة الطباطبائی «لیدلّ علی أنّهم مع کثرتهم وتفرّقهم من حیث العدد ومن الذکورة والانوثة ذوو کینونة واحدة متفقة لا تشعب فیها، ولذلک یتولّی بعضهم أمر بعض ویدبّره، ولذلک کان یأمر بعضهم بعضاً بالمعروف وینهی بعضهم بعضاً عن المنکر، فلولایة بعض المجتمع علی بعض ولایة ساریّة فی جمیع الأبعاض دخل فی تصدیهم الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر فیما بینهم أنفسه»(1).

ویقول سیّد قطب: «یتجهون بهذه الولایة إلی الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر. وإعلاء کلمة اللَّه.

وتحقیق الوصایة لهذه الامّة فی الأرض»(2).

وهذه الولایة، التی تقع نتیجة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر وفی حدود تذکیر الأفراد وفی صورة اللزوم إیصال الخبر إلی الحکومة، لا تعدّ تدخلًا عملیّاً فی حیاة الآخرین، فالمؤمنون لیس فقط مکلّفون فی علاقاتهم فیما بینهم بالأمر بالمعروف النهی عن المنکر، بل یمکن القول إنّ التدخل فی شؤون الآخرین وما یتضمّنه من أمر ونهی فی هذه الدائرة بما یملکون من الولایة علی بعضهم البعض فی هذا الشأن، ومن هذه الجهة فهم مکلّفون بالرقابة علی حرکة السوق والتجّار والنظام الاقتصادی فی المجتمع، ویجب علیهم إصدار الأمر والنهی فی حقول معینة ومسموحة، وطبعاً فإنّ الأمر والنهی له مراتب فی ما یتصل بنوع المواجهة والعقوبة، وفیما إذا احتاج إلی عقوبة معینة فیجب مراجعة المراکز القانونیّة فی هذا الشأن.

یقول الإمام الباقر علیه السلام بالنسبة للأمر بالمعروف والنهی عن المنکر وآثاره وفوائده:

«بها ... تَحِلُ

المکاسب و تُرَدُّ المظالم وتعمر الأرض

، ویُنصف من


1- المیزان، ج 9، ص 338.
2- فی ظلال القرآن، ج 3، ص 1675.

ص: 293

الأعداء»(1).

وتأسیساً علی ذلک فإنّ الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر الذی یعتبر قسماً من الرقابة العامّة، من شأنه أن یحول دون وقوع الظلم والإجحاف فی حقول مختلفة ومنها السوق ویساهم فی إزدهار وإعمار المجتمع وبسط العدل فی فضاء الامّة.

البحث الثالث: رقابة وسائل الإرتباط الجمعی

اشارة

یطلق علی عصرنا الحالی عصر الإرتباطات والاتصالات ووسائل الإعلام والرادیو والتلفزیون وبعدها مواقع الالکترونیّة والصحف والمجلات التی توفّرت بید الناس بشکل سهل ومیسور، وهذه التشکیلات العظیمة بإمکانها ومن خلال مناهج الصحیحة أن تؤثر فی عملیّة الرقابة علی النظام الاقتصادی.

إنّ دور أجهزة الإعلام فی أداء الرقابة أو کونها أدوات تبلیغیة لا یقبل الإنکار، بمعنی أنّ أجهزة الإعلام العامّة إذا أرادت أن تشیع ثقافة الاستهلاک فی جوّ المجتمع فلا شک أنّه لا یمرّ وقت طویل إلّاویتمّ استبدال ثقافة معینة بثقافة أخری بل إنّها تستطیع بالتعاون مع الشرکات التجاریّة والتشکیلات الاقتصادیّة تغییر العادات الغذائیّة ونوع سلیقة الأشخاص أیضاً وجعلها تتسق مع المنتوجات المطلوب بیعها والاستفادة منها.

ومع الأخذ بنظر الحسبان هذا التأثیر الکبیر فی واقع الحیاة الفردیّة والاجتماعیّة، فلو أنّ أجهزة الإعلام تحرکت فی مسار صحیح ومنسجم مع النظام الاقتصادی الإسلامی ولم تفکّر فی الأرباح الکثیرة للإعلانات المضرّة بالاقتصاد للشرکات والمؤسسات المختلفة التی لا تفکّر إلّابمنافعها الخاصّة، فإنّها تستطیع أن تعلب دوراً مؤثراً فی الرقابة الجمعیة وتسیر فی خط السیاسات والأهداف مورد نظر الإسلام.

إنّ الرقابة الصحیحة لأجهزة الإعلام الجمعیّة تستطیع أداء عدّة مهام:

1. نقد البرامج الاقتصادیّة

إنّ أجهزة الإعلام العامّة، وبملاحظة قدرتها ونفوذها وشمولها لکافّة شرائح المجتمع تستطیع من خلال دعوة الخبراء لتدوین مقالات وتقدیم مشاریع اقتصادیّة وإسداء خدمة کبیرة للنظام الاقتصادی فی القطلع العام والخاص.

إنّ تشکیل الجلسات الاقتصادیّة لنقد ومناقشة الحالة الموجودة وتبیین النقاط المطلوبة من شأنه أن یجعل هذه الأجهزة الإعلامیّة تتحرک فی الطریق الصحیح فی دعم الاقتصاد وتقویته.

وفی الحقیقة أنّ الرقابة فی هذا المجال تعنی النظرة الخبیرة والعلمیّة للنظام الاقتصادی فی البلاد وغربلته لبیان معطیاته البنّاءة وآثاره الإیجابیّة وتجعل المجتمع یتحرک فی مسار الاقتصاد السلیم المقترن بالعدالة وحفظ منافع الشرائح الضعیفة فی المجتمع.

2. الرقابة علی تنفیذ المشاریع
اشارة

أحیاناً تکون المشاریع الاقتصادیّة فی البلد بنّاءة وفاعلة علی مستوی التنمیة وبسط العدالة الاجتماعیّة ولکن فی مقام التنفیذ تواجه مطبات وصعوبات معینة، وربّما تستغل من قِبل فئة من النفعیین والخارجین علی القانون.

وفی هذه الصورة فإنّ عمل أجهزة الإعلام من شأنه التأثیر البنّاء فی هذه الحرکة، فأجهزة الإعلام بوصفها عین واذن الحکومة والشعب، تستطیع ملاحقة النفعیین والانتهازیین وکشفهم بإزاحة اللثام عن مخططاتهم وبالتالی تحول دون قیامهم بتخریب اقتصاد البلد والإضرار به.

ونری أنّ أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی عهده لمالک الأشتر یوصیه بمراقبة سلوک عمّاله وأن یتخذ العیون والجواسیس علیهم للتحقیق فی سلوکیاتهم بشکل خفی:

«ثم تفقّد أعمالهم وابعث العیون من أهل الصّدق

والوفاء علیهم».

ثم یأمره بأنّه فی حال وصول أخبار تؤکد


1- الکافی، ج 5، ص 56، ح 1.

ص: 294

خیانتهم فیجب علیه إنزال العقوبة بهم (1).

إنّ أجهزة الإعلام تستطیع أن تلعب دور العیون المفتوحة للولاة العدول وجمهور الناس، ومن خلال إمدادهم بالمعلومات الصحیحة والأخبار الموثوقة الیومیّة والبنّاءة، وأن تؤدّی وظیفتها علی أحسن وجه.

وبدیهی أنّ أجهزة الإعلام إذا لم تتحرک فی إنجاز وظیفتها أو لم تستطع أن تلعب دورها الأساسی فی هذا المجال أو عملت بشکل فئوی وتحرکت فی خط حزبی معین، أو قامت بإثارة الناس وطرحت مسائل فرعیة وغیر مهمّة علی أساس أنّها مسائل مهمّة وأصلیة، أو قامت بطرح أخبار غیر صحیحة، فمن المعلوم أنّ هذه الأجهزة الإعلامیّة ستفقد دورها فی الرقابة الاجتماعیّة، وحینئذٍ لیس فقط لا تساهم فی عملیّة الاستقرار الاقتصادی فی المجتمع، بل إنّها تقود المجتمع إلی حالات الاضطراب وعدم الثبات والاستقرار الاقتصادی.

وللأسف نری فی هذا العصر الکثیر من أجهزة الإعلام تدار من قِبل المالکین الخصوصیین وبالرغم من أنّ هذا العمل له امتیازات من جهة کونه یتعلق بالشعب لا الحکومة، ولکن من جهة أخری فإنّ أجهزة الإعلام هذه تدار من قِبل فئات ثریة ورأسمالیّة وتفکر دوماً بتحقیق منافعها الشخصیّة علی حساب منافع العامّة ولا تمتنع من تحریف الحقائق وطرح معلومات وأخبار غیر صحیحة وتشکیل السوق السوداء وأمور أخری من هذا القبیل.

***

النتیجة:

لا شک أنّ الإشراف علی أعمال جمیع المسؤولین والعاملین بواسطة المؤسسات المختلفة الرسمیّة وغیر الرسمیّة یقلل إلی درجة کبیرة من نسبة الوقوع فی الخطأ، والنظام الاقتصادی فی المجتمع لیس مستثنی من هذه القاعدة.

إنّ عملیّة رقابة الدولة علی النظام الاقتصادی وعلی السوق فی المجتمع الإسلامی وکذلک رقابة الشعب وأجهزة الإعلام علی النظام الاقتصادی الرسمی وغیر الرسمی والفحص والتحقیق عن نقاط القصور والخلل وتقدیم أخبار ومعلومات صحیحة، من شأنه أن یؤثر فی تقلیل حالات الظلم والإجحاف الاقتصادی والأخطاء والفواصل الطبقیّة وبالتالی یساهم فی بسط العدالة الاجتماعیّة.

***

المنابع والمصادر

1. القرآن الکریم.

2. نهج البلاغة (مع تحقیق الدکتور صبحی صالح).

3. أنساب الأشراف، البلاذری، تحقیق الدکتور زکار والدکتور الزرکلی، دار الفکر بیروت، الطبعة الثانیة، 1424 ه ق.

4. بحار الأنوار، العلّامة محمّد باقر المجلسی، دار إحیاء التراث، بیروت، الطبعة الثالثة، 1403 ه ق.


1- نهج البلاغة، الکتاب 53.

ص: 295

5. نفحات القرآن، آیة اللَّه ناصر مکارم الشیرازی ومساعدیه، مدرسة الإمام علی بن أبی طالب، قم، الطبعة الاولی، 1374 ه ش.

6. تاریخ ابن خلدون، عبدالرحمن خلدون المغربی، دار الکتاب اللبنانی.

7. جواهر الکلام، محمّد حسن النجفی، دار إحیاء التراث العربی، بیروت، الطبعة السابعة، 1981 م.

8. الخصال، الشیخ الصدوق، انتشارات جماعة المدرسین، قم، 1403 ه ق.

9. سنن ابن ماجة، محمّد بن یزید القزوینی، تحقیق محمّد فؤاد عبدالباقی، دار الفکر، بیروت.

10. شرح نهج البلاغة، ابن أبی الحدید، دارالکتب العلمیّة، قم، الطبعة الاولی، 1378 ه ق.

11. صحیح البخاری، أبوعبداللَّه، محمّد بن إسماعیل البخاری، دار الجیل، بیروت.

12. عوالی اللئالی، ابن أبی جمهور الإحسائی، مطبعة سیّد الشهداء، قم، الطبعة الاولی، 1403 ه ق.

13. عیون أخبار الرضا، الشیخ الصدوق، مؤسسة الأعلمی، بیروت، 1404 ه ق.

14. الفقه الإسلامی وأدلّته، الدکتور وهبة الزحیلی، دار الفکر، دمشق، الطبعة الرابعة، 1418 ه ق.

15. فی ظلال القرآن، سید قطب، دار إحیاء التراث، بیروت، الطبعة الخامسة، 1386 ه ق.

16. الکافی، محمّد بن یعقوب الکلینی، دار الکتب الإسلامیّة، طهران، الطبعة الخامسة، 1363 ه ش.

17. کتاب البیع، الإمام الخمینی، مؤسّسة تنظیم ونشر آثار الإمام الخمینی، الطبعة الاولی، 1421 ه ق

18. کنز العمال، المتقی الهندی، مؤسسة الرسالة، بیروت، 1409 ه ق.

19. لسان العرب، ابن منظور، دار الفکر، بیروت.

20. مبانی الاقتصاد الإسلامی (مبانی اقتصاد اسلامی) بالفارسیّة، مکتب التنسیق بین الحوزة والجامعة سازمان مطالعة وتدوین کتب العلوم الإنسانیّة للجامعات، الطبعة الاولی، 1371 ه ش.

21. مجمع البحرین، فخر الدین الطریحی، دار إحیاء التراث العربی، بیروت، 1403 ه ق.

22. المجموع شرح المهذب، محیی الدین بن شرف النووی، تحقیق الدکتور محمود المطرحی، دار الفکر، بیروت، الطبعة الاولی 1421 ه ق.

23. مسالک الأفهام، الشهید الثانی، موسسة المعارف الإسلامیّة، الطبعة الاولی، 1414 ه ق.

24. مستدرک الوسائل، المیرزا حسین النوری، مؤسسة آل البیت، بیروت، الطبعة الاولی، 1408 ه ق.

25. مستدرک الصحیحین، محمّد بن محمّد الحاکم النیسابوری، دار المعرفة، بیروت، 1406 ه ق.

26. مسند أحمد، الإمام أحمد بن حنبل، دار صادر، بیروت.

27. مصباح الفقاهة، آیة اللَّه السید أبوالقاسم الخوئی، مع تقریر المیرزا محمّد علی التوحیدی التبریزی، سید الشهداء، قم، الطبعة الثانیة.

28. منتهی المطلب، العلّامة الحلّی، الطبعة الحجریة.

29. الموسوعة الفقهیة الکویتیّة، وزارة الأوقاف الکویتیة، الطبعة الرابعة، 1414 ه ق.

ص: 296

30. المیزان فی تفسیر القرآن، العلّامة السید محمّد حسین الطباطبائی، نشر جماعة المدرسین للحوزة العلمیّة قم، الطبعة الاولی.

31. وسائل الشیعة، محمّد بن حسن الحر العاملی، دار إحیاء التراث العربی، بیروت، الطبعة الخامسة، 1403 ه ق.

ص: 297

القسم الثالث: میادین النظام الاقتصادی فی الإسلام

اشارة

1. تقسیم العادل للمنابع

2. الإنتاج

3. التوزیع

4. کیفیة المصرف والاستهلاک

ص: 298

ص: 299

میادین النظام الاقتصاد فی الإسلام

المقدّمة:

إنّ الأنظمة الاقتصادیّة مضطرة إلی تقدیم الإجابة عن الأسئلة الرئیسیة فیما یتصل بالمبانی والأصول التی تقوم علیها رؤیتهم للحرکة الاقتصادیّة، وهذه الأجوبة مضافاً إلی تبیین ماهیّة هذه الأنظمة، فإنّها تعتبر عنصراً للتمییز فیما بینها، وهذ الأسئلة عبارة عن:

1. ما هو منشأ المالکیّة للثروات الطبیعیّة؟ وعلی أی أصول ومبانی یتمّ تقسیم هذه الثروات الطبیعیّة؟

2. هل یمکن نقل الثروات الموجودة فی الطبیعة إلی ملک شخصی للأفراد؟ ولو کان الجواب بالإیجاب فبأی معیار وملاک؟

3. ما هی المنتوجات والخدمات التی یمکن تقدیمها فی حرکة النشاطات الاقتصادیّة وبأی مقدار؟

4. ما هو المنهج فی عملیّة الإنتاج؟ هل یمکن الاستفادة أکثر من أدوات الإنتاج (اسلوب استخدام رأس المال) أو یتمّ الاستفادة من القوی العاملة أکثر (اسلوب استخدام العمّال)؟

5. من خلال أی أشخاص یتمّ إنتاج الخدمات أو المنتوجات الصناعیّة ومن هم المستهلکون لهذه المنتوجات؟

6. بعد إنتاج هذه البضاعة، کیف یتمّ توزیعها علی الأفراد؟ هل یوجد معیار وملاک أصلی فی عملیّة التوزیع، هل المعیار رأس مال الأشخاص أو عمل العمّال؟

7. وفی النهایة، کیف یتمّ استهلاک هذه المنتوجات وبأی مقدار وبأی شروط؟

وکما تلاحظون أنّ السؤالین الأولیین، ناظران إلی تقسیم المنابع الأولیّة وکیفیّة انتقالها إلی القسم الخاص، والأسئلة الثلاثة الأخری تدور حول محور الإنتاج، والسؤال السادس یدور حول محور التوزیع، والسؤال الأخیر یدور حول محور الاستهلاک، وبدیهی أنّ هذه المحاور الأربعة (التقسیم، الإنتاج، التوزیع، الاستهلاک) تعد من أرکان الاقتصاد.

وجدیر بالذکر أنّ السائد فی عالمنا المعاصر فی مجال البحوث الاقتصادیّة أنّ الاقتصاد یقوم علی ثلاثة أرکان (الإنتاج، التوزیع، الاستهلاک) ولا یدور الحدیث حول «تقسیم المنابع» بوصفه أحد أرکان الاقتصاد، لأنّهم یعتقدون فقط بالتوزیع بعد الإنتاج،

ص: 300

ولکن بالنسبة للاقتصاد الإسلامی فإنّ التوزیع له فرعان أساسیان:

أ) «التوزیع قبل الإنتاج» والذی نبحثه تحت عنوان تقسیم المنابع بوصفه الرکن الأوّل.

ب) «التوزیع بعد الإنتاج» وسنبحث هذه الفقرة بهذا العنوان أیضاً.

والنتیجة أنّ أرکان الاقتصاد تنقسم إلی أربعة أقسام، وسنتحدّث هنا عن الرؤیة الإسلامیّة الکلیّة فیما یتصل بهذه المحاور الأربعة.

الفصل الأوّل: التقسیم العادل للمنابع

تعریف التقسیم:

المراد من «التقسیم»، تخصیص متوازن وعادل للثروات الطبیعیّة بین أفراد المجتمع، بحیث إنّ کلّ فرد منهم یحصل علی حصته الواقعیّة من هذه الثروات وتعود نتیجة نشاطه الاقتصادی فی هذا المجال إلیه (1)، وطبعاً فإنّ هذه العدالة والتعادل لا یعنی بالضرورة المساواة:

1. أهمیّة التقسیم

لا شک أنّ کیفیة تقسیم وتخصیص الثروات الطبیعیّة بین أفراد المجتمع یساهم بشکل مباشر فی منع ظاهرة الفاصلة الطبقیّة، بمعنی أنّ التقسیم غیر العادل للثروات الطبیعیّة یسارع فی تقسیم المجتمع إلی طبقتین: أقلّیة وأکثریّة، فالأقلیّة تعیش حالة الثراء والترف بینما الأکثریّة تعیش حالة الحرمان والفقر.

ومن هنا فإنّ أحد الوجوه الأساسیّة للتمایز بین الأنظمة الاقتصادیّة السائدة فی العالم، یعود إلی هذه النقطة: «کیفیة تخصیص وتملک الثروات الطبیعیّة»، وکلّ واحد من هذه الأنظمة یدعی تقدیم تقسیم عادل لهذه الثروات بین أفراد المجتمع.

ویستفاد من الآیات الشریفة أنّ المشاکل الاقتصادیّة للبشر لا تعود إلی قلّة المواد الأولیّة أو بخل الطبیعة، بل العامل الأساس لها یکمن فی التقسیم غیر العادل للثروات، وکذلک سوء الاستفادة من المنابع الأولیّة والإمکانات الموجودة فی واقع الطبیعة.

إنّ القرآن الکریم وبعد أن یعدد النعم والمواهب الکثیرة فی الطبیعة والإمکانات المختلفة التی سخّرها اللَّه تعالی للإنسان، یشیر فی النهایة إلی هذه النقطة ویقول:

«وَآتَاکُمْ مِّنْ کُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ

اللَّهِ لَاتُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ کَفَّارٌ»(2).

ویتبیّن من عبارة:

«إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ کَفَّارٌ»

، أنّ الإنسان وبسبب کفرانه النعمة وظلمه لنفسه، یهدر الإمکانات التی سخّرها اللَّه تعالی له، ولا شک أنّ ظلم الإنسان فی مجال الاقتصاد معلول لتقسیم الثروات الطبیعیّة بشکل غیر عادل وما یترتب علیه من المعاملات الاقتصادیّة غیر السلیمة، وحالة الکفران


1- انظر: معالم التنمیة الاقتصادیّة فی الرؤیة الإسلامیّة( شاخص های توسعه اقتصادی از دیدگاه اسلام) بالفارسیّة، ص 127.
2- سورة إبراهیم، الآیة 34.

ص: 301

هذه تعود إلی الاستفادة غیر الصحیحة للمنابعه الطبیعة (وإهماله لها)(1).

وخلاصة الکلام أنّ قسماً مهماً من المشاکل والمآزق الاقتصادیّة للبشر تمتد بجذورها إلی التقسیم غیر العادل للثروات الطبیعیّة، لأنّ فئة قلیلة من أفراد المجتمع وبالاعتماد علی آلیات القوّة والهیمنة والخداع، استولت علی منابع الثروة الطبیعیّة وحرمت جمهور الناس من حقّهم الطبیعی فی هذه الثروات، وبالنتیجة ظهور حالة الفقر والتکاثر فی فضاء المجتمع والتی تمثّل الأرضیّة المناسبة لظهور الکثیر من المشکلات الاجتماعیّة والمفاسد الأخلاقیّة فی واقع المجتمع.

هؤلاء بعملهم هذا قسّموا المجتمع إلی طبقتین:

أثریاء وفقراء، وفی المجال الدولی أیضاً انقسمت البلدان إلی بلدان ثریّة ومقتدرة وبلدان فقیرة وضعیفة، وفی الحقیقة انقسمت البلدان إلی: مستغِلة (بالکسر) ومستغَلة (الفتح).

وبالنسبة للدراسات والبحوث الاقتصادیّة الجدیدة التی تقوم علی أساس النظام الرأسمالی، یتمّ البحث فی ثلاثة أرکان: الإنتاج، التوزیع والاستهلاک، ومرادهم من التوزیع، توزیع أرباح وعوائد المنتجات والمحصولات، أمّا البحث فی تخصیص وتقسیم الثروات العامّة والإمکانات الطبیعیّة کالأرض والمواد الأولیّة والمنابع الطبیعیّة والمعادن فلا محلّ لها من الإعراب فی هذه الأنظمة، لأنّه أصل الحریة الاقتصادیّة والمنافسة الحرة فی هذا النظام یقرر أنّ کلّ شخص یستطیع المشارکة فی هذه المنافسة بما یملکه من قوّة وقدرة وبالتالی یحوز من الثروات الطبیعیّة لنفسه ویتملکها، وعلی ضوء ذلک لا مجال لطرح مسألة تقسیم هذه الثروات، لأنّه فی هذه الرؤیة فإنّ کلّ شخص سیکون مالکاً للثروة التی حصل علیها.

ولکن فی الاقتصاد الإسلامی فإنّ موضوع تقسیم المنابع الأولیّة یحظی بأهمیّة خاصّة کما سنری لاحقاً فی الکلام عن «مبنی تقسیم الثروات الطبیعیّة».

2. مبنی تقسیم الثروات الطبیعیّة

من المعلوم أنّ النظام الاقتصادی الفاعل، هو النظام الذی یستطیع تقسیم الثروات الطبیعیّة المتعلقة بأفراد المجتمع بشکل یحصل کلّ فرد منهم علی حصّته الواقعیّة، فلا یضیع حقّ بعض الأفراد ولا یتمّ التقلیل من حقّ البعض الآخر.

وفی النظام الرأسمالی بما أنّ حقّ الحریّة الاقتصادیّة مقبول بشکل مطلق، فإنّ مبنی الملکیّة واستخدام المنابع الطبیعة وعناصر الإنتاج یقوم علی أساس هذا الحقّ، یعنی أنّ کلّ شخص یستطیع بأی وسیلة وقدرة حتی باستخدامه للعمال والاجراء واستخدام الوسائل والأجهزة المتطورة، أن یملک أی مقدار من المنابع الطبیعیّة ویستخدمها لمصلحته ویمنع الآخرین من الاستفادة منها.

ولا یخفی أنّ حاجات جمهور الناس الذین لا یستطیعون الورود إلی حلبة المنافسة بهذه المستوی،


1- انظر: اقتصادنا، ص 332 و 333.

ص: 302

ستکون بهذه الرؤیة مهمشة ویتمّ إقصاؤهم عملًا عن میدان المنافسة، وبالتالی ستقع المنابع الطبیعیّة العظیمة بید طبقة الأثریاء والرأسمالیین الکبار ویتضرر عامّة الناس بحیث لا یبقی مجال للحدیث عن الإنتاج والاستفادة من هذه المنابع الطبیعیّة إلّاعلی مستوی الکلام والشعار فقط(1).

أمّا النظام الاشتراکی فإنّه یقرر منع تراکم الثروات وأدوات الإنتاج بید طبقة خاصّة وجعل جمیع المنابع الطبیعیّة وأدوات الإنتاج بید المجتمع وبالتالی فإنّ الدولة هی التی تملک هذه الموارد والأدوات، ویرفض هذا النظام کلّ نوع من الملکیّة الخاصّة للمنابع الطبیعیّة، ویتمّ تعیین أرباح الأفراد علی أساس عنصر «العمل» فقط، بمعنی أنّ کلّ شخص یملک عمله فقط لا أنّه یملک المواد الخام بعیداً عن العمل، وهذا النظام الذی یقید الحریّة الاقتصادیّة إلی درجات ضیقة جدّاً، یقف فی مقابل المیول الفطریّة والطبیعیّة للإنسان، ولذلک نلاحظ أنّ بلدان المعسکر الاشتراکی إنهارت وتلاشت بتلک السرعة التی ظهرت فیها فی الشرق.

ولکن خلافاً لهذین النظامین الاقتصادیین «الرأسمالی والشیوعی» التی لم تتمکن من بیان مقدار ودور عنصر «العمل» و «الحاجة» فی تملک الثروات الطبیعیّة، وکلّ واحد منهما غفل عن أحد هذین العنصرین وتجاهله، فإنّ الإسلام یقرر الأصالة لکلّ واحد من هذین العنصرین (2)، بمعنی أنّه مع اعترافه وقبوله للملکیّة الخصوصیّة فی دائرة المباحات العامّة وبشروط خاصّة، فإنّه سمح لکلّ فرد أن یتملک نتیجة عمله وسعیه وإبداعه (3).

والقرآن الکریم یؤکد علی هذه النقطة ویقول:

«لِّلرِّجَالِ نَصِیبٌ مِّمَّا اکْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِیبٌ مِّمَّا اکْتَسَبْنَ»(4).


1- وجدیر بالذکر أنّ البحوث النظریّة فی شأن« تدخل ودور الدولة فی الاقتصاد» وتختلف کثیراً عمّا یحصل عملًا فی عصرنا الحاضر. من الناحیة النظریّة ثمة ثلاث نظم اقتصادیّة سائدة فی العالم المعاصر: النظام النئوکلاسیکی، دولة الرفاه، النظام الاشتراکی. فی النظام النئوکلاسیکی، فإن تدخل الدولة مخالف أساس للقاعدة والنظم الطبیعی للاقتصاد، ولکن یجوز لها التدخل فقط فی صورة ظهور أزمة وإرباک فی اقتصاد السوق. أمّا فی دولة الرفاه( ویطلق علی دولة کینز نسبة الاقتصاد المعروف جون مینارد کینز) فإنّ ترک الاقتصاد بید الأفراد لا یمکنه لوحده ضمان منافع المجتمع، ولذا کان من الضروری تدخل الدولة فی أمر السوق والاقتصاد. والنظام الاشتراکی، وخلافاً للنظامین السابقین، عمل علی إقصاء مصلحة الفرد لحساب مصلحة المجتمع علی أساس تدخل الدولة، وکما أسلفنا فإنّ هذه النظم لم تلتزم بما قررته فی نظریتها، وحتی ا لنظام الاشتراکی الذی یری لزوم إلغاء القطاع الخاص فإنّه فی آخر عمره لم یصر علی تطبیقه، أو النظام النئوکلاسیکی الذی لا یقبل بتدخل الدولة فإنّه حالیاً أذعن لتدخل الدولة فی الاقتصاد. حالیاً یملک« النظام المختلط» أکثر النظم جاذبیة فی نظر علماء الاقتصاد والسیاسیة، وفی ظلّ هذا النظام فإنّ الدولة والسوق لهما دور مؤثر فی حرکة الاقتصاد، وغالبیة الدول الرأسمالیّة والاشتراکیّة فی هذا العصر تتجه نحو هذا النوع من الاقتصاد( لمزید من الاطلاع انطر: مبانی وأصول الاقتصاد( مبانی و اصول اقتصاد) بالفارسیّة، ص 187- 203).
2- انظر: مبانی الاقتصاد الإسلامی( مبانی اقتصاد اسلامی) بالفارسیّة، ص 265- 268.
3- إنّ طرق تحقق الملکیّة الخاصّة فی الإسلام من البحوث المهمّة الاقتصادیّة والتی تملک أصول ومبانی وشروط خاصّة منها یمکن الإشارة إلی مسألة إحیاء الأراضی، والحیازة، والتحجیر، والأسباب القهریة من قبیل( الإرث) والأسباب الاعتباریّة من قبیل( العقود).
4- سورة النساء، الآیة 32.

ص: 303

ومن هذه الجهة فلو استخدم صاحب المال عاملًا لیتملّک المواد الخام فی الطبیعة ووضع تحت اختیاره أدوات وآلات لهذا الغرض واستخدم العامل هذه الأدوات ورأس المال وحصل بسببها علی ثروة طبیعیّة فإنّ کلّ واحد من النظم الاقتصادیّة وعلی أساس المبانی والأصول المقبولة لدیه، یبادر إلی توزیع هذه الثروة بین العامل وصاحب المال (وهما الشریکان الأصلیان فی عملیّة الإنتاج).

وعلی أساس الاقتصاد الرأسمالی فإنّ العامل یحصل علی اجرته ولیس له سهم فی تلک الثروة الطبیعیّة، لأنّ صاحب المال هو صاحب الحقّ فی تملّکها(1).

ولکن فی نظر الإسلام علی العکس من ذلک فإنّ المحصولات المنتجة تکون فقط من ملک العامل الذی اشتغل علیها ولیس لصاحب المال سهم فی أصل هذه المحصولات، لأنّ دور أدوات ووسائل الإنتاج فی نظر الدین، تعتبر فرعیّة وجانبیّة والهدف منها فقط استخدام الطبیعة واستخراج الثروة الطبیعیّة، فالدور الأساس لهذه العملیّة هو ما قام به العامل، ومن هذه الجهة فإنّ جمیع ما حصل علیه سیکون ملک له، وطبعاً یجب علیه دفع ثمن الاجرة لهذه الأدوات ورأس المال لأصحابها حتی یبری ء ذمته منها، ولکن لا یصل إلیهم شی ء من نتاج عمل العامل.

والسبب الأساس فی هذا الاختلاف ناشی ء من نوع الرؤیة للإنسان وشخصیته الإنسانیّة.

الإنسان فی الاقتصاد الرأسمالی یُعدّ وسیلة فی خدمة الإنتاج، ولذلک فالإنسان «العامل» حاله حال أدوات الإنتاج، ولکن فی النظام الاقتصادی الإسلامی فالعمل الاقتصادی یدور حول محوریّة الإنسان «العامل»، والإنتاج وسیلة لخدمته، ومن هذه الجهة


1- انظر اقتصادنا، ص 554- 555.

ص: 304

فإنّ الإنسان فی مقام التوزیع أعلی شأناً من «أدوات الإنتاج»(1)، وعلی ضوء ذلک فصاحب المال فی النظام الرأسمالی یستطیع استخدام العمّال لغرض إحیاء واستخراج المعادن مع دفع الاجرة لهم، وبالتالی تکون جمیع الثروة الحاصلة ملک له، وأمّا فی الإسلام فإنّ العامل الذی تحرک فی عمله علی مستوی استخراج المعادن فإنّه سیکون مالکاً لها ولیس لأدوات الإنتاج سهم فی تملّک المنابع الطبیعیّة.

وللتوضیح أکثر نستعرض بعض الموارد من الأحکام الإسلامیّة فی هذا المجال:

1. إذا غصب شخص أداة معینة واصطاد بها حیواناً، فإنّه سیکون مالکاً لهذا الصید رغم أنّه یجب علیه دفع اجرة الأداة لصاحبها، لأنّ الصید یعتبر من المباحات العامّة، وملکیته تحصل عن طریق العمل بشکل مباشر(2).

2. إذا دفع شخص أدوات صیده إلی صیاد واتفق معه أن یکون مالکاً لقسم من الصید، فحقّه الوحید علی الصیاد أخذ الاجرة فقط ولیس له حقّ آخر فی تملّک الصید(3).

3. إذا اصطاد شخص حیواناً وکان فی نیّته أن یشترک معه شخص آخر فی هذا الصید، فإنّ نیّته هذه لا تؤثر شیئاً، فیکون جمیع ما اصطاده بهذه الطریقة ملک له (4).

4. إذا اشترکت جماعة فی إحداث عین، فجمیع العاملین فی هذا المورد یملکون العین بنسبة عملهم (5) لا بنسبة ما دفعه من مال لإحیاء وإحداث هذه العین.

5. إذا دفع شخص أدوات ووسائل لشخص آخر لإحیاء أرض، علی أن یکون له سهم فی ملکیتها فإنّ هذا العقد باطل (6)، فلیس لصاحب الأدوات سوی حقّ اجرة المثل.

یتبیّن من هذه الأحکام وأمثالها أنّ الإسلام یجعل الملاک فی ملکیّة الثروات الطبیعیّة هو «العمل»، والعامل هو الذی یستطیع تملّک الأرض والمنتوج من خلال عمله المباشر، ومن هذه الجهة ذهب بعض الفقهاء کالمحقّق الحلّی فی کتاب الشرائع إلی أنّ الوکالة فی تهیئة الخشب والحطب من الغابة مشکل (7)، وعلی هذا الأساس فإنّ المباشرة تعتبر شرطاً للملکیّة، ولا تتحقق الملکیّة بالوکالة.

مع التدقیق فی هذه الأمور یتبیّن امتیاز الاقتصاد الإسلامی عن الاقتصاد الرأسمالی والاشتراکی، لأنّ الأساس فی الملکیّة فی النظام الرأسمالی، رأس المال وأدوات الإنتاج، والعامل فی هذه الرؤیة یقع فی عرض أدوات الإنتاج، ولکن الملاک والمعیار فی ملکیّة الثروات الطبیعیّة فی النظام الاقتصادی الإسلامی هو عمل العامل، ولا سهم لأدوات الإنتاج ورأس المال فی تحقق الملکیّة.

ومن جهة أخری، بما أنّ بعض الأشخاص کالمرضی والمسنین والأطفال و ... لا یستطیعون بصورة طبیعیّة التملّک الشخصی من خلال العمل وبالتالی لا یحصلون علی ما یحتاجونه من هذا الطریق فإنّ الإسلام وضع حقوقاً مالیّة لهم فی أموال الأغنیاء ولذلک یؤکد القرآن الکریم علی هذه النقطة ویقول:

«وَفِی أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ»(8).

وفی مرحلة لاحقة نری أنّ الحکومة الإسلامیّة مکلّفة أیضاً بضمان وتأمین حاجات هذه الفئة والشریحة من الناس ویجب علیها السعی لإزالة غبار الحرمان عن وجوه هذه الطبقة.

ومن هذا المنطلق یتبیّن کیفیة تخصیص المنابع الطبیعیّة فی المجتمع الإسلامی من عنصرین مهمین وأساسیین وهما: «العمل والحاجة»، وفی هذه الرؤیة فالأشخاص الذین لا یستطیعون لأسباب معقولة من المشارکة فی النشاطات الاقتصادیّة وأن یکون لهم سهم من المنتجات الحاصلة من العمل، فإنّ الأغنیاء والحکومة الإسلامیّة یجب علیهم تأمین حاجاتهم بما


1- انظر: المصدر السابق، ص 555- 557.
2- انظر: جواهر الکلام، کتاب الصید، ج 36، ص 66 و الشرائع، ج 4، ص 738، کتاب الصید والذباحة.
3- بحر الرائق، ج 5، ص 306؛ جامع المقاصد، ج 8، ص 67.
4- قواعد الأحکام، ج 2، ص 330 وانظر: جامع المقاصد، ج 8، ص 49.
5- تحریرالوسیلة، ج 2، ص 217، م 26.
6- تذکرة الفقهاء، ج 2، ص 233، کتاب الشرکة.
7- انظر: شرائع الإسلام، کتاب الوکالة، ج 2، ص 432.
8- سورة الذاریات، الآیة 19.

ص: 305

یتناسب مع شؤوناتهم الاجتماعیّة(1).

فی هذه الرؤیة یقع «عنصر الحاجة فی طول «عنصر العمل»، بمعنی أنّه مادام الفرد قادراً علی العمل فإنّه لا یستطیع الاستفادة من قانون الحاجة، لإنّ «قانون الحاجة» ناظرة إلی تأمین حاجات الضعفاء والعجزة ومن لا یستطیعون العمل، ولا ینحصر تأمین حاجاتهم بالحاجات الضروریّة، بل یمتد إلی إشباع وتأمین الرفاه النسبی لهم.

یقول الإمام الصادق علیه السلام بالنسبة لمقدار دفع المال لمستحق الزکاة:

«تُعطیه من الزکاة حتّی تُغنیه»(2).

إنّ حقانیّة وأصالة الاقتصاد الإسلامی إنّما تتجلی بکلّ وضوح عندما نری أنّ المجتمعات الرأسمالیّة أدرکت تدریجیّاً خطأها وتحرکت علی مستوی تأسیس المنظمات الاجتماعیّة مثل مؤسسة الضمان الاجتماعی، ضمان العمّال، الخدمات الرفاهیّة و ...

واعترفت أخیراً بضرورة الاهتمام ب «عنصر الحاجة»، رغم أنّها اعترفت بهذه الحقیقة لمنع الانتفاضات التی ربّما ستقع من قِبل الأکثریّة المحرومة فی المجتمع، ولکنّ الحقیقة هی أنّ هذه الأنظمة لم تتمکن من طرح نظام اقتصادی ینظر فی أصوله وأهدافه إلی جمیع أبعاد الإنسان والمجتمع.

وهکذا الحال فی النظام الاقتصادی المارکسی فنراه قد سقط فی أحضان الاشتراکیّة واضطر للقبول بالملکیّة الخصوصیّة وأسالیب الرأسمالیّة بحدود معینة.

وفی الحقیقة فإنّ النظم الاقتصادیّة التی تجاهلت مقولة العدالة الاجتماعیّة وعنصر الحاجة، وأکدت فقط


1- انظر: النظام الاقتصادی الإسلامی، الأهداف والغایات( نظام اقتصاد اسلامی، اهداف و انگیزه ها) بالفارسیّة، ص 116- 120.
2- الکافی، ج 3، ص 548، ح 4.

ص: 306

علی «نمو العوائد والأرباح الفردیّة» لکی تستطیع بهذه الطریقة التوصل إلی تنمیّة اقتصادیّة ناجحة وتضمن فی ظلّ هذه التنمیة إشباع الحاجات الأساسیّة لأفراد المجتمع، وقد أدرکت بشکل تدریجی خطأها واضطرت إلی التوجّه نحو «الاقتصاد النئوکلاسیک»(1) أو رفع شعار النمو والتوزیع المجدد (مع ملاحظة عنصر الحاجة) وخفض معدلات الفقر المطلق.

والأهم من ذلک أنّ إخفاق النظم الاقتصادیّة الرأسمالیّة والاشتراکیة أدّی إلی تحرکهم نحو إجراء إصلاحات مهمّة وأساسیّة لحلّ المشکلات التی واجهتهم علی إمتداد سنوات طویلة ولکن برغم وفرة المنابع الطبیعیّة وکثرة ثرواتهم، فإنّهم لحدّ الآن لم یستطیعوا تحقیق أهدافهم المنشودة، الاضطرابات الاجتماعیّة وأشکال الجریمة والجنوح، حالات الفقر والبطالة، والأهم من ذلک کلّه الرکود الاقتصادی الذی ینشب مخالبه فی هذه المجتمعات، تزداد یوماً بعد آخر، إلی أنّ وصلوا إلی نظام اقتصادی ثالث، مقتبس من کلا النظامین الاقتصادیین (الرأسمالی والاشتراکی) ویدعی ب «دولة الرفاه العلمانیّة»، ولکن هذا النظام الجدید برغم استقبال الناس له فی هذه المجتمعات بشکل حافل فی بدایة الأمر، ومع أنّه یهتم أکثر بعنصر الحاجة فی الطبقات المحرومة إلّاأنّه لم یتمکن من الغلبة علی المشاکل والمآزق الاقتصادیّة التی تعیشها هذه المجتمعات (2).

والسبب فی ذلک أنّهم لم یلتفتوا إلی الحقائق الموجودة علی أرض الواقع ولم یهتموا بحاجات الإنسان الطبیعیّة والفطریّة، ولم یتمکنوا من تنظیم الملکیّة بشکل عادل علی عنصری «العمل والحاجة».

ولکن النظام الاقتصادی فی الإسلام منطبق علی الواقع ومنسجم مع الحاجات الفطریّة للبشر، فإنّه منذ البدایة اعترف بکلا العنصرین «العمل والحاجة» وقرر لکل واحد منهما سهماً واقعیاً فی الحرکة الاقتصادیّة.

الفصل الثانی: الإنتاج

إشارة:

لا شک أنّ عنصر «الإنتاج» فی النظم الاقتصادیّة یحوز علی أهمیّة کبیرة، لأنّ دوام وقوام الأمور الاقتصادیّة فی المجتمعات البشریّة ترتبط بعملیّة الإنتاج، وحتی فی هذا العصر فإنّ میزان حالة الاستقرار والأمن فی کلّ بلد یتمّ فهمها من خلال معرفة قدرة هذا البلد علی الإنتاج وسعة قدرته وإمکانیاته، إنّ ارتفاع سقف الإنتاج فی کلّ مجتمع یعد من المعاییر لقیاس الإزدهار والتقدم الاقتصادی لذلک البلد، ومن هذه الجهة فإنّ مصطلح «البلدان المتقدمة» یطلق علی تلک البلدان التی تعیش سقفاً عالیاً من الإنتاج، سواءً فی البضائع أو الخدمات، وفی مقابل ذلک فثمة بلدان یتضاءل فیها سقف الإنتاج القومی ویطلق علیها «البلدان المتخلفة».

وکما سیأتی لاحقاً أنّ الإسلام أیضاً یری أنّ «الإنتاج» أهم أرکان الاقتصاد الإسلامی، وبذلک أکد کثیراً علی زیادة الإنتاج واعتبره من الأهداف الاقتصادیّة للمجتمعات الإسلامیّة.

تعریف الإنتاج:

اشارة

إنّ الإنسان وخلافاً لأکثر الحیوانات، لا یستطیع إشباع حاجاته من الطبیعة بشکل مباشر، بل یتحرک علی مستوی التصرف فی الطبیعة وتغییرها بواسطة العمل، لیتمکن من إشباع حاجاته فی واقع الحیاة، سواءً کان ذلک العمل تبدیل شی ء بشی ء، أو نقل بضاعة من نقطة إلی أخری، وفی عمل الاقتصاد یطلق علی


1- علم الاقتصاد الغربی الذی وضع أساسه آدام اسمیت ویمتدعمره إلی مائتی عام ویشمل ثلاثة مذاهب اقتصادیّة: الکلاسیکی، دولة الرفاه، والنئوکلاسکی، ومنذهب النئوکلاسیکی أو الکلاسیکی الجدید ظهر من خلال إجراء بعض التعدیلات علی نظریات آدام سمیت، لهذا السبب یطلق علیه النئوکلاسیک، ومؤسسو هذا المذهب عبارة عن: آلفرد مارشال، بارتو، والراس، ویکسل، کلارک، اجورث، فیشر. هؤلاء یعتقدون أنّ الشرکات الاقتصادیّة تتحرک لطلب الحد الأکثر من الربح، والناس یتحرکون لطلب الحد الأکثر من المتعة الحاصلة من الاستهلاک، وهذان العاملان یستببان لیس فقط فی تحریک عجلة الاقتصاد فی المجتمع، بل فی إزدهار ونمو الاقتصاد.( لمزید من الاطلا انظر:: الاقتصاد والتنمیة فی نموذج جدید( اقتصاد توسعه یک الگوی جدید) بالفارسیّة، ص 25 و 14 وکذلک الکتب الاقتصادیّة).
2- انظر: الإسلام والأزمة الاقتصادیّة( اسلام و چالش اقتصادی) بالفارسیّة، ص 37 و 179- 227.

ص: 307

مجموع العملیّات التی تعمل علی تغییر الشکل الأولی للمواد الطبیعیّه أو نقلها من مکان إلی آخر ب «عملیّة الإنتاج».

وببیان آخر، إنّ «الإنتاج» عبارة عن النشاط الاقتصادی الذی یؤدّی إلی إیجاد المنتوجات والخدمات من خلال استخدام وتنظیم سلسلة من العوامل والمراکز من قبیل رأس المال والمنابع الطبیعیّة(1)، وبجملة مختصرة وبسیطة یمکن تعریف الإنتاج بأنّه القدرة علی «إیجاد الفائدة»(2).

وطبعاً المقصود من الإنتاج هنا ما یعمّ إنتاج البضاعة والخدمة، وعلی هذا الأساس فإنّ عمل التمریض الذی یعدّ تقدیم خدمات للمرضی فی المستشفیات أو عمّال النظافة والبلدیّة الذین یعملون عل تنظیف الشوارع والمتنزهات یعتبر من جملة «الإنتاج».

وحالیاً یعتقد المنظرون الاقتصادیون بأنّ المنابع الطبیعیّة ورؤوس الأموال والمصادر الفیزیائیة والتقنیة والقوی البشریة تمثّل مجموعة العناصر التی لها دور أساس فی عملیّة الإنتاج وإیجاد المصنوعات والخدمات، ومن بین هذه العناصر یمثّل رأس المال البشری والاستفادة الصحیحة منه رکناً أصلیاً من ثروة الشعوب (3).

1. الإنتاج وأسالیب التشویق به فی الإسلام
اشارة

یعتبر العمل والإنتاج فی الکثیر من الأقوام التاریخیّة الماضیة أمراً مهیناً وسخیفاً ویختص بالعبید والأفراد الضعفاء، وهذه الرؤیة لازالت سائدة فی بعض المجتمعات البشریّة إلی فترة متأخرة.

فالانتاج فی نظر الیهود یعتبر فقط نشاطاً ضروریاً لمواجهة حالات الفقر، ومع ظهور الکنیسة البروتستانیّة فإنّ العمل والإنتاج یعتبر مظهر الإرادة الإلهیّة وذا قیمة ذاتیّة، وهذه الرؤیة هی الأساس لظهور وإزدهار الاقتصاد الرأسمالی (4).

إنّ الإسلام یمنح العمل والإنتاج قیمة واقعیّة وبذلک وفّر الأرضیّة الصالحة والظروف اللازمة لغرض الإنتاج والاستفادة الصحیحة من موارد الطبیعة من خلال تعالیمه التربویّة وثقافته الخاصّة ودعا الجمیع إلی تشریک المساعی فی تحریک وترشید النشاطات الاقتصادیّة فی واقع المجتمع، ودلیله واضح أیضاً، لأنّ الإسلام یرید العزّة والاستقلال للمجتمع الإسلامی ویرفض أی نوع من تسلط الأجانب وتبعیّة المجتمعات الإسلامیّة للبلدان الأجنبیّة، وعلی أساس أصل نفی السبیل:

«وَلَنْ یَجْعَلَ اللَّهُ لِلْکَافِرِینَ عَلَی


1- انظر: قاموس اصطلاحات العمل والتأمین الاجتماعیّة( فرهنگ اصطلاحات کار و تأمین اجتماعی) بالفارسیّة، ص 118؛ مبانی وأصول علم الاقتصاد( مبانی و اصول علم اقتصاد) بالفارسیّة، ص 142.
2- مقدمة علی الاقتصاد الإسلامی( درآمدی بر اقتصاد اسلامی» بالفارسیّة، ص 281.
3- انظر: التنمیة الاقتصادیّة فی العالم( توسعه اقتصادی در جهان) بالفارسیّة، ج 1، ص 473.
4- انظر: ثقافة العمل( فرهنگ کار) بالفارسیّة، ص 12- 23.

ص: 308

الْمُؤْمِنِینَ سَبِیلًا»(1)

، وأفضلیّة الإسلام ومکانة المسلمین:

«الإسلام یعلو ولا یُعلی علیه»(2)

، فمن الطبیعی أن یؤکد الإسلام علی ضرورة إنتاج أنواع الصناعات المادیّة والفیزیائیّة من جهة، وتربیة القوی المتخصصة البشریّة والتسلح بآخر المعطیات العلمیّة والمکتسبات البشریّة من جهة أخری، وجعلها علی رأس أولویات التعالیم الدینیّة لهذا الدین السماوی، ومن هذه الجهة نری أنّه بعد ظهور الإسلام وفی ظلّ تعالیماته السماویّة، فإنّ الحضارة الإسلامیّة العظیمة إزدهرت بشکل سریع وإمتدت فی دائرة جغرافیّة واسعة فی ذلک العصر.

إنّ الإسلام ولغرض تحقق هذا الهدف، استخدم طریقاً وأسالیب متنوعة منها:

أ) تکوین الثقافة (إصلاح الرؤیة)

إنّ الإسلام ومن خلال إشاعة ثقافة الإنتاج والعمل وتأکیده علی القیمة المعنویّة للنشاطات الاقتصادیّة عمل علی بناء أساس قوی وقاعدة فکریّة متماسکة فی موضوع العمل والإنتاج بحیث إنّ العمل والإنتاج» أضحی أحد العبادات المهمّة فی الإسلام (3)، أنّ کرامة الإنسان ومقامه عند اللَّه یرتبط بعمله (4)، کما ورد فی الأحادیث الشریفة، وأنّ سعیه لغرض الإنتاج والعمل الاقتصادی بمثابة الجهاد فی سبیل اللَّه تعالی (5)، وأخیراً نفرأ فی الأحادیث الشریفة کما نقل ابن الأثیر فی اسد الغابة أنّ نبی الإسلام صلی الله علیه و آله بعد ما قبّل ید العامل قال:

«هذه یدٌ لا تمسّها النار»(6).

وفی دائرة هذه الثقافة، فالأفراد العاطلین عن العمل یعتبرون کَلّاً علی المجتمع، ومضافاً إلی سقوطهم المعنوی، وتزلزل مکانتهم الاجتماعیّة، فإنّهم یعیشون بعیداً عن رحمة اللَّه تعالی (7).

إنّ النشاطات الاقتصادیّة فی مجال انعکست بوضوح فی سیرة أولیاء الدین وفی ملامح التاریخ الإسلامی، وهذه السیرة التاریخیّة فی مجال العمل والإنتاج کان لها دور مهم فی تقویة وتشکیل هذه الرؤیة، ونری أنّ الإمام أمیرالمؤمنین علی علیه السلام عندما کان یفرغ من أمر الجهاد وتعلیم الناس والقضاء فإنّه یتوجّه للعمل فی الزراعة والبستنة وحفر القنوات والأبار.

ونقرأ فی سیرة الأئمّة المعصومین علیهم السلام فیما یتصل بالعمل والإنتاج، تصویراً واضحاً لمکانة الإنتاج فی دائرة الثقافة الإسلامیّة والتی وفرت القاعدة الفکریّة والثقافیة المناسبة فی المجتمع فیما یتصل بأمر الإنتاج


1- سورة النساء، الآیة 141.
2- شرح مسلم للنووی، ج 11، ص 52؛ فتح الباری، ج 9، ص 370؛ عوالی اللئالی، ج 1، ص 226.
3- انظر: مسند أحمد، ج 3، ص 147؛ صحیح البخاری، ج 3، ص 66؛ مستدرک الوسائل، ج 13، ص 460.
4- یقول الإمام الکاظم علیه السلام:« إن اللَّه لیبغض العبد الفارغ»( من لایحضره الفقیه، ج 3، ص 169، ح 3635).
5- یقول الإمام الصادق علیه السلام:« الکادّ علی عیاله کالمجاهد فی سبیل اللَّه»( الکافی، ج 5، ص 88).
6- اسد الغابة، ج 2، ص 269.
7- انظر: الکافی، ج 4، ص 12 و ج 5، ص 72 فصاعداً. ونقرأ فی حدیث عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال:« لا تکسل عن معیشتک فتکون کَلّاً علی غیرک».( الکافی، ج 5، ص 86) وکذلک عنه 7:« إنّ اللَّه یُبغض کثرة النوم وکثرة الفراغ».( الکافی، ج 5، ص 84).

ص: 309

ومکانته العالیة فی هذا الدین.

ب) وضع القوانین الداعمة للانتاج

وقد وضع الإسلام قوانین حقوقیّة بحیث توفّر بشکل مباشر الأرضیّة المناسبة لمزید من الإنتاج فی المجتمع، وینقل المرحوم الشهید الصدر فی کتابه اقتصادنا عشرین مورداً فی هذا المجال نشیر هنا إلی نماذج منها:

1/ ب. إذا ترک شخص أرضاً بدون استفادة لمدّة طویلة، وإلی درجة حتی یظهر علیها آثار الخراب، تتمکن الدولة الإسلامیّة إلغاء حقّ الملکیّة الخصوصیّة لمثل هؤلاء الأفراد، وتعطی الأرض لشخص آخر، لأنّ الأرض فی هذه النظرة أحد العوامل المهمّة للإنتاج ولا یمکن أن تبقی بدون استفادة(1).

وقد ورد عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«من کان له أرض فلیزرعها وإلّا فلیؤدّها أخاه»(2).

ونقرأ فی روایة عن الإمام الکاظم علیه السلام أنّه قال:

«من عطّل أرضاً ثلاث سنین متوالیة بغیر علّة أخرجت من یده ودفعت إلی غیره»(3).

وفی مقابل ذلک إذا أحیا شخص أرضاً مواتاً أو استخرج معدن وأوصله إلی مرحلة الإنتاج والاستفادة الاقتصادیّة، فإنّ حقوقه فی ملکیّة هذه الأرض أو المعدن محفوظة(4).

2/ ب. إنّ الإسلام یحرم العوائد المالیّة بدون عمل، مثلًا إذا أجر شخص أرضاً، ثمّ قام هذا المستأجر باجارتها إلی شخص آخر بمبلغ أکثر لیربح من ذلک هذا المقدار الإضافی، فإنّ عمله هذا یعتبر حراماً(5).

وبدیهی أنّه مع حذف الوسائط والدلالین فإنّ سقف الإنتاج سیزداد وبذلک سیوصد الطریق تدریجیّاً علی الأعمال غیر المنتجة.

3/ ب. إنّ الإسلام حرم الفائدة الربویّة، وعلی ضوء ذلک فإنّ رؤوس الأموال تساق نحو النشاطات الاقتصادیّة المنتجة والتجارة المفیدة.

4/ ب. إنّ الإسلام حرّم بعض الأعمال والنشاطات من قبیل القمار، السحر، الشعبذة التی تعتبر عقیمة من حیث الإنتاج، لأنّ وجود هذا النوع من الأرباح الکاذبة من شأنه إماتت أی حرکة اقتصادیّة منتجة.

5/ ب. إنّ الإسلام یخالف رکود الأموال وخروجها من دائرة الإنتاج، وفی صورة إدّخار الذهب والفضة فإنّها تکون مشمولة للزکاة، وبهذه الطریقة فإنّ الإسلام ساق رؤوس الأموال نحو حقول الإنتاج الاقتصادی والتجاری (6).

2. إعمار وإحیاء الأراضی

یذکّر القرآن الکریم فی آیات کثیرة بهذه الحقیقة، وهی أنّ اللَّه تعالی خلق جمیع المنابع والإمکانات


1- انظر: جواهر الکلام، ج 38، ص 22 فصاعداً.
2- کنز العمال، ج 15، الرقم 42053.
3- الکافی، ج 5، ص 297. فی أنّ هذا الحکم هل هو أمر وجوب أو استحباب؟ فیه کلام، ولکن کلّ واحد من الطرفین شاهد علی المسألة مورد البحث.
4- انظر: وسائل الشیعة، ج 17، ص 326 فصاعداً. کتاب إحیاء الموات؛ کنز العمال، ج 3، ص 892، ح 9048- 9053.
5- انظر: جواهر الکلام، ج 27، ص 222.
6- انظر: اقتصادنا، ص 620- 625.

ص: 310

الطبیعیّة فی العالم للإنسان وجعلها تحت تصرفه (1)، ومع التأکید علی التصرف فی عناصر الإنتاج دعا الإنسان إلی إحیاء الأرض بحیث تکون مستعدة للاستفادة منها، یقول القرآن الکریم:

«هُوَ أَنشَأَکُمْ مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَکُمْ فِیهَا»(2).

وکلمة «اعمار» و «عمارة» تعنی، أنّ الإنسان یخرج الأرض من حالتها الطبیعیّة إلی حالة تستطیع هذه الأرض أن ترضی حاجاته وینتفع من منافعها وخیراتها(3).

وکلمة الإعمار والاستعمار فی اللغة وردت أیضاً بمعنی التحرک علی مستوی إحیاء الأرض وعمرانها(4).

ویستفاد بوضوح من هذه الآیة أنّ أی نوع من النشاطات المنتجة لغرض إحیاء الأرض تصب فی مسار المشیئة الإلهیّة، لأنّ اللَّه تعالی هو الذی دعا الإنسان لإحیاء الأرض وإعمارها.

وهذه الإرادة الإلهیّة انعکست فی تعالیم الإسلام الذی یؤکد علی احترام العمل إلی حدّ أنّه ورد فی الحدیث الشریف عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«إن قامت الساعة وفی ید أحدکم فسیلة فإن استطاع ألّا تقوم حتّی یغرسها فلیغرسها»(5).

وهذا التعبیر یبیّن الأهمیّة القصوی لمسألة العمران وإحیاء الأراضی وإصلاحها.

3. الأهداف وأولویات الإنتاج
اشارة

یعتبر «الحد الأقصی من الربح مع الحدّ الأدنی من النفقات» الهدف النهائی والأصل للنشاطات الانتاجیّة فی النظام الرأسمالی، وفی هذا النظام فإنّ کلّ عمل ینتهی بربح أکثر، هو الذی یتعین العمل به فی خط الإنتاج مهما ترتبت علیه من مفاسد اجتماعیّة أو تخریب البیئة وتلویثها وحتی هلاک البشر، ومن هذه الجهة فإنّ إنتاج الإسلحة المیکروبیّة والکیمیائیّة، والمخدرات والمشروبات الکحولیّة فی هذا النظام الاقتصادی تکون مورد الاهتمام ویتحرک النشطاء الاقتصادیون فی هذا النظام الرأسمالی بهذا الاتجاه.

ولکن الإسلام، وضمن قبوله للدوافع الطبیعیّة والمادیّة فی الإنسان فی مجال کسب المزید من الربح، یسعی لتناغم وإنسجام هذه المیول المادیّة فی الإنسان مع البواعث الفطریّة والقیم الأخلاقیّة والمعنویّة ویدفعه فی خط الرشد والتعالی الإنسانی، ومضافاً إلی تشویقه إلی کسب المزید من الربح، فإنّه یدعوه إلی کسب مکارم الأخلاق والکمالات الإنسانیّة أیضاً، ومن هذه الجهة فإنّ الدین الإسلامی یقرر وجود علاقة وثیقة بین هذین الدافعین، واهتم فی الحقیقة بالرشد المادی والمعنوی للإنسان وأخذ بنظر الاعتبار


1- « سَخَّرَ لَکُمْ مَّا فِی السَّماوَاتِ وَمَا فِی الْأَرْضِ جَمِیعاً»( سورة الجاثیة، الآیة 13). « سَخَّرَ لَکُمُ اللَّیْلَ وَالنَّهَارَ* وَآتَاکُمْ مِّنْ کُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ»( سورة إبراهیم، الآیة 33 وسورة الحج، الآیة 65) « هُوَ الَّذِی جَعَلَ لَکُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِی مَنَاکِبِهَا وَکُلُوا مِنْ رِّزْقِهِ»( سورة الملک، الآیة 15).
2- سورة هود، الآیة 61.
3- انظر: المیزان، ج 10، ص 310.
4- مفردات الراغب، مادة« عَمَر»( أعمرته الأرض واستعمرته إذا فوَّضت إلیه العمارة).
5- کنز العمال، ج 12، ص 341، ح 35316؛ مسند أحمد، ج 3، ص 191 مع الاختصار.

ص: 311

کلا البعدین، المادی والروحی، فی الإنسان فی تعالیمه وأحکامه السماویة، وبکلمة: إنّ الإسلام جعل الأهداف المادیّة فی طول الهدف المعنوی وهو القرب الإلهی.

وعلی ضوء ذلک فإنّ العمل الذی یدفع الإنسان بعیداً عن اللَّه تعالی وعن المعنویات، لا محلّ له من الإعراب فی هذا النظام الاقتصادی، کما أنّ النشاطات الاقتصادیّة بدون ربح مشروع أیضاً لا مکان لها فی هذا النظام (1).

وفی هذه الرؤیة فإنّ المولد والمنتج الحقیقی هو اللَّه تعالی:

«أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ»(2).

والإنسان فی هذه الرؤیة القرآنیّة یعتبر عاملًا علی تهیئة مقدمات الإنتاج لا أنّه هو المنتج والموجد لها، وبذلک فالإنسان المؤمن یتوجّه دوماً إلی المنتج الحقیقی ویتحرک فی طریق نیل رضا وتحصیل مرتبة القرب منه ولذلک، فإنّ الهدف من الإنتاج فی هذا المذهب الاقتصادی، مضافاً إلی تأمین الحاجات الشخصیّة للفرد والمجتمع، والوصول وتحصیل حیاة یعیش فیها الإنسان فی الدنیا بشرف وکرامة، فإنّه یسعی لتحصیل رحمة اللَّه تعالی اللامتناهیة فی العالم الآخر.

یقول القرآن الکریم فی هذا الصدد:

«وَابْتَغِ فِیمَا آتَاکَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِیبَکَ مِنَ الدُّنْیَا»(3).

ومن هنا فإنّ القرآن الکریم یرغب البشر فی ذیل الآیات التی تستعرض عناصر الإنتاج ویقول بجملة:

«لَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ»

، فیشیر إلی هذا الهدف النهائی من الحرکة الاقتصادیّة للإنسان المؤمن، کما نقرأ أیضاً:

«اللَّهُ الَّذِی سَخَّرَ لَکُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِیَ الْفُلْکُ فِیهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ»(4).

وبدیهی أنّ الالتفات إلی هذا الهدف السامی، لیس فقط یؤثر إیجاباً علی حیاة الإنسان الاخرویّة بل من شأنه إحداث تغییر جذری فی حیاته الدنیویّة أیضاً، لأنّ الشخص الذی یتحرک فی نشاطاته الاقتصادیّة من موقع هذه الرؤیة فإنّه لا یتحرک أبداً علی مستوی تحصیل الأرباح الکبیرة الناشئة من إنتاج وتوزیع الأسلحة الفتاکة والمواد المضرة بصحة الإنسان وبحیاته وبالتالی فإنّ مثل هذا الاقتصاد سیرتدی سربال الإنسانیّة والسلامة کما سیأتی تفصیل الکلام فیه.

وجدیر بالذکر أنّ مرتبة «القرب الإلهی» وإن کانت هی الهدف النهائی من الإنتاج فی الاقتصاد الإسلامی ولکن هذا الهدف لا ینفی أو یتقاطع مع الأهداف المتوسطة الأخری، بل إنّ تلک الأهداف المتوسطة تعتبر نوعاً من المقدّمة للوصول إلی هذا الهدف النهائی، بل إنّ الإسلام یری أنّ الإنتاج حتی لو کان بدوافع مادیّة وبدون النظر إلی الهدف النهائی «القرب الإلهی» مباح وغیر محرّم فی دائرة النشاطات


1- انظر: معالم التنمیة الاقتصادیّة فی الرؤیة الإسلامیّة( شاخص های توسعه اقتصادی از دیدگاه اسلام) بالفارسیّة، ص 100- 101.
2- سورة الواقعة، الآیة 64.
3- سورة القصص، الآیة 77.
4- جاثیه، آیه 12.

ص: 312

الاقتصادیّة، لأنّه لا یمکن أن نتوقع من جمیع الناس أن یتحرکوا فی نشاطهم الاقتصادی بتلک الدوافع الإیمانیّة والمعنویّة وأن یکون الباعث لهم فی عملهم الدنیوی هی البواعث الإلهیّة والمعنویّة، ومن هذه الجهة نری أنّ الإسلام یحترم الدوافع المادیّة أیضاً بوصفها أهدافاً متوسطة، وأهم هذه الأهداف عبارة عن:

أ) تناسق العرض والطلب

إنّ زیادة الطلب بالنسبة للانتاج تتسبب دوماً فی زیادة القیمة، ویصطلح علی ذلک ب «التضخم».

«التضخم» ظاهرة سلبیّة تواجهها غالبیة بلدان العالم وبنسب مختلفة، وتعتبر أحد العوامل المهمّة لعدم الاستقرار الاقتصادی فی بلدان العالم، بل عامل لظهور الکثیر من الأنظمة الدکتاتوریة فی العالم.

إنّ ظهور هتلر فی آلمانیا(1)، وصول لنین إلی سدة الحکم، واسقاط سالوادور آلنده فی السالوادور واستقرار الحکومة الدکتاتوریة فی شیلی (1973 م)، وسقوط ایزابل برون فی الأرجنتین (1976 م) و ...

کانت بسبب زیادة التضخم وارتفاع الأسعار بشدّة بحیث کان ارتفاع الأسعار بشکل یومی وبالتالی أثر ذلک سلباً علی الناس ممّا أدّی إلی فوضی واضطرابات تسببت فی اسقاط الحکومات (2).

إنّ ظاهرة الفوضی والاضطرابات الاجتماعیّة فی أمریکا اللاتینیّة والتی شهدت ظاهر التضخم أکثر من أی مکان فی العالم تعود بالأساس إلی هذه الظاهرة بحیث سمیت تلک البلدان ب «أرض الانقلابات».

ویعتقد علماء الاقتصاد بأنّ «التضخم» بشکل تیار تراکمی وبازدیاد مستمر إنّما یحدث فیما إذا کان «الطلب» أکثر من العرض والأسباب مختلفة من قبیل زیادة نفقات الدولة، زیادة النقد والسیولة النقدیة بواسطة البنک المرکزی، زیادة القطاع الخاص، وزیادة الصادرات وقلّة الواردات، ولکن «العرض» یبقی ثابتاً فی مقابل ذلک أو تکون زیادته أقلّ من زیادة الطلب (3).

ومن هذه الجهة فثمّة علاقة وثیقة بین مقدار التضحم وسقف الإنتاج، بحیث إنّ إنعدام التوازن بین العرض والطلب یؤدّی دوماً إلی غلاء الأسعار والتضخم (4).

وفی مثل هذه الظروف یجب علی الحکومة الإسلامیّة التی وضعت فی سیاساتها زیادة الإنتاج والعرض لغرض مواجهة نمو التضخم، أن تزید من عملیّة الإنتاج وتتوجه إلی زیادة الواردات أیضاً.

ولا یخفی أنّ زیادة الإنتاج وتخفیف ضغط التضخم لا یتیسر بلیلة واحدة، بل یحتاج إلی برنامج طویل المدّة یقترن ببعض التحرکات الاقتصادیّة من قبیل، حمایة الإنتاج من خلال دعم الدولة المالی للبضائع الأساسیة(5)، الإعلان عن تخفیف أو رفع بعض


1- انظر: التضخم، ص 18، نقلًا عن الفقر والتنمیة( فقر وتوسعه) بالفارسیّة، ج 2، ص 289.
2- انظر: الفقر والتنمیة( فقر و توسعه) بالفارسیّة، ج 2، ص 389.
3- انظر: المصدر السابق، ص 294.
4- انظر: أصول علم الاقتصاد( اصول علم اقتصاد) بالفارسیّة، ص 351.
5- انظر: الفقر والتنمیة( فقر و توسعه) بالفارسیّة، ج 2، ص 336 نقلًا عن الاقتصاد الباهر فی البلدان النامیة( اقتصاد کلان در کشورهای در حال توسعه) بالفارسیّة، ص 161- 162.

ص: 313

الضرائب (1)، إعطاء قروض واعتبارات طویلة المدّة وبفوائد منخفضة، وإیجاد الباعث اللازم لتحفیز الاستثمار لرؤوس الأموال فی القطاع الخاص و ...

والسؤال الذی یفرض نفسه فی هذا المجال أنّه إذا کان «الطلب» هو الذی یوجه عملیّة «الإنتاج» فی النظام الاقتصادی الإسلامی، إذاً فما الفرق بینه وبین النظام الرأسمالی فی مسألة الإنتاج؟

وفی مقام الجواب نقول: صحیح أنّ «جهة الإنتاج» فی النظام الرأسمالی یتمّ تعیینها من خلال طلب المستهلکین وأنّ النشاطات الاناجیة تقوم علی أساس قانون العرض والطلب، وفی دائرة «الطلب»، ولکن ینبغی أن نعلم أنّ هذا النظام، وخلافاً للنظام الاقتصادی فی الإسلام، لا یهتم بالطلب الحقیقی والحاجات الواقعیة للناس، بل فی الکثیر من الموارد یهتم بالحاجات الکاذبة وحتی المخربة أیضاً.

وتوضیح ذلک: إنّ الحاجات الواقعیّة والرئیسیة لجمهور الناس أساساً لیس لها دور فاعل وأساسی فی هذا النظام، بل إنّ القدرة المالیّة للطبقة المترفة والأقلیّة هی التی تلعب دوراً أساسیاً فی الحرکة الاقتصادیّة بدون الالتفات إلی الحاجات الحیویة والرئیسیة لغالبیة الناس من ذوی الدخل المحدود، وفی الحقیقة


1- یقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی عهده لمالک الأشتر فی توصیته بترغیب القطاع الخاص للإنتاج، وتخفیف الضرائب علی الفلاحین، وکان الإمام علیه السلام یهدف من هذا العمل المؤثر التنمیة وتأمین المنافع العامّة:« ولا یَثْقُلَنَّ علیک شی ء خفَّفتَ بهِ المؤونة علیهم فإنّه ذخرٌ یعودون به علیک فی عمارة بلادک وتزیین ولایتک».( نهج البلاغة، الکتاب 53).

ص: 314

أنّ الشرکات الکبیرة ومن خلال إیجاد حاجات کاذبة وموهومة فی نفوس الناس، هی التی ترسم مسار الطلب لدی المستهلک، ومن هذا الطریق تحصل هذه الشرکات وأصحاب الرسامیل الکبیرة علی أرباح عظیمة، فهؤلاء ومن خلال استخدام خدع وحیل خاصة یخلقون حاجات موهومة فی غالبیة البلدان وجماهیر الناس بالنسبة لأسلحة الدمار الشامل، المخدرات، آلات اللهو واللعب، المشروبات الکحولیّة وحتی تجارة البشر والرقیق الأبیض، ثمّ یتحرکون علی مستوی إنتاج المنتوجات لهذه الحاجات الموهومة، ولکنّهم فی مقابل ذلک لا یلتزمون بأی شی ء فی مقابل الحاجات الواقعیّة للبشر.

أمّا فی الإسلام وثمّة اهتمام بالغ بالحاجات الواقعیّة والحیویة للناس وتأمین الحاجات الضروریّة للمجتمع، من قبیل: الطعام، الملبس، والمسکن التی لها أولویّة فی مجال الإنتاج، وفی هذا المذهب الاقتصادی یتمّ التحرک أولًا علی مستوی إنتاج البضائع والصناعات التی یحتاج إلیه عامّة أفراد المجتمع، وما لم یصل الإنتاج فی هذه الأمور إلی حد الإشباع والإکتفاء، فإنّ إنتاج سائر المصنوعات والمنتجات الأخری لا یعدّ أمر مقبولًا.

ب) الوصول إلی الاستقلال الاقتصادی (الإکتفاء الذاتی)

إنّ «التبعیّة الاقتصادیّة» عامل علی إیجاد أسوء أنواع سیطرة الأجانب، لأنّ التبعیّة الاقتصادیّة تستدعی التبعیّة السیاسیّة والثفافیّة علی المجتمع أیضاً، والیوم نری أنّ الخلاص من الهیمنة الاقتصادیّة للبلدان الاستکباریّة فی العالم لا یتیسّر إلّامن خلال الاستثمار الجاد فی عملیّة إنتاج المحاصیل الزراعیّة والمنتوجات الصناعیّة، فالمجتمع الإسلامی إنّمایستطیع الوصول إلی العزّة والکرامة فیما إذا تمکن قبل أی شی ء آخر الوصول إلی مرتبة الإکتفاء الذاتی فی قسم الإنتاج، وعلی الأقلّ بالنسبة إلی إنتاج المواد الغذائیّة والاستراتیجیّة.

وفی نظر الإسلام فإنّ الحاجة إلی الآخرین والتبعیّة لهم تستلزم الوقوع فی أسرهم، یقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام:

«احتجْ إلی من شئت، تکن أسیره واستغن عمّن شئت تکن نظیره»(1).

وفی العالم المعاصر فإنّ قوی الهیمنة والسلطة تستخدم حربة الحاجة والتبعیّة الاقتصادیّة لهم لفرض الاستسلام لها من قِبل بلدان العالم الثالث، وإخضاعهم لمطامعهم غیر المشروعة، ومن هذا الطریق یتحرکون للغضط علی هذه البلدان لفرض ما یریدونه فی المجالات السیاسیّة والثقافیّة أیضاً وتکون هذه البلدان تابعة لهم فی المجال السیاسی والثقافی.

واللافت أنّ أحد المسؤولین فی أمور الزراعة فی أمریکا یقول فی هذا الصدد:

«أعتقد أنّ سلاح الغذاء الیوم یعتبر أقوی سلاح لدینا لمواجهة البلدان الأخری وسیبقی لمدّة عشرین سنة قادمة، فمادامت البلدان الأخری تحتاج فی مجال الغذاء لأمریکا فإنّها ستمتنع عن إیجاد المشکلات لنا»(2).

وعلی هذا الأساس یتبیّن أهمیّة رؤیة الإسلام فی مجال إنتاج المحاصیل الزراعیّة، ویعتبر الإمام أمیرالمؤمنین علی علیه السلام أنّ إنتاج المحاصیل الزراعیّة یمثّل الرکن الأساس للنشاط الاقتصادی فی المجتمع بحیث إنّ سائر الأقسام الأخری تعتمد علیه بشکل کبیر فلو واجه الإنتاج الزراعی ضعفاً وخلالًا، فإنّ ذلک من شأنه إیجاد الخلل والإرباک فی الأقسام الأخری، وأنّ الإزدهار الاقتصادی یتسبب فی إزدهار ونمو الأقسام الأخری، یقول الإمام علیه السلام مخاطباً مالک الأشتر:

«وتفقّد أمر الخراج بما یُصلِحُ أهله، فإنّ فی صلاحه وصلاحهم، صلاحاً لمن سواهم ولاصلاح لمن سواهم إلّابهم لأنّ الناس کلّهم عیالٌ علی الخراج وأهله»(3).

وتأسیساً علی ذلک فإنّ الشأن الزراعی والرعی فی نظر الدین یعتبر فی صدر أولویات اهتمام الحکومة الإسلامیّة لأنّ یؤمّن أهم حاجات الناس فی مجال الغذاء، وقد ورد التأکید علی هذین الأمرین فی الروایات الشریفة.

ونقرأ فی روایة عن الإمام الصادق علیه السلام قوله:


1- بحار الأنوار، ج 77، ص 420.
2- أزمة الطعام،( بحران غذا) بالفارسیّة، ص 43( السید حسن الأسعدی، نقلًا عن مجلة اینترناشنال هرالدتریبیون، 26 دسامبر 1980 م).
3- نهج البلاغة، الکتاب 53.

ص: 315

«سئل النبی صلی الله علیه و آله: أیّ المال خیرٌ؟ قال: الزرع زَرعه صاحبُه وأصلحه وأدّی حقّه یوم حصاده، قال: فأیّ المال بعد الزرع خیر؟ قال: رجل فی غنم له قد تبع بها مواضع القَطْر یُقیم الصلاة ویؤتی الزکاة ...»(1).

ج. إیجاد العدالة الاقتصادیّة والقضاء علی الفاصلة الطبقیّة
اشارة

إنّ من أهم الأهداف السامیّة للنشاطات الاقتصادیّة والانتاجیّة الوصول إلی الطبقة المحرومة والاهتمام بهذه الشریحة الضعیفة، ویبدو أنّ أهم هدف لأولیاء الدین من الإنتاج یعود إلی هذا الأمر.

وقد ورد أنّ الإمام أمیرالمؤمنین علی علیه السلام کان ینفق أکثر ما یحصل علیه من عمله فی الزراعة للفقراء والمحتاجین والعبید فی المجتمع الإسلامی (2)، وفی الکثیر من المواقع یقوم الإمام علیه السلام بوقف هذه الأمور لخدمة جمیع الناس (3).

وقد ورد فی روایة عن علی بن موسی الرضا علیه السلام عن الإمام علی بن الحسین علیه السلام أنّه قال:

«ما أزرع الزرعَ لطلب الفضل فیه، وما أزرعه إلّالیناله المعتر وذو الحاجة»(4).

إنّ عملیّة «الإنتاج» بدافع تأمین حاجات الآخرین ولغرض التقارب النسبی فی سطح المعیشة لطبقات المجتمع المختلفة یعدّ من امتیازات الاقتصاد الإسلامی علی سائر المذاهب الاقتصادیّة الأخری، لأنّه فی المذاهب الأخری وخاصّة فی المذهب الرأسمالی، فإنّ الإنتاج یهدف فقط لکسب (الربح الأوفر) ولذلک فإنّ أتباع هذا المذهب لو شعروا بأنّ زیادة الإنتاج تؤدّی إلی إشباع السوق، وبالتالی تتعرض الأسعار إلی خطر السقوط، فربّما یتحرکون علی مستوی إلقاء ملایین الأطنان من المواد الغذائیّة فی البحر کما هو الحاصل لحدّ الآن، لکی یظمنوا ضبط السوق بیدهم وعدم إنفلات المعاملات الاقتصادیّة من أیدیهم، وهذا هو الشی ء الذی یعد فی نظر الإسلام أکبر وأخطر جریمة للبشریّة، وتفصیل هذا الموضوع ورد فی الأقسام الأخری من هذا الکتاب ولا یحتاج إلی تکرار.

ملاحظة:

مضافاً إلی ما تقدّم بیانه، نری فی القرآن الکریم إشارات ذات معنی عمیق إلی المشاغل الانتاجیّة بوصفها من النعم الإلهیّة والتی تبیّن أهمیّة هذه المشاغل والأعمال المنتجة، ومنها: الزراعة(5)، الرعی (6)، الصناعة(7)، الملاحة(8)، الصید(9)، بناء المساکین


1- الکافی، ج 5، ص 260.
2- المصدر السابق، ص 74؛ شرح نهج البلاغة، ابن أبی الحدید، ج 15، ص 147.
3- انظر: الکافی، ج 5، ص 65.
4- المصدر السابق، ج 6، ص 225؛ و ر. ک: الأمالی، الطوسی، ص 688، ح 1460؛ بحار الأنوار، ج 100، ص 67.
5- سورة الأنعام، الآیة 141؛ یوسف، الآیة 47؛ یس، الآیة 35.
6- سورة طه، الآیة 54.
7- سورة الأنبیاء، الآیة 80؛ سبأ، الآیة 11- 13.
8- سورة فاطر، الآیة 12؛ الجاثیة، الآیة 12.
9- سورة النحل، الآیة 14؛ الکهف، الآیة 79؛ الأنبیاء، الآیة 82.

ص: 316

والمدن (1) والمعادن الفلزات (2).(3)

4. عناصر الإنتاج
اشارة

یقسم علماء الاقتصاد عناصر الإنتاج إلی ثلاثة أقسام رئیسیة:

أ) المنابع الطبیعیّة

تعتبر «المنابع الطبیعیّة» المنشأ الأصلی فی عملیّة الإنتاج والتی جعلت ودیعة لأشکال مختلفة فی عالم الطبیعة، هذه الطبیعة التی خلقت وسخرت للإنسان علی حدّ تعبیر الآیات القرآنیّة لتضمن صیرورة الحیاة الدنیویّة(4) وبقاء الأجیال البشریّة:

«سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْکُلُوا

مِنْهُ لَحْماً طَرِیّاً»(5).

ویقرر الإمام أمیرالمؤمنین علی علیه السلام أنّ السیطرة علی البحار یعتبر عاملًا مهماً من عوامل التنمیة الاقتصادیّة والإنتاج الاقتصادی:

«سخّر لکم ... البحر سبباً لکثرة أموالکم»(6)

، ویقول أیضاً:

«سخّر لکم

الماء ... صلاحاً لمعاشکم»(7).

وبدیهی أنّه لولا وجود الماء، التراب، البحار، الغابات، المعادن والمنابع الطبیعیّة الأخری فی العالم فإنّ الإنسان لا یستطیع التحرک فی عملیّة الإنتاج لأی شی ء من حاجاته المعیشیة، والعمل الذی یعمله الإنسان بصفة «الإنتاج» علی الطبیعة، لیس شیئاً أکثر من عملیّة نقل أو تغییر شکل الموارد الطبیعیّة، سواء کان التغییر بسیطاً أو معقداً.

إنّ الأرض خلقت بشکل تتوفر فیها أنواع الإمکانات والاحتیاجات للبشر، ویستطیع الإنسان من خلال الاستفادة السلیمة والمعقولة منها أن یشبع جمیع حاجاته فی حرکة الحیاة.

ومضافاً إلی الذخائر الطبیعیّة العظیمة، فإنّ اللَّه تعالی قد أنعم علی الإنسان بنعمة الفکر والقدرة العلمیّة لیتمکن بواسطتها من إیجاد تغییر وتحوّل فی هذه المنابع الطبیعیّة لغرض استخدامها فی حاجاته المختلفة.

یقول الإمام الصادق علیه السلام:

«... وکذلک أعطی (الإنسان) علم ما فیه صلاح دنیاه، کالزراعة والغراس واستخراج الأرضین واقتناء الأغنام والأنعام واستنباط المیاه و ...»(8).

وکذلک یوصی هذا الإمام علیه السلام المفضّل- وهو راوی الحدیث وأحد أصحاب الإمام علیه السلام- أنّ یتأمل فی المعادن والمواد الثمینة فی عالم الطبیعیّة مثل:

الأحجار المرمر، الجص، الزرنیخ، النحاس، الرصاص، الذهب، الفضة الیاقوت، الزمرد، وأنواع


1- سورة یونس، الآیة 87.
2- سورة سبأ، الآیة 12.
3- انظر: الأخلاق الاقتصادیّة فی القرآن والحدیث( اخلاق اقتصادی در قرآن و حدیی) بالفارسیّة، ص 67.
4- انظر: سورة إبراهیم، الآیة 32- 34؛ الملک، الآیة 15.
5- سورة النحل، الآیة 14.
6- بحار الأنوار، ج 32، ص 256.
7- المصدر السابق.
8- توحید المفضل، ص 40؛ بحار الأنوار، ج 3، ص 83.

ص: 317

الأحجار المعدنیة والقیر والنفط و ... الزاخرة بالمنافع والفوائد للإنسان فی عالم الطبیعة، ثمّ یضیف الإمام علیه السلام هل ثمّة شک فی أنّ هذه الذخائر جعلت فی الأرض لیستخرجها الإنسان ویستخدمها بمقدار حاجته:

«فکِّر یا مفضَّل، فی هذه المعادن وما یخرج منها من الجواهر المختلفة، مثل الجصِّ والکِلس والجِبس والزرانیخ والمَرتَک و ... والقُونیا والزیبق والنحاس والرّصاص والفِضّة والذهب والزبرجد، والیاقوت والزمرّد وضروب الحجارة، وکذلک ما یخرج منها من القار والمومیا والکبریت والنفط، وغیر ذلک ممّا یستعمله الناس فی مآربهم فهل یخفی علی ذی عقل أنّ هذه کلّها ذخائر ذُخِرَت للإنسان فی هذه الأرض لیستخرجها فیستعملها عند الحاجة إلیها»(1).

هذه أهم وأفضل الموارد الطبیعیّة للانتاج والتنمیة والتی یستطیع المسلمون من خلال الاستفادة الصحیحة والسلیمة منها تنشیط حرکة الاقتصاد وتقویة أرکان المجتمع الإسلامی.

ب) القوی البشریّة

ومن بین عناصر الإنتاج الثلاثة (القوی البشریة، المنابع الطبیعیّة، ورأس المال) فإنّ دور القوی البشریّة یمتاز بأهمیّة وحساسیّة خاصّة، بحیث إنّه بدون هذا العامل فإنّ أیّاً من العاملین الآخرین لا یصل إلی مرحلة الإنتاج، لأنّ القوی البشریّة هی تستطیع تحویل المواد الخام فی الطبیعة بقوّة الإبداع الفکری والقدرة الجسمانیّة إلی مواد قابلة للاستفادة وإیصالها إلی مرحلة الإنتاج أو تقدیم الخدمات.

ومن هذه الجهة یری علماء الاقتصاد أنّ القوی البشریّة والاستفادة المثلی منها یشکل الرکن الأساس للثروة الوطنیّة للمجتمعات البشریّة(2).

ومن هذه الجهة فإنّ الشریعة الإسلامیّة تنظر إلی العمّال والکادحین المنتجین کالمزارعین وأهل الصناعات المختلفة بنظرة خاصّة وتری لهم مکانة ومنزلة عالیّة، إلی درجة أنّ الروایات الشریفة تعتبر عملهم وسعیهم عبادة للَّه تعالی (3).

یقرر القرآن الکریم بأنّ أحد المواهب الإلهیّة للنبی سلیمان علیه السلام وجود العمّال والفنیین الذین یعملون فی خدمة هذا النّبی فی مجال الإنتاج والخدمات المتنوعة(4).

والنقطة المهمّة هنا، أنّه لا ینبغی الغفلة عن الدور الحیوی للتجّار والوسائط فی مسألة التوزیع وإیصال المنتوجات إلی المستهلکین، لأنّ هؤلاء ورغم أنّهم لیس لهم دور مباشر فی إنتاج المصنوعات والمحصولات، ولکن بما أنّ عملهم ونشاطهم الاقتصادی یتمحور حول نقل المنتوجات من مراکز الإنتاج وإیصالها إلی ید المستهلک، ففی نظر علم الاقتصاد یعد عملهم من جملة الخدمات ویعتبر نوعاً من العمل المنتج.

ونقرأ فی عهد مالک الأشتر أنّ أمیرالمؤمنین علیه السلام


1- بحار الأنوار، ج 3، ص 128؛ توحید المفضّل، ص 97.
2- انظر: التنمیة الاقتصادیّة فی العالم الإسلامی( توسعه اقتصادی در جهان اسلام) بالفارسیّة، ج 1، ص 473.
3- انظر: مسند أحمد، ج 3، ص 147؛ مستدرک الوسائل، ج 13، ص 460.
4- انظر: سورة سبأ، الآیة 12 و 13؛ الأنبیاء، الآیة 82.

ص: 318

یوصی الأشتر بالاهتمام الخاص بهذه الفئة من الناس إلی جانب أصحاب الصنائع ویعتبرهم من جملة العناصر التی تؤمّن حاجات المجتمع، یقول علیه السلام:

«ثمّ استوصِ بالتجّار وذوی الصناعات، وأوصِ بِهِم خیراً:

المقیم منهم والمضطَربِ بماله والمترفِّقِ ببدنه، فإنّهم موادُّ المنافع وأسباب المرافق وجُلّابها من المباعد والمطارح فی برّک وبحرک وسهلک وجَبَلک وحیث لا یلتئم الناس لمواضعها ولایجترؤونَ علیها»(1).

ومن جهة أخری فإنّ البشر خلقوا بقابلیات متنوعة وملکات مختلفة، یقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام:

«الناس کالشجر، شرابه واحد و ثمره مختلف»(2).

وعلی هذا الأساس فإنّ جمیع أفراد المجتمع بوصفهم «قوی بشریّة» یعتبرون من جملة رأس مال المجتمع الذی یتولّی تأمین حاجات المجتمع البشری.

یقول الإمام الصادق علیه السلام:

«الناس معادن کمعادن الذهب والفضّة(3)

، بما یملکونه من القابلیات وقوی ثمینة ومتنوعة.

ومن جهة أخری فإنّ الأفراد فی فضاء المجتمع البشری یحتاج بعضهم للبعض الآخر، وکلّ واحد منهم یتولّی أداء دوره فی هذه الشبکة المترابطة من العلاقات والروابط الاقتصادیّة والاجتماعیّة.

یقول الإمام الصادق علیه السلام فی هذا الصدد:

«إنّه لابدّ لکم من الناس، إنّ أحداً لا یستغنی عن الناس حیاته، والناس لابدّ لبعضهم من بعض»(4).

وفی الحقیقة أنّ ید القدرة الإلهیّة فی عالم الخلق وعلی أساس الحکمة والمصلحة خلقت أفراد البشر بحیث یحتاج بعضهم للبعض الآخر وینتفعون من الخدمات المتقابلة فیما بینهم وللجمیع سهم بشکل معین فی أمر الإنتاج والعمل المفید.

یقول القرآن الکریم فی هذا المجال:

«نَحْنُ قَسَمْنَا بَیْنَهُمْ مَّعِیشَتَهُمْ فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّیَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِیّاً»(5).

وفی الحقیقة أنّ اللَّه تعالی مضافاً إلی تقسیمه الرزق بین الخلائق، فقد قسّم القابلیات والأعمال فیما بینهم لتنتظم أمور المجتمع وینتفع البشر لقضاء حوائجهم من خلال التعامل المتقابل فیما بینهم ویتحرک کلّ واحد منهم فی خدمة الآخرین بما یکفل تقویة الإنسجام وتوثیق العلاقات بین شرائح المجتمع.

ولا شک أنّ أصل وجود القابلیات المتفاوتة فی البشر غیر قابل للإنکار، ولکن المسألة الأساسیّة فی هذا المجال فی کیفیة الاستفادة من هذه الذخائر القیمة، ففی نظر الدین إذا تمّ مع برنامج دقیق وبإدارة سلیمة وضع القوی البشریّة حسب قابلیاتهم فی المحل المناسب واللائق، وکان مکان کلّ واحد منهم علی أساس استحقاقه ولیس من مواقع اعتباطیة فإنّ المجتمع سیتحرک بسرعة فی مسیر الرشد والتعالی، ولکن فی غیر هذه الصورة لابدّ أن نتوقع سقوط وانحطاط المجتمع، ومن هذه الجهة نری أنّ الإمام


1- نهج البلاغة، الکتاب 53.
2- غرر الحکم، ح 1882.
3- الکافی، ج 8، ص 177، ح 197.
4- المصدر السابق، ج 2، ص 635، ح 1.
5- سورة الزخرف، الآیة 32.

ص: 319

أمیرالمؤمنین علی علیه السلام یعتبر أنّ أحد عوامل سقوط الدول، الاستفادة غیر السلیمة من القوی البشریّة بحیث یتمّ اقصاء العقول العلمیّة وتهمیش النخبة من الناس ویستلم الأفراد الفاسدون والانتهازیون مقالید الحکم ویکونون هم أصحاب القرار فی المجتمع:

«یستدلّ علی إدبار الدول بأربع ... تقدیم الأراذل وتأخیر الأفاضل»(1).

والنقطة الملفتة للنظر هنا أنّ تقسیم القابلیات یتمّ بشکل کامل بحیث یرفع جمیع الحاجات فی المجتمع ولا تبقی حاجة من الحاجات الاجتماعیّة من دون أن یتولّی أمرها أشخاص یملکون اللیاقة والقابلیة، وفی الحقیقة أنّ هذا التقسیم الدقیق محیر ومثیر للعجب ومن هذه الجهة عندما یتمّ تقدیم فئات مختلفة من الطلّاب لقبولهم فی الجامعة نلاحظ أنّ کلّ فئة من الشباب تتجه نحو قسم خاص وفرع معین من فروع الجامعة بحیث لا یبقی صف من الصفوف فارغاً من الطلّاب (وسیأتی مزید من البحث فی هذا الموضوع فی مکان آخر).

ج. رأس المال (النقد)

وأحد أهم عناصر الإنتاج، رأس المال، الذی یملک القابلیة لتبدیله إلی منتجات مختلفة، فثمة الکثیر من البلدان التی تملک قوی بشریّة شابة وموقع جغرافی مناسب ومنابع طبیعیّة غنیّة، ولکنّها بسبب عدم وجود رأس المال الکافی فإنّها غیر قادرة علی الاستفادة من هذه المنابع الطبیعیّة فی عملیّة الإنتاج وبالتالی تعدّ من البلدان المتخلفة وغیر النامیّة.

وقد إلتفت الإسلام بشکل خاص إلی هذا العنصر الحیوی فی الاقتصاد(2)، فرأس المال فی الرؤیة الإسلامیّة یعتبر قوام الفرد والمجتمع (3)، ولذلک فإنّ النصوص الدینیّة تقرر أنّ أموال الأشخاص الذی لا یملکون الرشد الکافی لا ینبغی دفها إلیهم إلی حین وصولهم مرتبة البلوغ الفکری والاقتصادی (4)، لأنّ هذه الأموال تعتبر ودیعة إلهیّة یجب علی جمیع الأفراد الاهتمام بحفظها ورعایتها(5).

وفی الرؤیة العلمیّة فإنّ «رأس المال» هو المال الذی یسهم فی إنتاج ثروة جدیدة، ومن هذا المنطلق فإنّ أدوات الإنتاج والمواد الأولیّة، ورأس المال، إذا أدّت دورها فی عملیّة الإنتاج، فإنّها تحسب من جملة رأس المال (6).

وطبعاً فمن جهة محدودیّة رأس المال النقدی کان من اللازم أن تستخدم رؤوس الأموال بحیث یحفظ معها هذا الأصل وبالتالی یتمّ إنتاج رأس مال جدید


1- غرر الحکم، ح 5484؛ عیون الحکم والمواعظ، ص 550.
2- سیأتی بحث ودراسة هذا الموضوع تحت عنوان« أهمیّةالاقتصاد والقدرة المالیّة فی الرؤیة الإسلامیّة» فی الأقسام الأخری من هذا الکتاب بالتفصیل.
3- « وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَکُمُ الَّتِی جَعَلَ اللَّهُ لَکُمْ قِیَاماً»( سورة النساء، الآیة 5).
4- « فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَیْهِمْ أَمْوَالَهُمْ»( سورةنساء، الآیة 6).
5- « المال مال اللَّه، جعله ودائع عند خلقه» الإمام الصادق علیه السلام( مستدرک الوسائل، ج 13، ص 52، ح 14720).
6- الفقر والتنمیة( فقر و توسعه) بالفارسیّة، ج 3، ص 272 نقلًا عن الإسلام یقود الحیاة( السید محمّد باقر الصدر)، ص 212.

ص: 320

بهذه الطریقة، ومن هذه الجهة فإنّ أهم التعالیم الاقتصادیّة التی ینبغی للمنظرین الاقتصادیین الالتفات إلیها، هی إیجاد ثقافة الاستثمار فی الأمور المهمّة والحیویّة، وکذلک الاهتمام بعملیّة الاستثمار فی المناطق المحتاجة وخاصّة فی البلاد الإسلامیّة.

وعلی ضوء ذلک فإنّ المؤسّسات التی تضع رؤوس أموالها فی البنوک الخارجیّة مع وجود حاجة شدیدة فی المجتمع الإسلامی بعیدة عن الثقافة الإسلامیّة.

یقول الإمام أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی هذا الصدد:

«لم یضع امرؤ ماله فی غیر حقّه وعند غیر أهله، إلّا حرّمه اللَّه شکرهم وکان لغیره ودّهم، فإن زلّت به النعل یوماً، فاحتاج إلی معونتهم، فشرّ خدین وألأم خلیل»(1).

وفی نظر الدین فإنّ رؤوس الأموال التی تصرف لشراء اللوازم التجملیّة والمصنوعات الذهبیّة الکثیرة وبنا القصور الفاخرة والمجللة وشراء السیارات الفارهة والغالیّة والأشیاء التحفیّة، وبالتالی تخرج عن دائرة الإنتاج وتکون راکدة لا تنفع شیئاً فی مجال تفعیل الحرکة الاقتصادیّة تعتبر من جملة «الإکتناز» المذموم (2).

وفی نظر الإسلام فإنّ رأس المال یجب أن یتحرک فی مفاصل الاقتصاد إلی جانب علمیّة الاستثمار فی المجالات الثقافیّة والسیاسیّة والإنسانیّة، کیما یتحرک المجتمع فی طریق التکامل المالی والاقتصادی إلی جانب الرشد والنمو فی المجالات الأخر ویتخلص بذلک من جمیع أشکال التبعیّة والإرتباط بالأجنبی.

5. محدودیات الإنتاج
اشارة

رأینا فیما سبق أنّ الهدف من «الإنتاج» فی النظام الاقتصادی الرأسمالی، التوصل إلی «الحدّ الأکثر من الربح مع الحدّ الأدنی من النفقات»، فالإنسان فی هذا النظام یتحرک نحو تحصیل ربح أکثر بنفقات وسعی أقل بعیداً عن الالتزام بالقیم الأخلاقیّة والمعنویّة، وذلک یقوم بانتاج کلّ ما یوصله إلی هذا الهدف حتی علی حساب سحق القیم الأخلاقیّة والمثل الإنسانیّة وحتی لو ترتب علی ذلک إشاعة المفاسد الاجتماعیّة، ومن هذه الجهة فإنّ عملیّة الإنتاج فی هذا النظام لیست محدودة بحدود معینة، فحتی إنتاج الأسحلة الکیمیاویّة والمکروبیّة والمخدرات وأنواع المشروبات الکحولیّة والأقراص المخدرة التی تشیع ثقافة التحلل والانحطاط فی المجتمع تکون مباحة ومحبذة عملًا، رغم أنّهم یقولون ویکتبون بما یخالف هذا التحرک فی شعاراتهم وقوانینهم الرسمیّة بحسب الظاهر، ولکن الحقیقة أنّهم وعلی أساس رؤیتهم المادیّة للحیاة والعالم لا یبقی لهم طریق من الناحیة العملیّة سوی مقولة «الحد الأکثر من الربح».

ولکن الإسلام وبمقتضی رؤیته الواقعیّة للأمور واهتمامه الخاص بالبعد المعنوی والقیم الأخلاقیّة للإنسان وضع بعض القیود فی عملیّة الإنتاج، تمتد إلی


1- نهج البلاغة، الخطبة 126.
2- انظر: بحث« إکتناز وخروج الثروات عن عجلة الإنتاج» فی هذا الکتاب.

ص: 321

جذوره الفطریّة وتنبع من أعماق وجود الإنسان، وفی هذه الرؤیة فإنّ جمیع الحریات الاقتصادیّة تقع فی إطار القیم الأخلاقیّة والمعنویّة، ویمکن بیان هذه القیود والخطوط الحمراء وتلخیصها فی ثلاثة أقسام:

أ) إنتاج المواد الضارة

إن الإسلام لا یرضا أبداً وتحت أی ذریعة بالاضرار بالآخرین، وقد ورد هذا المعنی فی الحدیث المشهور: «لا ضرر» الوارد فی کتب أهل السنّة والشیعة عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله (1)، ویبیّن هذه الحقیقة وهی أنّ الإسلام یمنع من إنتاج أی شی ء یضرّ بالفرد والمجتمع، وخاصّة فیما إذا أدّی هذا الإنتاج إلی أضرار اجتماعیّة کبیرة أو سحق حقوق شریحة واسعة من المجتمع، من قبیل المنتجات التی تلوث البیئة، وتضرّ بحیاة الحیوانات البریّة والمائیّة وتخریب الغابات وتلویث البحار، أو إنتاج أسلحة الدمار الشامل.

إنّ إنتاج أنواع الحبوب المخدرة، المخدرات والمشروبات الکحولیّة، وکتب الضلال، أقراص «DC»، والأفلام المتحللة والمنحطة التی تعرض المحیط الآمن للُاسرة للخطر وتهدد الأمن الاجتماعی وتجر المجتمع نحو منزلقات المفاسد والمنکرات الأخلاقیّة، وللأسف فإنّ حجماً عظیماً من العوائد المالیّة غیر المشروعة فی العالم المعاصر تأتی عن هذه الطرق غیر المشروعة.

وفی نظر الإسلام فإنّ إنتاج، وتوزیع، وبیع وشراء واستهلاک هذا القبیل من المنتوجات حرام بأجمعه وغیر مشروع ویعدّ من المصادیق البارزة ل «أکل المال بالباطل» الذی ورد فی القرآن النهی عنه بصراحة.

وعلی حدّ قول الشهید الصدر قدس سره أنّ المشاریع الانتاجیّة الکبیرة التی تنتج منتوجات کثیرة وتؤدّی إلی إنهدام وفشل المصانع المنتجة الصغیرة فإنّها مشمولة ل «قاعدة لا ضرر»(2).

وببیان آخر: إنّ قاعدة «لا ضرر» لا تنحصر بالأضرار الفردیّة، بل تشمل الأضرار الجمعیّة أیضاً، وطبعاً فإنّ هذا لا یعنی منع أحداث المشاریع الکبیرة والمصانع الضخمة التی تساهم فی تطویر المجتمع بشکل عام، وبعبارة أخری تساهم فی إنتاج أسهل وأقلّ سعراً.

ب) الإنتاج من طرق غیر مشروعة ومکاسب محرمة

یضع الإسلام بعض القیو للانتاج وزیادة الثروة وتحقیق الملکیّة فی إطار تلک القیود والحدود، ویعترف بهذه الملکیّة فی إطار العقود والمعاملات الخاصّة بعقود وإیقاعات مشروعة ویحرم جمیع الوسائل وأدوات الإنتاج التی تنشأ من النشاطات الاقتصادیّة الممنوعة، لأنّها تتسبب فی إیجاد السوق السوداء، الإحتکار، الرشوة، والغصب، الربا، القمار،


1- انظر: الکافی، ج 5، ص 280؛ مسند أحمد، ج 1، ص 313.
2- انظر: اقتصادنا، ص 607- 608.

ص: 322

البضائع الزائفة وسائر الأمور التی وردت فی الفقه تحت عنوان «المکاسب المحرمة».

وفی نظر الإسلام فإنّ الأرباح الحاصلة من هذا النوع من المنتجات کلّها تعتبر من مصدایق أکل المال بالباطل، وبالتالی لا تترتب علیها الملکیّة.

ج) الخدمة للأجانب والظالمین
اشارة

إنّ الإسلام لا یوافق علی إنتاج الأمور التی تؤدّی فی النهایة لتقویّة أعداء الإسلام والأجانب.

وکذلک یمنع من إنتاج المحاصیل والبضائع التی توفّر الأرضیة للهیمنة الثقافیّة علی بلاد الإسلام من قِبل الأعداء، من قبیل إنتاج الکتب المروجة للثقافة الفاسدة للأجانب، الأفلام الخلاعیّة، الملابس واللوازم التی تعمل علی تقویّة هذه الثقافة المنحطة وتساهم فی زیادة حالات التحلل الأخلاقی بین الشباب والمراهقین، فهذه الأمور کلّها تعتبر مذمومة وغیر محبذة فی نظر الإسلام.

وکذلک بالنسبة لخدمة الظالمین وقوی السلطة والجور فی جمیع الأبعاد، حیث تعتبر فی نظر الدین أمراً غیر مقبول (1)، وحتی تهیئة القلم والدواة والأدوات البسیطة التی توجب تقویّة الظالمین فإنّها تعتبر فی رؤیة الدین من الذنوب الکبیرة(2).

ومن جملة المکاسب المحرمة، زیادة الثروة عن طریق شهادة الزور والقضاء غیر العادل الذی یعتبره الإسلام من جملة ال «سُحت» ویعتبر من جملة أنواع الظلم فی أمر الحکم والقضاء(3).

النتیجة:

یتبیّن من مجموع ما تقدّم ذکره أنّ من بین أرکان العملیّة الاقتصادیّة: الإنتاج، التوزیع، الاستهلاک، فإنّ الرکن الأوّل للإنتاج یحظی بأهمیّة خاصّة بالنظم الاقتصادیّة المعاصرة، والتنمیة الاقتصادیّة فی أی بلد من البلدان العالم تدول حور محور القدرة الانتاجیّة فی ذلک البلد.

إنّ الإسلام، ومن خلال إصلاح المفاهیم والرؤی الثقافیّة ووضع القوانین والأحکام الخاصّة بالمعاملات الاقتصادیّة، ولا سیما التوصیة والتأکید علی إحیاء وإعمار الأراضی یدعو الجمیع إلی استثمار ؤوس أموالهم فی مجالات الإنتاج والتنمیة.

وفی الرؤیة الدینیّة، وخلافاً للنظام الرأسمالی، فإنّ الهدف من الإنتاج لیس فقط اکتساب الحدّ الأعلی من الربح بل مضافاً إلی ذلک فإنّ الإسلام یهتم أیضاً


1- انظر: الکافی، ج 2، ص 333، باب الظلم؛ ثواب الأعمال، ص 274؛ بحار الأنوار، ج 72، ص 277.
2- قال الإمام الصادق علیه السلام:« قال رسول اللَّه صلی الله علیه و آله: إذا کان یوم القیامة نادی مناد: أین الظلمة وأعوان الظلمة، من لاق لهم دواةً أو ربط لهم کیساً، أو مدّ لهم مدّة قلم، فاحشروهم معهم»( بحار الأنوار، ج 72، ص 372، ح 17). ونقرأ فی مصادر أهل السنّة أیضاً فی حدیث عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال:« ینادی مناد یوم القیامة: أین الظلمة وأشباه الظلمة وأعوان الظلمة حتّی من لاق لهم دواةً أو برئ لهم قلماً فیجمعون فی تابوت من حدید فیرمی بهم فی جهنّم».( تفسیر روح المعانی، ج 20، ص 56).
3- یزید بن فرقد- أحد أصحاب الإمام الصادق علیه السلام- سئل الإمام علیه السلام عن سُحت، فقال:« الرشا فی الحکم»( الکافی، ج 5، ص 127).

ص: 323

بمصالح المجتمع، ولذلک فإنّ الأهداف والدوافع المهمّة والأساسیّة فی حرکة الإنتاج، تقوم علی أساس التجانس والتعادل فی میزان العرض والطلب، والحرکة فی خط القضاء علی التضخم والوصول إلی مرحلة الاستقلال الاقتصادی والاکتفاء الذاتی وکذلک تحقیق العدالة الاقتصادیّة وإزالة الفواصل الطبقیّة، ومن هذه الجهة ففی نظر الدین وخلافاً للنظم الاقتصادیّة الأخری فإنّه لا یمکن إنتاج أی شی ء وأی بضاعة بل لابدّ أن یکون الإنتاج فی إطار المسائل القیمیة والمعنویّة.

وفی هذه الرؤیة یحرّم إنتاج المصنوعات المضرّة، حتی لو کانت مفیدة ونافعة للشخص المستثمر، وکذلک انتاج الأمور التی تتسبب فی إشاعة الفساد والمنکرات فی فضاء المجتمع، أو تؤدّی إلی سیطرة الثقافة الأجنبیّة علی البلاد الإسلامیّة وما یرتب علی ذلک من إیجاد الأرضیّة لتقویّة أعداء الإسلام، فهذه کلّها تعتبر أمراً مذموماً وممنوعاً.

الفصل الثالث: التوزیع

تعریف التوزیع:

اشارة

المراد من «التوزیع» التخصیص والتقسیم المتوازن والمتعادل فی العوائد المالیّة الاقتصادیّة بین عناصر الإنتاج بحیث یحصل کلّ واحد منهم علی حصته الواقعیّة وتعود إلیه نتیجة نشاطاته الاقتصادیّة(1).

1. أهمیّة التوزیع
اشارة

إنّ حلّ مسألة التوزیع یعتبر من المسائل المهمّة والرئیسیة فی النظام الاقتصادی، لأنّه کما تقدّمت الإشارة إلیه فإنّ کیفیّة التوزیع ترتبط بشکل مباشر بنسبة الثروات الطبیعیّة أو المنتوجات والأرباح فی تأثیرها علی ظهور الفاصلة الطبقیّة، بمعنی أنّ التوزیع غیر العادل سیؤدی بسرعة إلی انقسام المجتمع إلی طبقتین أقلّیة وأ کثریّة، والأقلیّة تعیش الترف والثراء الفاحش والأکثریّة تعیش الفقر والحرمان.

إنّ طبقة المترفین الأقلیّة وباعتمادها علی آلیات القوّة والتزویر تعمل علی إمتلاک منابع الثروة وبذلک تحرم حقّ الغالبیّة من الناس من حقّها الطبیعی فی الاستفادة من المنابع الطبیعیّة، وبالنتیجة یترتب علی ذلک ظهور حالتی الفقر والتکاثر، وهاتان الظاهرتان بدروهما منشأ الکثیر من المشکلات الاجتماعیّة والمفاسد الاقتصادیّة.

هؤلاء وبهذا العمل یقسمون الناس إلی طبقتین:

أثریاء وفقراء، وفی المجال العالمی تنقسم البلدان إلی:

بلدان غنیّة وبلدان فقیرة، وفی الحقیقة تنقسم البلدان إلی بلدان مستعِمرة وأخری مستعَمرة.

وکما تقدّمت الإشارة إلیه فی بدایة البحث أنّ البحوث الاقتصادیّة الجدیدة التی تقوم علی أساس


1- انظر: معالم التنمیة الاقتصادیّة فی الرؤیّة الإسلامیّة( شاخص های توسعه اقتصادی از دیدگاه اسلام) بالفارسیّة، ص 127.

ص: 324

النظام الرأسمالی تقرر مسألة التوزیع بعد مسألة الإنتاج، لأنّه ما لم یتمّ الإنتاج، فلا تصل النوبة للتوزیع فی هذا النظام، وأمّا بحث تقسیم وتوزیع الثروات العامّة والإمکانات الطبیعیّة، کالأرض، المواد الأولیّة، المنابع الطبیعیّة فلیس لها مکان فی هذا النظام، لأنّ هذا النظام یقوم علی أساس الحریّة الاقتصادیّة والمنافسة الحرة، وتکون المنابع الطبیعیّة والمواد الأولیّة عملًا فی انحصار فئة قلیلة من الأثریاء والمتمولین ولا یبقی مجال لعامّة الناس فی المنافسة مع هؤلاء الأقویاء(1)، ولکن مسألة التوزیع فی الاقتصاد الإسلامی تطرح فی موردین:

أ) التوزیع قبل الإنتاج؛ یعنی التوزیع العادل للثروات الطبیعیّة والذی أوردناه فی القسم الأوّل تحت عنوان «تقسیم المنابع».

ب) التوزیع بعد الإنتاج، یعنی التوزیع العادل للعوائد المالیّة والأرباح الحاصلة من المنتجات (2)، وعلی هذا الأساس فإنّ عملیّة التوزیع فی الاقتصاد الإسلامی لها فرعان أصلیان:

الأوّل) توزیع وتخصیص المنابع الطبیعیّة والمواهب الإلهیّة بین أفراد المجتمع.

الثانی) توزیع وتعیین سهم کلّ واحد من عناصر الإنتاج من المحصول والمنتج.

وبما أنّ البحوث المتعلقة بتقسیم الثروات الطبیعیّة تحدّثنا عنه فیما سبق، فلذلک نتحدّث هنا عن القسم الثانی، یعنی توزیع العوائد المالیّة بین عناصر الإنتاج:

توزیع العوائد بین عناصر الإنتاج:

کما رأینا فی بحث الإنتاج أنّ عناصر الإنتاج عبارة عن: «القوی البشریّة، المنابع الطبیعیّة، رأس المال، أدوات الإنتاج»، والآن إذا أراد المنتج «العامل» أن یملک بنفسه الأرض ورأس المال أیضاً، فلا شک أنّ جمیع العوائد المالیّة تعود إلیه ولا یبقی مجال لتقسیم العوائد بین عناصر الإنتاج «الأرض ورأس المال» ولکن إذا کان العامل والمنتج، غیر صاحب الأرض ورأس المال، فإنّ کلّ واحد من النظم الاقتصادیّة وعلی أساس مبانیه النظریّة له رؤیة خاصّة فی تقسیم وتوزیع تلک العوائد المالیّة بین عناصر الإنتاج.

وعلی أساس النظام الاقتصادی الرأسمالی فإنّ الأصل الحاکم فی هذا النظام أن یستلم العامل «العامل الأصلی للانتاج» اجرته ولیس له سهم فی المنتوجات نفسها، وطبعاً فإنّ تعیین مقدار الأجر أیضاً بید صاحب المال، ولکن فی الإسلام وبما أنّ شخصیّة الإنسان «العامل» تعتبر أعلی وأسمی من مجرّد أدوات الإنتاج ورأس المال، ولذلک فإنّ العامل بوصفه العنصر الأساس فی الإنتاج یستطیع وفق ضوابط ومقررات شرعیة أن یکون سهیماً فی هذه المنتوجات وله حصّة منها.

وعلی أساس هذا التفاوت النظری، والذی هو خلاف النظم الاقتصادیّة السائدة فی العالم، نری أنّ الفقهاء ذکروا أبواباً فی النظام الاقتصادی الإسلامی من قبیل: «المزارعة»، و «المضاربة» و «المساقاة».


1- انظر: اقتصادنا، ص 413.
2- انظر: المصدر السابق، ص 411- / 414.

ص: 325

وطبقاً لعقد «المساقاة»، فإنّ صاحب المزرعة إذا احتاج إلی عامل لسقی مزرعته ورعایتها ووضع البستان بید هذا العامل أو الفلاح فإنّه یجعل فی مقابل ذلک للعامل نسبة عادلة من محصولات البستان بما یرضی الطرفین، فیکون العامل شریکاً لمالک المزرعة فی منتوجاتها وثمارها، ومثل هذا العقد یصطلح علیه فی الفقه ب «عقد المساقاة».

أمّا فی عقد «المضاربة» فحاله حال المساقاة أیضاً، فالمضاربة هی عقد بموجبه یتفق العامل مع صاحب المال بأن یکون شریکاً له فی الأرباح المترتبة علی التجارة برأس المال.

وفی هذا العقد فإنّ کلّ ضرر یحصل یقع علی کاهل صاحب المال، لأنّ العامل یفقد أیضاً نتیجة عمله ولا یربح منه شیئاً.

وکذلک عقد «المزارعة» أیضاً بهذه الصورة، أی أنّه عقد یکون بموجبه العامل شریکاً لصاحب الأرض بما یتفقان علیه فی المحصول الناتج من الأرض الزراعیّة بنسبة خاصّة.

وهذه المسألة تأتی أیضاً فی موارد المصانع والشرکات الاقتصادیّة الکبیرة، وذلک علی أساس إمکانیّة إجارة المصنع إلی القوی البشریّة فی الإنتاج (العمّال) ویأخذ مالک المصنع الاجرة من العمّال أو یتفق معهم بنسبة عادلة من أرباح هذا المصنع فیکونون شرکاء فی عوائد المنتوجات، أو یکتفی بدفع اجرتهم بدون أن یکون لهم سهم فی المنتجات.

والنتیجة من طرح هذه المسائل أنّ المواد الأولیّة حال تمّ تمّ تقسیمها سابقاً وطبق الموازین الشرعیّة وأضحت ملکاً للشخص، فالآخرون لا یستطیعون الاستیلاء علیها بعمل جدید، بل یمکنهم المشارکة فی المحصول والربح من خلال عقود من قبیل: المساقاة، المزارعة، المضاربة، وطبعاً إلی جانب العقود الإسلامیّة، فهنا مسألة عقد الإجارة وعمل العامل، لأنّه ربّما لا یتمکن البعض من إجراء هذه العقود الإسلامیّة وتطبیقها علی موردها.

والنتیجة أنّه یمکن فهم نظر الإسلام فی مجال «التوزیع» (الأعم من توزیع المنابع الأولیّة والأرباح) بالشکل التالی:

إذا عمل الإنسان علی المواد الأولیّة فی الطبیعة التی لم تدخل فی حیازة وملکیّة شخص آخر، فانّة سیکون مالکاً لها شخصیاً، أمّا سائر العناصر المساهمة فی الإنتاج یعنی أصحاب أدوات الإنتاج ورأس المال، فلیس لهم سهم من ملکیّة هذه الأمور.

ولکن إذا کانت المادة الأولیّة مملوکة لشخص آخر قبل ذلک وعمل الآخرون ب «عمل جدید» علیها، فإنّها لا تخرج عن ملکیّة صاحبها الأوّل، بل یمکنهم أن یکونوا مشارکین له فی الربح والمحصول فی عقود من قبیل: المساقاة والمضاربة والمزارعة.

2. أهداف التوزیع
أ) الوصول إلی العدالة الاجتماعیّة- الاقتصادیّة

إنّ العدالة الاجتماعیّة فی البُعد الاقتصادی فی نظر الإسلام یمکن تحقیقها بطریقین:

1. تأمین الحیاة المقبولة والمتوسطة للمحتاجین.

2. الحیلولة دون إکتناز الثروات وتراکمها بید

ص: 326

قوی الهیمنة والسلطة(1).

ومن هذه الجهة فإنّ نظام توزیع الثروة والربح فی الإسلام یکون بصورة فیما لو تمّ تنفیذه تأمین الحاجات الأساسیة والحیویّة لکلّ فرد من الغذاء، اللباس، المسکن، التعلیم والصحة وأمثال ذلک.

وأهمیّة هذه الأمور فی نظر الدین إلی درجة أنّه حتی من أجل تسدید الدَّین لا یمکن حرمان أحد من المسکن أو الغذاء.

یقول الإمام الصادق علیه السلام:

«لا تباع الدار ... فی الدَّین وذلک لأنّه لابدّ للرجل من ظلّ یسکنه ...»(2).

ومن هذه الجهة فإنّ الإسلام یوجب تأمین هذه الحاجات الضروریّة لطائفتین: 1. علی الأغنیاء والمتمولین بعنوان تکلیف شرعی، 2. وعلی الحکومة الإسلامیّة بعنوان التزام ومسؤولیّة.

وفی نظر الدین إذا دفع الجمیع الحقوق الواجبة علیهم وتمّ توزیعها بصورة عادلة، فإنّ جمیع أفراد المجتمع سوف یعیشون الاکتفاء وعدم الحاجة.

یقول الإمام الصادق علیه السلام:

«إنّ الناس یستغنون إذا عدل بینهم»(3).

وکذلک ورد عن هذا الإمام علیه السلام فی کلام له:

«لو أنّ الناس أدّوا حقوقهم لکانوا عایشین بخیر»(4).

وفی کلام للإمام الحسن العسکری علیه السلام فیما یتصل بخصوصیات الناس فی آخر الزمان:

«أغنیاءهم یسرقون زاد الفقراء»(5).

وعلی هذا الأساس فإنّ الکثیر من البرامج والسیاسات الاقتصادیّة فی الإسلام من قبیل:

الخمس، الزکاة، النفقات الواجبة، الوقف، والهبة وغیرها تقع فی صلب الثقافة الدینیّة وتتضمّن تعالیم وتوصیات أخلاقیّة أیضاً، کالإیثار، الانصاف، حبّ الآخرین، والمواساة وغیرها من النشاطات التی تتصل بتوزیع الثروة بین فئات المجتمع المختلفة والتی وضعها الإسلام لغرض تحقیق العدالة الاقتصادیّة والاجتماعیّة وتقلیل الفاصلة بین الفقراء والأغنیاء.

ومن جهة أخری فإنّ الحکومة الإسلامیّة فی نظر الدین مکلّفة بتوفیر الإمکانات العامّة لجمیع أفراد المجتمع، بحیث إنّ کلّ واحد منهم تتوفر له فرص الرشد والرقی فی حرکة الحیاة والواقع الاجتماعی.

ونقرأ فی کلام عن الإمام الصادق علیه السلام فی کیفیة تقسیم بیت المال:

«أهل الإسلام هم أبناء الإسلام، أسوّی بینهم فی العطاء، وفضائلهم بینهم وبین اللَّه، أحملهم کبنی رجل واحد، لا یفضّل أحد منهم لفضله وصلاحه فی المیراث علی آخر ضعیف منقوص»(6).

ویقول الإمام أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی بیان له:

«أعطیت کما کان رسول اللَّه یعطی بالسویّة ولم أجعلها دولةً بین الأغنیاء»(7).


1- انظر: مقالة« إکتناز وخروج الثروات من عجلة الإنتاج» فی هذا الکتاب.
2- الکافی، ج 5، ص 96، ح 3.
3- المصدر السابق، ج 3، ص 568، ح 6.
4- المصدر السابق، ص 496.
5- مستدرک الوسائل، ج 11، ص 380، ح 13308، عن حدیقة الشیعة للأردبیلی.
6- تهذیب الأحکام، ج 2، ص 146، ح 255.
7- الکافی، ج 8، ص 61.

ص: 327

وهکذا نری أنّ حکومة الإمام علی علیه السلام القصیرة فی الکوفة، ومع وجود الحروب والنزاعات المتکررة، فإنّ جمیع طبقات الناس کانوا یعیشون حیاة کریمة وعزیزة، یقول الإمام علیه السلام فی هذا المجال:

«ما أصبح بالکوفة أحدٌ إلّاناعماً، إنّ أدناهم منزلةً لیأکل البرّ ویجلس فی الظلّ ویشرب من ماء الفرات»(1).

ویستفاد من کلام آخر للإمام علی علیه السلام أنّ هذه المسألة لا تختص بأهل الکوفة، بل إنّ الفئات الأخری الذین یعیشون فی مناطق أخری غیر الکوفة یعیشون هذه المعیشة کما ورد ذلک فی عهد الإمام علیه السلام لمالک الأشتر یقول:

«ثمّ اللَّه اللَّه فی الطبقة السفلی من الذین لا حیلة لهم من المساکین والمحتاجین وأهل البؤسی والزمنی ... واجعل لهم قسماً من بیت مالک وقسماً من غلّات صوافی الإسلام فی کلّ بلد»(2).

والأهم من ذلک کلّه أنّ تأمین الحیاة الکریمة لأفراد المجتمع من قِبل الحکومة الإسلامیّة لا یختص بالمسلمین منهم بل یشمل أهل الذمّة وکلّ من عاش فی ظلّ الدولة الإسلامیّة، فنقرأ فی روایة:

«مرّ- الإمام علی علیه السلام- علی شیخ مکفوف کبیر یسأل، فقال أمیرالمؤمنین علیه السلام ما هذا؟ فقالوا: یا أمیرالمؤمنین ...

نصرانیٌ! فقال أمیرالمؤمنین علیه السلام: استعملتموه حتّی إذا کبُر وعَجَز منعتموه؟ أنفقوا علیه من بیت المال!»(3).

ب) تحقیق الأمن السیاسی والاقتصادی

لا شک فی أنّ إیجاد التوازن الاجتماعی بین أفراد المجتمع والتقارن النسبی فی سقف معیشة الأفراد یعتبر من أهداف الاقتصاد الإسلامی، وفی دائرة التعالیم الدینیّة أنّ التفاوت فی المعیشة بین الأفراد الناشی ء من اختلاف قابلیاتهم ومهاراتهم وسعیهم لیس فقط أمراً مقبولًا بل هو ضروری لبقاء ودوام حیاة الإنسان والمجتمع.

یقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام:

«لا یزال الناس بخیر ما تفاوتوا فإذا استووا هلکوا»(4).

ولکن إذا اتسعت دائرة التمایز واشتدت حدّة الاختلاف فی الدائرة الاقتصادیّة بحیث یستولی البعض علی أکثر من حقّهم ویطالبون بأکثر من قدرتهم وقابلیتهم فی مسألة توزیع المنابع الأولیّة والإمکانات الاقتصادیّة والمشاغل والفرص الاجتماعیّة ففی هذه الصورة سیعرض المجتمع للطغیان والاضطرابات الاجتماعیّة الشدیدة.

یقول القرآن الکریم:

«هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِی سَبِیلِ اللَّهِ فَمِنْکُمْ مَّنْ یَبْخَلُ ... وَإِنْ تَتَوَلَّوْا یَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَیْرَکُمْ»(5).

والتعبیر ب

«یَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَیْرَکُمْ»

إشارة إلی بروز


1- المناقب، لابن شهر آشوب، ج 1، ص 368؛ بحار الأنوار، ج 40، ص 327.
2- نهج البلاغة، العهد لمالک الأشتر، الکتاب 53.
3- تهذیب الأحکام، ج 6، ص 292، ح 811.
4- بحار الأنوار، ج 74، ص 385، ح 10.
5- سورة محمّد صلی الله علیه و آله، الآیة 38. انظر: تفسیر المنیر، ج 13، ص 465 و التفسیر الأمثل ذیل الآیة مورد البحث.

ص: 328

التشنجات الاجتماعیّة الشدیدة وما یستتبعها من سقوط الأقوام والمجتمعات، وهذه الحقیقة تکون خطیرة جدّاً فیما لو لم یتمّ تأمین حاجات الطبقة الضعیفة من المجتمع، لأنّها تتسبب فی ظهور الاضطرابات الاجتماعیّة بواسطة الطبقة الضعیفة ضد الطبقة المستکبرة والمهیمنة، وبالتالی سیؤدی ذلک إلی إنهیار رکائزهم السیاسیّة وقواهم الاجتماعیّة ویحلّ قوم آخرون محلّهم.

والقرآن الکریم بعد بیان حکم الغنائم الحربیّة فی واقعة بنی النضیر یتحدّث عن البساتین الزراعیّة والدور والأموال التی وقعت بید المسلمین ویتحدّث عن الحکمة من توزیع الغنائم بین المسلمین ویقول:

«کَیْ لَایَکُونَ دُولَةً بَیْنَ الْأَغْنِیَاءِ»(1).

وفی الحقیقة أنّ هذا هو الهدف النهائی للاقتصاد الإسلامی، أی أنّ الثروات، سواءً کانت ثروات قبل الإنتاج أو ما بعده، لا ینبغی أن تبقی بید الأثریاء من الناس، بل یجب تقسیمها بشکل عادل بین الجمیع وکلّ فرد منهم یحصل علی سهمه وحصته، لأنّ تمرکز الثروة وتراکمها بید طبقة خاصّة یؤدّی إلی إرباک کبیر وخلل اجتماعی من شأنه أن یصیب الأمن الاجتماعی بالضرر والخلل.

3. أنواع التوزیع
أ) التوزیع الإبتدائی

رأینا فیما سبق أنّ الطبیعة تتضمّن الثروات الکثیرة مثل: الأراضی الموات، أنواع المعادن کالنفط والذهب والألماس، المیاه، الغابات، الحیوانات، والطیور و ...، والتی لا تعتبر نتیجة سعی الإنسان وحرکته فی دائرة الإنتاج الاقتصادی بشکل مباشر، فتعتبر کیفیّة الاستفادة منها وتوزیعها من أهم البحوث فی علم الاقتصاد وتقدّم الکلام فی هذا الموضوع سابقاً تحت عنوان «تقسیم المنابع» وهنا نکتفی بالإشارة إلی نقطة واحدة:

فی النظام الرأسمالی الذی لا یوجد فیه حد مخصوص للملکیّة الخاصّة، فإنّ کلّ شخص یستطیع تحصیل ثروات کبیرة فی إطار المنافسة الحرة، وغنی عن البیان أنّ الرابح فی هذا المیدان هم الطبقة الخاصّة من الشرکات الاستثماریّة الکبری وأصحاب الرسامیل الکبیرة، ولا یبقی مجال أساساً لجمهور الناس فی المنافسة الحرة فی هذا المیدان، فالثروات الطبیعیّة فی هذا النظام تقع عملًا بید فئة خاصّة ویحرم جمهور الناس منها(2).

ولکن الإسلام برؤیته الاقتصادیّة وقوانینه وضوابطه الخاصّة منع من ظهور هذه الظاهرة السلبیّة فی فضاء المجتمع وحال دون تمرکز الثروات الطبیعیّة بین الأغنیاء والمتمولین من المجتمع (3).

ولغرض تحقیق هذا الهدف فقد قسّم الإسلام الثروات الطبیعیّة إلی قسمین:

1. الأنفال: وهی الثروات التی تقع فی دائرة ملکیّة


1- سورة الحشر، الآیة 7.
2- وللمزید من الاطلاع انظر: مبانی الاقتصاد الإسلامی( مبانی اقتصاد اسلامی) بالفارسیّة، ص 265- 268.
3- لمزید من الاطلاع انظر: مقدمة علی الاقتصاد الإسلامی( درآمدی بر اقتصاد اسلامی) بالفارسیّة، ص 329- / 333.

ص: 329

الحکومة الإسلامیّة من قبیل الأراضی الموات، سواحل البحار، المعادن و ...، وهذه الأموال یمکن حیازتها واکتشافها واستخراجها وانتقال ملکیتها للقطاع الخاص بوسیلة العمل والإحیاء وبإذن الحکومة الإسلامیّة والمنشأ للملکیّة الخاصیّة فی هذه الثروات «العمل الاقتصادی المنتج والمفید» مع «إذن الحکومة الإسلامیّة».

2. المباحات العامّة: مثل الطیور، الحیوانات الوحشیة، الأسماک، الثروات البحریّة، والمیاه الجاریّة، وهذه الثروات لیست ملکاً لأحد، ولکل واحد من الناس الحقّ فی تملکها بالحیازة، فهنا یکون «العمل» هو المنشأ الوحید للملکیّة وإن کان تحت نظر الحکومة الإسلامیّة لمنع وقوع الفوضی وإجتناب ظهور حالة من الهرج والمرج.

وبدیهی أنّ هذا النظام لتوزیع الثروة یعکس هذه الحقیقة، وهی أنّ الإسلام بإدارته الصحیحة للثروات الطبیعیّة منع من تکدس الثروة بید فئة خاصّة(1).

ب) التوزیع المجدّد

مع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ الثروات الطبیعیّة متعلقة بأفراد المجتمع وکلّ واحد منهم یستطیع بعمله أن یکون له سهم من الثروات الطبیعیّة، ولکن یوجد دوماً أشخاص غیر قادرین علی العمل أو لا یکون عملهم بمقدار حاجاتهم، فالنظام الاقتصادی الإسلامی یقرر لهؤلاء الأشخاص حقوق وامتیازات فی أموال الأثریاء.

یقول الباری تعالی فی هذا المورد:

«وَالَّذِینَ فِی أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ* لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ»(2).

والتعبیر ب «حقّ» یشیر إلی أنّ تأمین حاجات المحرومین لیس مجرّد توصیّة أخلاقیّة فقط، بل له مبنی حقوقی أیضاً لأنّ هؤلاء الأفراد یملکون حقاً فی تلک الثروات الطبیعیّة قبل أن تقع فی ملکیّة أحد، وبما أنّهم لا یستطیعون إستئصال حقهم منهم فینتقل حقّهم إلی العوائد الحاصلة منها، وکأنّ الدین یری أنّ تلک الثروات الطبیعیّة إنّما تکون ملکاً فی القطاع الخاص فیما لو أخذ بنظر الاعتبار حقّ المحتاجین والمحرومین فیها.

والتعبیر ب «للسائل والمحروم» وأمثالهم (3) والذی ورد بلام الملکیّة أو الاختصاص یقود إلی هذه الرؤیة.

وعلی هذا الأساس فإنّ الثروات الطبیعیّة بعد أن تنتقل للقطاع الخاص بوسیلة «العمل»، فإنّ للمحتاجین سهم من عوادها والمنتوجات الحاصلة منها، وعنوان «التوزیع المتجدد» فی الحقیقة إشارة إلی هذه النقطة.

وقد طرح الإسلام سیاسة التوزیع المتجدد للثروات فی إطار: الخمس، الزکاة، زکاة الفطرة، الکفارات المالیّة، الانفاقات المستحبة، الوقف وأمثال ذلک.


1- وللمزید من الاطلا انظر: النظام الاقتصادی الإسلامی( نظام اقتصادی اسلام) بالفارسیّة، ص 186- 188.
2- سورة المعارج، الآیة 24 و 25.
3- مثل الآیة:« إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاکِینِ»( سورةالتوبة، الآیة 60).

ص: 330

وجدیر بالذکر أنّ التوزیع المتجدد فی نظر الإسلام یقع بطریقتین: بطریقة التکالیف المالیّة والانفاقات، وبطریقة المبادلات والعقود العقلائیّة الشرعیّة، یعنی أنّ کلّ شخص یستطیع علی أساس أحد العقود والمعاملات فی الإسلام أن یحصل علی ملکیّة شی ء أو ینقل ملکیته إلی شخص آخر(1)، وهذه العقود الإسلامیّة وردت فی الفقه الإسلامی ولکلّ واحد منها شروط وضوابط خارجة عن محل البحث.

ج. التوزیع القهری (الارث)
اشارة

إنّ الهدف من نظام الإرث فی الإسلام، التوزیع الواسع والعادل لثروة الشخص المتوفی، ولا شک أنّ تقسیم الثروة علی أساس قانون الإرث یتسبب بشکل طبیعی فی توزیع الثروة بین أفراد کلّ طبقة من الوراث، وتقسیم الإرث فی الإسلام یقع علی أساس میزان رابطة القرابة(2).

ومن جهة أخری فإنّ الإسلام یرفض إرث الولد المتبنی، فلا یستطیع المسلم أن یتبنی ولداً ویقرر له حصّة معینة من میراثه، ولذلک نقرأ فی الآیة الشریفة:

«مَا جَعَلَ أَدْعِیَاءَکُمْ أَبْنَاءَکُمْ ذَلِکُمْ قَوْلُکُمْ بِأَفْوَاهِکُمْ»(3)

، وأیضاً یقول:

«وَأُوْلُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَی بِبَعْضٍ فِی کِتَابِ اللَّهِ»(4).

وفی قانون الإرث الإسلامی فإنّ سهم الرجال ضعفی سهم النساء، وهذا یحکی عن اهتمام الإسلام بإجراء العدالة الاجتماعیّة، فإنّ الرجال مضافاً إلی مسؤولیتهم فی المالیّة فی إدارة الأمور الزوجة والأبناء فهم مکلّفون لغرض الزواج أن یدفعوا مبلغاً من المال کمهر لزوجاتهم ویتحملون مسؤولیّة کبیرة فی رعایة الاسرة من الجهة الاقتصادیّة(5).

والإسلام بوضعه قانون الإرث منع من تلاعب الأذواق الشخصیّة للأفراد فی مسألة التوزیع، لأنّه إذا کان لصاحب المال الحقّ فی نقل جمیع أمواله بعد وفاته إلی شخص معین أو حرمان أحد الوراث من حقّه فی الإرث، أو یعطی جمیع أمواله إلی ابنه الأکبر مثلًا أو زوجته فإنّ العدالة لا تتحقق فی هذا المجال.

وقد قررت الشریعة الإسلامیّة، سهماً معیّناً ومضموناً لأب وام المتوفی، وکذلک قررت سهماً خاصّاً للزوجة وتوزع جمیع ترکة المتوفی علی جمیع أبنائه ولا یمکن حرمان أحد الورثة منها، ومن جهة أخری فلا یستطیع أی شخص فی إطار القیم الإسلامیّة أن یوصی بأکثر من ثلث ماله، وهذه کلّها تشیر إلی نظام دقیق ومحسوب فی الإسلام لتحقیق التوزیع العادل للثروة(6).


1- انظر: مقدمّة علی الاقتصاد الإسلامی( درآمدی بر اقتصاداسلامی) بالفارسیّة، ص 341- 349.
2- انظر: الإسلام والأزمة الاقتصادیّة( اسلام و چالش اقتصادی) بالفارسیّة، ص 406.
3- سورة الأحزاب، الآیة 4.
4- سورة الأنفال، الآیة 75. والجدیر بالذکر أنّ هذه الآیة غیر ناظرة إلی طبقات الإرث وأولویات البعض علی غیره، بل ناظرة إلی أولویات أولوا الأرحام بالنسبة إلی الأجنبی عنهم، کما ورد بیانها مفصّلًا فی التفسیر الأمثل فی ذیل الآیة 6 من سورة الأحزاب.
5- المیزان، ج 4، ص 215، ذیل آیات 12- / 14 من سورة النساء.
6- انظر: الإسلام والأزمة الاقتصادیّة( اسلام و چالش اقتصادی» بالفارسیّة، ص 406.

ص: 331

النتیجة:

ویتبیّن ممّا تقدّم أنّ الاقتصاد الإسلامی یؤکد علی التوزیع العادل للثروة، وأنّ اللَّه تعالی أودع فی عالم الطبیعة جمیع ما یحتاجه الإنسان بشکل متناسب بل أکثر من ذلک، فلولا کفران الإنسان بهذه النعم وعدم التوزیع العادل للثروات والعوائد المالیّة، فسوف لا یبقی محتاج فی المجتمع وسوف یتمّ القضاء علی ظاهرتی الفقر والتکاثر، اللذان یعتبران من المعالم الأصلیّة لعدم التوازن الاجتماعی والاقتصادی.

وفی النظام الاقتصادی الإسلامی فإنّ مسألة التوزیع تطرح من جهتین:

1. تقسیم المنابع. 2. توزیع الارباح والعوائد. فی القسم الأوّل فالإسلام وخلافاً للنظم الاقتصادیّة السائدة، التی تجعل أحد هذین العنصرین: «العمل» أو «الحاجة» معیاراً للتوزیع فإنّ الإسلام یری أنّ هذین العنصرین دخیلین فی التوزیع، وفی هذه الرؤیة فإنّ تملک المنابع الطبیعیّة، یقع تحت شروط وضوابط، تقوم علی أساس «العمل المباشر» والنشاط الاقتصادی للحیلولة دون تجمیع الثروات الطبیعیّة بید فئة خاصّة، ثمّ فی المرحلة التالیة نری عنصر «الحاجة» یعتبر ملاکاً للتوزیع للأفراد غیر القادرین علی العمل أو من ذوی الدخل المحدود والقلیل.

وفی قسم توزیع الأرباح والعوائد نری أنّ الإسلام یجعل «العمل المباشر» ملاکاً ومعیاراً للتوزیع أیضاً، ویجعل لکلّ واحد من عناصر الإنتاج من رأس المال وأدوات الإنتاج أیضاً حقوقاً ومقررات خاصّة.

إنّ الاهتمام بالعدالة الاجتماعیّة والاقتصادیّة وتأمین حاجات الفرد والمجتمع الأساسیّة وتحصیل الأمن السیاسی والاقتصادی یعتبر من أهداف نظام التوزیع فی الإسلام.

وقد جعل الإسلام نظام توزیع الثروات والأرباح فی ثلاثة أقسام: التوزیع الابتدائی بوضع عنصر «العمل» معیاراً له، التوزیع المتجدد ووضع عنصر «الحاجة» معیاراً له، والتوزیع القهری علی «القرابة».

الفصل الرابع: کیفیة المصرف والاستهلاک

اشارة

«الاستهلاک» والذی ورد التعبیر عنه باللغة الانجلیزیةnoitpmusnoC وemusnoC ، یعنی فی اللغة الخرج والصرف، وفی الاصطلاح الاقتصادی عبارة عن «القیمة المالیّة للخدمات والبضائع التی تشتری من قِبل الأشخاص»(1).

وذهب البعض أیضاً إلی أنّ الاستهلاک یطلق علی الأموال التی تنفق لإرضاء الحاجات المیول الجسمیّة والنفسیّة للإنسان.

وکان علماء الاقتصاد إلی ما قبل فترة وجیزة یعتقدون بأنّ الاستهلاک تابع للإنتاج والتوزیع، ولذلک لم یبدوا اهتماماً ببحثه بشکل مستقل ولکن تدریجیّاً أدرکوا أهمیّة عملیّة الاستهلاک فی دائرة الاقتصاد إلی


1- اقتصاد کلان، أحمد آخوندی، ص 151.

ص: 332

درجة أنّهم الیوم یتحدّثون عن أصل «سیطرة المستهلک».

وهذا یعنی أنّ سلوک المستهلک هو الذی یحدد نوع ومقدار البضاعات المنتجة وکیفیّة تخصیص منابع الإنتاج والتوزیع، وطبعاً یجب الالتفات إلی أنّ المراد من سیطرة المستهلک وهو سیطرة میوله وحاجاته لا الحاجات الواقعیّة، ونعلم أنّ هذه الحاجات غالباً أوسع من دائرة الحاجات الواقعیّة للإنسان (1).

وطبقاً لهذا المبنی، فإنّ المستهلک لیس فقط غیر تابع للانتاج والتوزیع، بل یمکن القول: إنّ الإنتاج والتوزیع تابعان لعملیّة الاستهلاک (2).

وعلی هذا الأساس نری الیوم مراکز الإنتاج تقوم علی أصل سیاسات الاستهلاک والإعلانات التجاریّة، فهؤلاء یؤکدون علی إیجاد الباعث فی أسواق الاستهلاک کیما تتحرک مصانع الإنتاج وتحقیق زیادة الأرباح.

ویقرر علماء الاقتصاد کیفیّة الاستهلاک لدی المستهلکین وکیفیّة إشباع حاجاتهم ومیولهم وما هی القواعد التی تحکم علی عملیّة الانتخاب وترجیح المنتجات فی عملیّة الاستهلاک، ومع معرفتهم لمیزان میول الأفراد للاستهلاک والإدّخار، یتعرّفون علی المعادلات التی تحکم ضبط الاستهلاک وهدایته بالاتّجاه المطلوب (3).

فی التعالیم الدینیّة أیضاً نری الاهتمام الخاص بموضوع «الاستهلاک» والحدیث عن الدوافع والأصول والمعاییر التی ترسم کیفیّة ونوعیّة الاستهلاک، وهنا نشیر إلی بعض ما ورد فی هذا الشأن:

1. بواعث الاستهلاک

إنّ الاقتصاد الرأسمالی وکذلک الاشتراکی مع کلّ ما بینهما من فوارق واختلاف فإنّهما یشترکان فی الباعث للاستهلاک، وهو إشباع المیول المادیّة والغرائز النفسانیّة لدی المستهلک، ومن هذه الجهة فإنّ الباعث للاستهلاک فی نظرهم لیس سوی کسب أعلی مقدار من اللذة فی نفس «المستهلک»(4)، وعلی أساس هذه الرؤیة فإنّ الرفاه وطلب اللذة هو المعیار لکلّ شی ء والإنسان الاقتصادی یساوی حاجاته ومیوله المادیّة، وبهذا الفکر المادی والتربیة الإلحادیّة لا یمکن غض النظر عن طلب اللذّة والرغبة فی إشباع النوازع النفسانیّة، وعلی ضوء ذلک فالهدف النهائی لجمیع النشاطات والسلوکیات الاقتصادیّة للإنسان تتلخص فی دائرة اللذات الجسمانیّة فی إطار الحاجات المادیّة الضیقة.

ومن هذه الجهة فإنّ الإنسان فی هذین المذهبین الاقتصادیین، یقع فی دائرة الإنتاج بشکل مکرر، یعنی أنّه ینتج لیستهلک، ویستهلک لینتج «الإنتاج


1- انظر: النظام الاقتصادی الإسلامی، المبانی المذهبیّة( نظام اقتصادی اسلام، مبانی مکتبی) بالفارسیّة، ص 43.
2- انظر: مبانی الاقتصاد الإسلامی( مبانی اقتصاد اسلامی) بالفارسیّة، ص 285.
3- انظر: مقدمة علی الاقتصاد الإسلامی( درآمدی بر اقتصاد اسلامی) بالفارسیّة، ص 369- 370.
4- انظر: رواد العلوم السیاسیّة( خداوندان اندیشه سیاسی) بالفارسیّة، ج 3، ص 1235- 1242.

ص: 333

للاستهلاک، والاستهلاک للانتاج».

ولکن فی دائرة المفاهیم الدینیّة فالإنسان یملک بُعدین جسمی وروحی، ومن حیث الزمان فإنّ وجوده یمتد إلی آفاق الأبدیّة، فدوافع الاستهلاک لا تتلخص فی دائرة الحاجات المادیّة، بل تمتد إلی الحاجات المعنویّة والروحیّة أیضاً التی لها دور مهم فی إیجاد الباعث علی الاستهلاک، بل یمکن القول إنّ الهدف الحقیقی هو المیول المعنویّة التی تکون الحاجات المادیّة مقدّمة لها.

وعلی ضوء ذلک نری فی هذه الرؤیة أنّ الأنبیاء والأولیاء الإلهیین أیضاً الذین یعیشون فی ذروة المعنویّة والمعرفة کانوا یتحرکون علی مستوی إشباع حاجاتهم المادیّة والطبیعیّة:

«وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَکَ مِنَ الْمُرْسَلِینَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَیَأْکُلُونَ الطَّعَامَ وَیَمْشُونَ فِی الْأَسْوَاقِ»(1).

بل إنّهم عندما یتوقفون عن استهلاک واستعمال النعم الإلهیّة والتنعم بمواهب الطبیعة یقعون مورد الذم:

«قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِینَةَ اللَّهِ الَّتِی أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّیِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِیَ لِلَّذِینَ آمَنُوا فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا خَالِصَةً یَوْمَ الْقِیَامَةِ»(2).

ولکن مع ذلک کما رأینا آنفاً، وخلافاً للمنهج الاقتصادی الرأسمالی والاشتراکی، فإنّ تأمین الحاجات المادیّة للإنسان لا یمکن أن یکون هو الهدف النهائی له فی حرکة الحیاة، بل إنّ الهدف النهائی هو الوصول إلی مرتبة الکمال المعنوی والسعادة الحقیقة والقرب الإلهی.

ولذلک ورد فی القرآن الکریم إلی جانب الأمر بالاستهلاک والتنعم الإشارة إلی تکالیف مهمّة وکأنّ النصوص الدینیّة تحکی عن وجود إرتباط وثیق بین دوافع الاستهلاک وأداء التکالیف، ومن ذلک نقرأ فی آیات القرآن:

«یَا أَیُّهَا الرُّسُلُ کُلُوا مِنْ الطَّیِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً»(3).

«یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا کُلُوا مِنْ طَیِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاکُمْ وَاشْکُرُوا للَّهِ»(4).

«وَکُلُوا مِمَّا رَزَقَکُمْ اللَّهُ حَلَالًا طَیِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ»(5).

«کُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ یَوْمَ حَصَادِهِ»(6).

والأمر بالاتیان بأمور معینّة من قبیل «العمل الصالح»، «الشکر»، «رعایة التقوی»» و «أداء الحقوق المالیّة» مع اقترانها بالأمر بالتنعم بهذه النعم واستهلاکها فی هذه الآیات یبیّن الإرتباط الوثیق بین الاستهلاک وهذه الأعمال المعنویّة والأخلاقیّة، ویشیر إلی أنّ الاستهلاک فی نظر الدین یجب أن ینبعث من موقع تحصیل هذه الأهداف المتعالیّة.

وفی رؤیة أعلی وأوسع، نری أنّ التعالیم الدینیّة تقرر أنّه حتی التمتع باللذات الجسمانیّة والبدنیّة یجب أن ینضوی تحت خیمة القرب إلی اللَّه لکسب صبغة


1- سورة الفرقان، الآیة 20.
2- سورة الأعراف، الآیة 32.
3- سورة المؤمنون، الآیة 51.
4- سورة البقرة، الآیة 172.
5- سورة المائدة، الآیة 88.
6- سورة الأنعام، الآیة 141.

ص: 334

روحانیّة ومعنویّة ویکون مشمولًا للثواب الإلهی.

ونقرأ فی حدیث عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله فی وصیّته إلی أبی ذر رحمه الله: «

لیکن لک فی کلّ شی ء نیّة حتّی فی النوم والأکل»(1)

(نیّة إلهیّة).

وفی مقابل عملیّة التنعم والاستهلاک بدوافع نفسانیّة من قبیل: الفخر، الحسد، الریاء، التجمل، طلب الشهوة، واللهو واللعب، فإنّ مثل هذه البواعث للاستهلاک فی نظر الدین مذمومة وغیر محبذة.

ونقرأ فی حدیث عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال فی کلامه عن رجل یبنی داراً (وهو أحد مصادیق الاستهلاک) بدافع من الریاء والفخر فإنّه یستوجب ذلک العذاب الشدید فی النار:

«... یبنی فضلًا علی ما یکفیه استطالةً عنه علی جیرانه ومباهاةً لإخوانه»(2).

2. مساحات الاستهلاک

اشارة

نظراً لتنوع حاجات الإنسان، فإنّه یمکن تبعاً لذلک تقسیم موارد الاستهلاک إلی عدّة أقسام:

أ) الضروریّات

«المصارف الضروریّة» وتطلق علی ذلک المقدار من المبیعات والخدمات التی یستهلکها الإنسان لغرض حفظ سلامته الروحیّة والجسمیّة هو وأفراد أُسرته.

وفی نظر الإسلام، کما تقدّم بیان، فإنّه لا ینبغی لأحد أن یحرم من تأمین حاجاته الأساسیّة والحیویة کالغذاء، والمسکن، الملبس، الأمن وما إلی ذلک، وفی هذه المسألة لا یختلف أتباع المذاهب الاقتصادیّة بالنسبة لهذا الموضوع، وفیما لو لم یتمکن بعض أفراد المجتمع من تأمین حاجاتهم الأساسیّة، ففی المرحلة الاولی یجب علی المتمکنین والمتمولین، ثمّ علی الحکومة الإسلامیّة أن تؤمن الحدّ الأدنی من سقف المعیشة لهؤلاء.

وهکذا بالنسبة للنفقات التی تصرف علی التعلیم والتربیة وحفظ النظم والأمن الاجتماعی والدفاع فی مقابل الأعداء، ومواجهة أنواع الأمراض الخطیرة، إیجاد فرص العمل الضروریّة ورفع حاجات المحرومین، کلّها تعدّ من النفقات الضروریّة التی لا یمکن إهمالها للمجتمع، ویجب علی الحکومة الإسلامیّة توفیر نفقات هذه الأمور والاهتمام الجاد بها.

یقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فیما یتصل بوظائف الحاکم الإسلامی: «

فأمّا حقُّکم علیَّ فالنصیحة لکم، وتوفیرُ فیئکم علیکم، وتعلیمکم کیلا تجهَلوا وتأدیبُکم کیما تعلموا»(3).

فی الحقیقة أنّ الإمام علی علیه السلام فی هذه العبارة الموجزة أشار إلی أربعة أبعاد ومسؤولیات مهمّة للحکومة الإسلامیّة وحقوق الرعیة علی الحکّام:

1. التخطیط الصحیح.

2. التنظیم العادل للمسائل الاقتصادیّة.

3. الاهتمام التام بأمر التعلیم.


1- مکارم الأخلاق، ص 464؛ بحار الأنوار، ج 74، ص 84.
2- بحار الأنوار، ج 73، ص 149، ح 4.
3- نهج البلاغة، الخطبة 34.

ص: 335

4. الاهتمام بأمر تربیة وتهذیب النفوس والتصدی للمفاسد الأخلاقیّة(1).

ب) الکفاف (الرفاه النسبی)

تطلق کلمة الکفاف أو الرفاه النسبی علی النفقات التی لا تشمل ضروریات الحیاة الفردیّة والاجتماعیّة، ولکن وجودها یورث الفرد والمجتمع مزیداً من الهدوء والاستقرار، کما ورد فی بعض الروایات التعبیر عنها ب «الکفاف».

والمراد من الکفاف الذی ورد فی بعض الروایات مقترناً بکلمة «العفاف»(2)، هو أنّ الإنسان فی الدنیا یجب أن یقنع بمقدار حاجته وترک طلب المزید من التجملات وأشکال الترف فی المعیشة ویجتنب الأموال الحرام، وبهذه الصورة یعیش السکینة والراحة فی حیاته الدنیا وکذلک یخفف عن أثقاله فی حیاته الاخرویّة، لأنّ أکثر ما یصیب الإنسان من الشقاء والاضطراب ناشی ء من حالات الحرص والطمع فی المزید من التمتع بالملذات الرخیصة.

ونقرأ فی کلام عن أمیرالمؤمنین علی علیه السلام أن لا یطلب المرء أکثر من حدّ الکفاف:

«لا تسألوا فیها فوق الکفاف»(3).

وفی کلام آخر للإمام علی علیه السلام قال:

«ما فوق الکفاف إسراف»(4).

وفی دائرة المفاهیم الإسلامیّة فإنّ التوسعة علی الأهل والعیال وأن یملک الإنسان معیشة جیدة نسبیاً مقترنة مع الراحة والطمأنینة والرفاه النسبی لیس فقط لا بأس بها، بل تعتبر من سعادة الإنسان وتقع فی دائرة الکفاف.

ونقرأ فی روایة عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله:

«إنّ من سعادة المرء المسلم فی الدنیا، الجار الصالح والمنزل الواسع والمرکب البهی ء»(5).

بل إنّ الإسلام یری أنّ رعایة شأن الأفراد فی الاستفادة من الإمکانات الدنیویّة فی الحدّ الأکثر فیما یستوجب حفظ عزّتهم وحیثیّتهم الاجتماعیّة لیست خارجة عن دائرة «الکفاف»، ولذلک نری أحیاناً فی هذه الثقافة الدینیّة أنّ میزان استهلاک بعض الأشخاص الذین یملکون مکانة اجتماعیّة خاصّة یتغیّر بما یتناسب مع زمانهم وعرفهم.

ونقرأ عن الإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام: «

إنّ أهل الضعف من موالیّ یحبّون أن أجلس علی اللبود وألبس الخشن ولیس یحتمل الزمان ذلک»(6).

ج) المصارف غیر القیمیّة
الأوّل: الحاجات النابعة من الأهواء

إنّ النظام الاقتصادی الرأسمالی یری بأنّ قسماً مهمّاً من حیاة الناس رهن لحاجاتهم النابعة من شهواتهم وأهوائهم النفسانیّة، ومن هذه الجهة یعمل الرأسمالیون علی تحرک أمیال وغرائز الأفراد


1- انظر: نفحات الولایة، ج 3، ص 346- 347.
2- انظر: الکافی، ج 2، ص 140، ح 3.
3- نهج البلاغة، الخطبة 45.
4- غرر الحکم، ح 9222.
5- کنز العمال، ج 11، ص 92، ح 30752.
6- مکارم الاخلاق، ص 98؛ بحارالانوار، ج 76، ص 309، ح 23. وللمزید من الاطلاع انظر: بحث« التنمیة الاقتصادیّة من الأهداف المهمّة» فی هذا الکتاب.

ص: 336

ویدفعونهم نحو إشباع حاجات موهومة وزیادة عملیّة الاستهلاک، وبالتالی یحصلون علی أرباح طائلة من هذه العملیّة.

إنّ المیل للتجمل والاستهلاک الناشی ء من حالات الحسد والإسراف والتبذیر کلّها تعدّ من مظاهر الحاجات النابعة من الأهواء المیول النفسانیّة.

وهذا النوع من الاستهلاک یعدّ فی نظر الإسلام أمراً ذمیماً ومرفوضاً وسیأتی تفصیل الکلام فی هذا الموضوع فی الأقسام الأخری من هذا الکتاب (1).

الثانی: الحاجات الناشئة من الإعلانات الکاذبة

إنّ الاقتصاد الرأسمالی، وفی مقابل أصل زیادة الربح والنفع، وبمعونة أجهزة الإعلام الواسعة وأسالیب الدعایة المتنوعة، یدعو الناس إلی زیادة الاستهلاک حتی بالنسبة لحاجاتهم الضروریّة فی الحیاة، وهؤلاء هیمنوا علی ذهن وفکر المخاطبین إلی درجة أنّهم یخلقون فی ذهن المخاطب حاجات موهومة لا یحتاج إلیها المرء فی واقع الحیاة.

إنّ الإسلام یرفض بشدّة هذه الأسالیب الإعلامیّة ویدعو لضبط وتعدیل المیول والحاجات المشروعة لکی یحدّ من عملیّة الاستهلاک الفاحشة، لأنّ کلّ کذب وإظهار ما یخالف الواقع فی مجال الدعایات ممنوع وحرام فی نظر الإسلام ویعتبر نوعاً من التدلیس والغش.

3. ضبط الاستهلاک

اشارة

وبدیهی أنّه لو تقرر علی أساس الثقافة الاقتصادیّة الرأسمالیّة الدعوة إلی مزید من الاستهلاک وفسح المجال لسیطرة المیول النفسانیّة للإنسان فی واقع حیاته، فإنّ الإنتاج الکلی لبلد من البلدان لا یستطیع الاستجابة لهذا الاشتهاء الکاذب حتی بالنسبة لطائفة معینة، فکیف الحال باشباع جمیع میول ورغبات أفراد المجتمع؟ وهنا من اللازم تقدیم ضوابط لتحدید وهدایة عملیّة الاستهلاک وإیجاد توازن وتعادل بین الإنتاج والاستهلاک.

وقد اهتمت الشریعة الإسلامیّة بهذا الموضوع أکثر من خلال وضع القوانین والأحکام الشرعیّة وتعیین المصارف المحرمة والمکروهة وتقویة الإیمان فی قلوب الناس کیما یملکوا ضبط وهدایة الاستهلاک من داخلهم.

ویجب علی أولیاء الأمور والمشتغلین فی الشأن الثقافی الیوم أن یبیّنوا للناس الاسلوب الصحیح فی الاستهلاک علی أساس التعالیم الدینیّة بحیث تضحی هذه التعالیم ثقافة عامّة فی فضاء المجتمع، وما یوجهه المجتمع الإسلامی الیوم من محنة ومشکلة لا تتلخص فی قلّة المقررات الشرعیّة فی باب ضبط وهدایة الاستهلاک، بل من عدم إجراء هذه الأحکام من قِبل جمهور الناس والذی یؤدّی إلی خسائر کبیرة غیر قابلة للتعویض تفرض علی اقتصاد المجتمع الإسلامی.

إنّ دائرة المصروفات المحرمة والمکروهة فی نظر الإسلام وتقدیم بعض مراتب الاستهلاک علی


1- انظر: بحث« اجتناب کلّ أنواع الإسراف» فی هذا الکتاب.

ص: 337

البعض الآخر، وردت فی کتب الفتوی والرسائل العملیّة، وکذلک الکتب الأخلاقیّة والروائیّة ممّا لا تستدعی الحاجة لذکرها هنا.

ونکتفی هنا بذکر عدّة نماذج من المصادیق البارزة والمتداولة فی جو المجتمع لمثل هذه المصروفات:

أ) الإسراف

الکلام هنا لیس عن تحریم الإسراف أو بیان مفهومه ومصداقه (1)، بل استعراض بعض النماذج من أشکال الإشراف السائد والمتداول فی المجتمع ولا یحسب له حساب فی وسط جمهور الناس.

ومعلوم أنّ الدین یری من مصادیق الإسراف حتی إلقاء بقیة الماء فی الإناء، ومن هذه الجهة فإنّ الإمام الصادق علیه السلام ولبیان أهمیّة الإسراف بأی شکل کان وبأی صورة ذکر من مصادیق الإسراف:

«السرف فی ثلاث ... وإهراقک فضلة الماء»(2).

هذا فی حین أننا نری فی المجتمع الإسلامی أنّ الماء فی المنازل یتمّ نقله إلی البیوت فی أنابیب مسافة کیلومرات عدّة ویکلّف بیت المال نفقات باهظة وتنفق علی حفظه وتصفیته ونقله إلی البیوت الملیارات، ولکن نجد بعض الناس یهدرون هذا المال الصافی بأشکال مختلفة، ویعیش الناس فی مناطق أخری فی القری والقصبات فی مضیقة وعسر من جهة قلّة الماء والجفاف ویواجهون مشکلات عدیدة بسبب هذه الظاهرة، وهذه کلّها تعتبر فی نظر الإسلام غیر مشروعة.

أو نری مقادیر کثیرة من الأغذیة تلقی فی سلة القمامة، فی حین أنّ الملایین من الناس فی أنحاء العالم یعیشون الجوع وشظف المعیشة، وهکذا الحال بالنسبة لاستهلاک المواد الأخری.

فی حین أننا نعلم أنّ الدین یرفض إلقاء نواة التمر التی یمکن الاستفادة منها فی مورد آخر ویعدّه من مصادیق الإسراف، یقول الإمام الصادق علیه السلام فی الحدیث المذکور آنفاً ویعدّ هذا العمل من مصادیق الإسراف أیضاً،

«وإلقاءک النوی یمیناً وشمالًا»(3)

. وأمّا قصّة الاستهلاک الکثیر وغیر المنضبط فی الاستفادة من أنواع الطاقة فهی قصّة معروفة للجمیع.

والمصداق الآخر یمکن ذکره هنا، إلقاء مقادیر کثیرة من اللوازم والأشیاء المفیدة یومیاً وبالإمکان إعادة انتاجها والاستفادة منها من خلال وضع مخطط سلیم وإدارة صحیحة ورأس مال لازم فی هذا القسم للحیلولة دون إهدار کیمیة کبیرة من الثروة.

وغنی عن البیان أنّ هذا النوع من الإهمال فی عملیّة الاستهلاک لیس قلیلًا فی حیاتنا الیومیّة ممّا یتسبب فی إلحاق خسارة کبیرة بالتنمیّة الاقتصادیّة فی المجتمع.

ب. الإضرار بالمال العام
اشارة

ومن أسوأ أنواع الاستهلاک وأکثرها شیوعاً،


1- انظر: بحث« اجتناب کلّ أشکال الإسراف» فی هذا الکتاب.
2- الخصال، ص 93، ح 37؛ بحار الأنوار، ج 72، ص 304.
3- بحار الأنوار، ج 72، ص 304.

ص: 338

الاستهلاک بالنسبة للأموال العامّة والحکومیّة، وقد تبدّل هذا الاستهلاک الیوم وللأسف إلی معضلة اقتصادیّة کبیرة فی المجتمع.

فی مجتمعنا الحالی لیس فقط لا نجد اهتماماً من عامّة الناس لحفظ وحراسة الأموال العامّة بل ثمة لامبالاة وحتی إضرار عمدی کثیر یصدر من بعض الناس فیما یتصل بهذه الأموال والثروة الوطنیّة.

ومن أشنع ذلک لامبالاة المسؤولین فی عملیّة الاستهلاک المفرط وأحیاناً من بیت المال، الذی یمکن أن یؤدّی إلی إضعاف البنیة الاقتصادیّة فی المجتمع.

ومن جملة الموارد التی تستحق الذکر تضخم الدوائر والأجهزة الحکومیّة وتأسیس لجان ومؤسسسات غیر الضروریّة وغیر مثمرة وتقترن عادة بنفقات باهظة من المال العام.

هذا والحال أننا نری فی المفاهیم الدینیّة بالنسبة للإنفاق من بیت المال وضرورة الحیلولة دون تضییع المال العام وردت نصوص وتوصیات کثیرة فی هذا الشأن إلی درجة أنّ أمیرالمؤمنین علی علیه السلام کتب إلی بعض عمّاله:

«أدقّوا أقلامکم وقاربوا بین سطورکم واحذفوا من فضولکم واقصدوا قصد المعانی وإیّاکم والإکثار، فإنّ أموال المسلمین لا تحتمل الإضرار»(1).

النتیجة النهائیّة:

تحدّثنا فی هذا البحث عن الأرکان الأصلیّة والمؤثرة فی الاقتصاد فی نظر الإسلام، وشروط وضوابط وقیود کلّ واحد من هذه الأرکان: تقسیم المنابع، الإنتاج، التوزیع والاستهلاک ورأی الدین فی مجمل هذه الأمور، وضمن إجراء مقارنة بین رؤیة الإسلام ورؤیة النظم الاقتصادیّة المتداولة فی العالم، تبیّن أنّ الإسلام، وخلافاً للنظم الاقتصادیّة الشائعة، جمع فی تعالیمه الأبعاد الروحیّة والجسمیّة للإنسان ووضع برنامجه الاقتصادی بما یتناسب مع هذه أبعاد والدوائر.

***

المصادر والمنابع

1. القرآن الکریم.

2. نهج البلاغة.

3. الأخلاق الاقتصادی فی القرآن والحدیث (اخلاق اقتصادی در قرآن و حدیث) بالفارسیّة، جواد الایروانی، طبعة قدس، مشهد المقدس، 1384 ه ش.

4. اسد الغابة فی معرفة الصحابة، علی بن محمّد بن الأثیر، دار الکتب العربی، بیروت.

5. الإسلام والأزمة الاقتصادیّة (اسلام و چالش اقتصادی)، محمّد عمر جیرا، مترجمان: میرمعزی، هادوی نیا، یوسفی وجهانیان، التحقیقات الثقافیّة والعلوم الإسلامیّة، 1384 ه ش.

6. أصول علم الاقتصاد (اصول علم اقتصاد)، دومینیگ سالواتوره، یوجین آدیولیو، ترجمه الدکتور محمّد الصفایی ونوروز علی مهدی پور، طهران، مؤسسة بانکداری ایران،


1- الخصال، ص 310، ح 85؛ بحار الأنوار، ج 41، ص 105، ح 6.

ص: 339

1370 ه ش.

7. الاقتصاد والتنمیة فی نموذج جدید (اقتصاد توسعه یک الگوی جدید) بالفارسیّة، السید نوّاب حیدر النقوی، ترجمه الدکتور حسن توانایان فرد، التحقیقات الثقافیّة والعلوم الإسلامیّة، قم، 1378 ه ش.

8. (اقتصاد کلان) بالفارسیّة، أحمد الآخوندی، شرکت الطبع والنشر بازرگانی، طهران، الطبعة الخامسة، 1380 ه ش.

9. اقتصادنا، الشهید السیّد محمّدباقر الصدر، مکتب الإعلام الإسلامی، قم، 1375 ه ش.

10. الأمالی، الشیخ الطوسی، أبوجعفر محمّد بن حسن الطوسی، دار الثقافة، 1414 ه ق.

11. بحار الأنوار، العلّامة محمّد باقر المجلسی، مؤسسة الوفاء، بیروت، الطبعة الثانیة، 1403 ه ق.

12. البحر الرائق، ابن نجیم المصری الحنفی، دار الکتب العلمیّة، بیروت، 1418 ه ق.

13. معرفة مظاهر الفقر والتنمیة (پدیده شناسی فقر و توسعه) بالفارسیّة، مکتب الإعلام الإسلامی فرع خراسان، بوستان کتاب، قم، 1380 ه ش.

14. نفحات الولایة، شرح جدید وشامل لنهج البلاغة، آیة اللَّه مکارم الشیرازی، دار الکتب الإسلامیّة، طهران، 1379 ه ش.

15. تحریرالوسیلة، الإمام الخمینی، مؤسسة مطبوعات اسماعیلیان، قم، الطبعة الثانیة، 1390 ه ق.

16. تذکرة الفقهاء، العلّامة الحلی، منشورات المکتبة المرتضویة، الطبعة القدیمة.

17. تهذیب الأحکام، محمّد بن الحسن الطوسی، دار الکتب الإسلامیة، قم، لاطبعة الرابعة، 1365 ه ش.

18. توحید، المفضّل بن عمر الجعفی، مؤسسة الوفاء، بیروت، الطبعة الثانیة، 1404 ه ق.

19. التضخم (تورّم)، الدکتور أحمد الکتابی، طهران، انتشارات اقبال، 1371 ه ش.

20. التنمیة الاقتصادیّة فی العالم الثالث (توسعه اقتصادی در جهان سوم) بالفارسیّة، مایکل تودارو، ترجمه غلام علی الفرجادی، 1368 ه ش.

21. ثواب الأعمال، الشیخ الصدوق، منشورات الشریف الرضی، قم، الطبعة الثانیة، 1368 ه ش.

22. جامع الصغیر، جلال الدین السیوطی، دار الفکر، بیروت، 1401 ه ق.

23. جامع المقاصد، المحقق الکرکی، مؤسسة آل البیت، قم، 1410 ه ق.

24. جواهرالکلام، محمّد حسن النجفی، دار الکتب الإسلامیّة، طهران، الطبعة الثالثة، 1367 ه ش.

25. رواد العلوم السیاسیّة (خداوندان اندیشه سیاسی) بالفارسیّة، لین ولنکستر، ترجمه علی رامین، انتشارات علمی وفرهنگی، طهران، 1376 ه ش.

26. الخصال، الشیخ الصدوق، تصحیح علی أکبر الغفاری، جماعة المدرسین، قم، 1403 ه ق.

27. مقدمة علی الاقتصاد الإسلامی (درآمدی بر اقتصاد اسلامی) بالفارسیّة، مکتب التنسیق بین الحوزة والجامعة مطبعة سلمان الفارسی، 1363 ه ش.

28. روح المعانی، السید محمود الآلوسی، بدون

ص: 340

مشخصات کتاب شناختی.

29. معالم التنمیة الاقتصادیّة فی الرؤیة الإسلامیّة (شاخص های توسعه اقتصادی از دیدگاه اسلام) بالفارسیّة، محمّد جمال خلیلیان، مرکز انتشارات مؤسسة آموزشی پژوهشی الإمام الخمینی، قم، 1384 ه ش.

30. شرح مسلم، النووی، دار الکتاب العربی، بیروت، 1407 ه ق.

31. شرح نهج البلاغة، ابن أبی الحدید، دار إحیاء الکتب العربیة، بیروت، 1378 ه ق.

32. شرائع الإسلام، المحقق الحلّی، تحقیق صادق الشیرازی، انتشارات استقلال، طهران، 1409 ه ق.

33. صحیح البخاری، محمّد بن إسماعیل البخاری، دار الفکر، بیروت، 1401 ه ق.

34. عوالی اللئالی، ابن أبی جمهور الاحسائی، سید الشهداء، قم، 1403 ه ق.

35. عیون الحکم والمواعظ، علی بن محمّد لیث الواسطی، دار الحدیث، قم.

36. غرر الحکم ودرر الکلم، عبدالواحد بن محمّد الآمدی، مؤسسة أعلمی، بیروت، 1407 ه ق.

37. فتح الباری، ابن حجر العسقلانی، دار المعرفة، بیروت، الطبعة الثانیة.

38. قاموس اصطلاحات العمل والتأمین الاجتماعی (فرهنگ اصطلاحات کار و تأمین اجتماعی) بالفارسیّة، السید مهدی المجتبوی، مؤسسة کار و تأمین اجتماعی، طهران، 1372 ه ش.

39. ثقافة العمل (فرهنگ کار) بالفارسیّة، سعید معیدفر، مؤسسة کار وتأمین اجتماعی، طهران، 1380 ه ش.

40. قواعد الأحکام، العلّامة الحلی، مؤسسة نشر الإسلامی، قم، 1418 ه ق.

41. الکافی، محمّد بن یعقوب الکلینی، دار الکتب الإسلامیّة، الآخوندی، قم، الطبعة الثالثة، 1388 ه ق.

42. کنز العمال، المتقی الهندی، مؤسسة الرسالة، بیروت، الطبعة الخامسة، 1405 ه ق.

43. لسان العرب، العلّامة ابن منظور الأفریقی، دار إحیاء التراث، بیروت، الطبعة الاولی، 1408 ه ق.

44. مبانی الاقتصاد الإسلامی (مبانی اقتصاد اسلامی) بالفارسیّة، مکتب التنسیق بین الحوزة والجامعة، سازمان سمت، 1371 ه ش.

45. مبانی وأصول علم الاقتصاد (مبانی و اصول علم اقتصاد) بالفارسیّة، الدکتور یداللَّه دادگر- الدکتور تیمور الرحمانی، انتشارات الإعلام الإسلامی، 1380 ه ش.

46. مجمع البحرین، فخرالدین الطریحی، مکتبة بیع الکتب المرتضوی، طهران، الطبعة الثانیة، 1375 ه ش.

47. مجموعة مقالات بالفارسیّة للمجمع الأوّل للتحقیق الاقتصاد الإسلامی (مجموع مقالات فارسی مجمع اول بررسی های اقتصاد اسلامی، واعظ زاده الخراسانی، آستان قدس رضوی، 1369 ه ش.

48. مستدرک الوسائل، المیرزا حسین النوری الطبرسی، مؤسسة آل البیت، قم، 1408 ه ق.

49. مسند أحمد، أحمد بن حنبل، دار الکتب العلمیّة، بیروت.

50. المغنی، عبداللَّه بن قدامة، دار الکتاب العربی، بیروت،

ص: 341

طبعة افست.

51. مفردات الراغب، الراغب الإصفهانی، دار المعرفة، بیروت.

52. مکارم الأخلاق، الشیخ الطبرسی، منشورات الشریف الرضی، الطبعة السادسة، 1392 ه ق.

53. مناقب آل أبی طالب، ابن شهر آشوب، الحیدریة، النجف، 1276 ه ق.

54. من لا یحضره الفقیه، الشیخ الصدوق، دار الکتب الإسلامیة، الطبعة الثالثة، 1388 ه ق.

55. المیزان، العلّامة الطباطبائی، مؤسسة مطبوعات اسماعیلیان، قم، الطبعة الثانیة، 1391 ه ق.

56. وسائل الشیعة، محمّد بن حسن الحر العاملی، مؤسسه آل البیت، قم، الطبعة الثانیة، 1414 ه ق.

57. النظام الاقتصادی الإسلامی، الأهداف والغایات (نظام اقتصاد اسلامی، اهداف و انگیزه ها) بالفارسیّة، السید حسین میرمعزی، مکتب الإعلام الإسلامی، 1378 ه ش.

ص: 342

ص: 343

القسم الرابع: الأخلاق والاقتصاد

اشارة

1. سیادة الأخلاق علی النظام الاقتصادی فی الإسلام

2. اجتناب کلّ أشکال الإسراف

3. الإدّخار وخروج الثروات من دائرة الإنتاج

4. عدم التضاد بین الزهد الإسلامی مع النشاطات الاقتصادیّة الواسعة

5. إیجاد محیط ثقافی للاقتصاد الإسلامی

ص: 344

ص: 345

(1). سیادة الأخلاق علی النظام الاقتصادی الإسلامی

اشارة

البحث الأوّل: سیادة الأخلاق فی عملیّة الإنتاج

البحث الثانی: سیادة الأخلاق علی المعاملات الاقتصادیّة

البحث الثالث: سیادة الأخلاق علی عملیّة الاستهلاک

ص: 346

ص: 347

سیادة الأخلاق علی النظام الاقتصادی الإسلامی

اشارة

قبل الورود فی أصل البحث لابدّ من ذکر عدّة مقدّمات ضروریّة:

1. تعریف الأخلاق

الأخلاق جمع «خُلق» و «خُلُق»، وکما یقول الراغب فی المفردات خَلق وخُلْق (أو خُلُق) کلیهما یعودان إلی جذر واحد، وفی الواقع فإنّ «خَلْق» تعنی الهیئة والشکل والصورة التی یراها الإنسان بعینه، والخُلق یعنی القوی والسجایا الباطنیّة التی یراها الإنسان بعین قلبه. والقرآن الکریم یخاطب النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله ویقول:

«وَإِنَّکَ لَعَلی خُلُقٍ عَظِیمٍ»(1).

وعلی هذا الأساس یمکن القول: «إنّ الأخلاق مجموعة من الصفات الروحیّة والباطنیّة للإنسان» وعلی حدّ قول بعض العلماء أنّه أحیاناً یطلق علی بعض الأعمال والسلوکیات الصادرة من البواعث الباطنیّة للإنسان أخلاق أیضاً(2).

ومرادنا من الأخلاق فی هذا البحث مراعاة التوصیات الأخاقیّة الإلزامیّة وغیر الإلزامیّة فیما یتصل بالمسائل الاقتصادیّة، بمعنی ما یشمل العناوین من قبیل الغش فی المعاملات وکراهة الدخول فی معاملة شخص آخر، وکذلک استحباب إقالة المستقیل وأمثال ذلک، وفی الحقیقة أنّ بعض هذه الأمور ترتبط بالأحکام الشرعیّة أیضاً.

2. إرتباط الأحکام مع العقائد والأخلاق

إنّ القانون مهما کان متقناً ومحکماً، فما لم یقبل ویعتقد العاملون به بالمبدأ والمعاد ولا یجسدون القیم الأخلاقیّة فی محتواهم الداخلی وأعماق وجودهم، فإنّ هذا القانون یتعرض للُافول والزوال.

إنّ مخالفة القانون تارة تصدر من قِبل الأفراد المقتدرین الذین یقفون وجهاً لوجه أمام القانون ویخالفون القانون بشکل علنی، لأنّ المهم لدی هؤلاء هو حفظ منافعهم الشخصیّة، ومع الالتفات إلی قدرتهم فإنّهم لا یجدون مانعاً فی طریقهم لمخالفة القانون، وأحیاناً یصدر من قِبل الأشخاص الذین یجدون طریقاً للفرار من القانون أو الالتفاف علی القانون


1- سورة القلم، الآیة 4.
2- انظر: الأخلاق فی القرآن، ج 1، ص 24 للمؤلف.

ص: 348

وتفسیره بما یصبّ فی مصلحتهم وبالتالی لا یکون للقانون أثر فی سلوکیاتهم وممارساتهم.

إنّ المقتدرین الذین لا یملکون القیم الأخلاقیّة والعقائدیّة، یتحرکون ما أمکنهم للتدخل فی مرحلة وضع القانون، ومنذ البدایّة یضعون القوانین بما یصبّ فی مصلحتهم وحفظ امتیازاتهم الرئیسیّة والأساسیّة(1).

وفی المرحلة التالیة فیما لو کانت ظواهر القانون غیر متناسبة وغیر متجانسة مع أطماعهم ومیولهم فإنّهم یلتفون علی القانون ویفسرون متشابهات القانون بما یرضی منافعهم علی حساب محکمات القانون (2).

وفی المرحلة الثالثة یتحرکون علی مستوی تطمیع وتهدید منفذی القانون ومن خلال الرشاوی والضغوط یصلون إلی غایاتهم غیر المشروعة ویحققون مطامعهم من هذا الطریق.

وفی نهایة المطاف إذا لم یجد المقتدرون طریقاً لاقرار قانون أو تفسیره بما یصبّ فی مصلحتهم أو بتطمیع أو تهدید منفذی القانون، فإنّهم یتحرکون من موقع المخالفة للقانون علانیّة ولا یمتنعون عن مخالفة القانون بصراحة فی هذه المرحلة(3).

أجل، فما لم یشعر الأفراد فی مقابل اللَّه تعالی بالمسؤولیّة ولا یعتقدون بالحساب الإلهی، وما لم تنقلع الرذائل الأخلاقیّة کالحرص والتکبر والغرور والحسد وطلب الجاه والمقام فی ظلّ الإیمان والإخلاص من وجودهم، فلا یمکن أن نتوقع منهم العمل بالقانون.

وهکذا بالنسبة للأحکام والقوانین التی لا تمتد فی واقع الإنسان والقیم الأخلاقیّة فی نفسه کالعفو والصفح وأمثال ذلک، فإنّ المشکلات سوف تظهر وتطفو علی السطح، رغم أنّ من الممکن حلّ مشاکل کثیرة بإجراء دقیق وصحیح للقانون، ولکن ما لم یمتزج القانون بالأخلاق فی مطاویه وثنایاه، فإنّ إجراء القانون لا یقترن بالسکینة الروحیّة والطمأنینة النفسیّة، والعامل المؤثر فی تقویة وشائج المجتمع وتوثیق الرابطة بین الأفراد وإضفاء الاستقرار والسکینة علی الحیاة الجمعیة لیس مجرّد القانون الجاف، بل القانون المقترن بالأخلاق، بمعنی أن یکون الهدف من القانون فصل الدعاوی، وقطع الخصومات وإنهاء المشاکل ولا


1- النموذج الواضح وضع قانون« حق الفیتو» لخمس من الدول التی تمتلک الرؤوس النوویّة فی مجلس الأمن للُامم المتحدة.
2- ومثال ذلک فی التاریخ قضیة أصحاب السبت وصیدهم للأسماک یوم السبت وإخراجها یوم الأحد من قبل بعض الیهود المتمردین( انظر: سورة البقرة، الآیة 65؛ الأعراف، الآیة 163) وفی عالمنا المعاصر حادثة معاملة أمریکا للأسری الأفغال، فلا یسمح لهم بالبقاء فی أفغانستان لیتم التعامل معهم وفق قانون هذا البلد ولا تأخذهم إلی أمریکا لیحاکموا وفق القانون الأمریکی بل سجنتهم فی منطقة تسمی« غوانتانامو» التی تقع تحت النفوذ الأمریکی، ولکنها خارج حدود الولایات المتحدة، وبالتالی فهی خارج دائرة القانون الأمریکی لکی تتعامل معهم لا علی أساس أنّهم أسری حرب بل وفق ما تشتهی، والأنکی من ذلک الجرائم الوحشیة التی ترتکبها إسرائیل وقتل الفلسطینین وهدم منازلهم بذریعة الدفاع عن النفس.
3- بعد أن لم تتمکن أمریکا من إنتزاع موافقة مجلس الأمن للهجوم علی العراق قامت بنقض سیادة هذه الدولة وهجمت علیها بذریعة البحث عن أسلحة الدمار الشامل واحتلت العراق، ولکنها لم تستطع العثور علی أیة علامة علی وجود مثل هذه الأسلحة فی العراق.

ص: 349

علاقة له بتضمید الجراحات الناشئة من عملیّة إجراء القانون، هنا تتدخل الأخلاق بوصفها الدواء الشافی لمثل هذه المشاکل وتتحرک الأخلاق تزامناً مع تعیین العقوبة علی المجرم بالتوصیّة والعفو والصفح والمحبّة بین الطرفین لیستظلّ کلّ واحد من طرفی النزاع تحت خیمة السکینة الروحیّة والصفاء القلبی.

ومن هذه الجهة نری أنّ الإسلام ربط الأحکام والقوانین مع العقائد والأخلاق برابطة وثیقة ووضع فی ثنایا القوانین والأحکام الشرعیّة حالات التوجه إلی اللَّه تعالی والنظر إلی المعاد والحیاة الاخرویّة وأحیاناً أکد علی مسألة العفو والإیثار والصفح.

3. اقتران الأحکام بالعقاند الإسلامیّة
اشارة

إنّ الآیات القرآنیّة وفی موارد متعددة ربطت الأحکام الشرعیّة مع العقائد الدینیّة، ولفتت نظر الإنسان إلی هذه الحقیقة بتعبیرات مختلفة منها:

الأوّل: الآیات التی تقرر أنّ أحکام اللَّه هی حدود وثغور إلهیّة

ونقرأ فی آیات عدّة تلفت نظر الإنسان إلی مراعاة التعالیم والأحکام الإلهیّة وأنّها تعتبر حدود اللَّه تعالی التی لا ینبغی الاقتراب منها وتجاوزها:

أ) یقول تعالی بعد بیان بعض أحکام الصوم والاعتکاف:

«تِلْکَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا»(1).

ب) وبعد بیان بعض أحکام الطلاق یقول:

«تِلْکَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ یَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِکَ هُمُ الظَّالِمُونَ»(2).

ج) بعد بیان أحکام الإرث وکیفیة تقسیم المیراث یقول:

«تِلْکَ حُدُودُ اللَّهِ

...»(3).

د) بعد بیان أحکام الظهار وکفّارته یقول:

«تِلْکَ حُدُودُ اللَّهِ

...»(4).

«الحدود» جمع «حدّ» وعلی حدّ قول الراغب فی مفرداته: به «تطلق هذه الکلمة علی الواسطة بین شیئین تمنع الاختلاط بینهما» ولذلک یقال للخط الفاصل بین دولتین «حدود»، ویقال للقوانین الإلهیّة «حدود» لأنّها بمثابة الفاصلة التی لا یجوز تجاوزها، ومن هذه الجهة اطلقت علی الأحکام المذکورة أغلاه أنّها حدود الإلهیّة یمنع التعدی علیها، والواقع أنّ هذا التعبیر یفهم المسلمین أنّ عدم رعایة هذه القوانین بمثابة هتک حرمة «الحدود الإلهیّة» والتعدی علیها.

الثانی: العلاقة الوثیقة بین العمل والاعتقاد فی آیات القرآن

والطائفة الأخری من الآیات الکریمة وبعد بیان حکم شرعی ولأجل ترغیب الناس فی امتثال هذا الحکم، تذکر مسألة الإیمان باللَّه والقیامة، منها:

أ) بعد بیان بعض تکالیف المرأة المطلقة فی أیّام العدّة وأنّه لا ینبغی لها کتمان العادة الشهریّة أو الحمل


1- سورة البقره، الآیة 187.
2- سورة البقرة، الآیة 229 و 230؛ وسورة الطلاق، الآیة 1.
3- سورة النساء، الآیة 13.
4- سورة المجادلة، الآیة 4.

ص: 350

یقول:

«... إِنْ کُنَّ یُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْیَوْمِ الْآخِرِ»(1).

ب) یوصی القرآن الکریم أولیاء وأزواج النساء المطلقات بأنّهم بعد انتهاء العدّة لا ینبغی لهم منع هذه النسوة من الزواج مرّة ثانیة، ثمّ تقول الآیة:

«ذَلِکَ یُوعَظُ بِهِ مَنْ کَانَ مِنْکُمْ یُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْیَوْمِ الْآخِرِ»(2).

ج) وبعد أن یبیّن القرآن الکریم مقدار الحدّ للنساء والرجال الزناة، یقول:

«إِنْ کُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْیَوْمِ الْآخِرِ»(3).

ونری فی هذه الآیات الشریفة وأمثالها أنّ الإیمان باللَّه والیوم الآخر وأنّ جمیع أعمال الإنسان مکتوبة عند اللَّه تعالی وسیحاسب المرء علیها، بمثابة عوامل لمنع مخالفة وتجاوز الأحکام الإلهیّة.

الثالث: الاعتقاد بالحساب الإلهی

وفی بعض الموارد بعد أن تبیّن الآیات سلسلة من الأحکام تذکّر الناس بالحساب الإلهی:

أ) بعد بیان إثم کتمان الشهادة:

«وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِی أَنفُسِکُمْ أَوْ تُخْفُوهُ یُحَاسِبْکُمْ بِهِ اللَّهُ»(4).

ب) بعد أن تأمر الآیات بدفع أموال الیتامی إلیهم وإقامة شاهد علی هذا العمل تقول الآیة:

«وَکَفَی بِاللَّهِ حَسِیباً»(5).

الرابع: الاعتقاد بالعلم الإلهی

ونری فی بعض الموارد أنّ القرآن الکریم ومن أجل ترغیب المکلّفین بامتثال الأوامر الإلهیّة، تذکرهم بالاحاطة العلمیّة للَّه تعالی بأعمال عباده:

أ) تقول الآیة بعد بیان حکم عدم جواز الخطبة من النساء اللاتی لم تنقض عنهنّ عدّة الوفاة:

«وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ یَعْلَمُ مَا فِی أَنفُسِکُمْ فَاحْذَرُوهُ»(6).

ب) عندما یتحدّث القرآن الکریم عن الإنفاق والنذر یحاطب المکلّفین بالقول:

«وَمَا أَنفَقْتُمْ مِّنْ نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِّنْ نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ یَعْلَمُهُ»(7).

وهذه الآیات تمثّل بعض الآیات التی تبیّن الإرتباط الوثیق بین الأحکام الإلهیّة والاعتقادات الدینیّة، وثمة موارد عدّة أخری فی هذا الباب یمکن الإطلاع علیها بمراجعة القرآن الکریم.

4. اقتران الأحکام مع الأخلاق
اشارة

ونری فی تعالیم الإسلام وأحکام القرآن الکریم التوصیة فی بعض موارد بیان الأحکام بالأخلاق أیضاً، وخاصّة فی موارد تترتب علی تنفیذ القانون عواقب نفسیّة وخلل عاطفی لکلا طرفی النزاع، وعلی سبیل المثال نشیر هنا إلی بعض الموارد منها:

الأوّل: التوصیة بسراح الجمیل فی مسألة
اشارة

1- سورة البقرة، الآیة 228.
2- سورة البقرة، الآیة 232.
3- سورة النور، الآیة 2.
4- سورة البقرة، الآیة 284.
5- سورة النساء، الآیة 6.
6- سورة البقرة، الآیة 235.
7- سورة البقرة، الآیة 270.

ص: 351

الطلاق

فقد ورد فی الآیة 49 من سورة الأحزاب بعد بیان حکم الطلاق وعدم لزوم العدّة للمرأة المطلقة التی لم یدخل بها الزوج، یوصی القرآن الکریم ب «السراح الجمیل» والمتعة «بمعنی إعطاء هدیة مناسبة»:

«... وَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِیلًا».

وهذا یعنی أنّه إذا تقرر أن تنفصل زوجاتکم عنکم، فینبغی علیکم أنّ تترکوهنّ بدون إثارة مشکلة، وعند وقوع الانفصال فلا ینبغی أن تعاملوهنّ من موقع الانتقام أو الإساءة لسمعتهنّ وأمثال ذلک.

وهذه النقطة ورد التأکید علیها فی الآیة 2 من سورة الطلاق، حیث توصی الآیة أنّه «بعد انتهاء عدّة النساء فی صورة الرغبة فی العودة» فیجب علیکم أنّ تعیشوا معهنّ بشکل لائق أو تنفصلوا عنهنّ بشکل لائق أیضاً:

«فَأَمْسِکُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ».

روی جابر عن أبی جعفر الإمام الباقر علیه السلام فی قوله عزّ وجلّ:

«وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِیلًا»

قال:

«متعوهنّ أی أجملوهنّ بما قدرتم علیه من معروف، فإنّهنّ یرجعن بکآبة ووحشة وهمّ عظیم وشماتة من أعدائهنّ ...»(1).

الثانی: تعدیل المهر

بعد بیان حکم الطلاق وقبل الدخول ولزوم دفع نصف المهر للزوجة یقول القرآن الکریم:

«إِلَّا أَنْ یَعْفُونَ أَوْ یَعْفُوَا الَّذِی بِیَدِهِ عُقْدَةُ النِّکَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَی وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَیْنَکُمْ»(2).

ویستفاد من هذه الآیة الشریفة أنّ دفع نصف المهر للزوجة یعتبر من حقّها، ولکن ما ذکر جملة:

«إِلَّا أَنْ یَعْفُونَ»

، ونستوحی من الآیة أنّها بصدد أن توصی المرأة بأن تعفو عن نصف المهر ولا تأخذه، أو إذا کانت الزوجة صغیرة أو سفیهة فلا یأخذ ولیها نصف المهر، فی صورة وجود مصلحة فی ذلک، وفی النهایة توصی الآیة بمراعاة الفضل والعفو بینهما، وهذه کلّها توصیات أخلاقیّة اقترنت مع بیان الحکم الشرعی والقانون الإلهی.

ومعلوم أنّ الرجل، إذا لم یواقع الزوجة، فإنّ نصف المهر لها یعتبر ثقیل علیه ولذلک فإنّ هذه التوصیّة الأخلاقیّة للمرأة «أن تعفو وتغض النظر عن أخذ نصف المهر إذا رغبت فی ذلک» ورد إلی جانب الحکم الذی یقرر أنّ للمرأة الحقّ فی أخذ نصف المهر.

الثالث. العفو فی مسألة القصاص

یقول القرآن الکریم وبعد بیان القصاص فی النفس والأعضاء:

«فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ کَفَّارَةٌ لَهُ»(3).

وکذلک ورد فی مورد آخر بعد بیان حکم القصاص ولغرض تحریک العواطف لبذل العفو والصفح:

«فَمَنْ عُفِیَ لَهُ مِنْ أَخِیهِ شَیْ ءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَیْهِ بِإِحْسَانٍ»(4).

ونری فی هذه الآیة الشریفة التوصیة بالعفو عن القصاص وقبول الدیة، وهذا یعنی أنّ صاحب الدم


1- تفسیر نورالثقلین، ج 4، ص 288، ح 163.
2- سورة البقرة، الآیة 237.
3- سورة المائدة، الآیة 45.
4- سورة البقرة، الآیة 178.

ص: 352

یحق له فی نظر القانون المطالبة بالقصاص، ولکن التوصیة بالعفو عن الأخ الدینی والاکتفاء بالدیة، یعنی التوصیة بالعفو والصفح.

واللافت أنّ القرآن الکریم فی هذا المورد یعتبر القاتل أخاً لولی الدم، وهذایعنی أنّه حتی فی مثل هذه الجرائم المهمّة لا ینبغی قطع رابطة الاخوة بین المسلمین، هذه الرابطة التی من شأنها أن تکون عاملًا للعفو والصفح وعودة القاتل إلی طریق الرشد والصواب.

5. إرتباط الأحکام الاقتصادیّة فی الإسلام مع العقائد
اشارة

کما تقدّم آنفاً أنّ العمل بجمیع أحکام وقوانین الإسلام یمتد بجذوره إلی العقائد الدینیّة، والقرآن الکریم یربط أحکامه فی بعض الموارد مع العقائد أیضاً، وبالنسبة للأحکام الاقتصادیّة أیضاً نری أنّ الإسلام یقرن وضع القوانین بالالتفات إلی المسائل العقائدیّة، وهنا نشیر إلی بعض النماذج منها:

الأوّل: أصل مالکیّة اللَّه

لفت القرآن الکریم فی بعض الموارد من أحکامه الاقتصادیّة نظر المکلّفین إلی أنّ جمیع هذه الأموال متعلقة باللَّه تعالی وأنّ اللَّه هو المالک لها فی الحقیقة، ومن هذه الجهة فإنّ قبول هذا الأصل والاعتقاد بهذه المسألة یجعل الإنسان مهیئاً لقبول الأحکام الإلهیّة والأوامر الدینیّة:

أ) یقول القرآن الکریم لترغیب المسلمین علی الإنفاق:

«وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَکُمْ مُّسْتَخْلَفِینَ فِیهِ»(1).

ب) ویعبّر القرآن الکریم بشکل متکرر بجملة «رزقناکم» و «رزقناهم» وأمثال ذلک وبهذا التعبیر یوصی بالإنفاق فی سبیل اللَّه، وفی الحقیقة أنّه یرید إفهام الإنسان أنّ ما یملکه من أموال وثروات إنّما هی رزق إلهی عندکم، مثلًا یقول فی وصف المتقین:

«وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ یُنفِقُونَ»(2)

وفی مورد آخر:

«وَأَنْفِقُوا مِنْ مَّا

رَزَقْنَاکُمْ ...».(3)

ج) وبعد بیان أحکام «العبد المکاتَب» ممّا یوفّر الأرضیّة لحریته یقول:

«وَآتُوهُمْ مِّنْ مَّالِ اللَّهِ الَّذِی آتَاکُمْ»(4).

وفی هذا المجال وردت آیات وروایات کثیرة استعرضنا بعضها فی بحث الأصول والقواعد التطبیقیّة فی الإسلام» فی هذا الکتاب.

الثانی: الالتفات إلی الحساب یوم القیامة

کما أنّ الاعتقاد بالمبدأ اقترن مع المسائل الاقتصادیّة، فإنّ التوجه للمعاد ویوم القیامة ورد أیضاً فی بعض الآیات مع بیان المسائل الاقتصادیّة، وعلی سبیل المثال:

أ) عندما یحذر القرآن الکریم الناس من إکتناز الأموال وجمع الذهب والفضة وعدم إنفاقها فی سبیل


1- سورة الحدید، الآیة 7.
2- سورة البقرة، الآیة 3.
3- سورة المنافقون، الآیة 10.
4- سورة النور، الآیة 33.

ص: 353

اللَّه یهددهم بالعذاب الإلهی ثمّ یضیف:

«یَوْمَ یُحْمَی عَلَیْهَا فِی نَارِ جَهَنَّمَ فَتُکْوَی بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا کَنَزْتُمْ لِانفُسِکُمْ فَذُوقُوا مَا کُنتُمْ تَکْنِزُونَ»(1).

ب) بعد أن ینهی القرآن الکریم عن الربا یقول:

«وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِی أُعِدَّتْ لِلْکَافِرِینَ»(2).

ج) بعد أن یحذر القرآن الکریم المطففین فی سورة المطفّفین یقول:

«أَلَا یَظُنُّ أُولَئِکَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ

* لِیَوْمٍ عَظِیمٍ»(3).

وفی الحقیقة أنّ الاعتقاد بیوم القیامة والعقاب الإلهی فی ذلک الیوم مؤثر کثیراً فی ترک هذا النوع من الذنوب الاقتصادیّة.

6. القطیعة التامّة بین المسائل الاقتصادیّة والأخلاق فی العالم المعاصر
اشارة

أمّا فی العالم المادی المعاصر الذی یرفع شعار «ربح أکثر مع تعب أقل»، فإنّ الأخلاق لا مکان لها فی المحاسبات والمعاملات الاقتصادیّة، وفی الحقیقة أنّ هذا النوع من الرؤیة للأخلاق والاقتصاد ناشئة عن ضعف الاعتقاد وضعف الأخلاق، کما هو الحال فی المجالات الأخری من التعامل بین الأفراد أیضاً حیث لا مکان للأخلاق فیها والمفهوم الحاکم علی العالم المعاصر هو الذی یقوم علی أساس «طلب المنفعة» و «السلطة» وضعف الاعتقاد والأخلاق هذا یترتب علیه آثار وخیمة فی واقع الحیاة الدنیویّة وتمتد جذور أنواع الاستعمار سواء علی المستوی السیاسی أو الاقتصادی أو الثقافی إلی هذه المسألة، ولو قلنا بأنّ أساس أغلب الحروب فی المنطقة وفی العالم هی بدافع الحصول علی الأموال والثروات والذخائر الاقتصادیّة، فلا یعدّ ذلک إغراقاً فی الکلام.

الإفرازات المخیفة لهذه القطیعة:
1. بیع أنواع الأسلحة حتی أسلحة الدمار الشامل وإیجاد السوق للبیع!

إنّ أصحاب المصانع العظیمة لصنع الأسلحة فی العالم ومن خلال إیجاد أزمات وحروب، یهدفون إلی تحریک عجلة مصانعهم وإزدهار تجارة الأسلحة وکسب ثروات خیالیّة منها.

إنّ العالم المعاصر البعید عن الأخلاق، یتحرک علی مستوی إیجاد الفرقة والکراهیة أو الخوف فیما بین الجیران، وأحیاناً یقوم بإثارة الانتفاضات فی بعض البلدان وتجهیزهم بالأسلحة لتضطر الحکومات من أجل الدفاع لشراء أسلحة جدیدة کلّ یوم وعادة تکون مرتفعة السعر، ومن هذا الطریق یربح أصحاب هذه المصانع أرباحاً طائلة.

إنّ الإحصاءات فیما یتصل ببیع الأسلحة من قِبل البلدان الاستکباریّة والقوی المتسلطة، تحکی عن عمق الفاجعة التی یعیشها العالم وتشیر إلی حقیقة الأرباح التی یحصل علیها أرباب السلطة والهیمنة:

أ) قامت الویالات المتحدة الأمریکیّة ببیع أسلحة


1- سورة التوبة، الآیة 35.
2- سورة آل عمران، الآیة 131.
3- سورة المطففین، الآیة 4 و 5.

ص: 354

إلی 18 کشور من 25 دولة فی العالم فی عام 2003 للمیلاد والتی شهدت انتفاضات وحروب داخلیّة(1) ..

ب) وطبقاً لأخبار أجهزة الإعلام والإحصاءات الرسمیّة فإنّ بیع الأسلحة فی عام 2003 للمیلاد، بلغ 25 ملیار و 600 ملیون دولار، وکانت أمریکا وروسیا فی الصدر الأوّل علی قائمة المصدرین للأسلحة، أمریکا 14 ملیار و 500 ملیون دولار وروسیا 4 ملیار و 300 ملیون دولار، والبائع الثالث آلمانیا التی حلّت محل فرانسا فی میزان صادرات الأسلحة التی بلغت ملیار و 400 ملیون دولار(2).

2. تجارة المخدّرات

وطبقاً لإحصاءات المؤسسات المسؤولة والمنظمات الجنائیّة، فإنّ تهریب المخدرات فی کلّ عام بلغ ما بین 330 ملیار إلی 500 ملیار دولار(3) ..

واللافت أنّه ورد فی هذه المنابع الخبریّة أنّ الکثیر من عائدات المخدرات یصرف فی تأمین نفقات المجموعات الإرهابیّة وسائر النشاطات الجنائیّة(4).

هذا فی حین أنّ إحصائیّة أخری تقرر أنّ أرباح تجارة المخدرات فی العالم تبلغ سنویاً 600 ملیار دولار(5).

وینبغی أن نعلم أن آثار أقدام جماعة من السیاسیین فی العالم تشاهد فی تجارة المخدرات:

«علی أساس الأخبار الواصلة فی السایت الالکترونی فی موقع بی بی سی، فإنّ حجم المعاملات السنویّة للمخدرات التی یتمّ تهریبها عن طریق ترکیة بلغت 100 ملیار دولار، والتی یصرف قسم کبیر منها إلی القوی التی تقف وراء تهریب المخدرات من رجال السیاسة وأصحاب المقامات فی ترکیا»(6).

وهذه الحقیقة المرّة لا تنحصر بهذه الدولة بل تمتد إلی الکثیر من بلدان العالم أیضاً، وعلی أساس المعلومات الواصلة فإنّ الربح الناشی ء من المخدرات فی العالم بلغ المرتبة الاولی من الأرباح.

3. تجارة الرقیق الأبیض

وأحد مصادر الأرباح الوفیرة وغیر الأخلاقیّة فی العالم تجارة العبید الأبیض (الرقیق الجنسی) الذی یحصل من خلال تهریب النساء والبنات من بلدانهم إلی بلدان الثریّة والإحصاءات تحکی عن اتساع دائرة تهریب النساء والفتیات:

«إنّ تهریب النساء والفتیات کرقیق فی العصر الحاضر وما یطلق علیه بالرقیق المتمدن، فإنّ عدد هؤلاء العبید بلغ فی القرن الواحد والعشرین ستة أضعاف عددهنّ فی القرن السابع عشر، یعنی عدد الرقیق من هؤلاء النسوة والفتیات بلغ عشرین ملیون نفر، وبنقل المؤسسات والمنظمات العالمیّة للهجرة فإنّ


1- moc. zoor- rabhka. www. 1
2- صحیفة همشهری( روزنامه همشهری) الفارسیّة، الأربعاء 11 شهریور 1383 ه ش، العدد 3483.
3- gro. ri- cinu. www. 2
4- المصدر السابق.
5- صحیفة« جوان» الفارسیّة، السبت 24 اردیبهشت 1384 ه ش.
6- منظمة السجناء سازمان زندانها و اقدامات تأمینی و تربیتی کشور(ri .snosirp .www ).

ص: 355

عدد هذه النسوة فی البلدان المختلفة بلغ ما بین 250 إلی 300 ألف نفر فی العام الواحد.

وعلی أساس المعلومات والتحقیقات فی 596 إدارة شرطة و 125 مؤسسة خدمات اجتماعیّة فی بریطانیا، فإنّ مقدار الربح الحاصل من تجارة الجنس للأطفال بلغ ملیاری دولار.

وکذلک تشیر الأخبار والإحصاءات لخبراء برلمان أوربا عن تجارة النساء فی اوربا الشرقیة، بعنوان رقیق اللألفیة الثالثة، بأنّ مقدار الإرباح الناشئة من هذه التجارة «غیر المشروعة» بلغت إلی 13 ملیار دولار سنویاً»(1).

وعلی أساس خبر مرکز التحقیقات «ریب ایز» فإنّ فی کلّ عام یتمّ تهریب 4 ملایین امرأة وطفل بعنوان بضاعة فی هذه التجارة ویتمّ إساءة استغلال الباعة والمشترین لهؤلاء المساکین، وفی هذا الوسط یربح أصحاب هذه التجارة 52 ملیار دولار فی کلّ سنة(2).

وطبقاً للأخبار المتعددة المنتشرة فی أجهزة الإعلام العالمی یمکن القول بأنّ هذه التجارة الملوثة لا تقتصر علی النساء والفتیات بل تشمل الأطفال والمراهقین من الذکور أیضاً.

4. أرباح المواقع الالکترونیّة غیر الأخلاقیّة
اشارة

وطبقاً لبعض الإحصاءات فإنّ 57 ملیار دولار سنویاً تمثّل ربح القائمین علی المواقع الالکترونیّة غیر الأخلاقیّة فی العالم.

وطبقاً لهذا الخبر فی سنة 1997 للمیلاد فإنّ ما یقارب 22 ألف موقع الالکترونی وبمضامین غیر أخلاقیّة موجودة فی الشبکة العنکبوتیّة الالکترونیة فی العالم، وهذا الرقم بلغ فی سنة 2000 إلی 280 ألف موقع الالکترونی (3).

النتیجة:

یتبیّن ممّا تقدّم بوضوح أنّ الاقتصاد إذا انفصل عن الإیمان والأخلاق فسوف تترتب علیه فجائع وخیمة، وبإمکان هذه الفجائع تغییر وجه العالم والبشریّة، ومن هذه الجهة ندرک أهمیّة وضرورة اقتران الاقتصاد بالأخلاق.

وعلی أساس هذه الضرورة نری أنّ الإسلام اهتم فی رسم الخطوط الأصلیّة للاقتصاد بالأخلاق أیضاً(4) وجعل فروع وأغصان المسائل الاقتصادیّة مقترنة مع الأخلاق بحیث إنّ الناس لو تحرکوا فی هذه الموارد علی مستوی رعایة القیم الأخلاقیّة بشکل صحیح فإنّ اقتصاد المجتمع الإسلامی، مضافاً إلی رشده وإزدهاره، فإنّه سیکون اقتصاداً نقیّاً وسلیماً أیضاً، مثلًا عندما حرّم الإسلام الربا، فإنّ من جملة الحکم فی


1- الأسبوعیة المرأة المعاصرة بالفارسیّة، السبت 9 اردیبهشت 1385 ه ش، العدد 2038.
2- مجلة السیاحة فی الغرب( مجله سیاحت غرب) بالفارسیّة، العدد 6، ص 39(gro .scipaR .www ).
3- جریدة« همشهری) روزنامه همشهری بالفارسیّة، الخمیس، 9 تیر 1384 ه ش، العدد 3736.
4- انظر: البحث« أصول وقواعد التطبیقیّة فی الإسلام»، فی هذاالکتاب.

ص: 356

هذا التحریم أنّ الربا یؤدّی إلی ضعف واهتزاز القیم الأخلاقیّة فی المجتمع، یقول الإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام فی فلسفة تحریم الربا:

«وعلّة تحریم الرّبا ...

لعلّة ذهاب المعروف، ... وترکهم القرض، والقرض صنائع المعروف»(1).

وفی روایة یقول الإمام الصادق علیه السلام:

«إنّما حرّم اللَّه الرّبا کیلا یمتنعوا من صنائع المعروف»(2).

والنقطة الجدیر بالذکر هنا أنّ الکثیر من الروایات الإسلامیّة تؤکد علی طلب الرزق الحلال، یعنی الکسب المقترن مع مراعاة القیم الأخلاقیّة، سواء فی المسائل الواجبة الإلزامیّة أو فی المسائل المستحبة والمندوبة، وعلی سبیل المثال:

ینقل الإمام الکاظم علیه السلام عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«العبادة سبعون جزء، أفضلها جزءاً طلبُ الحلال»(3).

وورد فی وسائل الشیعة باب تحت عنوان «باب إستحباب الإجمال فی طلب الرّزق، ووجوب الإقتصار علی الحلال دون الحرام» وذکر فیه روایات عدیدة ترتبط بهذه الموضوع (4).

ونقرأ فی روایة أخری:

«إن اللَّه یحبّ أن یری عبده تعباً فی طلب الحلال»(5).

إنّ مراعاة الأخلاق فی المراحل المختلفة للانتاج والتوزیع مع رعایة الأحکام الخاصّة فی باب التجارة ینتهی بالإنسان إلی تحصیل الرزق الحلال رغم أنّ رعایة الأخلاق المستحبة فی التجارة غیر الزامیّة، وعدم رعایتها لا یستوجب الحرمة، ولکن مراعاتها یترتب علیه برکات معنویّة(6) ومادیّة(7) فی حرکة الحیاة وترغیب الإسلام بهذه الأمور یعتبر امتیازاً آخر للاقتصاد الإسلامی بالنسبة للنظم الاقتصادیّة فی عالمنا الحالی.

وبدیهی أنّ ا لنظام الاقتصادی الذی یدعو أتباعه ویحثهم علی طلب رزق الحلال فإنّ أتباع هذا النظام سیتجنبون الوقوع فی ورطة النفعیّة والربح الأکثر مع التعب الأقل وتراکم الثروة حتی لو کانت علی حساب مصالح الآخرین والإضرار بهم.

سیادة الأخلاق فی النظام الاقتصادی الإسلامی:

وبعد بیان هذه المقدمات نصل إلی سیادة الأخلاق فی النظام الاقتصادی الإسلامی ودورها فی مجال الإنتاج والتوزیع (/ المعاملات) والاستهلاک:


1- وسائل الشیعة، ج 12، ص 425، ح 11.
2- المصدر السابق، ص 424، ح 9.
3- بحار الأنوار، ج 100، ص 18، ح 80.
4- وسائل الشیعة، ج 12، ص 27( باب 12 من أبواب مقدمات التجارة). وورد فی کنز العمال( ج 4، ص 4) أیضاً باب تحت عنوان« فی فضائل الکسب الحلال» روایات عدیدة ترتبط هذا الموضوع أیضاً.
5- کنز العمال، ج 4، ص 4، ح 9200 عن الإمام علی علیه السلام.
6- مثلًا ورد فی روایة فی شأن قبول الإقالة عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال:« أیّما عبداً قال مسلماً فی بیع أقاله اللَّه عثرته یوم القیامة».( وسائل الشیعة، ج 12، ص 286، ح 2).
7- وعلسی سبیل المثال ونقرأ فی روایة عن الإمام علی علیه السلام« کان علی علیه السلام یأتی السوق فیقول: یاأهل السوق اتقوا اللَّه، وإیّاکم والحلف، فإنّه ینفق السلعة ویمحق البرکة».( انظر: بحار الأنوار، ج 100، ص 102، ح 44).

ص: 357

البحث الأوّل: سیادة الأخلاق فی مجال الإنتاج

1. اجتناب المنتجات المضرّة

إنّ العالم المادی لا یلتفت ولا یهتم فی منتجاته إلی حالات الضرر الناشی ء منها للمستهلکین، ومن هذه الجهة فإنّ المزارع والمصانع ومصادر الإنتاج فی العالم المادی تنتج محصولات لها آثار مضرة للمستهلکین وحتی أنّها قد تؤدّی إلی موتهم (1).

وأحیاناً یتمّ التوافق بین هذه الشرکات وأصحاب الرسامیل مع منظمات التدقیق والضبط والتی یصطلح علیها «استاندارد» وبذلک یتمّ عرض المنتجات المضرّة لهذه الشرکات فی السوق العالمی لمجرّد أنّها تدرّ علیهم أرباحاً وفیرة، فی حین أنّ النظام الإسلامی یمنع إنتاج المواد المضرّة بالناس والبیئة، فالإسلام یطلب من الناس إحیاء وإعمار الأرض ویقول:

«هُوَ أَنشَأَکُمْ مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَکُمْ فِیهَا»(2).

وینهی الإسلام عن الفساد فی الأرض ویذم بشدّة المفسدین ویهددهم بالعذاب الإلیم فی الآخرة:

«...

وَیُفْسِدُونَ فِی الْأَرْضِ أُوْلَئِکَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ»(3).

یقول القرآن الکریم فی وصفه لأحد المنافقین فی عصر رسول اللَّه صلی الله علیه و آله:

«وَإِذَا تَوَلَّی سَعَی فِی الْأَرْضِ لِیُفْسِدَ فِیهَا وَیُهْلِکَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَایُحِبُ


1- ومنها إنتاج المخدرات، حبوب الهلوسة، المشروبات الکحولیة، أسلحة الدمار الشامل، الأغذیة المضرة. أحیاناً تقوم بالبلدان الصناعیّة بتجربة الأدویة علی البلدان الفقیرة فی بدایة الأمر وبعد الاطمئنان من فاعلیة الدواء وسلامته یتمّ الاستفادة منه فی بلدانهم. أحیاتناً یتوجه ضرر بعض صناعاتهم نحو البیئة والحیوانات بل نحو الکرة الأرضیة من قبیل الغازات المتصاعدة من المصانع والتی أدّت إلی تخریب طبقة الاوزون ممّا انعکست آثارها المخربة علی جمیع الکرة الأرضیّة والأحیاء فیها. « وعلی أساس تقاریر الامم المتحدة، فإنّ 98 فی المائة تقریباً من ثانی اوکسید الکاربون وسائر الغازات المضرّة الأخری ناتجة من البلدان الصناعیّة وفقط 2 فی المائة من إنتاج بلدان العالم الثالث. إنّ المصانع الضخمة فی البلدان الصناعیّة تنتج القسم الأعظم من الزبالة الکیمیائیّة فی العالم، والمراکز العسکریّة عندهم تنتج 99 فی المائة من المخلفات المشعة». واللافت أنّ بعض علمائهم یستخرون علانیة من سلامة البیئة ویتهمون الآخرین بأنّهم لا یعیرون أهمیة للتطور العلمی ویریدون العودة إلی الطبیعة. العالم الأمریکی« بورلوک» المعروف بأب الثورة الخضراء استهزأ علناً فی خطابه فی منظمة الغذاء العالمی(O .A .F ) عام 1971 بانصار حفظ البیئة. وبعد 21 سنة واصل« لسترتارو» المشاور الاقتصادی لبیل کلنتون رئیس جمهوریة أمریکا الأسبق هذا الشعار وقال:« فی المستقبل تحل امنتجات البشر محل مواهب الطبیعة» وفی کتابه« المواجهة الکبیرة» وضمن استهزائه بمن یقول بلزوم إنقاذ العالم یقول:« إنّ المنابع الطبیعیّة الغیت عملًا من ساحة المنافسة وإمتلاکها لا یعد طریقاً إلی الثروة وعدمها أیضاً لا یعد مانعاً من الثراء»( انطر: مبانی سلامة البیئة فی الإسلام، ص 15 و 16). الواقع أنّ مثل هؤلاء العلماء ومثل هذه البلدان یعیشون الرؤیة المادیة للحیاة ولا یفکرون إلّابالمادة والملذات المادیة. أجل، فعندما یقاس کلّ شی ء بمقیاس المال والنفع المادی یتمّ الغفلة عن الأضرار المترتبة علی المنتجات الصناعیّة للبشر، یقول البرت انشتاین فی کتابه« العالم الذی أعرفه»:» إنّ التقدم التکنولوجی وبواسطة الأجهزة والمکائن الضخمة بدلًا من إنتاج الوسائل الضروریة للحیاة أنتج مواد تقضی علی الإنسانیّة من جذورها»( المصدر السابق، ص 19).
2- سورة هود، الآیة 61.
3- سورة الرعد، الآیة 25.

ص: 358

الْفَسَادَ»(1).

وتعتبر هذه الآیة أنّ إهلاک وتلویث البیئة والإضرار بالنباتات والحیوانات، تعتبر المصداق البارز لمقولة «الفساد فی الأرض» وتنهی عنه بشدّة لأنّ الآیة التالیة تهدد هذا الشخص بالنار والعذاب الألیم یوم القیامة، وتقول:

«وَإِذَا قِیلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ»(2).

وقد تحرک الإسلام بوضع قاعدة «لا ضرر ولا ضرار فی الإسلام»، لمنع هذا النمط من الإضرار بالبیئة والأحیاء، وطبقاً لهذه القاعدة التی تعتبر من القوانین المهمّة والحاکمة علی سائر القوانین، فإنّ کلّ مضرّ، سواءً فی مرحلة الوضع أو فی مرحلة الإجراء لیس له مشروعیّة، وطبقاً لهذه القاعدة فإنّ الناس لا یحق لهم الإضرار ببعضهم البعض، وهذا القانون یمنع کلّ ما یؤدّی إلی الإضرار بالناس والبیئة والمجتمع البشری ویشمل قطعاً إنتاج المواد والمنتوجات المضرّة أیضاً(3).

إنّ مواجهة الإسلام وتحریمیه لانتاج المشروبات الکحولیّة، القمار وأمثال ذلک وتحصیل الثروة من هذا الطریق من شأنه أن یصبّ فی هذا الاتّجاه وبهذا المنطق یمکن منع إنتاج المخدرات وحبوب الهلوسة وأمثالها ومنع زراعتها وانتاجها، یقول القرآن الکریم بالنسبة لأضرار المشروبات الکحولیّة والقمار:

«وَإِثْمُهُمَا أَکْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا»(4).

2. استحکام المنتوجات

ن الموارد التی أکد علیها الإسلام کثیراً، اتقان العمل والدقّة فی الإنتاج، ویحذر الإسلام من المنتوجات الزائفة والمخالفة للمقاییس المطلوبة.

ویعتبر القرآن الکریم أفضل إلهام للمسلمین فی هذا المجال لأنّه یقول بصراحة: إنّ جمیع مصنوعات اللَّه تعالی فی عالم الوجود تملک اتقاناً واستحکاماً ونظم خاص، ومن ذلک ما ورد فی الآیة 88 من سورة النمل:

«وَتَرَی الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِیَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِی أَتْقَنَ کُلَّ شَیْ ءٍ إِنَّهُ خَبِیرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ».

وعندما یذکر القرآن الکریم أنّ خلق اللَّه فی عالم الوجود یملک مثل هذا الاتقان والدقّة، فإنّ ذلک یعطینا درساً بأن تنسجم أعمالنا مع نظام عالم الوجود فنبدأ بالعمل باتقان ونختمه باتقان أیضاً.

وقد ورد عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله فی هذا الصدد:

«ولکنّ اللَّه یحبّ عبداً إذا عَمِل عملًا أحکمه»(5).

ویقول النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله فی بیان آخر:

«إذا عَمِل أحدکم عملًا فَلْیُتْقِن»(6).

وهذا الکلام لرسول اللَّه صلی الله علیه و آله قاله عند ترمیم قبر، فعندما یهتم النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله بقبر المیت الذی سیتحلل جسده علی أیّة حال عاجلًا أم آجلًا فبالضرورة یهتم النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله بمراعاة الاتقان والاستحکام فی


1- سورة البقرة، الآیة 205.
2- سورة البقرة، الآیة 206.
3- وللمزید من الاطلاع علی منبع ومصدر لهذه القاعدة ومفادها انظر: القواعد الفقهیة، تألیف آیة اللَّه مکارم الشیرازی، ج 1، قاعدة« لا ضرر».
4- سورة البقرة، الآیة 219.
5- وسائل الشیعة، ج 2، ص 884، ح 2.
6- المصدر السابق، ص 883، ح 1.

ص: 359

الأعمال المتعلقة بأمور الحیاة الفردیّة والجمعیّة وتحظی باهتمام الإسلام أکثر.

البحث الثانی: سیادة الأخلاق فی المعاملات

اشارة

وقد وردت فی هذا المجال تعلیمات وتوصیات کثیرة فی المصادر الدینیّة والتی تحکی بأجمعها عن أهمیّة إرتباط الأخلاق بالاقتصاد فی الإسلام، ونقرأ فی دستور عام وکلّی عن الإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام:

«... واستعمل فی تجارتک مکارم الأخلاق، والأفعال الجمیلة للدّین والدّنیا»(1).

وقد وردت أیضاً فی موارد مشخصة توصیات وروایات متعددة نشیر هنا إلی جملة منها:

1. إجتناب التکاثر والطمع فی المزید
اشارة

من الأمور التی تعتبر مصادیق وإفرازات لهذه الخصلة الذمیمة التی ورد النهی عنها أو ذمها، کالتالی:

أ) الغشّ فی المعاملات

کلمة «غشّ» فی لغة ضد النصح (الإخلاص) ویعنی غیر الخالص (2) وفی اصطلاح الروایات والفقهاء یأتی بمعنی خلط السلعة مورد المعاملة مع أمور تخفی عن نظر المشتری، مثل خلط الماء باللبن، أو خلط المبیع غیر المرغوب مع المبیع المرغوب، وعرضه فی السوق بقیمة جیدة «مثل خلط السمن غیر المرغوب بالسمن المرغوب» ووضع بعض الأشیاء «مثل الحریر» فی مکان بارد ومرطوب لکی یتسبب فی ثقل وزنه، وهی أیضاً من مصادیق الغش (3).

ویمکن القول إنّ من مصادیق الغش أیضاً فی عصرنا الحاضر، تسلیط الأضواء علی السلع لیزداد بریقها وتظهر بشکل جذّاب للمشتری.

والغش حرام بإجماع الفقهاء واستدلوا علی حرمته بروایات مستفیضة ومتواترة(4)، وهذا الموضوع إلی درجة من الأهمیّة أنّه طبقاً لبعض الروایات فإنّ الشخص الذی یرتکب الغش من المسلمین فإنّه لیس بمسلم (5).

وفی هذا الموضوع وردت روایات کثیرة أخری منها: أنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله قال:

«لا غِشّ بین المسلمین، من غَشّنا فلیس منّا»(6).

ویستفاد أیضاً من بعض الروایات الإسلامیّة أنّ النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله کان یشرف علی هذا العمل شخصیاً فإذا واجه موارد مشکوکة فإنّه یقوم بالتحقیق فیها ویحذر الشخص المرتکب للغش، ومن ذلک أنّه صلی الله علیه و آله مرّ یوماً علی رجل یبیع طعاماً، فشعر النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله هذا الطعام یختلف ظاهره عن باطنه، فأدخل یده داخل هذا الطعام ورأی الحال کما تصور فقال:

«لیس منّا من غشّ»(7)

، وهذا المضمون ورد فی روایات متعددة فی


1- بحار الأنوار، ج 100، ص 99.
2- لسان العرب، مادة« غش».
3- المکاسب للشیخ الأنصاری، ج 1، ص 271.
4- جواهرالکلام، ج 22، ص 111.
5- کنز العمال، ج 4، ص 60، ح 9512.
6- سنن الدارمی، ج 2، ص 248.
7- سنن ابن ماجة، ج 2، ص 749، ح 2224.

ص: 360

مصادر أهل البیت علیهم السلام (1).

ب) الإحتکار وإیجاد السوق السوداء

الإحتکار فی الأصل من مادة «حُکر» ویعنی الإدّخار وحفظ وخزن الأشیاء(2) وفی اصطلاح الفقهاء یعنی «شراء البضائع فی حال الغلاء وحاجة الناس لها، وحفظها وخزنها لغرض زیادة قیمتها»(3).

وقد نهی الإسلام بشدّة عن الإحتکار وقام بتحریمه فی موارد ترتبط بالحاجات الضروریّة للناس (4).

ونقرأ فی روایة عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«الجالب مرزوق، والمحتکر ملعون»(5).

ویقول الإمام علی علیه السلام:

«الإحتکار شیمة الفجّار»(6)

، وفی هذا المجال وردت روایات کثیرة فی المصادر الروائیّة.

وأحیاناً لا یحتکر الباعة المتاع والبضاعة ولکنّهم یتبانون فیما بینهم بأن یبیعوه أکثر من قیمته الطبیعیّة ویلتزمون بأنّ لا یبیع أی واحد منهم هذه البضاعة بأقل من ذلک المبلغ، وهذا العمل یقع عادة فی موارد یکون


1- وسائل الشیعة، ج 12، ص 209 فصاعداً.
2- لسان العرب، مادة« حکر».
3- المجموع النووی، ج 13، ص 44.
4- وللمزید من الاطلاع عن معناه انظر: جواهرالکلام، ج 22، ص 477؛ المجموع النووی، ج 13، ص 44.
5- الکافی، ج 5، ص 165، ح 6؛ سنن الدارمی، ج 2، ص 245.
6- غرر الحکم، ص 361، ح 8203.

ص: 361

الطلب علی البضاعة أکثر بکثیر من واقع الحال، وهذا بدوره یعتبر عاملًا لإیجاد السوق السواء وهو المتداول فی عالمنا الحالی وخاصّة فی البلدان الصناعیّة، وهذا العمل ممنوع أیضاً فی الا سلام.

وقد ورد فی روایة عن أبی جعفر القراری قال:

دعا أبوعبداللَّه (الإمام الصادق علیه السلام) مولی له یقال له:

«مصادف»، قأعطاه ألف دینار وقال له: تجهّز حتی تخرج إلی مصر فإنّ عیالی قد کثروا، فتجهّز بمتاع وخرج مع التجّار إلی مصر؛ فلمّا دنوا من مصر استقبلهم قافلة خارجة من مصر؛ فسألوا عن المتاع الذی معهم ما حاله فی المدینة (یعنی مصر) وکان متاع العامّة فأخبروهم أنّه لیس بمصر منه شی ء فتحالفوا وتعاقدوا علی أن لا ینقصوا متاعهم من ربح الدینار دیناراً، فلمّا قبضوا أموالهم وانصرفوا إلی المدینة فدخل مصادف علی أبی عبداللَّه (الإمام الصادق علیه السلام) ومعه کیسان فی کلّ واحد ألف دینار فقال: جعلت فداک هذا رأس المال وهذا الآخر ربح، فقال علیه السلام: إنّ هذا الربح کثیر ولکن ما صنعته فی المتاع؟ فحدّثه کیف صنعوا وکیف تحالفوا: فقال علیه السلام:

«سبحان اللَّه تحلفون علی قوم مسلمین أن لا تبیعوهم إلّاربح الدینار دیناراً».

ثمّ أخذ أحد الکیسین فقال علیه السلام:

«هذا رأس مالی ولا حاجة لنا فی هذا الربح»

ثمّ قال علیه السلام:

«یا مصادف مجادلة السّیوف أهون من طلب الحلال»(1).

وهذا الدستور الأخلاقی یبیّن بجلاء اختلاف النظام الإسلامی عن النظم الاقتصادیّة فی عالمنا المعاصر التی تبیع أحیاناً البضاعة لیست بضعفی رأس المال بل بإیجاد السوق السوداء تبیعها بعدّة أضعاف.

وقد ورد فی التعالیم الإسلامیّة عقوبات خاصّة للمحتکرین، یقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی عهده لمالک الأشتر:

«فمن قارف حُکْرَة بعد نهیک إیّاه فنکِّل به، وعاقبه فی غیر إسراف»(2).

وبعض العقوبات المترتبة علی الإحتکار تفریغ مخازن المحتکر وعرض البضاعة المخزونة إلی السوق، یقول الإمام علی علیه السلام مخاطباً لأحد عمّاله فیما یتصل بالمحتکر:

«... ثمّ عاقبه بإظهار ما احْتکر»(3).

وجاء فی روایة أخری عن أمیرالمؤمنین علی علیه السلام أنّ النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله:

«إنّ رسول اللَّه مرّ بالمحتکرین، فأمر بحُکرتهم أن تخرج إلی بطون الأسواق وحیث تنظر الأبصار إلیها»(4).

أمّا ما هی الموارد التی یشملها حکم الإحتکار وما هی شروطه وقیوده وحدوده وما هی الأقسام التی تتعلق بها حرمة الإحتکار وکیفیة معاملة المحتکرین، وبشکل عام ما هی أحکام الإحتکار؟ فقد وردت کلّها فی الکتب الفقهیّة لفقهاء مدرسة أهل البیت علیهم السلام وفقهاء أهل السنّة بالتفصیل (5).

ج) تلقّی الرکبان

المراد من «تلقّی الرکبان» هو أنّ تذهب جماعة من النفعیین الذین یعلمون بقیمة البضائع فی مدینة معینة خارج هذه المدینة لاستقبال القوافل التجاریّة وشراء الأجناس التی یحملونها بقیمة زهیدة ثمّ یجعلون بیعها حصراً بهم ویبیعونها بأسعار عالیّة فی المدینة(6).

وهذا العمل یورث الضرر من جهة لأصحاب البضاعة لأنّهم غیر مطلعین علی قیمة البضاعة فی تلک المدینة، ولذلک ورد فی الروایات أنّ لهم خیار فسخ المعاملة بشروط معینة(7)، ومن جهة أخری أنّ هذا العمل یتسبب فی حصر بیع البضاعة فی دائرة مغلقة وإیجاد سوق سوداء للمستهلکین (8)، ولذلک ورد فی الروایات النهی عن هذا العمل رغم أنّ الفقهاء مختلفون بالنسبة لحرمة أو کراهة هذا العمل (9)، ولکن لا شک فی أنّ هذا العمل غیر محبذ:

1. یروی أبوهریرة عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أنّ قال:

«لا تلقّوا الرّکبان»(10).

2. وکذلک ورد عنه صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«لا یبیع بعضکم علی بیع بعض ولا تلقوا السّلع حتی یهبط بها إلی


1- الکافی، ج 5، ص 161، ح 1.
2- نهج البلاغة، الکتاب 53.
3- مستدرک الوسائل، ج 13، ص 277، ح 1.
4- وسائل الشیعة، ج 12، ص 317، ح 1.
5- انظر: جواهر الکلام، ج 22، ص 470 فصاعداً؛ المجموع النووی، ج 13، ص 44.
6- انظر: المکاسب للشیخ الأنصاری، ج 4، ص 349؛ مغنی المحتاج، ج 2، ص 36؛ فتح العزیز الرافعی، ج 8، ص 218.
7- انظر: مستدرک الوسائل، ج 13، ص 281، ح 3؛ مسند أحمد، ج 2، ص 284.
8- ورد فی روایة الإشارة إلی هذا الأمر انظر: مستدرک الوسائل، ج 13، ص 281، ح 2.
9- انظر: بدایة المجتهد، ج 2، ص 133؛ المغنی لابن قدامة، ج 4، ص 281؛ المجموع للنووی، ج 13، ص 23؛ جواهرالکلام، ج 22، ص 461؛ مکاسب الشیخ الأنصاری، ج 4، ص 349.
10- صحیح البخاری، ج 3، ص 27.

ص: 362

السّوق»(1).

3. وقال الإمام الصادق علیه السلام لأحد أصحابه:

«لا تلق ولا تشتر ما تلقی ولا تأکل منه»(2)

، أی لا تلقی القافلة التجاریّة فی خارج المدینة ولا تشتری منها.

د) بیع الحاضر للبادی

والمراد من هذا العنوان هو أنّ الأفراد الساکنین بالمدینة یشترون محصولات المزارعین لقریتهم ویبعونها للآخرین (3)، وبالنتیجة ترتفع قیمة هذه المحصولات بواسطة هؤلاء الباعة لإیصالها إلی ید المشتری وهو الشی ء الذی یبتلی فیه مجتمعنا والکثیر من المجتمعات الأخری حیث إنّ أصحاب رؤوس الأموال یتوجهون بأموالهم إلی المنتجین، وهم القاطنین فی الریف، ویشترون منهم محاصیلهم الزراعیّة بثمن بخس، وأحیاناً یقومون بخزنها وحفظها إلی أن ترتفع أسعارها (وبذلک تضاف إلی هذه الحالة مسألة الإحتکار أیضاً) وأحیاناً أخری ینقلون المحاصیل مباشرة إلی سوق المدینة ویبیعونها بربح وافر.

والإسلام یرفض مثل هذا التطفل فی عملیّة الإنتاج بحیث یتمّ الفصل بین المنتج والمستهلک وینتفع


1- المصدر السابق، ص 28.
2- وسائل الشیعة، ج 12، ص 325، ح 2.
3- انظر: بدائع الصنائع، ج 5، ص 232؛ المغنی لابن قدامة، ج 4، ص 279 و 280 و منتهی المطلب، ج 2، ص 1005.

ص: 363

بذلک جماعة من الناس وهم الوسطاء دون أن یقدّموا عملًا إیجابیاً ومنتجاً ویربحون بمجرّد کونهم واسطة، وهذا هو الشی ء الذی ورد فی الفقه بعنوان: «بیع الحاضر للبادی».

وذهب مشهور فقهاء مدرسة أهل البیت علیهم السلام إلی کراهة هذا العمل، وجماعة أخری من کبار العلماء أفتوا بحرمته (1)، ومن بین فقهاء أهل السنّة أیضاً یعتقد جماعة منهم بالکراهة، وبعض آخر ذهب إلی الجواز، وطائفة ثالثة أفتوا بحرمته بشروط(2) وقد ورد فی روایة عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«لا یبیع حاضر لباد، والمسلمون یرزق اللَّه بعضهم من بعض»(3).

وفی الحقیقة فإنّ حذف الواسطة أو علی الأقل تقلیل الوسائط یتسبب فی ربح أکثر للمنتج القروی من جهة، ومن جهة أخری تصل هذه المحصولات بقیمة أقل لید المستهلکین.

وفی روایة عن یونس (یونس بن عبدالرّحمن وهو من أصحاب الإمام الکاظم والإمام الرضا علیهما السلام البارزین) فی تفسیر کلام النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله:

«لا یبیعنّ حاضر لباد»

قال علیه السلام:

«إنّ الفواکه وجمیع الغلّات إذا حملت من القُری إلی السّوق فلا یجوز أن یبیع أهل السّوق لهم من النّاس، ینبغی أن یبیعه حاملوه من القری والسّواد، فأمّا من یحمل من مدینة إلی مدینة فإنّه یجوز، ویجری مجری التّجارة»(4).

وجاء فی مصادر أهل السنّة أیضاً أنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«لا یبیع حاضر لباد، دعوا النّاس، یرزق اللَّه بعضهم من بعض»(5).

وورد فی المغنی لابن قدامة فی شرح هذا الحدیث:

«متی ترک البدوی یبیع سلعته إشتراها النّاس برُخَص ویسع علیهم السّعر؛ فإذا تولّی الحاضر بیعها وامتنع من بیعها إلّابسعر البلد ضاق علی أهل البلد»(6).

وطبعاً ینبغی الالتفات هنا إلی أنّ عمل الواسطة له أنواع وأقسام مختلفة، ودور الوسائط بوصفهم مشترین وامناء وحقّ العمل مختلف، ولکنه فی جمیع الموارد ینتهی بضرر البائع الأصل والمنتج وکذلک المستهلک.

ه) الربح العادل

إنّ اقتران المسائل الأخلاقیّة بمسألة الربح فی المعاملة أمر مشهود تماماً فی الإسلام، وفی روایة مشهورة عن أمیرالمؤمنین علی علیه السلام یبیّن فیها أبعاد هذه المسأله بشکل إجمالی، وأنّ الربح الناشی ء من المعاملة یجب أن یکون بشکل لا یلحق الضرر بالمنتج والبائع ولا بالمستهلک، یعنی لزوم رعایة العدالة فی هذا المجال، یقول الإمام علی علیه السلام فی عهده لمالک الأشتر:

«ولیکن البیع بیعاً سمحاً بموازین عدل وأسعار لا تُجحف بالفریقین من البایع والمبتاع»(7).

وهذا علی خلاف ما هو متداول فی عالمنا الیوم، فالبائعون یصرّون علی رفع أسعار بضاعتهم ما أمکنهم ذلک، وخاصّة فی مسألة المنتوجات الصناعیّة الجدیدة التی لا تعرفها شعوب العالم الثالث، ولهذا السبب فإنّ الفاصلة الاقتصادیّة بین البلدان الرأسمالیّة والصناعیّة مع البلدان العالم الثالث تزداد یوماً بعد آخر(8).

واللافت أنّ الإسلام یوصی بأن یأخذ الباعة بنظر الاعتبار مقدار جاحتهم المعیشیة فی واقع الحیاة وفی معاملاتهم وربحهم من البضاعة، بل ورد فی روایات عدّة أنّ الربح الأکثر یعتبر من الربا، کما ورد فی حدیث النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله:

«ربح المؤمن علی المؤمن ربا»(9)

(وطبعاً فالمراد هنا الربح أکثر من نفقات الحیاة).

وفی حدیث آخر عن الإمام الصادق علیه السلام قال:

«ربح المؤمن علی المؤمن ربا إلّاأن یشتری بأکثر من مائة درهم، فاربح علیه قوت یومک أو یشتریه للتجارة


1- انظر: جواهر الکلام، ج 22، ص 461.
2- انظر: المغنی لابن قدامة، ج 4، ص 280.
3- وسائل الشیعة، ج 12، ص 327، ح 1.
4- المصدر السابق، ح 3.
5- سنن النسائی، ج 7، ص 256. وورد بهذا المضمون وفی الصفحة المذکورة أحادیث عدیدة.
6- المغنی لابن قدامة، ج 4، ص 279.
7- نهج البلاغة، الکتاب 53.
8- فی حین أنّ نصف سکان العالم یحصلون علی أقل من 10 بالمئة من العوائد المالیة فی العالم یحصل سکان البلدان الثریّة- الذی یبلغ عددهم 25 بالمئة من سکان العالم- علی ثلاثة أرباع العوائد المالیة فی العالم. وطبقاً لدراسات البنک العالمی فإنّ المنتوج القومی الخام لکل شخص فی 19 بلد من البلدان الصناعیّة فی عام 1980 بلغ أکثر من 6658 دولاراً، فی حین أن متوسط المنتوج القومی للفرد فی 63 بلداً بلغ 903 دولار تقریباً، وفی 32 بلد من البلدان الفقیرة بلغ 168 دولار وعلی ضوء ذلک تبلغ الفاصل الموجود بین دخل الفرد فی البلدان المتقدمة والفرد فی البلدان الفقیرة 40 ضعفاً. ( انظر: السیاسة الاجتماعیّة فی البلدان النامیّة( سیاست اجتماعی در کشورهای در حال توسعه) بالفارسیّة، تألیف آرتور آ. لیوینگستون، ترجمة الدکتر حسین العظیمی، ص 84 و 184).
9- بحار الأنوار، ج 100، ص 103، ح 48.

ص: 364

فاربحوا علیهم وارفقوا بهم»(1).

وفی هذا الحدیث نری أنّ الإمام علیه السلام قسّم المعاملات إلی ثلاثة أقسام:

1. المعاملات الصغیرة التی یتعامل فیها الأشخاص الفقراء والمحتاجون فقد وردت التوصیة بعدم أخذ أی ربح منهم، وفی اصطلاح یبیعونهم برأس المال.

2. الأشخاص الذین یملکون القدرة أکثر علی الشراء، فینبغی أخذ ربح عادل منهم وبمقدار الحاجة الیومیّة ویضاف إلی أصل رأس المال.

3. وفئة أخری یشترون بضاعة من شخص آخر بعنوان التجارة، وبالنسبة لهؤلاء أیضاً ینبغی أخذ ربج عادل مقترن بالإرفاق والانصاف.

إنّ ما ورد أعلاه بالرغم أنّه لا یعتبر حکماً إلزامیاً وإجباریاً ولکن لا شک أنّه من المسائل الحمیدة وینبغی للمسلمین الالتزام بهذه التوصیة(2).

2. عدم الدخول فی معاملات الآخرین

ومن الأمور التی نهی عنها الإسلام، أن یدخل الفرد فی معاملة أخیه المسلم یعنی بعد توافق الطرفین أو بعد إجراء مقدمات العقد من مناقشة وبحث، یدخل هذا الشخص فیما بینهما ویعلن استعداده للدخول فی المعاملة وأحیاناً بدفع سعر أکثر یقوم بتخریب التوافق بین المتعاملین وبالتالی یتسبب فی زیادة القیمة.

والسؤال هنا، هل أنّ مثل هذا العمل حرام أو مکروه؟ ثمة خلاف بین فقهاء الإسلام، فبعض ذهب إلی حرمته مطلقاً، وبعض إلی الکراهة(3)، وبعض آخر


1- الکافی، ج 5، ص 154، ح 22.
2- انظر: جواهر الکلام، ج 23، ص 454- 455.
3- انظر المصدر السابق: ج 22، ص 459.

ص: 365

قال بالتفصیل، ففی بعض الموارد یکون حراماً وفی بعض الآخر یکون مکروهاً، وسیأتی شرح هذه المسألة فی البحوث الفقهیّة اللاحقة.

قال رسول اللَّه صلی الله علیه و آله:

«لا یبیع بعضکم علی بیع بعض»(1).

ویروی الإمام الصادق علیه السلام عن آبائه أنّه:

«نهی رسول اللَّه أن یدخل الرّجل فی سوم أخیه المسلم»(2).

هذا فی حین أنّ العالم المادی الیوم لیس فقط یبیح الدخول فی معاملات الآخرین وخاصّة المعاملات الکبیرة، بل یسعی بشتی الحیل وباعطاء امتیازات کبیرة لاختطاف المعاملات من الآخرین ویعتبر ذلک نوعاً من الذکاء فی المسائل الاقتصادیّة، وأحیاناً تقوم شرکة ببذل جهد کبیر لإنجاز معاملة اقتصادیّة وتستغرق عدّة شهور من العمل والمناقشات، وفجأة یصل المنافس ویختطف هذه المعاملة لصالحه وبالتالی تواجه تلک الشرکة أنواعاً من الضرر والخسارة.

الشکل الآخر من الدخول فی المعاملة الآخرین یسمی «نَجْش».

و «نَجْش» فی اللغة یقصد منه دفع الصید من مکان إلی مکان آخر (لغرص صیده من قِبل الصیاد)(3)، وفی اصطلاح الفقهاء یطلق علی شخص الذی یدخل إلی معاملة بدون قصد الشراء ویقترح قیمة أعلی لخداع المشتری وإجباره علی الشراء بسعر أعلی، سواء کان قد اتّفق مع البائع أو لم یتفق (4).

وحرمة هذا العمل فی الجملة مورد اتّفاق فقهاء أهل البیت علیهم السلام وأهل السنّة، ولکن فیما یتصل بأقسام وشروط الحرمة ووجود خیار الفسخ للمشتری فثمة کلام وخلاف بین الفقهاء(5).

وقد ذکر الفریقان روایات فیما یتصل بهذه المسألة ومنها أنّ الإمام الصادق علیه السلام قال:

«قال رسول اللَّه صلی الله علیه و آله الواشمة والمتوشمة والناجش والمنجوش ملعونون علی لسان محمّد صلی الله علیه و آله»(6).

وفی روایة أخری قال رسول اللَّه صلی الله علیه و آله:

«لا تناجشوا ولا یبع المرء علی بیع أخیه»(7)

، (أی أن یقوم المری ء باخراج المعاملة من ید البائع ویدخل فی معاملة مع المشتری).

ومن المعلوم أنّ هذه الأمور غیر الأخلاقیّة تتسبب فی زیادة القیمة والعداوة والحقد، وأحیاناً تنتهی إلی النزاع بین الأفراد أو الحکومات، والإسلام یرفض هذا السلوک بشکل کامل.

وطبعاً فإنّ المزایدة أو المناقصة فی المعاملات والتی تجری بشکل مفتوح وفی الفضاء العام والعلنی والمنافسة البنّاءة تختلف کثیراً عن المسألة مورد البحث بشرط أن تقام المزایدة أو المناقصة بصورة سلیمة لا ما نجده متداولًا الیوم من جهة وجود تبانی خلف الستار فی هذه المزایدات والمناقصات ووجود حالات الخداع والغش فیها.

3. قبول الإقالة

إذا دخل شخص مع آخر فی معاملة ثمّ ندم علی ذلک، فقد أوصی الإسلام بقبول قوله وفسخ المعاملة.

وجاء فی روایة:

«إنّ رسول اللَّه لم یأذن لحکیم بن حزام فی تجارته حتّی ضمن له إقالة النّادم ...»(8).

وکذلک ورد فی الحدیث الشریف عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«من أقال نادماً بیعته أقال اللَّه عثرته یوم القیامة»(9).

وینبغی الالتفات إلی أنّ هذا الکلام فی صورة أن تکون المعاملة إلزامیّة وبدون توافق الطرفین لا یقع الفسخ وأساساً أنّ کلّ شکل من العفو والمرونة وعدم التشدد فی التجارة والبیع والشراء مورد رضا الإسلام، بمعنی أنّ الإنسان لا ینبغی أن یکون متشدداً فی المعاملة وبل یتعامل بحالة من الحلم والمرونة ولا یخلق مشکلة فی مسائل جزئیة ولغرض کسب ربح أکثر.


1- صحیح البخاری، ج 3، ص 28.
2- وسائل الشیعة، ج 12، ص 338، ح 3.
3- النهایة لابن الأثیر، مادة« نجش».
4- المکاسب المحرمة، الشیخ الأنصاری، ج 2، ص 63 و المجموع النووی، ج 13، ص 14- 15.
5- المجموع، النووی،، ج 13، ص 14- 15؛ جواهر الکلام، ج 22، ص 477.
6- وسائل الشیعة، ج 12، ص 337، ح 2.
7- صحیح مسلم، ج 4، ص 138.
8- صحیح مسلم، ج 4، ص 286، ح 1.
9- صحیح ابن حبان، ج 11، ص 404، باب الإقالة.

ص: 366

ویروی الإمام الصادق علیه السلام عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«السماحة من الرّباح، قال ذلک لرجل یوصیه ومعه سلعة یبیعها»(1).

4. الفضاء الروحانی للسوق

فی عالمنا المعاصر الذی تسود فیه الأفکار المادیّة علی المحافل الرأسمالیّة، فإنّ الأسواق والأمکنة الاقتصادیّة تتسم بکونها جافة جدّاً وعدیمة الرحمة وخالیة من العواطف الإنسانیّة والمعنویّة، وکلّ شخص یتحرک علی مستوی کسب ثروة أکثر، وهذه هی نتیجة التفکیر المادی، ومع الالتفات إلی هذه المسألة أنّ طبیعة السوق والتجارة تسهم فی تشدید الغفلة، والربح والبیع والشراء والمعاملة یلفت نظر الإنسان للدنیا وأحیاناً یؤدّی إلی عدم توجهه لمسائل الحلال والحرام ومراعاة موازین العدل والانصاف فی المعاملات (2)، وفی دائرة التعالیم الدینیّة وردت توصیات بذکر اللَّه وقراءة بعض الأدعیّة فی السوق وهذه بدورها تعتبر عاملًا مؤثراً جدّاً فی عدم الإنجرار وراء المادیات ومن شأنها تلطیف فضاء السوق وتضفی علیه روحانیّة خاصّة وتقرن الاقتصاد مع ا لأخلاق.

وفی هذا الشأن وردت عدّة أبواب من الروایات فی کتاب وسائل الشیعة ج 12 ونشیر هنا إلی نماذج من هذه المجموعة:

1. قال الإمام علی علیه السلام:

«أکثروا ذکر اللَّه إذا دخلتم الأسواق عند اشتغال النّاس فإنّه کفّارة للذّنوب وزیادة فی الحسنات ولا تُکتبوا فی الغافلین»(3).

2. وجاء فی روایة عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال:

«إذا اشتریت شیئاً من متاع أو غیره فکبّر ...»

. ثمّ فی سیاق کلامه ذکر الإمام علیه السلام دعاء(4).

3. ویوصی الإمام الباقر علیه السلام عند دخول السوق وعند المعاملة مع الناس بقراءة هذا الدعاء:

«اللّهم إنّی أسألک من خیرها وخیر أهلها، وأعوذ بک من شرّها وشرّ أهلها»(5).

وفی مصادر أهل السنّة أیضاً وردت أدعیة وأذکار عند دخول السوق (6)، ومنها ما ورد عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله عند دخول السوق بأن یقرأ هذا الدعاء:

«اللّهم إنّی أسألک من خیر هذا السوق، وأعوذ بک من الکفر والفسوق»(7).

وعلی أساس هذه التعالیم الدینیّة کان الکسبة والتجّار التقلیدین عندما یفتحون قفل باب الحانوت أو المتجر فإنّهم یرفعون أصواتهم بالأذکار والأدعیة


1- وسائل الشیعة، ج 12، ص 287، ح 2.
2- نقرأ فی روایة عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أنّه قال:« شرّ بقاع الأرض الأسواق وهو میدان إبلیس، یَغدُو برایته ویضع کرسیّه ویبثّ ذریّته، فبین مطفّف فی قفیز، أوطائش فی میزان، أو سارق فی ذارع، أو کاذب فی سلعته ... فلا یزال مع أوّل من یدخل، وآخر من یرجع» بحار الأنوار، ج 81، ص 11، ح 87.
3- الخصال، ص 614.
4- وسائل الشیعة، ج 12، ص 303، ح 1. وردت بهذا المضمون عدّة روایات فی باب 19 و 20.
5- المصدر السابق، ص 301، ح 1.
6- انظر: سنن ابن ماجة، ج 2، ص 752، ح 2235؛ کتاب الدعاء الطبرانی، ص 251.
7- کتاب الدعاء الطبرانی، ص 252.

ص: 367

وأحیاناً بصوت منخفض ویتعوذون من شرّ الشیطان وهوی النفس باللَّه تعالی وبذلک یعملون علی تنقیة روحهم وتطهیر قلبهم ولیتمکنوا من إقامة معاملات سلیمة ومورد رضا اللَّه تعالی.

البحث الثالث: سیادة الأخلاق فی عملیّة الاستهلاک

اشارة

إن الإسلام بالنسبة للاستهلاک أیضاً لم یجعل أیدی المستهلکین مفتوحة بحیث یجوز لهم أن ینتفعوا من أموالهم کیف ما شاؤوا وینفقونها بأی وسیلة واسلوب، بل ثمة توصیات وتعالیم دینیّة فی هذا الشأن، نشیر هنا إلی بعضها:

1. الاعتدال فی عملیّة الاستهلاک

إنّ الاعتدال فی الاستهلاک یعتبر من ضروریات المصرف ومورد تأکید الإسلام، فالاعتدال مطلوب سواء کان فی مصرف الطعام واللباس وأمثال ذلک، أم کان فی النفقات الجاریّة الأخری وحول مسألة الاعتدال فی الاستهلاک وردت أحادیث کثیرة وتعبیرات قویة تشیر إلی أنّ الاقتصاد السالم یقوم علی أساس الاعتدال فی المصرف والاستهلاک، فنقرأ فی حدیث عن رسول اللَّه أنّه قال:

«من اقتصد أغناه اللَّه»(1).

وجاء فی حدیث آخر عن الإمام علی علیه السلام

«الاقتصاد ینمی القلیل والإسراف یفنی الجزیل»(2).

وهذا الموضوع مهم إلی درجة أنّ النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله جعل الاعتدال فی المصرف نصف المعیشة وقال:

«الاقتصاد فی النفقة نصف المعیشة»(3).

وکما تقدّمت الإشارة إلیه فإنّ هذا الموضوع ورد بشکل واسع فی الأحادیث الإسلامیّة ونختم هذا البحث بروایة عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال:

«ضمنت لمن اقتصد أن لا یفتقر قال اللَّه عزوجل: «وَیَسْأَلُونَکَ مَاذَا یُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ»(4) والعفو الوسط وقال اللَّه

عزوجل: «وَالَّذِینَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ یُسْرِفُوا وَلَمْ یَقْتُرُوا وَکَانَ بَیْنَ ذَلِکَ قَوَاماً»(5) والقوام الوسط»(6).

ومع الالتفات إلی محدودیّة المنابع الطبیعیّة فی العالم وزیادة نفوس البشر بشکل تدریجی فیمکن بالاستلهام من التعالیم والتوصیات المذکورة ورعایة الاقتصاد والاعتدال فی المصرف والاستهلاک، أن ینتفع الجمیع من المواهب الطبیعیّة فی العالم وتنجو الأجیال اللاحقة من حالات الفقر والحاجة(7).

ومن موارد الاعتدال فی المصرف، اجتناب الإسراف والتبذیر، وقد ورد فی الإسلام الذم الشدید لحالات التبذیر والبذخ والإسراف فی الاستهلاک، فی حین أنّ العالم الرأسمالی الیوم لیس فقط یدعو المستهلکین إلی استهلاک أکثر بل من خلال الإعلان


1- میزان الحکمة، ج 3، ح 3342.
2- غرر الحکم، ح 8062.
3- کنز العمال، ج 3، ح 5434.
4- بقره، آیه 219.
5- فرقان، آیه 67.
6- من لا یحضره الفقیه، ج 2، ص 64، ح 1721.
7- وفیما یتصل بأمر الاعتدال فی المصرف انظر:« اجتناب کلّ أشکال من الإسراف» فی هذا الکتاب.

ص: 368

والتبلیغ الواسع یقوم بتشویق الناس للإسراف کیما تحصل الشرکات وأصحاب الرسامیل علی ربح أکثر، ومعلوم أنّ الإسلام حرّم الإسراف والتبذیر بکلّ أشکاله.

وأحد الشعارات المعروفة فی الإسلام والمقتبسة من القرآن الکریم:

«کُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا یُحِبُّ الْمُسْرِفِینَ»(1).

وهذه المسألة إلی درجة من الأهمیّة أنّ القرآن الکریم جعل المبذرین إخوان الشیاطین، الشیطان الذی تمرد علی خالقه وکفره بنعمه:

«إِنَّ الْمُبَذِّرِینَ کَانُوا إِخْوَانَ الشَّیَاطِینِ وَکَانَ الشَّیْطَانُ لِرَبِّهِ کَفُوراً»(2).

وفی الحقیقة أنّ الإسراف فی استهلاک الأجناس، یعتبر نوعاً من کفران النعمة، فکما أنّ الشیطان کفر بنعمة اللَّه ولم یشکرها، فإنّ المسرفین أیضاً باهدار الأموال وعدم المبالاة بهذه النعمة، فإنّهم یکفرون بالنعم الإلهیّة ولا یشکرونها، فی حین أنّ أحد أصول الاقتصاد فی العالم المعاصر هو دعوة المستهلکین بطرق مختلفة إلی زیادة الاستهلاک بل التوجه إلی الأشیاء والوسائل التی لیست بذات قیمة استهلاکیّة أو أنّها قلیلة القیمة.

وفی الروایات الإسلامیّة أیضاً نری بوضوح العلاقة بین الإسراف والفقر کما ورد فی حدیث عن أمیرالمؤمنین علی علیه السلام أنّه قال:

«إنّ السَّرَف یورث الفقر وإنّ القصد یورث الغنی (3).

وقد ورد فی الروایات الإسلامیّة بیان أهمیّة الاستهلاک والمصرف الصحیح للمواهب الإلهیّة إلی درجة أنّ الحدیث المعروف یقرر إلقاء الماء المتبقی فی الإناء أو إلقاء نواة التمر یعدّ من مصادیق الإسراف.

یقول سلیمان بن صالح: سألت الإمام الصادق علیه السلام عن أقل درجة من الإسراف؟ قال علیه السلام:

«... إهراقک فضل إنائک، وأکلک التّمر ورمْیک بالنّوی هیهنا وهیهنا»(4).

2. اجتناب الاستئثار

إنّ أحد المظاهر السیئة فی الاقتصاد العالمی المعاصر، حالة البخل والاستئثار، فأصحاب رؤوس الأموال فی العالم الرأسمالی الکبیر یسعون دائماً لحفظ أسرار ورموز التقنیة المتطورة لئلا تقع بید الآخرین، حتی بالنسبة للأدویّة التی تتوقف علیها حیاة الناس نری أنّ حالة البخل والاستئثار مشهودة.

إنّ إقتران هذه الرذیلة الأخلاقیّة بالمسائل الاقتصادیّة یعدّ أحد أسباب الفقر فی العالم الثالث وزیادة الفاصلة بین الشعوب الضعیفة والرأسمالیّة، فی حین أنّ القرآن الکریم ینهی بشدّة عن البخل فی الإنفاق، ویقول:

«هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِی سَبِیلِ اللَّهِ فَمِنْکُمْ مَّنْ یَبْخَلُ وَمَنْ یَبْخَلْ فَإِنَّمَا یَبْخَلُ عَنْ


1- سورة الأعراف، الآیة 31.
2- سورة الإسراء، الآیة 27.
3- الکافی، ج 4، ص 53، ح 8.
4- المصدر السابق، ج 6، ص 460. وفیما یتصل بنهی الإسلام عن الإسراف والتبذیر وکذلک ما ورد من الإحصاءات فیما یتصل بالاستهلاک فی العالم الغربی انظر بحث:« اجتناب کلّ أشکال الإسراف».

ص: 369

نَّفْسِهِ»(1).

وبدیهی أنّ البخل لا ینحصر بالأمور المالیّة، بل یشمل البخل فی العلوم والفنون المختلفة التی تقود المجتمع نحو التقدم والإزدهار الاقتصادی أیضاً، وهذا هو المرض الذی لا علاج له فی العالم المادی.

إنّ سعة مفهوم البخل الذی ورد النهی عنه یستفاد من المصادر القرآن الکریم وکذلک من الروایات الإسلامیّة الواردة فی المصادر الروائیّة المعروفة، فالقرآن الکریم یذم بشدّة الأشخاص الذین یمنعون الماعون ویجعلهم فی عرض المرائین ویقول:

«الَّذِینَ هُمْ یُرَاءُونَ* وَیَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ»(2).

وطبقاً لبعض الروایات الواردة فی تفسیر الماعون نقرأ هذا الحدیث الشریفه:

«هو القرض یقرضه، والمتاع یعیره، والمعروف یصنعه»(3).

ویحذر الإمام علی علیه السلام بشدّة من البخل ویعتبره الأساس لجمیع المساوی ء والعیوب ویقول:

«البخل جامع لمساوئ العیوب، وهو زمام یُقاد به إلی کلّ سوء»(4).

ویقول الإمام زین العابدین علیه السلام:

«أمّا حقّ مالک، فأن لا تأخذه إلّامن حلّه، ولا تنفقه إلّافی وجهه ... ولا تبخل به فتبوء بالحسرة والندامة مع التَّبَعة»(5).

ومضافاً إلی ذلک فإنّ البخل من قِبل الأغنیاء یستثیر غضب وحقد الفقراء وأحیاناً یتسبب فی طغیانهم علیهم وانتفاضتهم ضد الأغنیاء وبالتالی ستهدر فی هذا السبیل الکثیر من المنابع الاقتصادیّة، وکذلک فإنّ بخل الأثریاء یتسبب فی إنعدام الأمن فی


1- سورة محمّد، الآیة 38.
2- سورة الماعون، الآیة 6 و 7.
3- الکافی، ج 3، ص 498، ح 8؛ عن الإمام الصادق علیه السلام.
4- نهج البلاغة، الکلمات القصار، الکلمة 378.
5- بحار الأنوار، ج 71، ص 8.

ص: 370

المجتمع لأنّ الفقر سبب للمخالفات الأخلاقیّة الکثیرة.

والشاهد علی هذا الکلام ما ورد فی حدیث أمیرالمؤمنین علی علیه السلام أنّه قال:

«إذا بخل الغنیّ بمعروفه، باع الفقیر آخرته بدنیاه»(1).

3. دور المواساة فی البرامج الاقتصادیّة

إنّ کلمة «مواساة» لا محل لها من الإعراب فی الاقتصاد المادی بالعالم الحدیث، بل أحیاناً تکون مورد الاستهزاء والسخریّة وأنّه کیف یمکن توصیة الناس بأن یجعلوا الآخرین شرکاء فی أموالهم ویجلسوهم علی موائدهم؟

فی حین أنّ المواساة تعتبر من أهم المسائل الأخلاقیّة فی الاقتصادی الإسلامی، ویعتبرها الإسلام علامة الإخوة والمودة.

إنّ الإسلام لیس فقط یذم البخل بل یوصی المسلمین أن یتحرکوا فی علاقاتهم من موقع المساواة فی الأموال، یعنی أن الشخص المقتدر یعتبر الأشخاص المحتاجین شرکاء فی ماله ولا یغفل عن الاهتمام بأمورهم ویدعوهم للجلوس علی مائدته ویشارکونه فی النعم والمواهب التی رزقها اللَّه إیّاه بشکل واسع.

ویقرر الإمام الصادق علیه السلام أنّ المواساة للمحتاجین والمحرومین تعتبر من حقوق المسلم علی أخیه:

«والمواساة لأهل الحاجة»(2)

، ویعتبرها النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله علامة المؤمن الحقیقی:

«من واسی الفقیر من ماله وأنصف النّاس من نفسه فذلک المؤمن حقّاً»(3)

، ویعدّها أمیرالمؤمنین علی علیه السلام من أکثر العلامات تأثیر وحفظاً للُاخوة والمودة بین المسلمین:

«ما حُفظت الاخوّة بمثل المواساة»(4).

ونقرأ ما ورد عن الإمام الکاظم علیه السلام فی مقام جوابه عن سؤال رجل یدعی عاصم فی هذا الشأن فأجابه الإمام علیه السلام بقول:

«یا عاصم کیف أنتم فی التّواصل والتّواسی؟

قال عاصم:

«علی أفضل ما کان علیه أحد»

. قال علیه السلام:

«أیأتی أحدکم إلی دکّان أخیه أو منزله عند الضائقة فیستخرج کیسه ویأخذ ما یحتاج إلیه فلا ینکر علیه؟»

قال: لا، قال

«فلستم علی ما احبّ فی التّواصل»(5).

4. النفقات الممنوعة
اشارة

ثمة قوانین فی العالم الحالی، وإن کانت أخلاقیّة تقریباً، حاکمة ومهیمنة علی الإنتاج، یعنی أنّ المنتجین یعیشون بعض المحدودیات من جهة المحصولات والمنتجات وکمیتها وکیفیتها ولکنّهم فی مصارف الأموال الشخصیّة أحرار تماماً إلی درجة أنّهم أحیاناً ینفقون أموالهم فی موارد لا تتفق مع أی منطق، ولا أحد یمنع من ذلک، مثلًا نری أنّ قسماً مهماً من ثرواتهم یوصون بها للحیوانات، وبعد موتهم تکون حیواناتهم مالکة لثروات عظیمة، وأعمال أخری من هذا القبیل، فی حین أنّ الإسلام، کما یشرف ویراقب عملیّة الإنتاج، فإنّه یراقب أیضاً عملیّة الاستهلاک ویقرر سیادة الأخلاق فی کلا الموردین بشکل متساوٍ وقد وردت التوصیات الأکیدة فی تعالیم الإسلام فی هذا الشأن منها:

أ) اجتناب النفقات المضرّة

إنّ المستهلک فی نظر الإسلام وإن کان قد حصل علی أمواله عن طریق مشروع وقانونی إلّاأنّه لا یستطیع الاستفادة منها فی موارد مضرّة.

وقد ورد التصریح بهذا المعنی فی الروایات الشریفة أنّ استهلاک الأمور المضرّة یعدّ من مصادیق الإسراف الممنوع والمحرم.

یقول الإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام:

«... إنّما الإسراف فیما أتلف المال وأضرّ بالبدن»(6).

وهکذا ما ورد فی الروایة المعروفة فی تحف العقول عن الإمام الصادق علیه السلام قال:

«وکلّ شی ء تکون فیه المضرّة علی الإنسان فی بدنه فحرام أکله»(7).


1- نهج البلاغة، الکلمات القصار، الکلمة 372.
2- الکافی، ج 2، ص 175، ح 4.
3- المصدر السابق، ص 147، ح 17.
4- غرر الحکم، ح 9526.
5- بحار الأنوار، ج 71، ص 231 و 232.
6- مکارم الأخلاق، ص 57.
7- تحف العقول، ص 337.

ص: 371

ب) النفقات التی تتسبب فی تقویة العدو

طبقاً للتعالیم الدینیّة فإنّ إنفاق الأموال إذا أدّی إلی تقویّة أعداء الإسلام فحرام، وعلی هذا الأساس یجب اجتناب الاستفادة من المنتوجات التی تؤدّی إلی إزدهار اقتصاد الأعداء وإیجاد أرضیّة مناسبة لتکریس سیطرتهم وسلطتهم الاقتصادیّة والثقافیّة علی المسلمین.

وقد ورد فی حدیث تحف العقول عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال:

«أو یقوی به الکفر والشرک فی جمیع وجوه المعاصی ...، أو باب یوهن به الحقّ فهو حرام محرّم بیعه وشراؤه وإمساکه وملکه وهبته وعاریته وجمیع التقلّب فیه»(1).

ومع الالتفات إلی أنّ هذه الروایة تعتمد علی أنواع الإمساک والهبة والعاریة وجمیع التصرفات الأخری فإنّها تعدّ دلیلًا جلیاً علی هذا المدعی.

وکمثال علی ذلک لا یجوز استهلاک البضائع التی تتسبب فی تقویة إسرائیل والشرکات المرتبطة بالمحافل الصهیونیّة لأنّ تقویّة ودعم قوی الهیمنة والاستکبار یؤدّی إلی إضعاف جبهة الإسلام والمسلمین وإشاعة الظلم والجور فی العالم.

ج) اجتناب التجمل فی الاستهلاک
اشارة

ومن أهم المسائل الأخلاقیّة المرتبطة بالمسائل الاقتصادیّة فی الإسلام، مسألة اجتناب التجمل والترف والذی یعدّ أحد البلایا فی العالم المعاصر ویستهلک ثروات کبیرة لهذا الغرض وفی الحقیقة یجر الإنسان إلی وادی العبثیّة، ومن جملة مظاهر الإرتباط بین المسألة الأخلاقیّة مع النفقات الاقتصادیّة تحریم آنیة الذهب والفضة وتحریم لباس الحریر والزینة بالذهب للرجال.

إنّ مسألة تحریم الاستفادة من الأوانی الذهبیّة والفضیّة تعتبر من المسائل المسلمة التی یجمع علیها فقهاء الإسلام ومن ذلک ما أورده صاحب الکتاب جواهر الکلام من حرمة لبس الذهب للرجال فی جمیع الأحوال وأنّ هذه الفتوی مورد اتّفاق وإجماع فقهاء الشیعة(2)، والکثیر من الفقهاء ذهبوا إلی أنّ لبس الذهب للرجال یوجب بطلان الصلاة، وجماعة من الفقهاء وبدلًا من التعبیر بکلمة «لبس» عبرّوا عنه بالتزین بالذهب (3).

ونقرأ فی روایة معتبرة عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال:

«لا یلبس الرّجل الذهب ولا یصلّی فیه»(4).

وفی روایة أخری ذکرت أنّ التزیین بالذهب خاص بالنساء:

«جعل اللَّه الذّهب فی الدّنیا زینة للنّساء فحرّم علی الرّجال لبسه والصلاة فیه»(5).

ویقرر ابن قدامة أیضاً أنّ لبس الثوب الموشح بالذهب فی الصلاة وغیر الصلاة حرام، وجاء فی حدیث عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«حرّم لباس الحریر والذهب علی ذکور أُمتی وأُحلّ لإناثهم».

یقول ابن


1- تحف العقول، ص 333.
2- جواهر الکلام، ج 8، ص 109.
3- انظر: المصدر السابق، ص 110- 113.
4- وسائل الشیعة، باب 30 عن أبواب الصلاة، ح 4.
5- المصدر السابق، باب 16، ح 2.

ص: 372

قدامة بعد ذکره لهذا الحدیث: إنّ هذا الحدیث ورد فی سنن أبی داود والترمذی ویعتبر الحدیث صحیحاً(1).

إنّ حرمة لبس الحریر للرجال مورد اتفاق فقهاء الإسلام أیضاً أعمّ من الشیعة وأهل السنّة.

یقول صاحب کتاب جواهر الکلام بعد ذکره هذا الحکم:

«إجماعاً من المسلمین»

ولا تجوز الصلاة فیه أیضاً عند فقهاء الشیعة، یعنی أنّ لباس الحریر یوجب بطلان الصلاة(2)، ویصرّح ابن قدامة فی المغنی أیضاً بأن لبس الحریر للرجال حرام، بل إنّ الاستفادة من فراش الحریر فی الصلاة لا یجوز، ودلیل الحرمة هو ما ورد فی الحدیث أعلاه (3) أمّا الاستفادة من آنیة الذهب والفضة للأکل والشرب فحرام أیضاً، یقول المحقق البحرانی: «لا خلاف بین الأصحاب فی تحریم الأکل والشرب وکذا سائر الاستعمالات کالتطیب وغیره فی أوانی الذهب والفضّة، وادعی علیه العلّامة فی التذکرة وغیره الإجماع»(4).

ویری الفقیه المعروف صاحب کتاب الجواهر أیضاً أنّ عدم جواز الأکل فی آنیة الذهب والفضة إجماعی بین الفریقین (الشیعة وأهل السنّة) باستثناء «داود» من علماء أهل السنّة الذی یحرّم الشرب فیهما ولکنّه یجوز الأکل فیهما(5).

وجاء فی کتاب المغنی لفقیه أهل السنّة ابن قدامة:

لا خلاف بین أصحابنا (الفقهاء الحنابلة) فی حرمة الاستفادة من آنیة الذهب والفضة، وهذه الفتوی مطابقة لرأی أبی حنیفة، ومالک والشافعی لأنّ النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله قال:

«لا تشربوا فی آنیة الذّهب والفضّة، ولاتأکلوا فی صحافهما»(6).

وینقل المحدّث المعروف الشیخ الحر العاملی فی کتابه وسائل الشیعة روایات متعددة فی تحریم الاستفادة من آنیه الذهب والفضة عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله وأئمّة أهل البیت علیهم السلام (7).

النتیجة:

کما أنّ الأخلاق اقترنت بشکل وثیق فی مجموعة أحکام الشریعة الإسلامیّه، فإنّها ارتبطت برابطة وثیقة مع المسائل الاقتصادیّة فی الإسلام.

إنّ المسلم الذی یدخل فی میدان المسائل الاقتصادیّة فإنّه یجب علیه، سواءً فی مرحلة الإنتاج وفی البیع والشراء وفی مرحلة الاستهلاک، مراعاة القیم الأخلاقیّة فهو لیس حرّاً بأن ینتج کیفما شاء ویتعامل بأی وسیلة أراد ویستهلک بأی صورة، بل یجب علیه الالتزام الواعی بالقیم الأخلاقیّة والمثل الإنسانیّة سواءً الإلزامیّة منها وغیر الإلزامیّة.

وببیان آخر أنّه حر فی استخدام أمواله بشکل معقول وبما ینسجم ویتناسب مع الأصول الأخلاقیّة وینتفع بالنعم والمواهب الإلهیّة فی واقع الحیاة الفردیّة الاجتماعیّة.


1- المغنی لابن قدامة، ج 1، ص 661.
2- جواهر الکلام، ج 8، ص 114.
3- المغنی لابن قدامة، ج 1، ص 661.
4- الحدائق الناضرة، ج 5، ص 504.
5- جواهر الکلام، ج 6، ص 328.
6- المغنی لابن قدامة، ج 1، ص 62.
7- وسائل الشیع ة، ج 2، ص 1083، باب 66 من أبواب النجاسات.

ص: 373

المنابع والمصادر

1. القرآن الکریم.

2. نهج البلاغة (مع تحقیق الدکتور صبحی صالح).

3. الأخلاق فی القرآن، آیة اللَّه العظمی مکارم الشیرازی و ومساعده، مدرسة الإمام علی بن أبی طالب، قم، الطبعة الثالثة، 1381 ه ش.

4. بحار الأنوار، العلّامة محمّد باقر المجلسی، مؤسسة الوفاء، بیروت، الطبعة الاولی، 1403 ه ق.

5. بدائع الصنائع، أبوبکر بن مسعود الکاشانی، مکتبة الحبیبیة، باکستان، الطبعة الاولی، 1409 ه ق.

6. بدایة المجتهد ونهایة المقتصد، ابن رشد الأندلسی، تحقیق خالد عطّار، دار الفکر، بیروت، 1415 ه ق.

7. تحف العقول، ابن شعبة الحرانی، تحقیق علی أکبر الغفاری، نشر جماعة المدرسین الحوزة العلمیّة قم، طبعة الثانیة، 1404 ه ق.

8. تفسیر نورالثقلین، عبد علی بن جمعة الحویزی، تحقیق السید هاشم رسولی المحلاتی، مؤسسة اسماعیلیان، قم، الطبعة الرابعة، 1412 ه ق.

9. جواهرالکلام، الشیخ محمّد حسن النجفی، دار إحیاء التراث العربی، بیروت، الطبعة السابعة، 1981 م.

10. الحدائق الناضرة، المحقق البحرانی، تحقیق محمّدتقی الإیروانی، انتشارات جماعة المدرسین، قم.

11. خصال الصدوق، الشیخ الصدوق، تحقیق علی أکبر الغفاری، انتشارات جماعة المدرسین، قم.

12. جریدة ایران (روزنامه ایران) بالفارسیّة، العدد 3332.

13. جریدة جوان (روزنامه جوان) بالفارسیّة، 24/ 2/ 84.

14. جریدة همشهری (روزنامه همشهری) بالفارسیّة، العدد 3483 والعدد 3736.

15. سنن ابن ماجة، محمّد بن یزید القزوینی، دار الفکر، بیروت.

16. سنن البیهقی، أحمد بن حسین بن علی البیهقی، دار الفکر، بیروت.

17. سنن الترمذی، محمّد بن عیسی الترمذی، تحقیق عبدالرحمن محمّد عثمان، دار الفکر، بیروت، الطبعة الثانیة، 1403 ه ق.

18. سنن الدارمی، عبداللَّه بن بهرام الدارمی، مطبعة الاعتدال، دمشق.

19. سنن النسائی، أحمد بن شعیب النسائی، دار الفکر، بیروت، الطبعة الاوّل، 1348 ه ق.

20. السیاسة الاجتماعیّة فی البلدان النامیة (سیاست اجتماعی در کشورهای در حال توسعه) بالفارسیّة، آرتور آ. لیوینگستون، ترجمة الدکتور حسین العظیمی، طهران، وزارة التخطیط والمیزانیة، 1367 ه ش.

21. صحیح ابن حبان، علاء الدّین علی بن بلبان الفارسی، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانیة، 1414 ه ق.

22. صحیح البخاری، محمّدبن إسماعیل البخاری، دار الفکر، بیروت، 1401 ه ق.

23. غررالحکم ودرر الکلم، عبدالواحد بن محمّد التمیمی الآمدی، انتشارات مکتب الإعلام الإسلامی، قم، 1366 ه ش.

ص: 374

24. فتح العزیز فی شرح الوجیز، عبدالکریم بن محمّد الرافعی، دار الفکر، بیروت.

25. القواعد الفقهیة، آیة اللَّه ناصر مکارم الشیرازی، انتشارات مدرسة الإمام أمیرالمؤمنین علیه السلام، قم، الطبعة الثانیة، 1411 ه ق.

26. الکافی، محمّد بن یعقوب الکلینی، دار صعب- دارالتعارف، بیروت، الطبعة الثالثة، 1401 ه ق.

27. کتاب الدعاء الطبرانی، سلیمان بن أحمد الطبرانی، دارالکتب العلمیّة، بیروت، الطبعة الاولی، 1413 ه ق.

28. کنزالعمال، المتّقی الهندی، مؤسّسة الرّسالة، بیروت، الطبعة الخامسة، 1405 ه ق.

29. لسان العرب، العلّامة ابن منظور، دار إحیاء التراث العربی، الطبعة الاولی، 1408 ه ق.

30. مبانی المحافظة علی البیئة فی الإسلام (مبانی حفاظت محیط زیست در اسلام) بالفارسیّة، صادق الأصغری لفمجانی، مکتب النشر الثقافة الإسلامیّة، طهران، الطبعة الاولی، 1378 ه ش.

31. مجلة السیاحة فی الغرب (مجله سیاحت غرب) بالفارسیّة، العدد 6.

32. المجموع فی شرح المهذب، محیی الدین بن النووی، دار الفکر، بیروت.

33. محاسن البرقی، أحمد بن محمّد بن خالد البرقی، دار الکتب الإسلامیّة.

34. مستدرک الوسائل، المیرزا حسین النوری الطبرسی، مؤسّسة آل البیت، قم، الطبعة الاولی، 1408 ه ق.

35. مسند أحمد، أحمد بن حنبل، دار صادر، بیروت.

36. المغنی، ابن قدامة، عبداللَّه بن قدامة، دار الکتاب العربی، بیروت.

37. مغنی المحتاج، محمّد بن الشربینی، دار إحیاء التراث العربی، 1377 ه ق.

38. مفردات الراغب، الراغب الإصفهانی (حسین بن محمّد)، دار المعرفة، بیروت.

39. المکاسب، الشیخ مرتضی الأنصاری، مطبعة الباقری، قم، الطبعة الاولی، 1415 ه ق.

40. منتهی المطلب، العلّامة الحلی، الحاج أحمد، تبریز، 1333 ه ش.

41. میزان الحکمة، المحمّدی الری شهری، الطبعة الاولی، دار الحدیث، 1416 ه ق.

42. وسائل الشیعة، محمّد بن حسن الحرّ العاملی، دار إحیاء التراث العربی، بیروت، الطبعة الاولی، 1391 ه ق.

43. اسبوعیة المرأة المعاصرة (هفته نامه زن روز) بالفارسیّة، العدد 2038 ..

44. www. akhbar- rooz. com 54. www. shahbazi. org 64. www. unic- ir. org 74. www. prisons. ir.

ص: 375

(2). اجتناب کلّ أشکال الإسراف

اشارة

البحث الأوّل: الإسراف والتبذیر فی اللغة والاصطلاح

البحث الثانی: أدلة حرمة الإسراف والتبذیر

البحث الثالث: معطیات الإسراف والتبذیر فی حیاة الإنسان

البحث الرابع: سعة دائرة مصادیق الإسراف والتبذیر

البحث الخامس: معالم الاعتدال والإسراف فی الحیاة

البحث السادس: عوامل التوجه نحو الإسراف وطرق الوقایة منها

البحث السابع: الأشکال الجدیدة للإسراف فی المجتمعات المعاصرة

ص: 376

ص: 377

اجتناب کلّ أشکال الإسراف

البحث الأوّل: الإسراف والتبذیر فی اللغة والاصطلاح

اشارة

یری علماء اللغة أنّ معنی الإسراف یختلف عن معنی التبذیر، والمعنی المشترک بینهما هو «الخروج عن حد الاعتدال»، وفی هذا المجال یمکن القول: إنّ کلّ عمل مع الأخذ بنظر الاعتبار ظروف الفاعل وقدراته ومع الأخذ بماهیّة العمل نفسه، له حدّ معین، والتجاوز عن هذا الحدّ یعدّ «إسرافاً»، والتقصیر عن هذا الحدّ هو «الاقتار» أو «التقتیر» ورعایة الحدّ اللازم هو «الاعتدال»، و «القوام» و «القصد»، کما أنّ الاستهلاک أکثر من حدّ الاعتدال ویعنی اللامبالاة فی النفقات فی الحیاة یسمی «تبذیراً».

1. یقول الجوهری فی الصحاح ذیل مادة «سرف»: «

السَرَف ضدّ القصد ...»

وکذلک یضیف:

«الإسراف فی النفقة: التبذیر».

2. یقول فیروز الآبادی فی القاموس

«السَرَف (محرکة) ضدّ القصد، والإغفال، والخطأ ... والإسراف:

التبذیر أو ما أنفق فی غیر طاعة».

3. یقول ابن الأثیر فی النهایة فی ذیل کلمة «سرف»:

«من الإسراف والتبذیر فی النفقة لغیر حاجة أو فی غیر طاعة اللَّه»

وفی ذیل للغة «بذر»:

«المبذّر:

المسرف فی النفقة».

4. یقول الراغب، فی المفردات فی ذیل مادة «بذر»:

«التبذیر التفریق وأصله إلقاء البذر وطرحه فاستُعیر لکلّ مضیِّع لماله، فتبذیر البذر تضییع فی الظاهر».

وفی کلمة «سَرَف» یقول:

«السَرَف، تجاوز الحدّ فی کلّ فعل یفعله الإنسان وإن کان فی الإنفاق أشهر».

5. وورد فی کتاب العین ذیل کلمة «سرف»:

«الإسراف نقیض الاقتصاد».

ویتبیّن من العبارات المذکورة أعلاه ما یلی:

أ) الإسراف خلاف الاعتدال والوسطیّة.

ب) التبذیر یعنی إنفاق المال فی غیر وجه وتضییعه واتلافه.

ویمکن التمییز بین الإسراف والتبذیر بمثال بسیط، مثلًا عندما یقدّم للضیف، بدلًا من نوعین أو ثلاثة أنواع من الطعام، عشرة أنواع من الطعام ویتمّ التناول منها جمیعاً فهذا هو مصداق «الإسراف»، ولکن إذا قدّم لعشرة أشخاص ضیوف طعاماً یکفی

ص: 378

لثلاثین أشخاص وتمّ إلقاء المقدار الزائد فی القمامة فهو «تبذیر».

ج) أحیاناً یأتی التبذیر بوصفه أحد مصادیق الإسراف ویمکن القول إنّ کلّ تبذیر إسراف ولیس العکس فلیس کلّ إسراف تبذیر، مثلًا إنفاق الأموال فی الأمور الخارجة عن شؤون الشخص یعدّ من الإسراف، ولکنّه لیس تبذیراً وتضییعاً للمال.

الإسراف والتبذیر فی الاصطلاح:

مع ملاحظة ما ورد فی الآیات والروایات الشریفة وکلمات علماء الإسلام التی سنستعرضها لاحقاً یتبیّن أنّ الإسراف والتبذیر فی مصطلح الثقافة الدینیّة لیس شیئاً بعیداً عن المعنی اللغوی الذی سبق ذکره.

والجدیر بالذکر أننا نری فی دائرة الثقافة القرآنیّة والروایات الشریفة وجود توسعة فی مجال المصادیق لمفردة الإسراف، وذلک أنّ النصوص الدینیّة استخدمت کلمة إسراف فی موارد خارج دائرة الأمور المالیّة أیضاً، مثلًا اطلقت علی مطلق الذنوب:

«الإسراف علی النفس» یقول القرآن الکریم:

«یَا عِبَادِی الَّذِینَ أَسْرَفُوا عَلَی أَنْفُسِهِمْ لَاتَقْنَطُوا مِنْ رَّحْمَةِ اللَّهِ»(1)

و

«رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِی أَمْرِنَا»(2).

وکذلک وردت کلمة إسراف فی مورد تجاوز الحدّ فی القصاص أیضاً:

«فَلَا یُسْرِفْ فِّی الْقَتْلِ»(3)

وأحیاناً استخدمت فی القضاء والحکم الذی یؤدّی إلی الکذب، کما ورد فی الآیة 28 من سورة غافر:

«إِنَّ اللَّهَ لَا یَهْدِی مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ کَذَّابٌ»

، وتارة أخری استخدمت لمطلق الاستکبار والغرور وطلب العلو، فنقرأ فی الآیة 31 من سورة الدخان فی الحدیث عن فرعون:

«إِنَّهُ کَانَ عَالِیاً مِّنَ الْمُسْرِفِینَ».

المفردات المرتبطة بالإسراف:
اشارة

ونقرأ فی الآیات والروایات الشریفة عناوین خاصّة فی باب الإسراف والاعتدال ولها دور فی تبیین حقیقة الإسراف فی نظر الإسلام، وأهم هذه المفردات عبارة عن:

1. القصد، الاقتصاد

للقصد والاقتصاد معانٍ مختلفة، وقد جاءت هذه الکلمة فی هذا البحث بمعنی الاعتدال فی واقع الحیاة والممارسة.

یقول الإمام زین العابدین علیه السلام:

«قال رسول اللَّه صلی الله علیه و آله ثلاث منجیات ... القصد فی الغنی والفقر»(4).

ویقول الإمام الصادق علیه السلام:

«إنّ القصد أمر یحبّه اللَّه وإنّ السّرف أمر یبغضه اللَّه»(5).

ویقول هذا الإمام علیه السلام فی کلام آخر: لا یستجاب دعاء أربع طوائف:

«... من کان له مال فأفسده فیقول:

یا رَبّ ارزُقنی! فیقول اللَّه عزّ وجلّ: ألم آمرک


1- سورة الزمر، الآیة 53.
2- سورة آل عمران، الآیة 147.
3- سورة الاسراء، الآیة 33.
4- الکافی، ج 4، ص 53، ح 5.
5- المصدر السابق، ص 52، ح 2.

ص: 379

بالاقتصاد ...»(1).

وکذلک قال علیه السلام:

«ضمنت لمن اقتصد أن لا یفتقر»(2).

وورد فی حدیث آخر عن أمیرالمؤمنین علیه السلام:

«القصد مثراة والسرف متواة»(3)

و «المثرات» و «المتواة»، تعنی الأدوات والأسباب، فالاولی منها تقال للأدوات والوسائل التی توصل الإنسان إلی الثروة، والثانیة منها هی التی توصل الإنسان إلی الهلکة(4).

وفی کلام آخر للإمام الصادق علیه السلام نقلًا عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله:

«ما من نفقة أحبّ إلی اللَّه عزّ وجلّ من نفقة قصد ویبغض الإسراف إلّافی الحجّ والعمرة»(5)

، (وطبعاً فالمراد من هذا الاستثناء الإنفاق والبذل فی المصرف والنفقة، لا الإسراف الواقعی).

2. قَوام

کلمة «قَوام» لها معانٍ مختلفة، والمقصود منها فی البحوث الاقتصادیّة رعایة حالة الاعتدال بین الإسراف والاقتار.

وقد ورد فی سورة الفرقان الآیة 67 أنّ قَوام من علامات «عبادالرحمن»:

«وَالَّذِینَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ یُسْرِفُوا وَلَمْ یَقْتُرُوا وَکَانَ بَیْنَ ذلِکَ قَوَاماً».

فی إحدی الروایات الإسلامیة، ورد تشبیه رائع للإسراف والإقتار وحد الإعتدال، تقول الرّوایة تقول الروایة أنّ الإمام الصادق علیه السلام فی قوله تعالی

«والّذین إذا أنفقوا لم یسرفوا ولم یقتروا وکان بین ذلک قواماً»

. قال:

«فأخذ قبضة من حصی وقبضها بیده، فقال: هذا الإقتار الذی ذکره اللَّه عزَّ وجلّ فی کتابه، ثمّ قبض قبضة اخری فأرخی کفَّه کلَّها، ثمّ قال: هذا الإسراف، ثمّ أخذ قبضة أخری فأرخی بعضها وأمسک بعضها وقال: هذا القوام»(6).

وجاء فی بعض الروایات الشریفة التعبیر عن هذه الحالة الوسطیة بعنوان «أمر بین أمرین» منها:

قال الإمام الصادق علیه السلام لسفیان الثوری:

«أفلا ترون أنّ اللَّه تبارک وتعالی قال غیر ما أراکم تدعون الناس إلیه من الأثرة علی أنفسهم وسمّی مَن فعل ما تدعون الناس إلیه مسرفاً وفی غیر آیة من کتاب اللّه یقول: «إِنَّهُ لَا یُحِبُّ الْمُسْرِفِینَ» فنهاهم عن الإسراف ونهاهم عن التقتیر لکن أمر بین أمرین لا یعطی جمیع ما عنده»(7).

وجاء فی بعض تعالیم وتوصیات أولیاء الدین المعصومین علیهم السلام التعبیر عن حالة الاعتدال بتعبیر آخر وفیه إشارة إلی أنّ حقیقة الاعتدال هو الشی ء الذی یقع بین مکروهین.

یقول الراوی:

«سألت أبا الحسن الأوّل (موسی بن جعفر علیه السلام) عن النفقة علی العیال، فقال: ما بین


1- المصدر السابق، ص 56، ح 11.
2- المصدر السابق، ص 53، ح 6.
3- المصدر السابق، ص 52، ح 4.
4- النهایة، ابن الأثیر؛ مصباح المنیر، مادة« قصد».
5- الفقیه، ج 3، ص 167، ح 3621.
6- بحار الأنوار، ج 66، ص 261، باب 37.
7- الکافی، ج 5، ص 67، ح 1.

ص: 380

المکروهین: الإسراف والإقتار»(1).

ویقول الراوی آخر: سألت الإمام الرضا علیه السلام عن مقدار المال الذی یجب إنفاقه علی أهل والعیال، فقال الإمام علیه السلام:

«بین المکروهین»

. قلت:

«ما أعرف المکروهین»

. قال الإمام علیه السلام:

«بلی یرحمک اللَّه أما تعرف أنّ اللَّه عزّ وجلّ کره الإسراف وکره الإقتار»(2).

3. العفو (الوسطیة الحکیمة)

کلمة «العفو» لها معانٍ مختلفة، وأحدها هو المعنی المعروف، والآخر هو الوسطیة الحکیمة.

وببیان آخر أنّ العفو نوع خاص من الحیاة الذی یتحرک فیه الإنسان بالحد الوسط بین الاقتار والإسراف.

وجاء فی عوالی اللئالی فی تفسیر الآیة:

«وَیَسْأَلُونَکَ مَاذَا یُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ»(3)

، عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال:

«إنّ العفو هو الوسط من غیر إسراف ولا تقتیر»(4).

وجاء فی روایة أخری أیضاً عن هذا الامام علیه السلام فی تفسیر هذه الآیة قال:

«العفو الوسط»(5)

، وفی روایة ثالثة فی تفسیر العیّاشی عن الإمام الصادق أو الإمام الباقر علیهما السلام أنّه قال:

«العفو الکفاف»(6)

وفی روایة رابعة عن الإمام الباقر علیه السلام أنّه قال:

«إنّ العفو ما یفضل عن قوت السنة»(7).

الفرق بین مفهوم الإسراف والتبذیر:
اشارة

1- المصدر السابق، ج 4، ص 55، ح 2.
2- الخصال، ج 1، ص 54، ح 74.
3- سورة البقرة، الآیة 219.
4- عوالی اللئالی، ج 2، ص 73، 190.
5- الکافی، ج 4، ص 52، ح 3.
6- تفسیر العیّاشی، ج 1، ص 106، 316.
7- تفسیر الصافی، ج 1، ص 250.

ص: 381

إنّ التدقیق فی استعمالات کلمة الإسراف وکلمة التبذیر فی الآیات والروایات الشریفة تشیر إلی أنّ هاتین الکلمتین تشترکان فی مساحة معینة ولا یوجد تفاوت مهم بینهما، وجاء فی کلام للإمام الصادق علیه السلام:

أنّ التبذیر نوع من الإسراف وقال:

«إنّ التبذیر من الإسراف»

، ولکن یجب الالتفات إلی بعض النقاط فی هذا المجال:

أ) ذهب بعض أهل الخبرة أنّ «التبذیر» أخص من «الإسراف» وقالوا: إنّ التبذیر یستعمل فقط فی مورد بذل المال علی مستوی الإسراف، أو أن ینفق المال بالمعاصی والذنوب، ولکن الإسراف یطلق علی کلّ زیادة وتجاوز للحد، سواءً کان فی باب الأموال أم فی غیرها(1).

ب) وذهب البعض إلی أنّ الفرق بین «الإسراف» و «التبذیر» من جهة أخری، وقالوا: «الإسراف» أن یصرف الشی ء فی مورده الخاص به ولکنّه من حیث المصرف والاستهلاک یزید عن حدوده ومقداره، ولکن «التبذیر» هو مصرف الشی ء فی غیر مورده اللازم (2)، وهذا هو کلام الطریحی فی مجمع البحرین فی بیان الفرق بین هاتین الکلمتین قال:

«و قد فرّق بین التبذیر والإسراف، فی أنّ التبذیر، الإنفاق فیما لا ینبغی والإسراف الصرف زیادة علی ما ینبغی»(3).

وهذا الأمر یتناسب مع ما ذکره العلّامة النراقی رحمه الله فی عوائد الأیّام نقلًا عن ابن مسکویه فی کتاب أدب الدنیا والدین قال:

«السَرَف هو الجهل بمقادیر الحقوق، والتبذیر هو الجهل بمواقع الحقوق»(4).

ج) أمّا الراغب الإصفهانی فقد تقدّم کلامه فی مفرداته بأنّ:

«التبذیر التفریق وأصله إلقاء البذر وطرحه فاستُعیر لکلّ مضیِّع لماله، فتبذیر البذر تضییع فی الظاهر».

ومن مجموع ما تقدّم ذکره یتبیّن الفرق بین الإسراف والتبذیر من جهتین:

1. إنّ الإسراف أعم من التبذیر، لأنّ التبذیر یرد فی خصوص الأمور المالیّة، ولکن الإسراف یشمل دائرة الأموال وغیر الأموال.

2. الإسراف هو أن ینفق الشخص الأموال فی الموارد العقلائیّة والمقبولة ولکنّه ینفق أکثر من المقدار اللازم، والتبذیر أن ینفق الشخص أمواله فی موارد غیر عقلانیّة وغیر مقبولة.

وببیان آخر: إنّ التبذیر إضاعة الأموال ویقترن باهدار الثروة، ولکن الإسراف لیس إضاعة للمال بل إنّه ینفقه فی محلّه إلّاأنّه ینفق أکثر من الحدّ اللازم وبما هو خارج عن شؤونه، مثلًا إذا ارتدی شخص ثوباً غالی الثمن بحیث تکون قیمته أضعاف ما یستحقه وما هو بحاجة إلیه، أو یتناول طعاماً غالی الثمن بحیث یمکنه بذلک الثمن إشباع عدد کبیر من الناس بکرامة، فمثل هذا الإنفاق یعدّ إسرافاً، لأنّه بالرغم من تجاوز الحدّ فی الإنفاق ولکنّه لم یضیع شیئاً من ماله حسب الظاهر، ولکن إذا جاء ضیفان، وقمنا بتقدیم طعام یکفی لعشرة أشخاص فتناول هذان الضیفان من الطعام وألقینا بالباقی فی سلة القمامة، کما تقدّم بیانه فهذا هو التبذیر، وینبغی الالتفات أیضاً إلی أنّ هاتین الکلمتین تستخدمان أحیاناً فی معنی واحد.

النتیجة:

مع الالتفات إلی ما ورد فی الآیات والأحادیث الشریفة وسیرة وسنّة النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله وأهل البیت علیهم السلام کما تقدّم الإشارة إلی جملة منها، فسوف نصل إلی هذه النتیجة وهی: أنّ طریق الاعتدال والوسطیّة الحکیمة هو مورد نظر الإسلام وتأییده، أمّا طرفا هذا الطریق یعنی الإفراط والتفریط وهما «الإسراف» و «الإقتار» فإنّها مذمومة ومرفوضة من قِبل الشارع المقدّس.

البحث الثانی: أدلة حرمة الإسراف والتبذیر

اشارة

إنّ «الإسراف» حاله حال «التبذیر»، یعتبر فی حیاة الناس وخاصّة المؤمنین عمل مضاد للقیم، ویعتبر فی نظر الدین من المحرمات، وهذا العمل ورد النهی عنه دوماً فی منطق الدین والعقل السلیم، ومن


1- الموسوعة الفقهیّة( الکویتیّة)، ج 4، ص 177.
2- المصدر السابق.
3- مجمع البحرین،« ب ذ ر».
4- عوائد الأیّام، ص 621.

ص: 382

هذه الجهة ورد المنع والردع عنه وأنّه یتسبب فی تضییع الأموال والأوقات و ...

ولا یوجد أی اختلاف بین العلماء فی مسألة حرمة الإسراف، وربّما یمکن القول بوجود «إجماع» بینهم فی هذه المسألة(1).

أدلة التحریم:
1. الإسراف والتبذیر فی کتاب اللَّه

وردت آیات فی القرآن الکریم تنهی بصراحة عن الإسراف (2) والتبذیر، ومع الأخذ بنظر الاعتبار ظهور صیغة الأمر فی الحرمة، فإنّ هذه الآیات تدلّ علی حرمة الإسراف:

1.

«یَا بَنِی آدَمَ خُذُوا زِینَتَکُمْ عِنْدَ کُلِّ مَسْجِدٍ وَکُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَایُحِبُّ الْمُسْرِفِینَ»(3).

وفی بدایة هذه الآیة یأمر اللَّه تعالی بارتداء أفضل الملابس ورعایة النظافة (الظاهریّة والباطنیّة) عند الدخول إلی المساجد، ثمّ یأمر بتناول الأطمعة الطاهرة والطیّبة، وبما أنّ طبع الإنسان یدعوه للمزید من تناول هذه الأمور فربّما یسیی ء استغلال هاتین التوصیتین، وبدلًا من الاعتدال فإنّه یسلک طریق التجمل والإسراف فتقول الآیة:

«وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا یُحِبُّ الْمُسْرِفِینَ».

2.

«وَآتِ ذَا الْقُرْبَی حَقَّهُ وَالْمِسْکِینَ وَابْنَ السَّبِیلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِیراً

* إِنَّ الْمُبَذِّرِینَ کَانُوا إِخْوَانَ الشَّیَاطِینِ وَکَانَ الشَّیْطَانُ لِرَبِّهِ کَفُوراً»(4).

تتحدّث هاتان الآیتان عن لزوم رعایة الاعتدال فی الإنفاق وبذل المال بحیث تعتبر أنّ الزیادة فی البذل من جملة «التبذیر» وتعتبر المبذرین إخواناً للشیاطین.

ومعلوم أنّ الشیطان مع کونه یملک قوی وقدرات غیر طبیعیّة فإنّه یستخدم هذه القوی فی غیر موردها یعنی فی إضلال الناس ودفعه باتّجاه الانحراف والتمرد، والمبذرون أی من جهة صرف أموالهم وقواهم فی غیر موردها المطلوب من اللَّه تعالی، فإنّ أعمالهم تتسق وتتناغم مع أعمال الشیاطین وبالتالی یعتبرون إخواناً للشیطان.

ویستفاد من هذه الآیة الشریفة بوضوح أنّ التبذیر عمل شیطانی والمبذر یسلک فی خط الشیطان، وهذا التعبیر فی غایة الروعة والدقّة فی وصف قبح صفة التبذیر(5).

3.

«کُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ یَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَایُحِبُّ الْمُسْرِفِینَ»(6).

والتعبیر بجملة «لا تسرفوا» فی هذه الآیة یمکن أن یکون إشارة إلی لزوم اجتناب الإسراف فی الأکل


1- انظر: عوائد الأیّام، ص 615.
2- وردت مادة« سرف» إسراف فی صیغ مختلفة، 23 مرّة فی القرآن الکریم؛ ووردت بعض من مشتقاتها مرّة واحدة من قبیل( إسراف) وبعضها مرّتین من قبیل( مسرف) وبعضها عدّة مرّات من قبیل( مسرفون).
3- سورة الأعراف، الآیة 31.
4- سورة الاسراء، الآیة 26 و 27.
5- انظر التفاسیر: التفسیر الأمثل؛ المنیر، الدکتور وهبة الزحیلی؛ المیزان فی ذیل الآیة مورد البحث.
6- سورة الأنعام، الآیة 141.

ص: 383

والإنفاق، لأنّ بعض الأشخاص عندما ینفقون من أموالهم فإنّهم یسلکون طریقة الإفراط بحیث لا یبقی لهم شی ء لأنفسهم وأولادهم.

وفی القرآن الکریم آیات أخری أیضاً تتحدّث عن الإسراف، وبالرغم من أنّه ربّما لا یمکن استفادة حرمة إسراف منها، ولکن لا شک أنّها تدل علی قبح هذا العمل، من قبیل

«وَالَّذِینَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ یُسْرِفُوا وَلَمْ یَقْتُرُوا وَکَانَ بَیْنَ ذَلِکَ قَوَاماً»(1).

فنری فی هذه الآیة الشریفة أنّ أصل الإنفاق بوصفه حالة ممتازة من صفات «عباد الرحمن» مسلّم، وبالنسبة لکیفیة الإنفاق تقول الآیة: إنّ الإنفاق یجب أن یخلو من أی شکل من أشکال الإسراف، فلا ینبغی أن یکون الإنفاق بحیث یبقی هو جائعاً، ولا أن یمسک یده بحیث لا یصل للآخرین أی خیر منه.

2. الإسراف فی السنّة

وقد نهی النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله بعناوین مختلفة عن الإسراف وذمه، ومنها: أنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله کان یؤکد لأحد أصحابه ویقول:

«لا تُسرف، لا تُسرف»(2).

وجاء فی حدیث مستفیض أنّ النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله قال لأحد المسلمین الذی کان یتوضأ:

«لا تُسرف، قیل: یا رسول اللَّه وَفِی الوضوء إسراف؟ قال: نعم وفی کلّ شی ءٍ إسراف»(3)

، وطبقاً لهذا الحدیث الشریف فإن یرد فی کلّ شی ء.

وکذلک ورد عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله:

«لا خیر فی صبّ الماء الکثیر فی الوضوء وإنّه من الشیطان»(4).

کما نقرأ فی حدیث آخر، عن عبداللَّه بن عمرو: مرّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله بسعد، وهو یتوضّأ، فقال:

«لا تسرف، ما هذا السرف یا سعد؟»

قال: أفی الوضوء سرف؟! قال:

«نعم وإن کنت علی نهر جار»(5).

وهذا الموضوع إلی درجة من الأهمیّة أنّه ورد فی الأحادیث الشریفة أنّ ملکاً خاصاً یکتب موارد الإسراف فی مجال استعمال الماء فی الوضوء(6).

وقال أمیرالمؤمنین علی علیه السلام:

«ذر الإسراف مقتصداً»(7).

وکذلک قال علیه السلام:

«إذا أراد اللَّه بعبد خیراً ألهمه الاقتصاد وحسن التدبیر وجنّبه سوء التبذیر والإسراف»(8).

وکذلک قال علیه السلام:

«حلّوا أنفسکم بالعفاف و تجنّبوا

[اجتنبوا]

التبذیر والإسراف»(9).

وکذلک قال علیه السلام:

«الحازم مَن تجنّب التبذیر وعاف السرف»(10).


1- سورة الفرقان، الآیة 67.
2- کنز العمال، ج 9، ص 325، ح 26250.
3- المصدر السابق، ص 327، ح 26261.
4- المصدر السابق، ح 26260.
5- سنن ابن ماجة، ج 1، ص 147، ح 425؛ مسند أحمد، ج 2، ص 221.
6- عن حریز عن أبی عبداللَّه علیه السلام قال:« إنّ للَّه ملکاً یکتب سرف الوضوء».( الکافی، ج 3، ص 22، ح 9؛ وسائل الشیعة، ج 1، ص 485).
7- غرر الحکم، ح 8124.
8- المصدر السابق، ح 8057.
9- المصدر السابق، ح 8123.
10- غرر الحکم، ح 8137.

ص: 384

والإسراف مذموم فی دائرة الثقافة الإسلامیّة إلی درجة أنّه ورد التعبیر عنه فی الروایات أنّه من عمل الشیطان ومن ذلک ما ورد عن الإمام الحسن العسکری علیه السلام فی تحذیره لأحد أصحابه من الإسراف قال:

«وعلیک بالاقتصاد وإیّاک والإسراف فإنّه من فعل الشیطنة»(1).

کذلک ورد علی لسان أهل البیت علیهم السلام، أنّ الإسراف من الذنوب الکبیرة کما نقرأ ضمن حدیث عن الذنوب الکبیرة قول الإمام علیه السلام:

«... والإسراف والتبذیر ...»(2).

وجدیر بالذکر أنّ الإسراف یعدّ واحداً من أربع أمور تتسبب فی انحطاط الفرد والمجتمع، ففی کلام للإمام أمیرالمؤمنین علی علیه السلام قال:

«یستدلّ علی الإدبار بأربع: سوء التدبیر وقبح التبذیر وقلّة الاعتبار وکثرة الاعتذار»(3)

، ممّا یدلّ علی کثرة الخطأ الصادر من الشخص.

وکذلک قال الإمام علیه السلام:

«علیک بترک التبذیر والإسراف والتخلّق بالعدل والإنصاف»(4).

وقال علیه السلام أیضاً:

«من العقل مجانبة التبذیر وحسن التدبیر»(5).

3. الإسراف فی منطق العقل وسیرة العقلاء

یعتبر الإسراف فی منطق العقل عملًا غیر مقبول أبداً، وعلی هذا الأساس فإنّ کلّ عاقل یری فی المسرف شخصاً خاطئاً ویذم عمله، لأنّ الإسراف هو الخروج عن حالة الاعتدال، ولا شک أنّ حالة الاعتدال مقبولة ومحمودة لدی العقل والعقلاء، وضدها (أی الإسراف) مورد ذم العقل وتقبیحه.

ویمکن القول أیضاً أنّ الإسراف أحد مصادیق الظلم، وکلّ ظلم مخالف للعقل، لأنّ المنابع الطبیعیّة فی العالم محدودة والإسراف یتسبب فی حرمان الآخرین منها.

بل إنّ الإنسان المسرف الذی یرضی وجدانه بمسائل أخری من قبیل حالات «التفوّق» وأمثالها، لا یری فی إسرافه عملًا مخالفاً لموازین العقل والشرع، لأنّ کلّ شخص لا یرضی بتضییع أمواله وثروته.

وکذلک لا شک فی أنّ عمل الإسراف لا یرضی العقلاء من الناس، بل ینتقدون المسرف دوماً ویعترضون علی عمله، ولذلک نری أنّ بعض العلماء أمثال العلّامة النراقی رحمه الله یتمسک باجماع العقلاء علی تحریم الإسراف (6)، وعلی هذا الأساس فإنّ حرمة الإسراف فی الشریعة الإسلامیّة فی الحقیقة تأیید وإمضاء لحکم العقل وسیرة العقلاء، ویمکن القول إنّ الإسراف حرام وممنوع بالأدلة الأربعة، ومن هذه الجهة فإنّ الکثیر من علماء الفریقین تحدّثوا عن حرمته فی کلماتهم وکتبهم وهذا یحکی عن إجماع واتفاق الفقهاء علی هذه المسألة یقول ابن ادریس


1- بحار الأنوار، ج 50، ص 292، ح 66، باب 3.
2- عیون الأخبار، ج 2، ص 127.
3- غرر الحکم، ح 8096.
4- المصدر السابق، ح 8138.
5- المصدر السابق، ح 8142.
6- انظر: عوائد الأیّام، ص 616 فصاعداً.

ص: 385

الحلّی:

«الإسراف فعله محرّم بغیر خلاف»(1).

*** وجدیر بالذکر أنّ هذه الحرمة لا تختص بالإسلام، بل مورد قبول واتّفاق جمیع الأدیان، کما ذکر المفسر المعروف العلّامة الطباطبائی رحمه الله فی تفسیر المیزان فی ذیل الآیة:

«... إِنَّهُ لَایُحِبُّ الْمُسْرِفِینَ ...»(2):

«وهی کما تقدّم خطابات عامّة لا تختصّ بشرع دون شرع ولا بصنف من أصناف الناس دون صنف ...»(3).

وطبعاً لا یمکن إنکار أنّ الإسراف والتبذیر لهما مراتب، وجمیع هذه المراتب من حیث «أصل الحرمة» متساویة مع فرق أنّ بعض المراتب أشدّ وتعتبر من «الذنوب الکبیرة» وبعض المراتب الأخری خفیفة وتعتبر من «الذنوب الصغیرة»، وعلی هذا الأساس فإنّ جمیع مراتب الإسراف، سواء الکبیرة والصغیرة منه تندرج فی دائرة المعصیة الإلهیّة.

البحث الثالث: معطیات الإسراف والتبذیر فی حیاة الإنسان

اشارة

إنّ الآثار والتداعیات الخطیرة والمعطیات السیئة للإسراف علی المستوی الفردی والاجتماعی، المادی والمعنوی، واسعة جدّاً، وهنا نشیر إلی نماذج منها:

1. إشاعة الفقر

ونعلم أنّ منابع الطبیعة فی العالم محدودة، وإذا تقرر أن تقوم فئة من الناس بهدر هذه المنابع والثروات من خلال الإسراف فمن الطبیعی أنّ الآخرین سیعیشون حالات الفقر والعوز.

والإحصاءات تشیر إلی أنّ ملایین الأفراد فی العالم یعیشون تحت خط الفقر وأنّ کلّ سنة یموت ملایین الأشخاص من الجوع وسوء التغذیة، هذا فی حین توجد فی مناطق أخری من العالم تلقی مواد غذائیة کثیرة فی سلة القمامة، وأشنع من ذلک أنّه أحیاناً یتمّ إلقاء ملایین الأطنان من الطعام فی البحر من أجل ضبط الأسعار فی السوق وإبقاء السعر مرتفعاً لهذه المحصولات الغذائیّة، والحال أننا نعیش فی عصر إزدادت قدرة الإنتاج إلی حدود عالیّة بسبب وجود التقنیة الحدیثة والأجهزة بحیث یستطیع الإنسان المعاصر إشباع جمیع حاجاته فی واقع الحیاة.

وبین وقت لآخر نسمع أخباراً مثیرة فی أجهزة الإعلام تتحدّث عن زیادة الفقر والجوع فی المجتمعات البشریة، وعلی أساس هذه الأخبار فإنّ ملایین الأشخاص یعیشون فی کلّ لیلة حالة شدیدة من سوء التغذیة والجوع، ویشکل الأطفال الملایین من هذا العدد ومع الالتفات إلی الفقر الغذائی الذی یعیشونه فإنّهم أسرع من الآخرین فی الإصابة بمختلف الأمراض وفقدان الحیاة.


1- السرائر، ج 1، ص 440.
2- سورة الأعراف، الآیة 31.
3- المیزان، ج 8، ص 79.

ص: 386

فی حین أنّ بعض البلدان الصناعیّة والمتقدمة، ولغرض حفظ التوازن الاقتصادی، تقوم بإتلاف عشرات الأطنان من المواد الغذائیّة الزائدة عن حدّ الاستهلاک، أو یتمّ صرف ملایین الدولارات لإطعام الکلاب الأهلیّة، وبالتالی یعیش ملایین الأشخاص فی جمیع مناطق العالم وفی حالات الجوع والفاقة ویواجهون خطر الموت (1).

وعلی أساس الإحصاءات: «إنّ المجاعة التی یعیشها قرابة ملیاری إنسان فی العالم لیست نتیجة قلّة المواد الغذائیّة، بل بسبب التوزیع غیر العادل للمواد الغذائیّة بین البلدان الغنیّة والفقیرة، فالجوع ناشی ء من النظام السیاسی والاقتصادی الذی ینفق ملیارات الدولارات لإتلاف الأطعمة واستهلاکها المفرط من جهة، ویقوم بتحدد الإنتاج من جهة أخری»(2).

مع العلم أنّ 30 بالمئة من نفوس العالم تعیش فی البلدان المتقدمة، وهذه البلدان تستهلک أکثر من نصف المحصولات الزراعیّة فی العالم (3)، إنّ جشع البلدان الصناعیّة فی الاستهلاک لا یقتصر علی الأطمعة والغذاء فحسب، بل یشمل الاستهلاک الجنونی فی قسم الطاقة، الماء، استخراج المعادن والمنابع والطبیعیّة و ...

وهذا له حدیث مفصل لا محال للحدیث عنه.

ومعلوم أنّ نتیجة هذا النوع من الاستهلاک المفرط فی البلدان المتقدمة والصناعیّة یؤدّی إلی مزید من الحرمان والفاقة لشعوب البلدان النامیّة وفی کلّ یوم تزداد حالة الحرمان والعوز فی هذه البلدان ویزداد الفقر ویعیش مئات الملایین فی هذه البلدان تحت خط الفقر، أضف إلی ذلک أنّ الآثار السیئة للاستهلاک المفرط وأشکال الترف والبذخ سری إلی أجواء الطبیعة، حیث نری أنّ المنابع الطبیعیّة تتجه للإندثار والفناء بسرعة، فالبیئة فی الطبیعة والبحار تلوثت، وتتعرض الکثیر من الحیوانات إلی الانقراض، والتلوث الحاصل من زیادة استهلاک الطاقة (البنزین وغیره)، وکذلک الدخان المتصاعد من المصانع الضخمة أدّی إلی زیادة حرارة جو الأرض، وبشکل عام فإنّ الکرة الأرضیّة تواجه أخطاراً جدیّة، وهنا نقف علی عمق کلام أمیرالمؤمنین علی علیه السلام عندما قال:

«فما جاع فقیر إلّابما مُتِّع بِهِ غنیّ واللَّه- تعالی- سائلهم عن ذلک»(4).

ویقول الإمام أمیرالمؤمنین علی علیه السلام أیضاً:

«سبب الفقر الإسراف»(5).

وفی حدیث آخر یقول هذا الإمام الهمام علیه السلام:

«السَرَف مثواة والقصد مثراة»(6)

، أی أنّ الإسراف یؤدّی إلی الهلکة (الناشی ء من الفقر) وأنّ الاعتدال فی المصرب یتسبب فی الغنی والثروة.

وفی حدیث آخر یقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام:


1- انظر: معرفة مظاهر الفقر والتنمیة( پدیده شناسی فقر و توسعه) بالفارسیّة، ج 2، ص 236.
2- جریدة الاطلاعات( روزنامه اطلاعات) بالفارسیّة، 18/ 8/ 1360 ه ش.
3- معرفة مظاهر الفقر و التنمیة( پدیده شناسی فقر و توسعه) بالفارسیّة، ج 2، ص 211.
4- نهج البلاغة، الحکمة 328.
5- غرر الحکم، ح 8126.
6- بحار الأنوار، ج 69، ص 192، ح 9.

ص: 387

«إنّ السّرف یورث الفقر وإنّ القصد یورث الغنی»(1).

ونقرأ فی روایة عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«ما عال من اقتصد»(2).

ومن هذه الجهة یقول الإمام الصادق علیه السلام:

«ضمنت لمن اقتصد أن لا یفتقر»(3).

وغنی عن البیان أنّ الفقر لیس فقط ظاهرة ذمیمة وسیئة بل یعتبر عاملًا لمفاسد أخلاقیّة أخری من قبیل:

السرقة، الفحشاء، استعمال المخدرات وأنواع الأمراض الجسمیّة والنفسیّة والتی تستدعی کلّ واحد منها نفقات ثقیلة تقع علی عاتق المجتمعات البشریّة وتسلب من البشر استقرارهم وحیاتهم الطیّبة.

2. إهتزاز مبانی الأخلاق

إنّ الهدف من المصرف والاستهلاک، إشباع حاجات وتأمین الظروف اللازمة لاستمرار الحیاة، ولکنّ الإسراف والإکثار من الاستهلاک یترتب علیه آثار وإفرازات خطیرة جدّاً، التی تؤدّی إلی غربة الإنسان عن ذاته بما یصطلح علیه بکلمة (الاستلاب)، لأنّ طبیعة الإنسان لا ترتوی أبداً بالإسراف، لأنّ الوصول إلی إشباع کلّ حاجة یفتح أمام الإنسان باباً لحاجات أخری، وکلّما یتحرک الإنسان لإشباع رغبة معینة، فسوف تتولد فی نفسه رغبات أخری أیضاً، ومن هذه الجهة فإنّ المنابع الطبیعیّة والإمکانات المتوفرة فی الأرض محدودة وفی مقابل اشتهاء الإنسان الذی لا یعرف الحدود، فسوف یعیش الإنسان فی حیاته الفردیّة والاجتماعیّة اهتزاز القیم الأخلاقیّة وسحق الفضائل الإنسانیّة، ویؤدّی فی المجالات الاجتماعیّة إلی زیادة الفاصلة والهوة بین طبقات المجتمع وزیادة حدة التنازع والتنافس والحروب وأشکال التضاد والاضطرابات أخری.

ویستفاد من الروایات أنّ الإنسان المسرف باهداره لإمکاناته المادیّة یتحرک فی مسار تعبر عنه الروایات بسنّة «الاستدراج» أی ینحرف تدریجیّاً عن الفضائل الإنسانیّة والقیم الأخلاقیّة والمعنویّة ویسقط فی مآزق أخری أشد وأدهی من الإسراف، ویصل إلی درجة أنّه یخلع عنه لباس الشرف الفضیلة ویفقد بذلک إنسانیّته وکرامته فی واقع الحیاة.

یقول الإمام علی علیه السلام فی کلام عمیق ودقیق فی هذا الشأن:

«من لبس الکبر والسَّرَف خلع الفضلَ والشَّرف»(4).

والنقطة المقابلة یقول علیه السلام:

«مِن أشرف الشّرف، الکفّ عن التبذیر والسرف»(5).

وجدیر بالذکر أنّ الروایة السابقة تجعل «الکبر» و «الإسراف» فی عرض واحد.

کذلک ورد عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله فی وصف المسرفین والمترفین بأنّهم:

«... راکبون الشهوات»(6).

ومعلوم أنّ الإنسان عندما یمتطی مرکب الشهوات


1- الکافی، ج 4، ص 53، ح 8.
2- در المنثور، ج 4، ص 178، ذیل الآیة 30 من سورة الإسراء.
3- الخصال، ج 1، ص 9؛ بحار الأنوار، ج 71، ص 347.
4- غرر الحکم، ح 7166.
5- غرر الحکم، ح 8143.
6- مکارم الأخلاق، ص 449.

ص: 388

ویتخلی عن الشرف والفضیلة، فسوف نتوقع منه کلّ فتنة وشر، بل مثل هذا الموجود سیتبدل تدریجیّاً إلی مرکز لانتاج الفساد والشر ویعیش حالات النفاق والرذیلة فی حرکة الحیاة.

وکذلک ورد عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله:

«سیأتی من بعدی أقوام ... زیّهم مثل زیّ الملوک الجبابرة، هم منافقوا هذه الأمّة فی آخر الزمان»(1).

3. من الجهة المعنویّة، قلّة البرکة وعدم استجابة الدعاء

إنّ أضرار الإسراف لا تنحصر بما تقدّم آنفاً، بل یستفاد من الروایات الإسلامیّة أنّه أولًا: إنّ الإسراف یتسبب فی قلّة البرکات وزوال النعم والمواهب الإلهیّة، یقول الإمام الصادق علیه السلام

«إنّ مع الإسراف قلّة البرکة»(2).

ویقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام:

«الإسراف یفنی الکثیر»(3).

ونقرأ فی کلمات الإمام الکاظم علیه السلام:

«من بذّر وأسرف زالت عنه النعمة»(4).

وکذلک ورد عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله:

«مَن اقتصد فی معیشته، رزقه اللَّه ومَن بذّر، حرّمه اللَّه»(5).

ثانیاً: ورد فی الروایات الإسلامیّة أنّ الإسراف عامل من عوامل عدم استجابة الدعاء، یقول النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله:

«إنّ أصنافاً من امّتی لا یستجاب دعاوهم ... ورجل رزقه اللَّه مالًا کثیراً فأنفقه ثمّ أقبل یدعو: یا ربّ ارزقنی! فیقول اللَّه عزّ وجلّ: ألم أرزقک رزقاً واسعاً فهلّا اقتصدت فیه کما أمرتک ولِمَ تسرف وقد نهیتک عن الإسراف ...»(6).

وکذلک ورد عن الإمام الصادق علیه السلام فی حدیث مشابه: «لا یستجاب دعاء للاربع فئات من الناس:

مَن کان له مال فأفسده فیقول: یا ربّ ارزقنی فیقول اللَّه عزّوجلّ: ألم آمرک بالاقتصاد؟»(7).

البحث الرابع: سعة مصادیق الإسراف والتبذیر

اشارة

إنّ للإسراف والتبذیر مصادیق کثیرة، والمصداق البارز لهما عبارة عن إتلاف الأموال وإهدار الثروات، وثمة مصادیق أخری أیضاً للإسراف والتبذیر نشیر هنا إلی جملة منها:

1. الاستهلاک المفرط

ورد فی بعض الروایات النهی عن بذل المال بما یؤدّی إلی إفلاس الشخص المنفق وإیصاد الحیاة الکریمة أمامه، أو تکون حیاته صعبة، واعتبرت الروایات أن هذه الحالة من مصادیق التبذیر.

یقول أبوبصیر:

«سألت أبا عبداللَّه علیه السلام عن قوله


1- المصدر السابق.
2- الکافی، ج 4، ص 55، ح 3.
3- غرر الحکم، ح 8119.
4- تحف العقول، ص 403.
5- الکافی، ج 4، ص 54، ح 12.
6- الکافی، ج 5، ص 67، ح 1.
7- المصدر السابق، ج 4، ص 56، ح 11.

ص: 389

تعالی: «لا تبذّر تبذیراً» قال: بذر الرجل ماله ویقعد لیس له مال، قال: فیکون تبذیر فی حلال؟ قال:

نعم»(1).

وهذا الموضوع إلی درجة من الأهمیّة أنّ الإسلام حرّم مثل هذا الإسراف حتی فی المسائل الصغیرة والقلیلة الأهمیّة.

ونقرأ فی روایة عن عبداللَّه بن عمرو:

«مرّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله بسعد، وهو یتوضأ، فقال: ما هذا السَرَف یا سعد؟ قال: أفی الوضوء سرف؟! قال: نعم وإن کنت علی نهر جار»(2).

2. الاستهلاک المضر

إنّ إتلاف الثروة واستخدام الأشیاء المضرّة للبدن من قبل إنفاق المال علی التدخین، فمثل هذا العمل مهما کان ضئیلًا فإنّه یعدّ من الإسراف.

یقول الإمام الرضا علیه السلام:

«لیس فیما ینفع البدن إسراف إنّما الإسراف فیما أتلف المال وأضرّ بالبدن»(3).

3. وضع الثروة فی غیر محلّه

إنّ تحمل العدالة ربّما یکون صعباً علی بعض الأشخاص، وفی حکومة الإمام أمیرالمؤمنین علی علیه السلام نری أنّ جماعة ابتعدت عن الإمام وإلتحقت بمعاویة بسبب کونهم غیر مستعدین لتحمل العدالة الحقیقیّة ولم یوفّروا فی أنفسهم الاستعداد والقابلیة للتخلص من حالات التمییز وطلب المزید، وقد اقترح بعض أصحاب الإمام علیه السلام علیه أن یفتح یدهم فی مجال الإنفاق فی بیت المال ولکن الإمام علیه السلام رفض ذلک وقال:

«ألا وإنّ إعطاء المال فی غیر حقِّه تبذیر وإسراف وهو یرفع صاحبه فی الدنیا ویضعه فی الآخرة ویُکرِّمه فی الناس ویُهینه عنداللَّه ولم یضع امرؤ ماله فی غیر حقّه ولا عند غیر أهله إلّاحرمه اللَّه شکرهم وکان لغیره وُدّهم فإن زلّت به النعل یوماً فاحتاج إلی معونتهم فشرّ خدین وألأم خلیل»(4).

ویتبیّن من جواب الإمام علیه السلام أنّ هذه المسألة لا تختص ببیت المال بل تتعدی إلی مصرف المال الشخصی وإنفاقه فی غیر محلّه وأنّ مصرف المال فی موارد باطلة یعتبر من مصادیق الإسراف.

4. إنفاق المال فی مسیر المعصیة

ویتبیّن من بعض الروایات أنّ أحد مصادیق الإسراف، صرف المال فی طریق المعصیة.

عن علی بن ابراهیم عن الإمام الباقر علیه السلام فی المراد من الآیة الشریفة:

«وَالَّذِینَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ یُسْرِفُوا

...» قال:

«الإسراف الإنفاق فی المعصیة فی غیر حقٍّ»(5).

وجاء فی روایة عن الإمام الصادق علیه السلام قال:

«من


1- بحار الأنوار، ج 72، ص 302 باب 77.
2- مسند أحمد، ج 2، ص 221؛ سنن ابن ماجة، ج 1، ص 147، ح 425.
3- مکارم الأخلاق، ص 57؛ الفصل الثالث فی التدلّک بالخزف؛ من لا یحضره الفقیه، ج 1، ص 71، ح 165.
4- نهج البلاغة، الخطبة 126.
5- تفسیر القمی، ج 2، ص 117.

ص: 390

أنفق شیئاً فی غیر طاعة اللَّه فهو مبذِّر»(1).

وروی أنّ رجلًا سأل من سعید بن جبیر رحمه الله عن الإسراف وإتلاف المال فقال فی جوابه:

«أن یرزقک اللَّه رزقاً فتُنفِقه فیما حرم علیک»(2).

ویقول الإمام أمیرالمؤمنین علیه السلام:

«إنّ إعطاء المال فی غیر حقِّه تبذیر وإسراف»(3).

ویقول الأدیب واللغوی المعروف ابن منظور:

«وأمّا السَّرَف الذی نهی اللَّه عنه فهو ما أنفق فی غیر طاعة اللَّه قلیلًا کان أو کثیراً»(4)

، ویضیف ابن منظور أنّ المراد من عبارة «

لَا تُسْرِفُوا

» فی الآیة الشریفة:

«أکل ما لا یحلّ أکله»(5).

وینقل المرحوم النراقی فی عوائد الأیّام عن مجاهد قوله: «لو أنفقت مثل احُد فی طاعة اللَّه لم تک مسرفاً، ولو أنفقت درهماً أو مدّاً فی معصیة اللَّه لکان إسرافاً»(6).

وینقل المحقق الأردبیلی أیضاً عن بعض علماء قولهم: «الإسراف إنّما هو الإنفاق فی المعاصی، وأمّا فی القرب فلا إسراف و سمع رجل رجلًا یقول: لا خیر فی الإسراف فقال: لا إسراف فی الخیر»(7).

وینقل العلّامة الطبرسی رحمه الله فی «مجمع البیان فی ذیل الآیة 31 من سورة الأعراف عن بعضهم أنّه قال:

«أکل الحرام وإن قلّ إسراف ومجاوزة للحدّ»(8).

5. الإنفاق غیر المتعارف

وجاء فی شأن نزول الآیة:

«وَآتُوا حَقَّهُ یَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسرِفُوا»(9)

أنّ ثابت بن قیس بن شماس أنفق خمسمائة نخلة من نخیله فی سبیل اللَّه ولم یبق شیئاً لعیاله فنزلت هذه الآیة(10).

وجاء فی حدیث آخر: أنّ النّبی صلی الله علیه و آله غضب علی بعض المسرفین فنزلت هذه الآیة، یقول الإمام الصادق علیه السلام:

«وقال رسول اللَّه صلی الله علیه و آله للأنصاری حین أعتق عند موته خمسة أو ستّة من الرقیق، ولم یملک غیرهم وله أولاد صغار: لو أعلمتمونی أمره ما ترکتکم تدفنوه مع المسلمین، یترک صبیّة صغاراً یتکفّفون الناس»(11).

ونقرأ فی صفات عباد الرحمن قوله تعالی:

«وَالَّذِینَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ یُسْرِفُوا وَلَمْ یَقْتُرُوا»(12).

6. استخدام الأموال فی غیر محلّها المناسب

وعلی سبیل المثال فإنّ بعض الملابس یرتدیها


1- بحار الأنوار، ج 75، ص 302.
2- المصنف، ابن أبی شیبة، ج 6، ص 252، ح 6.
3- بحار الأنوار، ج 72، ص 358، ح 72.
4- لسان العرب،« سرف».
5- المصدر السابق.
6- عوائد الأیّام، ص 622.
7- زبدة البیان، ص 410.
8- مجمع البیان، ج 4، ص 245.
9- سورة الأنعام، الآیة 141.
10- تفسیر القرطبی، ج 7، ص 110؛ المغنی والشرح الکبیر، ج 2، ص 706.
11- الکافی، ج 5، ص 66.
12- سورة الفرقان، الآیة 67.

ص: 391

الإنسان فی مواقع خاصّة من حیاته لغرض حفظ حیثیته وشخصیته فی أنظار الناس، فعندما یرتدی مثل هذه الملابس فی غیر موردها ومحلّها، یعدّ إسرافاً.

یقول الإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام:

«إنّما السرف أن تجعل ثوب صونک ثوب بذلتک»(1)

، أی ترتدی الثوب الخاص بخارج البیت فی داخل البیت وتجعله لباساً عادیاً.

یقول سلیمان بن صالح: سألت الإمام الصادق علیه السلام ما هو أقل درجة الإسراف؟ فقال:

«إبذالک ثوب صونک وإهراقک فضل إنائک وأکلک التمر ورَمْیک بالنّوی هیهنا وهیهنا»(2).

ونقل عن ابن مسعود فی تعریف التبذیر قوله:

«إنفاق المال فی غیر حقّه»(3).

7. الإسراف فی الطعام (کثرة الأکل)

قال الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله:

«إنّ من السرف أن تأکل کلّ ما اشتهیت»(4)

، وفی الآیة:

«کُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا

تُسْرِفُوا»(5)

مع الالتفات إلی أنّ جملة

«لا تسرفوا»

وقعت بعد الأمر بالأکل والشرب مباشرة، فنستوحی منها هذه النقطة وهی أنّ الإکثار من الأکل والشرب یعدّ من مصادیق الإسراف المنهی عنه.

ومعلوم أنّ کثرة الأکل والزیادة المفرطة فی تناول الأغذیة، مضافاً إلی الأضرار المادیّة والمعنویّة المترتبة علیه بالنسبة للفرد والمجتمع، فإنّها تتسبب فی أنواع الأمراض، ولا یخفی علی أحد الیوم أنّ بعض الأمراض ناشئة من کثرة الأکل، وتعتبر الثقافة الصحیحة فی تناول الطعام من جملة المسائل التی أکد علیها الدین.

فقد ورد فی روایة عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«إیّاکم والبطنة فإنّها مفسدة للبدن ومورثة للسقم»(6).

یقول الإمام أمیرالمؤمنین علی علیه السلام:

«إیّاک والبطنة فمن لزمها کثرت أسقامه»(7).

کما لا یخفی علی أحد أنّ الاعتدال فی الأکل یوجب للإنسان الصحة والسلامة، ولذلک ورد فی روایة أخری عن الإمام أمیرالمؤمنین علیه السلام:

«من اقتصر فی أکله کثرت صحّته»(8).

ونقرأ فی کلام عن الإمام الکاظم علیه السلام قوله:

«لو أنّ الناس قصدوا فی الطعام لاستقامت أبدانهم»(9).

8. المصارف الخارجة عن الشأنیّة

یروی أبان بن تغلب عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: قال أبوعبداللَّه علیه السلام:

«أتری اللَّه أعطی من أعطی من کرامته علیه، ومنع من منع من هوان به علیه، کلّا ولکن المال مال اللَّه یضعه عند الرجل ودائع وجوز لهم أن یأکلوا قصداً، ویشربوا قصداً، ویلبسوا قصداً، وینکحوا قصداً، ویرکبوا قصداً، ویعودوا بما سوی


1- بحار الأنوار، ج 76، ص 317.
2- الکافی، ج 6، ص 460.
3- مجمع الزوائد، ج 7، ص 35؛ مستدرک الحاکم، ج 2، ص 361.
4- کنز العمال، ج 3، ص 444، شماره 7366.
5- سورة الأعراف، الآیة 31.
6- میزان الحکمة، ج 1، ص 88.
7- المصدر السابق، ص 89.
8- غرر الحکم، ح 7404.
9- المحاسن للبرقی، ج 2، ص 439، ح 296.

ص: 392

ذلک علی فقراء المؤمنین ویرموا به شعثهم، فمن فعل ذلک کان ما یأکل حلالًا، ویشرب حلالًا، ویرکب حلالًا، وینکح حلالًا، ومن عدا ذلک کان حراماً»

ثمّ قال علیه السلام:

«وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَایُحِبُّ الْمُسْرِفِینَ»، أتری اللَّه ائتمن رجلًا علی مال یقول له: أن یشتری فرساً بعشرة آلاف درهم، وتجزیه فرس بعشرین درهماً و ...

ثمّ قال:

«وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَایُحِبُّ الْمُسْرِفِینَ»(1)»(2).

البحث الخامس: معالم الاعتدال والإسراف فی الحیاة

اشارة

مع الالتفات إلی أنّ الروایات الإسلامیّة تعتبر إلقاء الأشیاء الحقیرة والتافهة مثل نواة التمر، إلقاء فضلة الماء وأمثال ذلک من مصادیق الإسراف، فربّما یخلق ذلک هذا التوهم فی ذهن الفرد وهو أنّه لو کانت هذه الأمور الصغیرة جدّاً والتافهة من مصادیق الإسراف، إذن فما هو حکم الأشیاء الفخمة والغالیّة مثل السیارات الغالیة والبیوت البارهة والملابس الفاخرة والمتنوعة وأمثال ذلک فی نظر الإسلام؟ هل أنّ التمتع بهذه المواهب الإلهیّة یعتبر من جملة الإسراف أیضاً؟

فی هذا الفصل نستعرض هذه الحقیقة، وهی أنّ هذه الأمور لیست فقط لا تعدّ من الإسراف، بل یمکن بنظرة أدق أنّها تمثّل نوعاً من الاعتدال والاقتصاد فی المصرف، ومن هذه الجهة فإنّ التمتع بهذه المواهب فی نظر الإسلام، لا یعدّ إسرافاً ما لم یصل إلی حدود البذخ والتجمل والاستهلاک المفرط:

أ) توفیر وسائل الترفیه

نری فی دائرة التعالیم الدینیّة أنّ إمتلاک سقف معیشی متناسب ومقترن بالرفاه والراحة، لیس فقط غیر مذموم، بل نقرأ فی الروایات المختلفة عن المعصومین علیهم السلام الدعوة لأن نطلب من اللَّه تعالی مثل هذه الحیاة.

یقول الإمام علی علیه السلام فی دعائه:

«اللّهمّ ... ارزقنی رزقاً واسعاً حلالًا طیّباً ... نستعین به علی زماننا»(3).

یقول الإمام الباقر علیه السلام

«أسألک اللّهمّ الرّفاهیّة فی معیشتی ما أبقیتنی»(4).

ویقول هذا الإمام علیه السلام أیضاً فی دعاء آخر له:

«أللّهمّ إنّی أسألک خیر المعیشة، معیشةً ... أبلغ بها جمیع حاجاتی»(5).

وکذلک نقرأ فی دعاء عن الإمام زین العابدین علیه السلام:

«أللّهمّ إنّی أسألک خیر المعیشة، معیشةً أقوی بها علی جمیع حاجاتی»(6).

إنّ التوسعة فی أمور المعیشة والحیاة من أجل تأمین حاجات الإنسان والاسرة یعدّ من أبرز معالم


1- سورة الأنعام، الآیة 141.
2- بحار الأنوار، ج 72، ص 305، ح 6 عن تفسیر العیاشی ج 2، ص 13.
3- مصباح المتهجّد، ص 457.
4- المصدر السابق، ص 164؛ الکافی، ج 2، ص 589.
5- جمال الأسبوع( السید ابن طاووس)، ص 241؛ بحار الأنوار، ج 87، ص 12.
6- الصحیفة السجادیّة، ص 572، دعاء بعد النوافل.

ص: 393

الدین الإسلامی، ولذلک نقرأ فی حدیث عن الإمام الرضا علیه السلام:

«صاحب النعمة یجب علیه التوسعة علی عیاله»(1).

وکذلک ورد عن الإمام زین العابدین علیه السلام:

«أرضاکم عنداللَّه أسبغکم علی عیاله»(2).

ب) التغذیة المناسبة

إنّ تناول الأغذیّة الطیّبة وفی الحدود المعقولة لم یرد أبداً مورد النهی والتحریم فی تعالیم الدین، لأنّ القرآن الکریم یقول:

«کُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا»

، وکذلک الروایات وسیرة أولیاء الدین أیضاً تشهد بهذه الحقیقة، وهی أنّهم لم یصدر منهم أی ذمّ أو عتاب بسبب إمتلاک الشخص النعم الإلهیّة مادام لم یتحرک علی مستوی الإسراف والتبذیر، إنّ الطعام المناسب والکافی یعتبر من الضروریات الأولیّة للإنسان ومن العوامل المهمّة لنجاحه فی واقع الحیاة وحرکته فی المجالات الاقتصادیّة والعبادیّة، إنّ رشد وتعالی المجتمعات الدینیّة علی أساس النشاطات فی مختلف مجالات الحیاة یرتبط بشکل وثیق بالتغذیة المتناسبة.

ونقرأ فی القرآن الکریم أنّه عندما جاء ضیوف النّبی إبراهیم علیه السلام إلی بیته لم یعرفهم قام النّبی إبراهیم علیه السلام فی البدایة بتقدیم عجل حنیذ مشوی لهم:

«فما لَبِثَ انْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِیذٍ»(3) و «فَجَاءَ بِعِجْلٍ

سَمِینٍ»(4)

وهذه المسألة تشیر إلی:

1. تناول الأطعمة الجدیدة والطیّبة حلال مادام تدخل فی دائرة رضوان اللَّه تعالی.

2. إنّ النّبی ابراهیم علیه السلام الذی یعتبر اسوة إلهیّة للناس، قد أعدّ فی داره الأدوات اللازمة لطبخ الأطعمة الجدیدة لکی یکون مستعداً أن یشوی عجلًا لضیوف دخلوا علی فجأة وبدون سابق انذار، وطبعاً من اللازم القول أنّ النّبی إبراهیم الخلیل علیه السلام وبسبب إمتلاکه لثروة کبیرة کان یملک أموالًا وخدماً کثیرین بحیث إنّهم کانوا یتناولون الطعام الزائد فی المائدة.

ومعلوم أنّ الرشد الفکری لأفراد البشر والذی ینفخ روح الحیاة والإزدهار فی جسد الامّة، یقوم علی أساس مساعی ونشاطات الأشخاص الذین یتناولون طعاماً متناسباً، إلی درجه أنّ الإمام الصادق علیه السلام یقول فی روایة:

«من ترکه

[اللحم

] أیّاماً فسد عقله»(5).

وکذلک یقول علیه السلام:

«کلوه فإنّه یزید فی السمع والبصر»(6).

وعلی أساس التعالیم الدینیّة، لیس فقط تناول أنواع الخضروات والفواکه واللحوم تعتبر من الحقوق المسلمة لکلّ إنسان، بل یجب علی الرجل کما یقول


1- الکافی، ج 4، ص 11، ح 5؛ تحف العقول، ص 442.
2- الکافی، ج 4، ص 11، ح 1، باب کفایة العیال والتوسّع علیهم؛ تحف العقول، ص 279.
3- سورة هود، الآیة 69.
4- سورة الذاریات، الآیة 26.
5- المعاییر الاقتصادیّة فی التعالیم الرضویّة( معیارهای اقتصادی در تعالیم رضوی) بالفارسیّة، ص 184؛ طبّ الأئمّة، ص 139.
6- المحاسن للبرقی، ج 2، ص 464، ح 428؛ بحار الأنوار، ج 63، ص 66.

ص: 394

الإمام الصادق علیه السلام أنّ یرزق أهله منها أیضاً.

ونقرأ فی روایة عن هذا الإمام علیه السلام:

«لا تکون فاکهة عامة إلّاأطعم عیاله منها»(1).

ج) اللباس

یعتبر اللباس من ضروریات الحیاة وعلی أساس تعالیم الإسلام فإنّ ارتداء اللباس المناسب للعرف والعصر وأن یملک الإنسان ظاهراً جمیلًا ولائقاً یعتبر من الحقوق الطبیعیّة والمسلمة لکلّ فرد وباعث علی عزّة المجتمع الإسلامی فی ظاهر الحال.

بل إنّ إمتلاک الملابس المتعددة بذاته نوع من الرعایة الاقتصادیّة، ولا یعدّ من مصادیق الإسراف.

وقد ورد فی حدیث عن إسحاق بن عمّار أنّ سأل الإمام الکاظم علیه السلام:

«الرجل یکون له عشرة أقمِصة؛ أیکون ذلک من السَّرَف؟

، فقال علیه السلام:

«لا ولکن ذلک أبقی لثیابه ولکنّ السَّرَف أن تلبس ثوب صونک فی مکان القذر»(2).

وکما نری أنّ هذه الروایة أشارت انقطتین:

1. أنّ إمتلاک الملابس المتعددة یعتبر نوعاً من رعایة الإعتدال والاقتصاد فی النفقة، لأنّ ارتداء ثوب واحد بشکل مستمر یؤدّی إلی سرعة تهرئه وتلفه، أمّا الملابس المتعددة فإنّها تدوم بشکل أطول.

2. ینبغی ارتداء الملابس التی تحفظ للإنسان حیثیته وشخصیته الاجتماعیّة فی المحل المناسب واللازم حفظها بشکل جید لکی تبقی فترة أطول ولا یلبسها فی کلّ مورد.

ویستفاد من هذه الروایة أنّ الإسراف لا یتحدد بالکمیّة، بل فی عدم الاستعمال الصحیح لها والذی یعدّ من مصادیق الإسراف.

وکان عَبّاد بن کثیر من الزهاد المرائین وعندما رآی أنّ الإمام الصادق علیه السلام یلبس ثیاباً فاخرة اعترض علیه والروایة کما یلی:

«عن أبی عبداللَّه علیه السلام، إنّه کان متّکئاً علی بعض أصحابه فلقیه عبّاد بن کثیر وعلیه ثیاب مرویّه حسان فقال: یا أبا عبداللَّه إنّک من أهل بیت النبوّة وکان أبوک وکان فما هذه الثیاب المرویّة علیک؟ فلو لبستَ دون هذه الثیاب. فقال له: ویلک یا عبّاد «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِینَةَ اللَّهِ الَّتِی أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّیِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ»(3) إنّ اللَّه عزّ وجلّ إذا أنعم علی

عبده نعمة أحبّ أن یراها علیه لیس بها بأس ویلک یا عبّاد إنّما أنا بضعة من رسول اللَّه (صلی اللَّه علیه وآله وسلم) فلا تؤذنی وکان عبّاد یلبس ثوبین قطریّین»(4).

وجاء فی روایة أخری عن هذا الإمام علیه السلام:

«إنّه قیل له: أصلحک اللَّه ذکرت أنّ علیّ بن أبی طالب علیه السلام کان یلبس الخشن، یلبس القمیص بأربعة دراهم وما أشبه ذلک، ونری علیک اللباس الجیّد؟ فقال له: إنّ علیّ بن أبی طالب علیه السلام کان یلبس ذلک فی زمان لا ینکر ولو لبس مثل ذلک الیوم لشهر به، فخیر لباس کلّ زمان


1- الکافی، ج 5، ص 512.
2- مکارم الأخلاق، ص 112.
3- اعراف، آیه 32.
4- تفسیر الصافی، ج 2، ذیل الآیة 32 من سورة الأعراف؛ الکافی، ج 6، ص 443، ح 13.

ص: 395

لباس أهله»(1).

وعندما توجه ابن عباس بوصفه وکیلًا خاصاً عن أمیرالمؤمنین علیه السلام إلی الخوارج فکان أوّل کلام لهم لابن عباس: لماذا تلبس ملابس الفاخرة؟ فقرأ علیه ابن عباس الآیة 31 و 32 من سورة الأعراف:

«خُذُوا زِینَتَکُمْ عِنْدَ کُلِّ مَسْجِدٍ ... قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِینَةَ اللَّهِ الَّتِی أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ».

ومعلوم أنّ کیفیّة لبس ابن عباس بوصفه رسولًا لأمیرالمؤمنین علیه السلام إلی الخوارج الذین یتظاهرون بالقداسة، لو لم یکن مورد رضا الإمام علیه السلام، فینبغی أنّ ینهاه علیه السلام.

وجاء فی روایة مرّ سفیان الثوری علی الإمام الصادق علیه السلام فی المسجد الحرام فرأی أبا عبداللَّه علیه السلام وعلیه ثیاب کثیرة القیمة حسان، فقال: واللَّه لأتینّه ولأوبخنّه فدنا منه، فقال: یا ابن رسول اللَّه ما لبس رسول اللَّه صلی الله علیه و آله مثل هذا اللباس ولا علی علیه السلام ولا أحد من آبائک، فقال له أبو عبداللَّه علیه السلام:

«کان رسول اللَّه صلی الله علیه و آله فی زمانٍ قتر مقتر وکان یأخذ لقتره وإقتاره وإنّ الدنیا بعد ذلک أرخت عزالیها فأحقّ أهلها بها أبرارها

) ثمّ قرأ الإیة:

«قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِینَةَ اللَّهِ»

. ثمّ قال:

«ونحن أحقّ من أخذ منها ما أعطاه اللَّه»(2).

ونقرأ فی حدیث عن الإمام الصادق علیه السلام:

«فإیّاک أن تتزیّن إلّافی أحسن زیّ قومک»(3).

د) المسکن والمرکب المناسبین

ومن الموارد التی یجدر الالتفات إلیها فی تعالیم الأئمّة المعصومین علیهم السلام التأکید علی الدار الواسعة، وفی الحقیقة فإنّ إمتلاک المنزل الواسع والمرکب المناسب یعتبر من عوامل سعادة الإنسان ورفاهه فی الحیاة ومن حقوق أفراد البشر، والأشخاص الذین یتصورون أنّ إمتلاک هذه الإمکانات والنعم فی الحدّ المقبول من مصادیق الإسراف یقعون فی خطأ فاحش وناشی ء من عدم اهتمامهم بالنسبة لحقوق الاسرة وعدم تحملهم المسؤولیّة فی واقع الحیاة تجاه الآخرین.

ویری الإمام الصادق علیه السلام أنّ سعة المنزل من سعادة الإنسان ویقول:

«من السعادة سعة المنزل»(4)

، ویقول علیه السلام أیضاً:

«من سعادة المرء المسلم، المسکن الواسع»(5).

ونقل فی کنزالعمال عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«إنّ من سعادة المرء، الزوجة الصالحة والمسکن الصالح والمرکب الصالح»(6).

وفی حدیث آخر:

«إنّ من سعادة المرء المسلم فی الدنیا الجار الصالح والمنزل الواسع والمرکب الهنی ء»(7).


1- تفسیر الصافی، ج 2، ص 192؛ الکافی، ج 6، ص 444، ح 15.
2- الکافی، ج 6، ص 442، ح 8.
3- المصدر السابق، ص 440.
4- المصدر السابق، ص 525، ح 1، باب سعة المنزل.
5- المصدر السابق، ص 526، ح 7.
6- کنز العمال، ج 11، ص 98، ح 30777.
7- المصدر السابق، ح 30780.

ص: 396

ونقرأ فی حدیث عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال:

«مِن سعادة المرء دابّة یرکبها فی حوائجه»(1).

ویقول الإمام الباقر علیه السلام:

«من شقاء العیش ضیق المنزل»(2).

وعن معمر بن خلّاد، قال: إنّ أبا الحسن (موسی بن جعفر الکاظم علیه السلام) اشتری داراً وأمر مولی له أن یتحوّل إلیها، وقال: إن منزلک ضیق، فقال الرجل: قد بنی هذه الدار أبی، فقال أبوالحسن علیه السلام:

«إن کان أبوک أحمق، ینبغی أن تکون مثله»(3).

وجاء فی الخطبة 209 نهج البلاغة:

وقد دخل- أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی البصرة- علی العلاء بن زیاد الحارثی- وهو من أصحابه- یعوده، فلما رأَی سعة داره قال: مَا کُنْتَ تَصْنَعُ بِسِعَةِ هذِهِ الدَّارِ فِی الدُّنْیَا؟

وَأَنْتَ إِلَیْهَا فِی الْآخِرَةِ کُنْتَ أَحْوَجَ؟ وَبَلَی إنْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا الْآخِرَةَ: تَقْرِی فِیهَا الضَّیْفَ، وَتَصِلُ فِیهَا الرَّحِمَ، وَتَطْلِعُ مِنْهَا الْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا، فَإِذَا أَنْتَ قَدْ بَلَغْتَ بِهَا الْآخِرَةَ.

فقال له العلاء: یا أَمیرالمؤمنین، أشکو إِلیک أَخی عاصمَ بنَ زیاد. قال: وماله؟ قال: لبِس الْعَبآءَةَ وتَخَلَّی عن الدنیا. قال: عَلَیَّ به. فَلَمَّا جَآءَ قال: یَا عُدَیَّ نَفْسِهِ! لَقَدِ اسْتَهَامَ بِکَ الْخَبِیثُ! أَمَا رَحِمْتَ أَهْلَکَ وَوَلَدَکَ أَتَرَی اللَّهَ أَحَلَّ لَکَ الطَّیِّبَاتِ، وَهُوَ یَکْرَهُ أَنْ تَأْخُذَهَا! أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَی اللَّهِ مِنْ ذلِکَ!

قال: یا أَمیرالمؤمنین، هذا أَنْتَ فی خُشُونَةِ مَلْبَسِکَ وجُشُوبَةِ مأکَلِکَ!

قال: وَیْحَکَ، إِنِّی لَسْتُ کَأَنْتَ، أِنَّ اللَّهَ تَعَالَی فَرَضَ عَلَی أَئِمَّةِ الْعَدْلِ أَنْ یُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ، کَیْلَا یَتَبَیَّغَ بِالْفَقِیرِ فَقْرُهُ!».

وجاء فی روایة أنّ عاصم تأثر من هذا الکلام الحکیم وغیّر ظاهره:

«فألقی عاصم بن زیاد العباء ولبس الملاء»(4).

ه) وسائل التجمّل
اشارة

إنّ التجمّل وتحسین الظاهر والوجه واستعمال العطور یعتبر من خصوصیّات المؤمنین إلی درجة أنّ الإمام الرضا علیه السلام قال:

«الطیب من أخلاق الأنبیاء»(5).

وبدیهی أنّ النفقات التی تنفق علی هذه الأمور لا تعدّ من الإسراف.

یقول الإمام الصادق علیه السلام:

«ما أنفقت فی الطیب فلیس بسَرَف»(6).

وعن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله قال:

«من اتّخذ شَعراً فلیحسن إلیه ومن اتّخذ زوجةً فلیکرمها ومن اتّخذ نعلًا فلیستجدها ومن اتّخذ دابةً فلیستفرهها ومن اتّخذ ثوباً فلینظفه»(7).

عن جابر عن أبی جعفر (الباقر) علیه السلام قال:

«دخل قوم علی الحسین بن علیّ علیهما السلام فقالوا: یابن رسول اللَّه نری فی منزلک أشیاء نکرهها- وإذا فی منزله بسط ونمارق- فقال علیه السلام: إنّا نتزوّج النساء فنعطیهنّ مهورهنّ فیشترین ماشئن لیس لنا منه شی ء»(8).


1- محاسن للبرقی، ج 2، ص 625؛ کافی، ج 6، ص 536، ح 7.
2- الکافی، ج 6، ص 526، ح 6، باب سعة المنزل.
3- المصدر السابق، ص 525، ح 2.
4- الکافی، ج 1، ص 410، ح 3.
5- المصدر السابق، ج 6، ص 510، ح 1، باب الطیب.
6- المصدر السابق، ص 512، ح 16.
7- دعائم الإسلام، ج 2، ص 158، ح 560.
8- الکافی، ج 6، ص 476، ح 1.

ص: 397

عن الحسن الزیات: قال دخلت علی أبی جعفر (الباقر) علیه السلام فی بیت منجّد ثمّ عدت إلیه من الغد وهو فی بیت لیس فیه إلّاحصیر وعلیه قمیص غلیظ فقال:

«البیت الذی رأیته لیس بیتی إنّما هو بیت المرأة وکان أمس یومها»(1).

النتیجة:

یستفاد من مجموع الآیات والروایات الشریفة أنّ الإسلام یری أنّ الاستفادة من المواهب الإلهیّة فی المجالات المختلفة من الحیاة لیس فقط لا یعدّ إسرافاً، بل ربّما یکون من الحقوق الأولیّة للبشر، وخاصّة فیما یتصل بالعائلة والاسرة ویستوجب التقصیر فی ذلک العذاب الإلهی.

وکذلک یستفاد من هذه الروایات أنّ الإسراف أمر نسبی ومن هذه الجهة یختلف حسب الظروف الاقتصادیّة، والزمان والمکان، والشأن والمکانة الاجتماعیّة ویتناسب مع سقف معیشة الأفراد وتوفر إمکانات المعیشة لهم.

فربّما تکون الاستفادة من موهبة إلهیّة فی وضع خاص لفرد أو مجتمع من جملة الإسراف، ولکن فی وضع آخر ولشخص آخر لا یعدّ کذلک.

ونقرأ فی حدیث عن الإمام الصادق علیه السلام:

«ربّ فقیر هو أسرف من الغنیّ، إنّ الغنیّ ینفق ممّا أوتی والفقیر ینفق من غیر ما أوتی»(2).

وهذا الحدیث وأمثاله یوحی بأنّ الإسلام یری فی الإسراف مفهوماً نسبیاً یختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمکنة، یعنی ربّما یکون شی ء معین إسرافاً للفقیر، ولکن هذا الشی ء بالنسبة للغنی أو بالنسبة لذلک الشخص نفسه فی زمان ومکان آخر لا یعدّ من الإسراف، أو عندما یشتری رجل بضاعة معینة فإنّه ربّما یعتبر مسرفاً ولکن رجلًا آخر عندما یشتری نفس هذه البضاعة یکون مسرفاً أکثر.

وکما تقدّمت الإشارة إلیه أنّ الإمام الصادق والإمام الباقر علیهما السلام کانوا یرتدون ملابس أفضل ممّا کان فی عصر رسول اللَّه صلی الله علیه و آله وأمیرالمؤمنین علیه السلام، وعندما یعترض علیهما البعض یشیران إلی اختلاف الزمان.

وهنا قد یثار هذا السؤال المهم: ما هو المعیار لمعرفة الإسراف وعدم الإسراف؟ وکیف یتحقق مفهوم الإسراف فی عمل معین وبأی مقدار من هذا العمل؟

ما نستوحیه من روایات هذا الباب أنّ الملاک فی صدق الإسراف والتبذیر یتبیّن فی ثلاثة أمور وهی:

1. أن یتحرک المری ء فی مجال صرف المال إلی درجة الإتلاف وإهدار المال، من قبیل طرح الماء الزائد فی الإناء أو الإکثار من استعمال الماء عند الوضوء، والذی ورد التعبیر فی الروایات ب «الإسراف».

ونقرأ فی حدیث عن الإمام الرضا علیه السلام:

«إنّما الإسراف فیما أتلف المال ...»(3).

2. أن یکون الاستهلاک أکثر من حاجة الفرد، مثلًا


1- الکافی، ج 6، ص 477، ح 5.
2- الکافی، ج 4، ص 55، ح 4.
3- من لا یحضره الفقیه، ج 1، ص 71، ح 165.

ص: 398

أن لا یکون للشخص حاجة لأکثر من وسیلة نقلیّة واحدة، ولکنّه یشتری عدّة عجلات للاستفادة الشخصیّة کما ورد عن أمیرالمؤمنین علی علیه السلام أنّه قال:

«ما فوق الکفاف إسراف»(1)

، وطبعاً فإنّ هذا المعیار یختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمکنة.

3. أن یکون مصرف الشخص خارخاً عن شأنه، من قبیل أن یحتاج الشخص إلی الخبز لطعامه، ومع ذلک یشتری سیارة فاخرة وغالیة الثمن، أو یلبس لباساً أکثر من شأنه.

وجاء فی حدیث عن أمیرالمؤمنین علیه السلام:

«للمسرف ثلاث علامات: یأکل ما لیس له ویشتری ما لیس له، ویلبس ما لیس له»(2).

ویقول اللغوی المعروف الطریحی فی شرح هذا الحدیث:

«کأنّ المعنی: یأکل ما لا یلیق بحاله أکلُه، ویشتری مالا یلیق بحاله شراؤه ویلبس ما لا یلیق بحاله لبسه»(3).

ومعلوم أنّ شؤون الأفراد تختلف بحسب مکانتهم الاجتماعیّة وموقعتهم المعیشیة والاقتصادیّة فی الأزمنة والأمکنة المختلفة، وربّما یکون شراء بضاعة لشخص معین فی حدود شأنه ولا یعدّ من الإسراف، فی حین أنّ شراء نفس هذه البضاعة لشخص آخر لا یکون من شأنه وبالتالی یعدّ «إسرافاً».

یقول العلّامة النراقی فی عوائد الأیّام بعد استعراض الآیات والروایات فی هذا الباب:

«وظهر ممّا ذکر أنّ الإسراف هو تضییع المال أو صرفه فیما لا یلیق أو فیما لا یحتاج»(4).

ومع الالتفات إلی ما تقدّم من هذه الأمور الثلاثة یمکن القول فی بیان معاییر الإسراف فی نظر الشرع المقدّس أنّ:

«الإسراف عبارة عن الاستفادة من الإمکانات والمواهب بما یؤدّی إلی هدر المال وإتلافه، وکذلک استعماله بأکثر من واقع الحاجة ولا یتناسب من حیث الزمان والمکان مع شأن وموقع المستهلک».

البحث السادس: عوامل التوجه نحو الإسراف وطرق الوقایة منه

اشارة

نواصل البحث فی هذا الفصل فی مجالین:

أ) جذور التوجه نحو الإسراف والاستهلاک المفرط
اشارة

نعلم أنّ الرؤیة الدینیّة فی مجال الصرف الزائد عن حدّ الکفایة أنّه یعتبر من الإسراف، کما ورد عن أمیرالمؤمنین علیه السلام قوله:

«ما فوق الکفاف إسراف»(5)

. وهنا نستعرض العوامل والبواعث التی تدفع بالفرد إلی جهة الإسراف فی الحیاة، ویمکن تقسیم هذه العوامل والأسباب إلی عوامل: باطنیّة وخارجیّة، وفی المجموع فإنّ هذه العوامل عبارة عن:


1- غرر الحکم، ح 9222.
2- من لا یحضره الفقیه، ج 3، ص 167، ح 3624.
3- مجمع البحرین، مادة« س ر ف».
4- عوائد الأیّام، ص 633- 634.
5- غرر الحکم، ح 9222.

ص: 399

1. الغفلة والوساوس الشیطانیّة

إنّ حالات الجهل والغفلة عن اللَّه وعن تعالیمه وأحکامه وکذلک الوساوس الشیطانیّة تستدعی ظهور حالات الإسراف فی واقع الحیاة الفردیّة والاجتماعیّة، لأنّه لو علم الکثیر من المؤمنین أنّ الإسراف فی دائرة الثقافة الدینیّة یعتبر عملًا فرعونیاً وأنّ المسرفین هم إخوان الشیاطین، أو یعلمون أنّ بعض الأعمال مهما کان تافهاً بحسب الظاهر مثل إلقاء النواة هو من مصادیق الإسراف، فمن الطبیعی أن یعیشون الحساسیة بالنسبة إلی هذه المظاهر والأعمال، ولا یقدمون علیها، وفی الکثیر من الموارد فإنّ وساوس إبلیس تدفع أفراد البشر إلی التوجه نحو الإسراف.

ونقرأ فی روایة عن أمیرالمؤمنین علی علیه السلام أنّه قال:

«إیّاک والإسراف فإنّه من فعل الشیطنة»(1).

2. ضعف الالتزام الدینی

إنّ ضعف الإیمان وعدم الالتزام بأحکام الدین وتعالیم السماء من قِبل بعض الأفراد یعتبر عاملًا للتوجه نحو الإسراف ویؤدّی إلی عدم مقاومتهم فی مقابل عوامل الإسراف، وقد ورد فی روایة عن أمیرالمؤمنین علی علیه السلام أنّه قال:

«الرضا بالکفاف من دعائم الإیمان»(2).

وبدیهی أنّ الإنسان الذی لا یملک إیماناً قویّاً ویواجه هذه المشتهیات النفسانیّة التی تدعوه لطلب الملذات الرخیصة والتمتع بالمادیات والأمور الدنیویّة، فإنّها تدعوه أیضاً إلی الإنفاق والاستهلاک أکثر من حاجاته الواقعیّة وبالتالی تجره إلی السقوط فی دوامة الإسراف والتبذیر غیر المبرر.

3. الغرور وسکر الثروة

إنّ طلب الدنیا تقود الإنسان فی خط الشهوات ورکوب الأهواء وتلوث ید الإنسان بأنواع الإسراف والتبذیر والاستهلاک المفرط فی واقع الحیاة وتجعل الإنسان یعیش هم الوصول إلی أنواع الملذات والتنعم بأنواع المادیات ویعیش حالات التجمل والبذخ والترف وکأنّه لا وظیفة له إلّاهذا النمط من المعیشة.

وجاء فی روایة عن أمیرالمؤمنین علی علیه السلام قوله:

«السُّکر أربع سکرات، سکر الشراب، وسکر المال، وسکر النوم، وسکر الملک»(3)

، وهذا ما ورد فی حدیث عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله فی وصفه لهؤلاء الأفراد:

«زیّهم مثل زیّ الملوک الجبابرة»(4)

، طبعاً فإنّ مثل هؤلاء الأشخاص یعیشون الغفلة عن الطبقة المحرومة فی المجتمع، ولا یرون لهم حقّاً فی رقبتهم.

4. سوء الإدارة وعدم وجود البرنامج السلیم

وفی الکثیر من الموارد تکون سوء الإدارة وعدم وجود برنامج واضح فی الحیاة الفردیّة والاجتماعیّة


1- بحار الأنوار، ج 50، ص 292، ح 66.
2- میزان الحکمة، ج 1، ص 199.
3- بحار الأنوار، ج 73، ص 142.
4- مکارم الأخلاق، ص 449.

ص: 400

عاملًا لظهور حالات الإسراف والتبذیر، فلو کانت هناک برامج صحیحة ومحسوسة فإنّ من شأنها الحیلولة دون ظهور هذه الحالات من الإسراف.

وجاء فی کلمات أمیرالمؤمنین علی علیه السلام: أربعة أمور من علامات الضعف والتخلف، وأحدها عبارة عن التبذیر والإسراف (1).

عندما یعیش الإنسان بدون برنامج واضح للحیاة فإنّه یبتلی باستهلاک المفرط والإسراف ویبتلی بإفرازاته السیئة من قبیل قلّة المدّخرات المالیّة والفقر والعوز فی المستقبل ونقرأ فی کلمات أمیرالمؤمنین علی علیه السلام:

«فدَعِ الإسراف مقتصداً واذکر فی الیوم غداً»(2)

، أی ادّخر من مالک الیوم ما تستعین به غداً علی قضاء حوائجک.

ویقول هذا الإمام علیه السلام أیضاً:

«حسن التدبیر ینمی قلیل المال وسوء التدبیر یفنی کثیره»(3).

5. حب الجاه والتظاهر

وفی کثیر من الموارد فإنّ حالات الإسراف لها أبعاد ثقافیّة، فثقافة الأشخاص المبنیّة علی أساس تعالیم خاطئة تقود الإنسان إلی التورط فی الإسراف فی حیاته، ومسألة حبّ الجاه والتظاهر وحبّ التفوّق علی الآخرین، ومثل هؤلاء الأشخاص یتصوّرون عادة أنّ الإسراف والتظاهر بالحیاة المترفة تعدّ نوعاً من المکانة الاجتماعیّة لهم، ومن هذه الجهة یتحرکون فی مجال صرف الأموال بعیداً عن الالتفات إلی مدخولاتهم المالیّة الحقیقیّة ووضعهم الاقتصادی، فیتعاملون علی أساس عادة وتقالید الطبقة الثریّة والمترفة ویقومون بشراء الکثیر من وسائل الترف والتجمّل وأنواع المنتوجات غیر الضروریّة التی لا یحتاجون لها واقعاً، وقد ورد فی حدیث عن الإمام زین العابدین علیه السلام فی وصفه لحالات الحرص فی الإنسان:

«... وذلک أنّ أکثر ما یطلب ابن آدم ما لا حاجة إلیه»(4).

ونقرأ فی حدیث آخر عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه سئل: کیف یبنی الإنسان داراً للتظاهر والتفاخر؟

فقال صلی الله علیه و آله:

«یَبنی فضلًا علی ما یکفیه استطالةً منه علی جیرانه ومباهاةً لإخوانه»(5).

6. القصور الفکری والعقلی

عندما نلاحظ حیاة بعض المسرفین نشاهد أنّ هؤلاء فی أعمالهم المسرفة لا یملکون عقولًا سلیمة ولا یتحرکون فی سلوکیاتهم من مواقع العقلانیّة، یقول أمیرالمؤمنین علیه السلام:

«العقلُ أنّک تقتصد فلا تُسرف»(6).

وکما ورد عن هذا الإمام علیه السلام أنّه قال:

«الحازم مَن تجنّب التبذیر وعاف السَرَف»(7).

ب) طرق الوقایة
اشارة

إنّ طرق الوقایة من الإسراف کثیرة، وفی الجملة فبعضها له بُعد عقائدی وفکری، والبعض الآخر له بُعد


1- غرر الحکم، ح 8128.
2- نهج البلاغة، الکتاب 21.
3- غرر الحکم، ح 8081.
4- الکافی، ج 2، ص 131، ح 11.
5- من لا یحضره الفقیه، ج 4، ص 12.
6- غرر الحکم، ح 470.
7- المصدر السابق، ح 8137.

ص: 401

تربوی، ومنها:

1. تقویة الثقافة الدینیّة والالتفات إلی الآثار المخربة للإسراف

إنّ الإیمان باللَّه تعالی یعدّ أحد الطرق التی تمنع صاحبها من الوقوع فی وادی المعصیة ومنزلقات الخطیئة، وعلی هذا الأساس فإنّ المؤمنین عندما یعلمون بأنّ الإسراف یستوجب غضب اللَّه تعالی وعقابه فإنّهم یتجنبونه ولا یتحرکون فی خط التبذیر، ونری أنّ القرآن الکریم یقرر أنّ المسرفین إخوان الشیاطین، ومن جهة أخری یجدون التأکید فی النصوص الدینیّة علی الاعتدال وأنّها صفة ممتازة من صفات «عباد الرحمن»، ولا شک أنّ الاعتقاد بهذه الأمور یستدعی أن یبتعد الإنسان عن الإسراف، کما أنّ إلفات نظر المجتمع إلی العواقب الوخیمة للإسراف فی الدنیا وإفرازاته السلبیّة فی الحیاة الأخری وکذلک آثار والمعطیات الإیجابیّة للاعتدال والتوسط فی المصرف وآثاره فی نیل السعادة الاخرویّة، کلّ ذلک من شأنه التقلیل من مظاهر الإسراف والتبذیر فی المجتمع.

ولو أنّ المسرفین تفکّروا وتعقلوا فی هذه الأمور وعلموا مقدار ما ینفقونه سنویاً من أموال وما یهدرونه من ثروات فإنّهم سیتحرکون بعیداً عن الإسراف فی واقع الحیاة، فالإحصاءات التی تقدمها المنظمات العالمیّة بالنسبة لهدر المحصولات الزراعیّة وغیرها، إذا تمعن فیها الناس وتدبر فیها المسرفون، فسوف اثیر فیهم الیقظة وتمنعهم من استعمال ثرواتهم فی غیر ما یقرره العقل والشرع.

2. التعالیم اللازمة والبرامج الصحیحة

یقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام:

«من العقل مجانبة التبذیر وحسن التدبیر»(1).

ومضافاً إلی من نستفیده من هذه الروایة من الملاحظة المذکورة أعلاه، فإنّ الکثیر من الموارد وبسبب عدم وجود برنامج صحیح أو عدم وجود إدارة صحیحة، فإنّ مظاهر الإسراف ستتجلی فی واقع الحیاة الفردیّة والاجتماعیّة بشکل قهری.

وعلی سبیل المثال ما نراه الیوم من الحیلولة دون إهدار کمیات کبیرة من المیاه المستخدمة فی الزراعة بواسطة المکننة الحدیثة، وطبعاً لو تیسّر لأحد الاستفادة من هذه الإمکانات فإنّ اللجوء إلی الأسالیب التقلیدیّة فی الزراعة یعدّ نوعاً من الإسراف، لأنّه یؤدّی إلی إهدار کمیات وفیرة من المیاه وکذلک أحیاناً نری أنّ اتقان واستحکام العمل فی بعض المشاریع کالبناء والإعمار، رغم أنّه ربّما یفرض علی الإنسان نفقات أکثر فی بادی ء الأمر ولکنّه علی المدی الطویل یعدّ نوعاً من اجتناب الإسراف، لأنّه لو لم ینفق صاحب البناء المال اللازم لتغطیة النفقات الأولیّة للبناء، فإنّه یضطر فیما بعد أن ینفق عدّة أضعاف ذلک المقدار لغرض ترمیم البناء وتقویته وغیر ذلک.

وفی الحقیقة أنّ هذا هو المقصود من التدبیر فی


1- المصدر السابق، ح 8142.

ص: 402

المعیشة الوارد فی الروایات الشریفة.

روی رجل یُدعی أیوب بن حرّ وقال: سمعت رجلًا یقول لأبی عبداللَّه علیه السلام: بلغنی أنّ الاقتصاد والتدبیر فی المعیشة نصف الکسب، فقال أبوعبداللَّه علیه السلام:

«لا، بل هو الکسب کلّه ومن الدین التّدبیر فی المعیشة»(1).

وفی حدیث آخر یقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام:

«حُسنُ التدبیر وتجنّب التبذیر من حسن السیاسة»(2).

ولا شک أنّ أنّ التعلیم اللازم فی الحقل العام والخاص یؤدّی إلی الوقایة من الوقوع فی ورطة الإسراف.

والالتفات إلی الأمور التالیة من شأنه أن یقی المجتمع من السقوط فی الإسراف:

أ) التفکیر بأضرار وإفرازات الإسراف.

ب) التفکیر بالآثار الإیجابیّة والفوائد المترتبة علی الاعتدال والاقتصاد.

ج) التدبّر فی الآیات والروایات الشریفة وسیرة النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله والأئمّة المعصومین علیهم السلام فی باب ذم وتحریم الإسراف.

البحث السابع: الأشکال الجدیدة للإسراف فی المجتمعات المعاصرة

اشارة

تقدّم فی فصل مصادیق الإسراف، أنّ الإسراف بإمکانه أن یتمظهر علی أشکال مختلفة، ونشیر هنا إلی بعض هذه الأشکال فی عصرنا الحاضر:

أ) فی الطبیعة

إنّ مظاهر الإسراف فی میادین الطبیعة وحیاة البشر مسألة لا تقبل الإنکار، ویمکن تقسیمها إلی نوعین: فردیّة واجتماعیّة، وفی هذا الفصل نشیر إلی بعض هذه المظاهر بحیث إنّ المسؤولین فی المجتمعات البشریة لو تحرکوا علی مستوی إزالتها وعلاجها فإنّ المجتمعات البشریة ستعیش الإزدهار والتطور فی مجالات العلم والحیاة الطیّبة، ومن ذلک:

1. عملیّة تخریب الغابات فی الکثیر من مناطق العالم أضحت بشکل فاجعة فی هذه الأیّام، فقطع الأشجار بشکل مستمر وإنعدام البدیل لها وکثرة استهلاک المنتوجات الصناعیّة، وعدم مبالاة جماعة من القاطنین فی هذه الغابات والمسافرین الذین یتسببون فی حرائق الواسعة فیها، کلّها تعتبر من المصادیق الواضحة للإسراف والاتلاف، ولو أنّ الحالة استمرت بهذه الصورة فستؤدی إلی وقوع فاجعة فی مجال البیئة وتتعرض حیاة البشر فی الکرة الأرضیّة إلی الخطر.

2. الاستخدام الواسع للغازات التی تؤثر علی طبقة الاوزون بشکل مخرب، تعتبر نموذجاً آخر من مظاهر الإسراف فی الاستفادة من مواهب الطبیعة.

3. المیاه الکثیرة التی تهدر یومیاً فی واقع حیاتنا


1- بحار الأنوار، ج 68، ص 349، ح 20.
2- غرر الحکم، ح 7618.

ص: 403

وبالإمکان الاستفادة منها بشکل صحیح، وبدیهی أنّ التقصیر فی إدّخار وخزن هذه المیاه یعتبر نوعاً من الإسراف فی المواهب الإلهیّة، وکذلک المیاه الموسمیّة الناتجة من الأمطار التی تهطل فی بعض فصول السنة والمفروض خزنها وإدّخارها لینتفع منها الناس فی الفصول الأخری من السنّة ولکننا نری أنّها تهدر بیسر وسهولة، وهکذا مسألة المیاه الثقیلة التی یمکن إعادة انتاجها فی هذا العصر وبالتالی الاستفادة منها بشکل مناسب، هی من هذا القبیل.

ب) فی المجتمع

1. ثمة الکثیر من الإشخاص مع إمتلاکهم لشهادة جامعیّة وعلمیّة فإنّهم یشتغلون بأعمال أخری ولا ینتفعون من دراستهم وتخصصهم بشکل مناسب، ألیست هذه المسألة من نوع الإسراف؟

2. ما نراه فی الجامعات والمدارس والحوزات العلمیّة و ... من توفر أوقات کثیرة خارج ساعات الدرس والتی لا یستفید منها الطلّاب وتهدر تماماً.

3. فی المراکز العلمیّة وبسبب عدم وجود أو قلّة الإمکانات المختبریّة فإنّ القابلیات والملکات الکامنة لدی الأفراد لا تجد فرصة للبروز والنمو والتفتح، وبالتالی لا یمکن الاستفادة منها.

4. البیروقراطیّة الإداریّة التی تتسبب فی إتلاف وقت کثیر وتوفر اشتغالًا کاذباً لجماعة من الموظفین، تعتبر من المصادیق الأخری للإسراف.

وفی نظرة واسعة نری أنّ تراکم العمل فی الکثیر من الأمور الاجتماعیّة یؤدّی إلی رکودها وجمود القدرات الخلاقة وتقلل کثیراً من الناحیة العملیّة ساعات العمل المفیدة.

5. حضور التقنیة الجدیدة ومورد الحاجة وصناعة أدوات حدیثة فی المجالات الصناعیّة والزراعیّة المختلفة والتی لم نتوصل إلیها، فإنّها تؤدّی إلی فقدان فرص عمل کثیرة وهذا بنفسه یعدّ نوعاً من الإسراف.

6. لو تحرک المسؤولون علی مستوی إجراء تحقیقات لازمة فیما یتصل بقدرات الشباب وقابلیاتهم وإبداعاتهم، فسوف لا نری کلّ هذا التغییر فی الفروع العلمیّة لدی الشباب، وکثیراً ما نری أنّ الطلّاب یدخلون فی فروع علمیّة لا یرغبون فیها وبالتالی لا یجد الطالب فی نفسه شوقاً إلی مواصلة البحث العلمی والإبداع فیه، وإتلاف الکثیر من أیّام العمر، والمسؤولون بهذا العمل فی مجال الکشف عن هذه القابلیات یستطیعون التقلیل من أحد مصادیق الإسراف فی المجتمع.

7. فی مراکز التعلیم القدیمة والجدیدة، نری أنّ فی کلّ عام یتمّ تجاهل الکثیر من الرسائل الجامعیّة التی یتمّ تقدیمها إلی الإدارة المختصة بعد اتمامها، وتبقی فی زاویة النسیان إلی الأبد وبذلک تنعدم مجالات الاستفادة من المتخصصین وأهل الخبرة.

8. ثمة الکثیر من الأفراد فی جمیع البلدان ینتهون من تحصیلهم الجامعی ویتقدمون إلی المجتمع مع الکثیر من الأمل بحیاة أفضل، ولکننا نعلم أنّ هؤلاء الأشخاص من خریجی الجامعات ومع الاتعاب التی تحملوها والسنوات التی قضوها فی الجامعة والثروة الکبیرة التی أنفقوها فی هذا السبیل، ولکنّهم أوّل شی ء یفکرون وأوّل هاجس یدور فی أذهانهم هو مسألة العثور علی فرصة عمل مناسبة.

ص: 404

9. من المعلوم أنّ بعض المجتمعات المتقدمة فی هذا العصر وبذریعة تثبیت الأسعار وتعدیلها تقوم بإلقاء ملایین من الأطنان من المحصولات الزراعیّة وأرزاق الناس فی البحر، فی حین أنّه یمکن الحیلولة دون هذا الإسراف بوضع برنامج صحیح فی عملیّة الاستفادة من هذه الخیرات والنعم.

10. نعلم أنّ بعض البلدان تبیع سنویاً ملیارات الدولارات من أدوات الحرب والأسلحة والأجهزة الحدیثة القتالیّة، بل إنّها تسعی لإیجاد أسواق لبیع هذه المنتجات علی أساس زیادة الفرقة والنزاعات بین الشعوب والبلدان، فی حین أنّ الکثیر من الحروب یمکن منع وقوعها وبالتالی لا حاجة لمثل هذه النفقات الباهظة فی المجالات العسکریّة وخاصّة بالنسبة لشعوب العالم الثالث.

11. أشکال الإسراف الکثیرة التی نشاهدها الیوم فی مجال أجهزة الاتصالات الجمعیة ممّا لا یخفی علی أحد، فالبرامج المخربة التافهة فی القنوات الفضائیّة والتلفزیون والأفلام السینمائیّة، والصحف والمجلات ممّا یعرّض حیاة البشر وخاصّة جیل الشباب للخطر، أضحت أمراً عادیاً فی مجال الإسراف الیومی.

12. إقامة المؤتمرات الخاویة والتی تبتلی بها غالباً المؤسسات والمراکز والمنظمات فی مختلف المجالات وتستهلک أموالًا طائلة، تعدّ أیضاً من المصادیق البارزة للإسراف فی زماننا.

13. ومن مصادیق الإسراف ما نجده فی بعض المؤکولات والمشروبات التی دخلت فی حیاتنا دون أن تکون لها فوائد ضروریّة ومهمّة، ومن ذلک: ما أوردته إحدی القنوات الفضائیّة قبل مدّة من أنّ مصرف السجائر والتبغ یومیاً یبلغ ملیاری تومان فی ایران، وضعف هذا المبلغ یصرف علی علاج الأمراض الناتجة من استهلاک التبغ [سنویاً 54 ملیار سجارة تصرف فی ایران (1)]، وطبعاً إذا أخذنا هذه النفقات بمقیاس عالمی فسوف نری نتائج مهولة وأرقام مخیفة، ألیس هذا النوع من النفقات من مصادیق الإسراف الجلیّة؟

خلاصّة الکلام، أنّ کلّ شخص لو ألقی نظرة علی ما حوله فسوف یجد تجلیات ومصادیق وأشکال مختلفة للإسراف، ولو تحرک أفراد المجتمع علی مستوی رفعها والتخلص منها فإنّ الحیاة ستتغیر ویتحرک المجتمع البشری خطوات مهمّة نحو حیاة سعیدة ومستقبل زاهر.

ومع الالتفات إلی ما تقدّم أعلاه وموارد أخری من هذا القبیل یتبیّن عمق تعالیم الإسلام وأحکامه فی مسألة تحریم الإسراف والتبذیر والتأکید علی اجتناب هدر الأموال والثروات فی مجالات أخری فی غیر محلّها.

***

المنابع والمصادر

1. القرآن الکریم.

2. نهج البلاغة.


1- الأخبار العامّة لساعة 20( اخبار سراسری ساعت 20) بالفارسیّة، 15/ مرداد/ 1383 ه ش.

ص: 405

3. أعلام الدین فی صفات المؤمنین، الحسن بن أبی الحسن الدیلمی، مؤسسة آل البیت (ع)، قم، سنة 1408 ه ق.

4. بحار الأنوار، محمّد باقر المجلسی، المکتبة الإسلامیّة، طهران، سنة 1388 ه ق.

5. معرفة مظاهر الفقر والتنمیة (پدیده شناسی فقر و توسعه) بالفارسیّة، تحت نظر وإشراف محمود الحکیمی، انتشارات مکتب الإعلام الإسلامی، قم، الطبعة الاولی، 1380 ه ش.

6. تحف العقول، الحسن بن علی بن الحسین بن شعبة الحرانی، مؤسسة النشر الإسلامی، قم، سنة 1404 ه ق.

7. تفسیر الصافی، الفیض الکاشانی، مکتبة الصدر، طهران، 1416 ه ق.

8. تفسیر الطبری، محمّد بن جریر الطبری، دار المعرفة، بیروت.

9. تفسیر العیاشی، أبوجعفر محمّد بن مسعود السلمی السمرقندی، مؤسسة الأعلمی، بیروت، سنة 1411 ه ق.

10. تفسیر القرطبی، الجامع لأحکام القرآن، محمّد بن أحمد الأنصاری القرطبی، دار إحیاء التراث العربی، بیروت 1966 م.

11. تفسیر القمی، علی بن إبراهیم القمی، مؤسسة دارالکتاب، قم، الطبعة الثالثة، 1404 ه ق.

12. التفسیر الکبیر، محمّد بن عمر بن حسین، الفخر الرازی، دار الکتب العلمیّة، طهران.

13. تفسیر الکشاف، محمود بن عمر الزمخشری، دار المعرفة، بیروت.

14. تفسیر المیزان، العلّامة السید محمّد حسین الطباطبائی، دار الکتب الإسلامیّة، طهران، سنة 1372 ه ش.

15. التفسیر الأمثل، آیة اللَّه العظمی ناصر مکارم الشیرازی ومساعدوه، دار الکتب الإسلامیّة.

16. جامع الأخبار، محمّد بن محمّد الشعیری، مؤسسة آل البیت، قم، سنة 1414 ه ق.

17. جمال الاسبوع بکمال العمل المشروع، السید ابن طاووس، اختر شمال، الطبعة الاولی، 1371 ه ش.

18. الخصال، محمّد بن علی بن حسین بن بابویه القمی، مؤسسة النشر الإسلامی، قم، سنة 1403 ه ق.

19. دائرة معارف القرن العشرین، محمّد فرید وجدی.

20. درّ المنثور، جلال الدین السیوطی، دار المعرفة، الطبعة الأولی، 1365 ه ق.

21. دعائم الإسلام، نعمان بن محمّد التمیمی المغربی، دار المعارف- القاهرة، مصر، سنة 1383 ه ق.

22. زبدة البیان، المقدس الأردبیلی، مکتبة المرتضویة لإحیاء التراث الجعفریّة.

23. السرائر، ابن إدریس الحلی، انتشارات جماعة المدرسین، قم، الطبعة الثانیة، 1410 ه ق.

24. سفینة البحار، الشیخ عباس القمی، مؤسسة الوفاء، بیروت.

25. سنن ابن ماجة، محمّد بن یزید القزوینی، دار الفکر، بیروت.

26. شرح أربعین البهائی، خاتون آبادی.

27. شرح نهج البلاغة، ابن أبی الحدید المعتزلی، دار الکتب العلمیّة، بیروت، سنة 1418 ه ق.

ص: 406

28. الصحیفة السجادیّة، باشراف محمّد علی الأبطحی، مؤسسه الإمام المهدی علیه السلام، قم، الطبعة الاولی، 1411 ه ق.

29. طبّ الأئمّة، عبداللَّه بن سابور، منشورات الرضی، قم، الطبعة الثانیة، 1363 ه ش.

30. عوائد الأیّام، أحمد بن محمّد مهدی بن أبی ذر النراقی، مکتب الإعلامی الإسلامی، قم، الطبعة الاولی، 1417 ه ق.

31. عوالی اللئالی، ابن أبی جمهور الإحسائی، سیّد الشهداء، قم، الطبعة الاولی، 1403 ه ق.

32. عیون أخبارالرضا علیه السلام، الشیخ الصدوق، انتشارات جهان، 1378 ه ق.

33. غرر الحکم ودرر الکلم، عبدالواحد الآمدی.

34. فقه القرآن، سعید بن هبة اللَّه الراوندی، مکتبة النجفی المرعشی، قم، سنة 1405 ه ق.

35. قاموس المحیط، محمّد بن یعقوب الفیروزآبادی، المطبعة الحسینیّة، مصر، القاهرة، سنة 1344 ه ق.

36. قرب الإسناد، أبوالعباس عبداللَّه بن جعفر الحمیری، مؤسسة آل البیت، قم، 1413 ه ق.

37. الکافی، محمّد بن یعقوب الکلینی الرازی، دار الکتب الإسلامیّة، طهران، سنة 1388 ه ق.

38. کنز العمال، حسام الدین المتقی الهندی، مؤسسة الرسالة، بیروت، 1399 ه ق.

39. لسان العرب، ابن منظور الأفریقی، دار صادر، بیروت.

40. مجمع البیان، أبوعلی فضل بن الحسن الطبرسی، دار مکتبة الحیاة، بیروت.

41. مجمع البحرین، فخرالدین طریحی، المکتبة الرضویّة، سنة 1365 ه ش.

42. مجمع الزوائد، نورالدین الهیثمی، دار الکتب العلمیّة، بیروت، 1408 ه ق.

43. مجموعة ورام، أبوالحسین الورام بن أبی فراس المالکی، دار الکتب الإسلامیّة، طهران، سنة 1368 ه ش.

44. المستدرک علی الصحیحین، الحاکم النیسابوری، دار المعرفة، بیروت، 1406 ه ق.

45. المحاسن، البرقی، أحمد بن محمّد بن خالد البرقی، دار الکتب الإسلامیّة.

46. مستدرک الوسائل، المیرزا حسین النوری الطبرسی، مؤسسة آل البیت، قم، سنة 1407 ه ق.

47. مسند أحمد، أحمد بن حنبل، دار صادر، بیروت.

48. مصباح المتهجّد، الشیخ الطوسی، بیروت، مؤسسة فقه الشیعة، الطبعة الاولی، 1411 ه ق.

49. مصباح المنیر، أحمد بن محمّد بن علی الفیّومی، منشورات دار الهجرة، قم، سنة 1405 ه ق.

50. المصنّف، ابن أبی شیبة، دار الفکر، الطبعة الاولی، 1409 ه ق.

51. المعاییر الاقتصادیّة فی التعالیم الرضویّة (معیارهای اقتصادی در تعالیم رضوی) بالفارسیّة، محمّد الحکیمی، انتشارات مکتب الإعلام الإسلامی، قم، الطبعة الاولی، 1376 ه ش.

52. مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الإصفهانی، دار القلم بیروت، سنة 1416 ه ق.

53. مکارم الأخلاق، أبونصر حسن بن فضل الطبرسی، مؤسسة الأعلمی، بیروت، سنة 1392 ه ق.

ص: 407

54. من لا یحضره الفقیه، الشیخ الصدوق أبوجعفر محمّد بن علی بن حسین بن بابویه القمی، دار الکتب الإسلامیّة، طهران، 1390 ه ق.

55. مناقب الخوارزمی، موفق بن أحمد الخوارزمی، مکتب الإعلام الإسلامی، قم، سنة 1421 ه ق.

56. الموسوعة الفقهیّة، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامیّة، الکویت.

57. الموسوعة الفقهیّة المیسرة، الشیخ محمّد علی الأنصاری، مجمع الفکر إلاسلامی، قم، سنة 1415 ه ق.

58. میزان الحکمة، محمّد ری شهری، دار الحدیث، الطبعة الاولی.

59. النهایة فی غریب الحدیث والأثر، مبارک بن محمّد الجزری المعروف بابن الأثیر، المکتبة الإسلامیّة سنة 1386 ه ق.

60. وسائل الشیعة، محمّد بن الحسن الحرّ العاملی، دار إحیاء التراث العربی، بیروت، الطبعة الرابعة، 1391 ه ق.

ص: 408

ص: 409

(3). الإکتناز وخروج الثروة عن دائرة الإنتاج

اشارة

البحث الأوّل: التکاثر (التوزیع غیر العادل للثروة)

البحث الثانی: الإکتناز (خروج الثروة من عجلة الإنتاج)

ص: 410

ص: 411

الإکتناز وخروج الثروة عن دائرة الإنتاج

مقدّمات

1. ماذا یعنی إکتناز المال؟

إنّ جمیع الأموال والثروات وعلی أساس تعالیم الإسلام ملک للَّه تعالی وقد أودعها بید الإنسان کأمانة لینتفع منها فی طریق تکامله المعنوی ووصوله إلی ساحل السعادة والنجاة وسلوک طریق الفلاح بسلامة بعیداً عن قوی الباطل والدنیا.

یقول الإمام الصادق علیه السلام:

«المال مالُ اللَّه جعله ودائعَ عند خلقه»(1).

وفی هذه الرؤیة فإنّ مالکیّة الإنسان فی الحقیقة مالکیّة استخلافیّة، بمعنی أنّ الإنسان یستطیع أن یتصرف بماله بإذن المالک الحقیقی له (وهو اللَّه تعالی) وینفقه فی محلّه المناسب:

«وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَکُمْ مُّسْتَخْلَفِینَ فِیهِ»(2).

والمال فی هذه الرؤیة یعتبر وسیلة لاستمرار وتقویة الحیاة المادیّة السلیمة لغرض الوصول إلی المقاصد الإنسانیّة العالیة.

یقول الإمام الباقر علیه السلام بالنسبة للدرهم والدنیا:

«جَعَلها اللَّه مَصِحَّةً لخلقه وبها یَستقیم شؤونهم ومطالبهم»(3).

وفی دائرة الثقافة الدینیّة فإنّ الشؤون المعنویّة والعبادیّة أیضاً، یمکن تدبیرها بواسطة المال والثروة، فنقرأ فی حدیث عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«إنّ اللَّه قال: إنّا أنزلنا المال لإقامة الصلاة وإیتاء الزکاة»(4).

وبدیهی أنّ هذه الخصوصیّة المهمّة للمال تستلزم أن یوضع المال فی دائرة الإنتاج والتوزیع بعیداً عن تجمیده وخزنه، بأن یکون المال قابلًا للاستفادة منه من قِبل الجمیع وتحت شروط معینة، ولکن لو سلبت من المال هذه الخصوصیّة، یعنی أن یتمّ وضع المال فی زاویة وإدّخاره علی شکل کنز راکد، أو جری احتکاره والاستیلاء علیه من قِبل فئة معینة أو جماعة خاصّة وخرج من ید عامّة الناس، ففی هذه الصورة سوف لا یؤثر المال أثره المطلوب فی تقویم ودوام الحیاة الاقتصادیّة فی المجتمع ویتخذ بذلک صورة «المال المکتنز».

وفی عملیّة «إکتناز المال» فإنّ المال بدلًا من أن یکون وسیلة لاستمراریّة ودوام حیاة الفرد والمجتمع، فإنّه یکون هدفاً بذاته، وهذا هو الشی ء الذی یرفضه الاقتصاد الإسلامی وکلّ اقتصاد معقول فی العالم.

وجدیر بالذکر أنّ القرآن الکریم وفی بیان الحکمة من تقسیم الغنائم بین جمیع القادة والجنود والعادیین،


1- مستدرک الوسائل، ج 13، ص 52، ح 14720.
2- سورة الحدید، الآیة 7.
3- بحار الأنوار، ج 70، ص 138، ح 7.
4- کنز العمال، ج 3، ص 200، ح 6165.

ص: 412

یقول:

«کَیْ لَایَکُونَ دُولَةً بَیْنَ الْأَغْنِیَاءِ مِنْکُمْ»(1).

بعد ذکر هذه المقدمة یمکن القول فی تعریف «إکتناز المال»: إنّه عبارة عن تجمیع الأموال والثروات بید فئة خاصّة أو تجمید رؤوس المال وجعلها راکدة وإخراجها من حلبة الإنتاج والتوزیع.

وعلی هذا الأساس فإنّ «المکتنز للمال» تطلق علی الشخص الذی یعیش الاهتمام فقط بزیادة ثروته وتراکم أمواله بعیداً عن مسألة الحلال والحرام ویتحرک علی مستوی جمع الأموال من أی طریق کان، فیکون مصداق:

«الَّذِی جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ»(2)

، فیهتم بجمع المال والثروة من موقع الحبّ والعلاقة الشدیدة بالمال والثروة بحیث إنّه لا یعتبرها وسیلة، بل ینظر إلیها بوصفها هدفاً ویتحرک أبداً من مواقع الشوق واللذة فی جمعها وزیادتها، سواء جعلها راکدة فی مکان معین أو قام باستثمارها لغرض زیادتها.

وممّا تقدّم یتبیّن أنّ «إکتناز المال» وعمل مذموم ولا یختص ب «الإکتناز» وتجمید الأموال، بل یشمل حتی الاستثمارات الغربیة، یعنی ما نراه من الاستخدام الیومی فی عملیّة الاستثمار والتی یطلق علیها ب «التکاثر» أیضاً، لأنّه کما سیأتی فی بحث «المصطلحات المرتبطة» أنّ الإنسان الذی یعیش التکاثر، وإن وضع رأس ماله فی عجلة الإنتاج، ولکنّه لا یهدف من ذلک إلّابالإمساک بعنق الاقتصاد وحصر مراکز الإنتاج بیده.

وعلی هذا الأساس فإنّ بحوث هذا الفصل یمکن تنظیمها فی قسمین أساسیین:

أ) التکاثر (التوزیع غیر العادل للثروة)

ب) الإکتناز (تجمید الثروة)

2. المصطلحات المرتبطة بالإکتناز
أ) التکاثر

«تکاثر» من مادة کثرة، وفی دائرة الثقافة القرآنیّة تطلق علی طلب المزید من الأموال والأولاد لغرض المباهاة والفخر علی الآخرین؛ یقول الراغب الإصفهانی فی مفرداته «المکاثرة والتکاثر التباری (3) فی کثرة المال والعزّ»(4).

وعلی هذا الأساس ورد فی سورة الحدید التکاثر بوصفه مرحلة من مراحل حبّ الدنیا:

«اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَیَاةُ الدُّنْیَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِینَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَیْنَکُمْ وَتَکَاثُرٌ فِی الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ»(5)

، وفرق التکاثر عن «التفاخر» فی أنّ التفاخر یتعلق بالمباهاة بالأنساب والأحساب، ولکن «التکاثر» هو المباهاة فی دائرة الأموال والأولاد وغیر ذلک (6)، وقد ورد فی سیاق بعض الروایات مفردة التکاثر مترادفة مع «الإکتناز» بمعنی جمع المال وإدّخاره وتجمیده بدون لحاظ التفاخر والمباهاة، ففی الحدیث الشریف عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله قال فی مسألة التکاثر فی الأموال:

«التکاثر فی الأموال، جَمْعُها من غیر حقِّها ومَنْعها من حقِّها وشَدُّها فی الأوعیة»(7).

وثمة معنی ثالث أیضاً لهذه المفردة فی الاستعمالات العرفیّة، وهو عبارة عن مطلق جمع


1- سورة الحشر، الآیة 7.
2- سورة الهمزه، الآیة 2.
3- تباری الرجلان:« تعارضا وفعل کلاهما مثل ما یفعل صاحبه و تنافسا»( المعجم الوسیط، مادة« بری»).
4- مفردات الراغب، مادة کثر.
5- سورة الحدید، الآیة 20.
6- انظر: التفسیر المنیر؛ غرائب القرآن؛ المیزان، ذیل الآیةالاولی من سورة التکاثر.
7- تفسیر نور الثقلین، ج 5، ص 662، ح 8.

ص: 413

المال والثروة، سواءً لغرض المباهاة أم لغیر ذلک، وسواءً جعله المالک فی دائرة الإنتاج أم لا.

ب) الإکتناز

والمفردة الأخری التی ترتبط بکلمة «إکتناز» معنی «الکنز» وهذه المفردة فی الأصل تعنی جمع أجزاء شی ء معین، ولذلک تطلق هذه الکلمة علی الجمل البدین، فیقال: «کنّاز اللحم»، ثمّ استعمل فی جمع وحفظ وإخفاء الأموال أو الأشیاء الغالیّة الثمن مثل الذهب والفضة أیضاً، وعلی هذا الأساس یتضمّن مفهوم هذه الکلمة حالة الجمع والحفظ وأحیاناً إخفاء الشی ء أیضاً(1).

ونقرأ فی الآیة 34 من سورة التوبة:

«الَّذِینَ یَکْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا یُنفِقُونَهَا فِی سَبِیلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِیمٍ».

ج) الإحتکار

الإحتکار یعنی حبس وخزن الأجناس والبضاعة التی یحتاج إلیها الناس فی المخازن وخاصّة المحصولات الزراعیّة والأطعمة لغرض ارتفاع قیمتها(2).

وهذا العمل لا یختص بمورد خاص وجنس معین، رغم أنّ بعض فقهاء الإسلام ذکروا فی مورد الإحتکار أنّه یختص بالأطعمة(3) و «القوت» ولکن ما یستفاد من النصوص أنّ الإحتکار یطلق علی کلّ خزن وحبس لما یحتاجه عامّة الناس ویؤدّی إلی تجمید الحرکة الاقتصادیّة فی المجتمع ووقوع الناس فی صعوبة وأزمة، والإحتکار حرام شرعاً(4).

و «الإحتکار» یعتبر نوعاً من جمع المال بشکل مؤقت ولغرض الحصول علی ثروة أکثر، وهذا العمل یثیر فی نفوس الرأسمالیین وأصحاب الثرة الوسوسة والرغبة الکبیرة، لأنّهم یستطیعون وبهذه الطریقة وفی مدّة قصیرة وبدون تعب کبیر أن یحصلوا علی ثروات عظیمة وأرباح جسیمة.

د) الاستئثار

«استئثار» یعنی حصر الشی ء لنفسه، «استأثر بالشی ء علی الغیر: استبدّ به وخصّ به نفسه»(5).

وجاء فی روایة عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«خمسة لعنتهم وکلّ نبیّ مجاب (6): المستأثر بالفَی ء

المستحلّ له»(7).

البحث الأوّل: التکاثر (التوزیع غیر العادل للثروة)

اشارة

ویقع الکلام فی هذا البحث فی ثلاثة أقسام:


1- صحاح اللغة، مادة« کنز»؛ معجم مقائیس اللغة، من نفس المادة.
2- صحاح اللغة، مادة« حکر».
3- انظر جواهر الکلام، ج 22، ص 482 و 483.
4- المکاسب للشیخ الأنصاری، ج 4، ص 362.
5- المنجد، مادة« أثر». ورود فی مفردات الراغب مثله:« الإستئثار: التفرّد بالشی ء من دون غیره». ونقرأ فی لسان العرب« مادة أثر»:« الاستئثار: الإنفراد بالشی ء ومنه حدیث عمر، لمّا ذُکر له عثمان للخلافة فقال: أخشی حفدَه وأثرته».
6- یعنی کلّ نبیّ مستجاب الدعوة.
7- الکافی، ج 2، ص 293.

ص: 414

1. العوامل والأسباب
اشارة

بما أنّ أعمال الإنسان تمثّل انعکاساً لصفاته وخصوصیاته الأخلاقیّة، وما لم نتعرّف علی جذور هذه الأعمال وعلاجها فلا یمکن تغییر هذه الأعمال إلّا بآلیات العنف، ونعلم أنّ استخدام طریق القوّة والعنف لغرض حلّ المشاکل الاجتماعیّة ذو أثر محدود وقلیل، وما لم یتمّ تصحیح الثقافة السائدة فی جوّ المجتمع وفی الذهنیّة العامّة فإنّ المشکلة ستبقی بدون حلّ أساسی، ومن هذه الجهة لابدّ فی البدایة من الکلام فی بحث التکاثر وجمع الثروات من التوجه إلی جذور هذه الحالة.

أ) صفة البخل

بدیهی أنّ «جمع الثروة» یرتبط بشکل وثیق مع صفة البخل الرذیلة، فالشخص الذی یعیش هذه الصفة الذمیمة، فمهما کان ثریاً من الجهة الاقتصادیّة، ولکنّه یعیش بدون إرادة عیش الفقراء، وقد ورد فی حدیث عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«سیکون بعدکم قوم لا یستقیم لهم ... الغنی إلّابالعجز والبُخل»(1).

وعلی هذا الأساس وکما قال رسول اللَّه صلی الله علیه و آله: إنّ الشخص الذی یدفع زکاة ماله فإنّه یعیش بعیداً عن البخل:

«بری ءٌ من الشُّحَّ من أدّی الزکاة»(2).

ونقرأ فی حدیث عن أمیرالمؤمنین علی علیه السلام أنّه قال:

«عجبتُ للبخیلِ یستعجِلُ الفَقْرَ الذی منه هربَ ویفوته الغنی الذی إیّاه طلب»(3).

ومثل هذا الشخص الذی یعیش القلق وفقدان الراحة، لا یفکر إلّابجمع الأموال وإدّخارها وبهذه الطریقة یتمکن من جمع ثروات کثیرة لنفسه.

قال رسول اللَّه صلی الله علیه و آله:

«لا یبقی المالُ إلّالِبَخیلِ»(4).

ونقرأ فی حدیث عن الإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام أنّه قال:

«لا یَجْتمعُ المالُ إلّابخصالٍ خمس:

ببخلٍ شدیدٍ ...»(5).

والشخص المبتلی بالبخل فإن یمثّل فی الواقع خازن للأموال حیث یعمل علی جمع الأموال وخزنها فی مکان معین وفی النهایة وبدون أن یستفید منها یترکها بموته للورثة.

یقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام:

«البخیلُ خازنٌ لوارثِهِ»(6).

ومعلوم أنّ جمع الأموال فی خزانة یعنی إخراجها من عجلة الإنتاج، وهذا العمل یستتبع الرکود الاقتصادی فی المجتمع، کما قال الإمام أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی حدیث عمیق المغزی:

«آفة الاقتصاد البخل»(7).

ولعل هذا الکلام مقتبس من کلمات النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله الذی قال:

«أیّ داءٍ أدوأ من البخل؟»(8)

، فی


1- کنز العمال، ج 3، ص 209، ح 6195.
2- کنز العمّال، ج 4، ص 449، ح 7393.
3- نهج البلاغة، الحکمة 126؛ بحار الأنوار، ج 69، ص 199، ح 28.
4- غرر الحکم، ح 8311.
5- عیون أخبار الرضا، ج 1، باب 28، ح 13؛ الخصال، للصدوق، ص 282.
6- عیون الحکم والمواعظ، ص 26؛ غرر الحکم، ح 6511.
7- غرر الحکم، ح 6519؛ میزان الحکمة، ج 1، ص 85.
8- کنز العمال، ج 3، ص 449، ح 7389.

ص: 415

إشارة إلی هذه الحقیقة أنّ البخل یمثّل العامل الأصلی للرکود الاقتصادی، ویستتبع ذلک الفقر والمسکنة لجمهور کبیر من أفراد المجتمع والطبقة الضعیفة من الذین یعیشون حالات الحرمان فی واقع الحیاة.

واللافت أنّ القرآن الکریم یحذر من البخل فی کونه منشأ التغییرات الرئیسیّة فی المؤسسات الاجتماعیّة ویؤدّی إلی ظهور الانتفاضات والثورات:

«هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِی سَبِیلِ اللَّهِ فَمِنْکُمْ مَّنْ یَبْخَلُ وَمَنْ یَبْخَلْ فَإِنَّمَا یَبْخَلُ عَنْ نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِیُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا یَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَیْرَکُمْ»(1).

ب) الحرص

إنّ تأثیر هذه الصفة فی جمع الأموال وإدّخارها إلی درجة أنّ أمیرالمؤمنین علیه السلام اعتبرها العامل الوحید لتکاثر الثروة وإکتنازها یقول:

«لا یجمع المال إلّا الحرص»(2).

فالحرص لا یدع الإنسان الحریص یعیش الهدوء والراحة ویدفعه دوماً باتّجاه جمع المال وإدّخاره، وقد ورد عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أنّ الإنسان الحریص إذا کان یملک وادٍ مملوء بالثروة فإنّه یسعی مل ء وادٍ آخر وثالث وهکذا:

«لو کان لابن آدم واد من مالٍ لابتغی إلیه ثانیاً ولو کان له وادیان لابتغی لهما ثالثاً»(3).

وقالوا دوماً: إنّ الإنسان الحریص لا یشبع أبداً، ومن هذه الجهة فإنّه یسعی دائماً لجمع المال وإدّخار الثروة، بل إنّه لا ینتفع بها أیضاً، یقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی کلام بلیغ آخر:

«الحریص فقیر ولو ملک الدنیا بحذافیرها»(4).

وتقدّم کلام الإمام الرضا علیه السلام

«حِرص غالب»

(أی الحرص المفرط والأکثر من الحدّ العادی بحیث یسیطر علی وجود الإنسان وینفذ إلی أعماقه) ویعدّ عاملًا آخر من عوامل تجمیع الثروة وإکتنازها:

«لا یجتمع المال إلّابخصالٍ خمس ... وحرصٍ غالب»(5).

وجاء فی حدیث عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله عبارة عجیبة عن هذه الرذیلة الأخلاقیّة، حیث ذکر النّبی صلی الله علیه و آله أنّ الضرر الذی یصیب دین الإنسان من الحرص بمثابة الذئب الجائع الذی یهجم علی قطیع الأغنام، نقرأ فی هذا الحدیث:

«ما ذئبان جائعان أرسلا فی غنم بأفسد لها من حرص المرء علی المال والشرفِ لدینه»(6).

ج) عبادة الثروة

إنّ الحبّ المفرط للمال والثروة والعشق لزخارف الدنیا وبریقها یعدّ من العوامل الإساسیة لتجمیع الثروة.

یقول العلّامة الطباطبائی فی تفسیر الآیة:

«وَإِنَّهُ


1- سورة محمّد، الآیة 38.
2- غرر الحکم، ح 8310.
3- کنز العمال، ج 3، ص 459، ح 7432؛ سنن الترمذی، ج 5، ص 370.
4- غرر الحکم، ح 6630.
5- نور الثقلین، ج 5، ص 668؛ عیون الأخبار، ج 1، باب 28، ح 13.
6- کنز العمال، ج 3، ص 460، ح 7436؛ مسند أحمد، ج 3، ص 456.

ص: 416

لِحُبِّ الْخَیْرِ لَشَدِیدٌ»(1)

قیل: اللام فی «لحبّ الخیر» التعلیل والخیر المال، والمعنی إنّ الإنسان لأجل حبّ المال الشدید، أی بخیل شحیح، وقیل المراد أنّ الإنسان لشدید الحب للمال ویدعوه إلی الامتناع عن إعطاء حقّ اللَّه، والإنفاق فی اللَّه ...»(2)، (وطبعاً لا یخفی أنّ الإنفاق لیس دوماً بمعنی الإنفاق بلا عوض، بل یشمل کلّ إنفاق یستفید منه الآخرین).

وذکر العلّامة الطباطبائی رحمه الله فی تفسیر الآیات الشریفة:

«وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَی طَعَامِ الْمِسْکِینِ

* وَتَأْکُلُونَ التُّرَاثَ أَکْلًا لَّمّاً* وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً»

، یستفاد من هذه الآیات أن أعمالًا من قبیل جمع المال وعدم الاهتمام بالآخرین، ومنشأه حب المال (3).

وکلمة «جمّاً» فی مصباح اللغة و المقاییس تعنی الکثیر والوافر.

أضف إلی ذلک فإنّ مثل هذه العلاقة الشدیدة بالمال والثروة تستتبع أموراً أخری أیضاً، منها أنّ الإنسان عندما یهتم بجمع المال وإدّخاره فإنّه لا یلاحظ مسألة الحلال والحرام، ولا یهتم بدفع الحقوق الإلهیّة المالیّة، وکذلک فإنّ مثل هذا الشخص الذی إستولی حبّ المال علی قلبه فإنّه لا یجد ذکر اللَّه محلّاً فی قلبه.

ونقرأ فی حدیث عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال:

«إذا أبغض اللَّه عبداً حبّب إلیه المال وبسط له وألهمه دنیاه ووکّله إلی هواه فرکب العناد وبسط الفساد وظلم العباد»(4).

ویستفاد من بعض الروایات أنّ عبادة المال (العلاقة المفرطة بالثروة) أشد وأشنع من عبادة الصنم، فعن ابن عباس (عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله) قال:

«إنّ أوّل درهم ودینار وضع فی الأرض نظر إلیهما إبلیس فلمّا عاینهما أخذهما فوضعهما علی عینیه ثمّ ضمّهما إلی صدره ثمّ صرخ صرخة ثمّ ضمّهما إلی صدره ثمّ قال:

أنتما قرّة عینی وثمرة فؤادی، ما أبالی من بنی آدم إذا أحبّوکما أن لا یعبدوا وثناً، حسبی من بنی آدم أن یحبّوکما»(5).

وغنی عن البیان أنّه عندما تشتعل نیران الرغبة والعشق لزخارف الدنیا فی أعماق وجود الإنسان، فسیکون حاله حال العاشق القلق فی سعیه لجمع الثروة ومن أی طریق کان وبذلک یسحق جمیع القیم والمعنویات بدافع الوصول إلی هذه الغایة، وحتی أنّه یعیش اللامبالاة وعدم اهتمام بأرحامه وأقربائه المحتاجین.

وعلی هذا الأساس ورد فی کلام سابق للإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام، أنّ قطع الرحم (وترک المعونة المالیّة للأرحام المحتاجین) یعتبر أحد عوامل


1- سورة العادیات، الآیة 8.
2- المیزان، ج 20، ص 347.
3- المیزان، ج 20، ص 283.
4- بحار الأنوار، ج 100، ص 26، ح 34.
5- أمالی الصدوق، ص 269، ح 296/ 17؛ بحار الأنوار، ج 70، ص 137، ح 3.

ص: 417

جمع المال والثروة:

«لا یجتمع المال الّا بخصالٍ خمس ... وقطیعة الرحم»(1).

د) حبّ البقاء والخلود

لا شک أنّ الإنسان بدافع الغریزة یطلب البقاء والخلود، ویتصور بعض الأثریاء أنّ المال عامل علی طول البقاء فی الحیاة، ومن هذه الجهة یتحرکون من موقع التکاثر فی الأموال، کما أشار القرآن الکریم إلی هذه النقطة بشکل لطیف وقال:

«یَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ»(2).

یقول العلّامة الطباطبائی رحمه الله ضمن تفسیره للآیة أعلاه: «فظاهر حاله أنّه یری أنّ المال یخلده ولحبّه الغریزی للبقاء یهتمّ لجمعه وتعدیده»(3).

إنّ «حبّ طول الحیاة» یستتبع غرس الآمال الطویلة فی قلب الإنسان وفی هذه الصورة فکلما امتد عمر الإنسان وشارف علی الکهولة والشیخوخة فکأنّ شجرة الآمال والطموحات تقوی وتشتد فیه.

وقد ورد فی حدیث عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله قال:

«... الشیخ یضعف جسمه وقلبه شابّ علی حبّ اثنتین:

طولِ الحیاة وحبّ المال»(4).

وفقاً لما ورد فی الروایات الإسلامیّة أنّ الإنسان غالباً وبسبب جهله وغفلته عن عدم ثبات الدنیا وعدم وفائها، فإنّه یبتلی بهذا التصور وأنّه سیملک عمراً طویلًا، فمن هذه الجهة تتراکم فی ذهنه مجموعة من الآمال الطویلة والطموحات الموهومة ویسقط فی دوامة «طول الأمل» فیبادر لجمع الأموال وإدّخار الثروات.

ونقرأ فی حدیث عن مولی المتقین الإمام علی علیه السلام أنّه قال:

«اتّقوا خِداع الآمال، فکم من مؤمِّل یوم لم یُدرکه، وبانی بناء لم یسکنه وجامع مال لم یأکله»(5).

وجاء روایة عن الإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام والتی سبقت الإشارة إلیها أنّ أحد العوامل لتجمیع الثروة وتکاثر الأموال هو:

«لا یجتمع المال إلّابخمس خصال ... وأمل طویل»(6).

ه) الخوف من الفقر وعدم الأمن الاقتصادی

إنّ ذریعة الخوف من الإبتلاء بالفقر والعوز والإفلاس أو الخوف من ظهور اضطرابات الاقتصادیّة فی المجتمع، تدفع جماعة من طلّاب الدنیا لجمع الأموال والتکاثر فی الثروات، وبهذه الطریقة ومن خلال تجمید بعض الثروات فإنّهم یتسببون فی خروجها من عجلة الإنتاج والاقتصاد.

ومعلوم أنّ مثل هذا الشخص المکتنز للمال سوف یتحرک من موقع الاحتیاط التام بأدنی شعور باضطراب اقتصادی، وما لم یشعر بالاطمئنان بعودة رأس ماله والربح الحاصل منه فإنّه لا یدفع بماله فی عملیات الاستثمار وفی عجلة الإنتاج.

والشیطان أیضاً له دور فی إلقاء الخوف من الفقر وفشل المشاریع الاقتصادیّة ویعمل علی تضخیم هذا


1- نور الثقلین، ج 5، ص 668؛ عیون الأخبار، ج 1، باب 28، ح 13.
2- سورة الهمزه، الآیة 3.
3- المیزان، ج 20، ص 359.
4- کنز العمال، ج 3، ص 490، ح 7555.
5- غرر الحکم، ح 7247.
6- نور الثقلین، ج 5، ص 668.

ص: 418

الخطر أمام أتباعه:

«إِنَّمَا ذَلِکُمْ الشَّیْطَانُ یُخَوِّفُ أَوْلِیَاءَهُ»(1).

ونقرأ فی سورة البقرة بعد تأکید شدید علی الإنفاق:

«الشَّیْطَانُ یَعِدُکُمُ الْفَقْرَ»(2)

، بسبب الإنفاق.

وجاء فی حدیث عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله تعبیر عجیب فی هذا المجال:

«ما یخرج رجل شیئاً من الصدقة حتّی یفکّ عنها لِحْیَیْ سبعین شیطان»(3)

، وکأنّ الشیاطین یتمسکون بأموال هذا الشخص بیدهم وأسنانهم ولا یسمحون له بسهولة إنفاقها فی سبیل اللَّه علی الفقراء والمحتاجین، وهذا التمسک بالأسنان هو خوفهم الفقر والاضطراب الاقتصادی.

و) نسیان المعاد

وهذا هو الشی ء الذی ینتج عنه الکثیر من الرذائل کالحرص والطمع والآمال الطویلة، والرذائل التی لکلّ واحد منها دور فاعل فی دفع الإنسان باتّجاه إکتناز ا لمال وجمع الثروات.

یقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام:

«من لهج قلبه بحبّ الدنیا إلتاط قلبُهُ منها بثلاث: همّ لایُغِبُّهُ وحرصٍ لایترکُهُ وأمَل لایُدرِکُهُ»(4).

یقول القرآن الکریم فی وصف «الولید بن المغیرة» (وهو الرجل الثری والمغرور فی مکة الذی کان المشرکون یستشیرونه فی مسائل مهمّة):

«وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُوداً ... ثُمَّ یَطْمَعُ أَنْ أزید»(5).

وهذه الحالة لا تنحصر بالولید بل تشمل جمیع طلّاب الدنیا، فلو أنّ الإنسان العابد للدنیا حصل علی سبعة أقالیم من الأرض فإنّه یطلب أیضاً أقالیم أخری ولا یروی عطشه هذا أی شی ء.

فنقرأ فی کلام عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله قال:

«حرام علی کلّ قلب یُحبّ الدنیا أن یفارقه الطمع»(6).

وعلی أساس التعالیم الدینیّة فإنّ حبّ الدنیا والغفلة عن الآخرة تدفع الإنسان إلی جمع المال وإدّخار الثروة.

إنّ من یعیش حالة الطمع والجشع یتحرک فی جمع الأموال کأنّه لا یملک شیئاً، ولذلک لا ینتفع ممّا لدیه من أموال، ولعل الروایة الوارد عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله تشیر إلی هذه النقطة قال:

«إیّاک والطمع فإنّه الفقر الحاضر»(7).

ویقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی هذا المجال:

«إنّکم ان رغبتم فی الدنیا أفنیتم أعمارَکم فیما لا تبقون له ولا یبقی لکم»(8).

ونقرأ فی کلام عجیب آخر لهذا الإمام علیه السلام:

«لَطلب المال والثروة أسرعُ فی خراب دین الرجل من ذئبین ضاریین باتا فی حظیرة غنم، مازالا فیها حتّی


1- سورة آل عمران، الآیة 175.
2- سورة البقرة، الآیة 268.
3- صحیح ابن خزیمة، ج 4، ص 105.
4- نهج البلاغة، الحکمة 228.
5- سورة المدّثر، الآیة 12 و 15.
6- میزان الحکمة، ج 2، ص 897، نقلًا عن: تنبیه الخواطر، ج 2، ص 122.
7- المعجم الأوسط، ج 7، ص 370؛ کنز العمال، ج 3، ص 496، ح 7581.
8- عیون الحکم والمواعظ، ص 175؛ غرر الحکم، ح 2518.

ص: 419

أصبحا»(1).

ونعلم أنّه لیست من عادة الذئب أن یأخذ الشاة ویتناول من لحمها بمقدار حاجته، بل یملک حالة من التوحش والسبعیّة بحیث یفترس جمیع الأغنام ویترکها جثة هامدة.

والحقیقة أنّ حبّ الدنیا والغفلة عن الآخرة تعتبر مفتاح الکثیر من الرذائل کالحرص والطمع والرذائل التی تدفع بالإنسان بشدّة إلی التورط فی جمع المال بدون قید وشرط وتمنعه من الإنفاق فی سبیل اللَّه بل لا تسمح له باستثمار هذا المال لغرض إیجاد فرص عمل للآخرین.

2. طرق الوقایة من التکاثر مقدّمة:
اشارة

إنّ مطالعة التعالیم الدینیّة، سواءً ما یتضمّن القوانین والسیاسات الاقتصادیّة أو الثقافیّة والحقوقیّة، یشیر إلی أنّ النظام الاقتصادی فی الإسلام تمّ تنظیمه بشکل یسوق المجتمع إلی جهة تعدیل الثروات وإیجاد التوازن الاقتصادی العادل، یعنی أنّه من جهة یعمل علی مجابهة الفقر وإزالته من فضاء المجتمع، وحتی الأشخاص الذین لا یستطیعون عمل أی شی ء، فإنّهم یملکون حیاة طبیعیّة علی الأقل، ومن جهة أخری فإنّه یمنع وجود الأرضیّة لجمع الثروات وتمرکزها بید فئة قلیلة.

ومن جهة ثالثة فإنّ المال فی نظر الإسلام یعتبر وسیلة لظهور وبروز القدرات والقابلیات الکامنة فی وجود الإنسان، وفی هذه الرؤیة فإنّ المال باعث علی قوام ودوام حیاة الفرد والمجتمع، ولذلک فإنّ المال إذا لم یقع فی خدمة أفراد المجتمع وانحصرت الاستفادة منه بید فئة قلیلة من الأثریاء، فإنّه سیفقد تأثیره الإیجابی، وبالتالی یتزلزل التعادل الاقتصادی والمالی فی المجتمع، ومع بروز فاصلة طبقیّة عمیقة تزداد المشکلات وتشتد بالنسبة للفرد والمجتمع، وأحیاناً توفّر الأرضیّة للانفجار والانتفاضات الاجتماعیّة.

أضف إلی ذلک أنّ الإسلام یری فی الأشخاص الذین یتحرکون فی حیاتهم علی مستوی إرضاء حالة الحرص لدیهم من خلال تجمیع الأموال وتراکم الثروات، فهم فی الحقیقة یعرّضون وجودهم وکیانهم للخطر، یقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام:

«من یستأثر من الأموال یهلک»(2).

ونقرأ فی حدیث عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«من سعی علی التکاثر فهو فی سبیل الشیطان»(3)

. والدراسات الاقتصادیّة المعاصرة والشواهد التاریخیّة أیضاً تؤکد صحة هذه الحقیقة، وهی أنّ إکتناز الثروة لدی فئة من أصحاب الرسامیل والرأسمالیین تتسبب فی اضطرابات اجتماعیّة وانتفاضات مخربة بل تؤدّی أحیاناً إلی تغییر النظام الاقتصادی فی المجتمع.

وطبقاً للحدیث الوارد عن الإمام الباقر علیه السلام فإنّ اللَّه


1- کنز العمال، ج 3، ص 718، ح 8562.
2- تحف العقول، ص 217؛ بحار الأنوار، ج 75، ص 56، ح 118.
3- سنن الکبری للبیهقی، ج 9، ص 25؛ کنز العمال، ج 4، ص 12، ح 9252.

ص: 420

تعالی جعل المال والثروة وسیلة لتدبیر أمور الإنسان فی حیاته الدنیویّة، یقول هذا الإمام علیه السلام بالنسبة للدرهم والدینار:

«جعلها اللَّه مَصِحَّةً لخلقه وبها تستقیم شؤونهم ومطالبهم»(1).

ونقرأ فی حدیث آخر عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال:

«إنّما أعطاکم اللَّه هذه الفضول من الأموال لتوجّهوها حیث وجّهها اللَّه ولم یعطکموها لتکنزوها»(2).

ونقرأ فی کلام آخر لأمیرالمؤمنین علیه السلام فیما یتصل بادّخار الأموال وما یترتب علیها من فتنة فی المجتمع:

«إنّ إمساکه (المال) فتنة»(3).

أجل، فإنّ الإسلام، مضافاً إلی اعتباره نفس هذا العمل (إکتناز الثروة) عاملًا للفتنة والشر، فإنّه وضع عقوبات ثقیلة لهذا العمل وقرر حرمته ومنعه، ومن خلال اتّباع سیاسات خاصّة ثقافیّة وتربویّة من جهة، والاستفادة من الآلیات الحقوقیّة والاجتماعیّة من جهة أخری، وضع الإسلام سیاسته الاقتصادیّة علی أصل «عدم تمرکز الثروات» وحرم جمیع الطرق التی تنتهی إلی الفساد المالی فی مفاصل الاقتصاد.

ویمکن تشبیه جریان المال والثروة فی نظر الدین، بجریان الدم فی البدن الذی ینبغی أن یتدفق ویجری بشکل متوازن فی جمیع أجراء البدن بحیث إنّ الدم إذا اجتمع وتراکم فی بعض زوایا البدن، فإنّه یؤدّی إلی المرض وفساد البدن، وقلّة وجود الدم فی سائر الأقسام الأخری، وهکذا بالنسبة لتراکم رأس المال بید طبقة خاصّة من المجتمع یؤدّی إلی ظهور حالات الفقر والعوز فی الطبقات الأخری.

وبدیهی أنّ کلا هذین الحالتین تؤدّی إلی ضرر وفساد فی واقع الفرد والمجتمع، وهذا هو الفساد المالی والاقتصادی الذی نهی عنه الإسلام بشدّة.

وخلاصة الکلام أنّ مطالعة النصوص الدینیّة فی الفقه الإسلامی ومبانی الاقتصاد فی الکتاب والسنّة تبیّن بوضوح أنّ الإسلام یخالف بشدّة إکتناز الأموال بشکل منفلت وفی ذات الوقت یحترم الإسلام الملکیّة الخاصّة ومن خلال تشریع المحرمات والواجبات ووضع شروط خاصّة للانتاج والاستهلاک فإنّه منع علی المستوی العملی تمرکز الثروة وتکاثر الأموال وفی الواقع أنّ الإسلام بإیجاده شبکة من الأحکام الضابطة بشکل منسجم، عمل علی ضبط الملکیّة الخاصّة للأفراد من کلّ الجهات، فساق أصحاب الثروة والمال إلی خط الإنتاج والتنمیة الاقتصادیّة، وبالتالی جعل علیهم تعب الإدارة وتدبیر الحرکة الاقتصادیّة، ولکن الفائدة والقسم المهم من منافع هذه الحرکة الانتاجیّة تعود إلی المجتمع والناس.

ومع الأخذ بنظر الاعتبار هذه المقدّمة نأتی إلی الأصول والمقررات التی یقترحها الإسلام فی مجال التصدی لظاهرة تراکم الثروة وإکتناز المال:

أ) وضع القوانین المانعة
اشارة

إنّ من أهم الوسائل وأکثرها تأثیراً فی النظام الاقتصادی فی الإسلام لغرض منع تمرکز الثروات


1- بحار الأنوار، ج 70، ص 138.
2- الکافی، ج 4، ص 32، ح 5.
3- مسند أحمد، ج 5، ص 58.

ص: 421

وإکتناز المال، القیود الکثیرة التی وضعها الإسلام فی هذا المجال بحیث تترک کلّ واحدة منها أثراً مباشراً فی إعاقة تراکم الثروة، ونشیر هنا إلی بعض الموارد منها:

الأوّل: تحریم الربا

إنّ أسوء الطرق التی تقود إلی إکتناز المال «الربا»، والإسلام یری بأنّ المعاملات الربویّة وکسب المال من هذا الطریق یعتبر من أسوء أنواع الکسب وتحصیل المال وقد ورد فی روایة عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«شرّ المکاسب کسب الربا»(1).

ویقول الإمام الرضا علیه السلام:

«إنّ الربا حرامٌ سحت من الکبائر وممّا قد وعد اللَّه علیه النار فنعوذ منها وهو محرم علی لسان کلّ نبیّ وفی کلّ کتاب»(2).

وقد ورد الذم الشدید علی هذا العمل بحیث إنّ اللَّه تعالی ونبیّه صلی الله علیه و آله یعلنون الحرب علی المرابین:

«فَإِنْ لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ»(3).

إنّ حرمة المعاملات الربویّة فی دائرة التعالیم الدینیّة إلی درجة من الأهمیّه بحیث إنّ جمیع المشترکین فی المنظومة الربویّة یصابون بلعنة النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله فقد ورد فی حدیث عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«لعن اللَّه آکل الربا وموکّله وشاهده وکاتبه»(4).

ویستفاد من الروایات أنّ أحد الحِکم فی تحریم الربا تتمثّل فی الفساد المالی، لأنّ المعاملة الربویّة تستلزم جمع أموال کثیرة بدون تقدیم أی نشاط اقتصادی ومن دون أن یتضرر المرابی من هذه المعاملة، وهذا هو الشی ء الذی یخل بالتوازن والتعادل الاقتصادی فی المجتمع.

فی منظومة الاقتصاد الربوی، ربّما یواجه مئات الأشخاص أزمات مالیّة بعد مدّة فی مقابل شخص واحد من المرابین المتمولین وتذهب رؤوس أموالهم تدریجیّاً إلی جیب شخص واحد أو مؤسسة ربویّة واحدة، وهذا العمل یؤدّی إلی فقر وتدمیر حیاة مئات الأشخاص من جهة، وتراکم الثروات وتکاثر الأموال بید فرد أو أفراد معددوین من جهة أخری، وبذلک یتعرض التعادل الاقتصادی فی المجتمع إلی الإرباک والاهتزاز.

وخلاصة الکلام أنّ الربا یتسبب فی اجتناب أصحاب المال والثروة دفع أموالهم باتّجاه الإنتاج والتجارة والنشاطات الاقتصادیّة المفیدة، ومن خلال المعاملات الربویّة یتحرکون علی مستوی جمع الأموال وإدّخار الثروات، ومعلوم أنّ هذا العمل یؤدّی تدریجیّاً إلی ظهور فئة وطبقة فی المجتمع تدعی بالمرابین من دون أن یضعوا أموالهم وثرواتهم فی مسار الإنتاج المثمر، فیحصلون بأموالهم علی المال بشکل مباشر، وفی مقابل ذلک نری أنّ قسماً عظیماً من عامّة الناس یشتغلون فی أعمال منتجة ومساعی


1- وسائل الشیعة، ج 12، ص 423.
2- فقه الرضا، ص 256، ح 38؛ بحارالانوار، ج 100، ص 121.
3- سورة البقرة، الآیة 279.
4- مسند أحمد، ج 1، ص 393. فقد ورد مثله فی منابع الشیعة أیضاً فی روایة عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله. انظر: وسائل الشیعة، ج 12، ص 430.

ص: 422

مثمرة، ولکن نتیجة عملهم تصب فی جیوب المرابین، وإذا وقع ضرر أو خسارة فإنّها تلحق بالطبقة الکادحة من المجتمع دون طبقة المرابین.

وهذا هو معنی أنّ «أکل الربا» أحد العوامل الأساسیّة فی شیوع الفقر وتکریس وتعمیق الفاصلة الطبقیّة، یعنی أنّ الربا یتسبب فی أن تظهر فی المجتمع طبقة غیر منتجة ولکنّها رأسمالیّة وتملک ثروة کبیرة تتحرک من موقع إمتصاص خیرات وثروات الطبقة الضعیفة والمنتجة، وغنی عن البیان أنّ هذا النوع من الفساد الاقتصادی یستتبعه مفاسد أخلاقیّة واجتماعیّة وسیاسیّة مختلفة ویکون سبباً لتقویّة حالة التبعیّة للأجنبی.

ومن هذا المنطلق یقول الإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام فی کلامه عن تحریم الربا:

«ولما فی ذلک من الفساد والظلم وفناء الأموال»(1).

ومن اللازم الإشارة إلی هذه النقطة، وهی أنّ فلسفة اختراع المال منذ البدایة تتمثّل فی أنّ المال وسیلة لنقل الملکیّة من شخص لآخر لا أنّه بضاعة مربحة، ولکن فی النظام الربوی فإنّ هذه الغایة من وجود المال تمّ تحریفها من خلال جعل المال بصورة بضاعة مربحة.

وعلی أیّة حال فالإسلام مع وقوفه بحزم فی مقابل العملیات الربویّة وتحریم الربا یقرر أنّ الأموال الربویّة لا تعتبر ملکاً للمرابی، بل بصورة مال غصبی بیده، ویجب علی الحکومة الإسلامیّة تسلیمه إلی أصحابه، وبذلک یجعل الإسلام سدّاً محکماً فی مقابل هذا النوع من إکتناز الأموال.

الثانی. نفی الإحتکار والاستئثار

والمراد من الإحتکار، کما سبقت الإشارة إلیه وإدّخار وخزن ما یحتاج إلیه الناس بشکل عام فی وقت یکون العرض أقل من الطلب، من أجل زیادة قیمة البضاعة بهذه الطریقة، والمراد من الاستئثار بالمال فی دائرة الإنتاج، هو أنّ إنتاج بضاعة مورد احتیاج عامّة الناس تکون بید فرد أو فئة خاصّة، والمراد من الاستئثار فی دائرة الاستهلاک، هو أنّ سوق استهلاک البضائع التی یحتاج إلیها الناس یقع بید فرد أو فئة خاصّة، فجمیع هذه الموارد تؤدّی إلی زیادة قیمة المنتوجات والمبیعات بشکل موهوم وکاذب.

وبسبب هذه الممارسات تظهر حالات العرض القلیل بشکل موهوم وبالتالی زیادة أسعار البضائع بشکل وهمی أیضاً، وبهذه الطریقة تعود أرباح وفیرة علی المحتکرین والمستأثرین فی المجال الاقتصادی.

وسابقة هذا العمل وإن کانت تعود بشکلها البسیط والابتدائی إلی بدایات نشوء الحیاة الاجتماعیّة للبشر فی التاریخ القدیم ولکنّها فی العصر الحاضر وبواسطة الإحتکار والاستثمارات الاقتصادیّة تعدّ أحد أکبر الوسائل الاستعماریّة وأهم أسالیب الضغط من قِبل قوی الهیمنة والاستکبار العالمی علی الدول الضعیفة،


1- عیون الأخبار، ج 2، ص 94؛ من لا یحضره الفقیه، ج 3، ص 566.

ص: 423

ویوماً بعد آخر یؤدّی الإحتکار وحصر الموارد الاقتصادیّة بید هذه القوی الاستعماریّة إلی مزید من الهیمنة السیاسیّة والثقافیّة علی الدول والشعوب المستضعفة.

والشاهد الجلی علی ذلک، مساعی البلدان الغربیة فی الممانعة عن حصول الدول النامیّة علی فنون استخدام الطاقة النوویّة السلیمة.

إنّ الإسلام بتحریمه الإحتکار سلک أحد الطرق لتعدیل الثروة وبالتالی منع من تمرکز الثروة بهذه الطریقة بید فئة محدودة.

یقول الإمام أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی مقطع من عهده لمالک الأشتر رحمه الله بالإشارة إلی تحریم الإحتکار:

«واعلم- مع ذلک- إنّ فی کثیر منهم ضیقاً فاحشاً وشُحّاً قبیحاً، واحتکاراً للمنافع وتحکّماً فی البیاعات وذلک باب مضرّة للعامة وعیب علی الولاة»(1).

فالاحتکار فی دائرة المفاهیم الإسلامیّة، یعکس حالة الفساد والرذیلة فی نفوس المحتکرین، یقول الإمام أمیرالمؤمنین علی علیه السلام:

«الإحتکار، شیمة الفجّار»(2).

والمحتکر فی نظر الإسلام یعدّ خائناً وتزول عنه الحمایة الإلهیّة، ونقرأ فی حدیث عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«من احتکر حُکرة یرید أن یُغلی بها علی المسلمین فهو خاطئ وقد برئت منه ذمّة اللَّه ورسوله»(3).

نقرأ فی روایة أخری عن ابن مسعود:

«یقوم المحتکر مکتوب بین عینیه: یا کافر تبوأ مقعدک من النار»(4).

ومضافاً إلی ذلک فإنّ الإسلام منع من «الاستئثار»، (وهو اختصاص منابع الثروة وحصرها بید فئة قلیلة أو فرد واحد)، ونری حالیاً فی الاقتصاد الغربی حالات حصر منابع الإنتاج أو الثروات الطبیعیّة أو السوق المستهلکة بید شرکة أو شرکات خاصّة ولکن الإسلام منع من هذا العمل، فلا یحق لأحد أن یملک امتیاز الاستفادة من هذه الموارد الطبیعیّة لنفسه.

ومن موارد استعمال کلمة «الاستئثار» الواردة فی النصوص الدینیّة، أنّ القائمین بعمل الاستئثار یطلق علی الأثریاء المتنفذین فی الأجهزة الحکومیّة الذین یتحرکون علی مستوی حصر امتیاز وملکیّة المنابع الطبیعیّة والثروات العامّة مثل ملکیّة المراتع، المعادن، الغابات، البحار أو یملکون امتیاز إنتاج أو تجارة بضاعة معینة وبهذه الطریقة یحصلون علی ثروات عظیمة، وهذا العمل ممنوع فی نظر الإسلام أیضاً.

إنّ الإسلام وبإیجاده للقطاع العام من الملکیّة والأنفال، فإنّه قد جعل ملکیّة الأراضی الموات والغابات والبحار والأنهار والمعادن وأمثالها بید الحکومة الإسلامیّة، وفی الحقیقة فإن الإسلام بإیجاده هذا النوع من الملکیّة، استطاع القضاء علی عوامل زیادة الثروة للقطاع الخاص بشکل غیر متعادل، وبهذا


1- نهج البلاغة، الکتاب 53.
2- غرر الحکم، ح 8204.
3- کنز العمال، ج 4، ص 97، ح 9719؛ مستدرک الحاکم، ج 2، ص 12.
4- کنز العمال، ج 16، ص 65، ح 43958.

ص: 424

العمل خطی خطوة أخری لغرض تعدیل الثروات والتصدی لتمرکز المال بید فئة معینة، ومن البدیهی أنّه لولا هذا التحدید لملکیّة المنابع الطبیعیّة فإنّ الأقویاء والطبقة الثریّة یتحرکون لاستملاک هذه المنابع قبل الآخرین وأکثر من سائر الطبقات الأخری، ممّا یؤدّی ذلک إلی تکریس ظاهرة «التکاثر».

ونقرأ فی حدیث عن الإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام فی ذمه وبراءته من هذه الفئة المترفة وعدّ البراءة منهم من لوازم الإیمان والإسلام:

والبرائة من أهل الاستئثار»(1).

ونقرأ فی عهد مالک الأشتر رحمه الله أنّ الإمام أمیرالمؤمنین علی علیه السلام قال:

«وإیّاک والاستئثارَ بما الناسُ فیه أسوة(2)»(3).

وجاء فی روایة أخری عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّ خمس فئات من الناس ملعونون من قِبله ومن سائر الأنبیاء الإلهیین، وإحدی هذه الفئات هی الفئة التی تستأثر بالمال العام:

«خمسة لعنتُهم، وکلُّ نبیِّ مُجاب ... والمستأثرُ بالفَی ء المستحلُّ له»(4).

وجاء فی روایة عن الإمام أمیرالمؤمنین علی علیه السلام أنّه قال:

«الإستئثار یوجب الحسد، والحسد یوجب البغضة والبغضة توجب الاختلاف»(5).

وفی هذا الحدیث الشریف، مضافاً إلی بیانه المفاسد الاقتصادیّة لظاهرة «الاستئثار» أشار إلی المفاسد الأخلاقیّة أیضاً، وهی الحسد، الحقد، العداوة الفرقة.

الثالث: تحریم التطفیف والإجحاف

وقد اهتم الإسلام فی نظامه الاقتصادی بمسألة رعایة العدل والانصاف فی المعاملات، ومن ذلک مسألة التطفیف فی المیزان والتی تعدّ من أکبر الذنوب وأنّ المطففین سیواجهون العذاب الإلهی الشدید، یقول القرآن الکریم فی هذا الصدد:

«وَیْلٌ لِّلْمُطَفِّفِینَ* الَّذِینَ إِذَا اکْتَالُوا عَلَی النَّاسِ یَسْتَوْفُونَ* وَإِذَا کالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ یُخْسِرُونَ»(6).

ونری أنّ القرآن الکریم فی هذه الآیات الشریفة ومع الإشارة إلی الحکمة من تحریم التطفیف یقول: إنّ عملیّة التطفیف فی المیزان من عوامل الفساد فی الأرض ویتحدّث فی قصّة النّبی شعیب علیه السلام فی خطابه لقومه:

«أَوْفُوا الْکَیْلَ وَلَا تَکُونُوا مِنْ الْمُخْسِرِینَ

* وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِیمِ* وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْیَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِی الْأَرْضِ مُفْسِدِینَ»(7).

والنقطة الجدیرة بالالتفات هنا، التعبیر بجملة

«وَلَا تَعْثَوْا فِی الْأَرْضِ مُفْسِدِینَ»

، وهی إشارة إلی هذه الحقیقة أنّ التطفیف یؤدّی إلی الفساد، لأنّه یتسبب


1- عیون الأخبار، ج 2، ص 133.
2- کلمة« الأسوة تارة تأتی بمعنی التأسی والاقتداء بالآخر، وأخری بمعنی المساواة»( مجمع البحرین، ومادة أسا) وجاءت فی الحدیث أعلاه بالمعنی الثانی.
3- نهج البلاغة، الکتاب 53.
4- الکافی، ج 2، ص 293.
5- شرح نهج البلاغة، لابن أبی الحدید، ج 20، ص 345، الرقم 961.
6- سورة المطففین، الآیة 1- 3.
7- سورة الشعراء، الآیات 181- 183.

ص: 425

فی إنهیار التعادل الاقتصادی ویعدّ نوعاً من سرقة أموال الآخرین.

ولا تقتصر مکافحة الإسلام فی دائرة المعاملات الاقتصادیّة العادلة، بالنهی عن التطفیف والغش فی المیزان، بل إنّ الإسلام یری أنّ الأسعار الظالمة والمقترنة بالإجحاف أیضاً نوعاً من الخروج عن خط العدالة.

وینقل الإمام أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی هذا المجال عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«ولیکن البیع بیعاً سمحاً بموازین عدل وأسعار لا تجحف بالفریقین من البائع والمبتاع»(1).

ونقرأ فی حدیث آخر عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّ قال:

«إنّ اللَّه یحبّ سمحَ البیع، سمح الشراء، سمح القضاء»(2).

ومعلوم أنّ رعایة هذه الموازین والمعاییر من شأنها منع تمرکز الثروات بشکل مؤثر.

الرابع. منع الأرباح غیر المشروعة
اشارة

فی عالمنا المعاصر والذی تتمحور فیه النشاطات الاقتصادیّة حول محور الربح الأکثر مع الجهد الأقل، فإنّ أحد العوامل المؤثرة فی تراکم الثروات بید فئة خاصّة من الناس، المعاملات والعوائد المالیّة غیر المشروعة، وعلی سبیل المثال مسألة الرشوة التی مع الأسف إمتدت من العالم المادی إلی أجواء مجتمعنا الدینی وشبه الدینی أیضاً، فالرشوة فی المعاملات الرسمیّة وفی المؤسسات الاقتصادیّة الکبیرة «الشرکات الضخمة» هی السائدة والشائعة تحت عنوان «بورسانت» ومن هذا الطریق یحصل الرأسمالیون والمسؤولون فی الحکومة علی أرباح عظیمة، وهکذا الحال بالنسبة لمهربی وتجار المخدرات وشرکات بیع الأسلحة المسموح بها وغیر المسموح بها.

هذا فی حین أننا نعلم أنّ الإسلام وضع خطوط حمراء فیما یتصل بالعوائد المالیّة والأرباح ویمنع منعاً باتاً عبورها وتجاوزها.

ورد فی حدیث شریف عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«لعن اللَّه الراشی والمرتشی والرائش الذی یمشی بینهما»(3).

وتعتبر الرشوة من العوائد المالیّة غیر المشروعة والقبیحة والتی ورد التعبیر عنها فی النصوص الدینیّة ب «السحت»(4)، وخاصّة إذا کانت الرشوة فی الأحکام القضائیّة والمستلم لها من القضاة وهی الحالة السائدة فی العالم المادی، بینما نجد أنّ هذا العمل فی روایة أنّه یصل إلی حدّ الکفر باللَّه وبالرسول، یقول الإمام الصادق علیه السلام فی روایة صحیحة عمّار:

«فأمّا الرشوة یاعمّار الأحکام فإنّ ذلک الکفر باللَّه العظیم ورسوله»(5).


1- نهج البلاغة، الکتاب 53.
2- سنن الترمذی، ج 2، ص 390، ح 1334؛ کنز العمال، ج 4، ص 44، ح 9426.
3- مسند أحمد، ج 5، ص 279؛ کنز العمال، ج 6، ص 114، ح 15080.
4- الآیات 42 و 61 من سورة المائدة.
5- وسائل الشیعة، ج 12، ص 62، معانی الأخبار، ص 211.

ص: 426

وهذا الموضوع إلی درجة من الأهمیّة بحیث إنّ الأشخاص الذین لا یقعون فی طریق الرشوة بشکل مباشر ولکنّهم ینتفعون من الربح الحاصل منها بشکل معین مثلًا یدخلون إلی بیت المرتشی بعنوان ضیوف ویتناولون من طعامه فإنّ النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله یؤکد أنّ هذا الطعام الذی یتناولونه یستحقون علیه النار:

«کلّ لحم أنبتَه السحتُ فالنار أولی به. قیل: وما السحت؟ قال:

الرّشوة فی الحکم»(1).

ویقول الإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام فی جوابه لرسالة أحد أتباعه ویدعی محمّد بن سنان فی مجال فلسفة تحریم السرقة:

«وحرمة السرقة لما فیها من فساد الأموال»(2).

ومعلوم أنّ إیصاد هذه الطرق غیر المشروعة للکسب والربح الکثیر، تؤثر بشدّة فی الحیلولة دون تراکم الثروة والتضخم الحاصل منها.

النتیجة:

مع الالتفات إلی ما تقدّم بیانه، یمکن استنتاج هذه الحقیقة، وهی أنّ الإسلام بتحدیده طرق الکسب المشروع وجعلها فی إطار من القیم والمقررات وتعیین خطوط حمراء للنشاطات الاقتصادیّة منع من تمرکز الثروات بید عدّة قلیلة وبذلک استطاع التقلیل من حدّة الفاصلة الطبقیّة فی المجتمع.

ب) الحقوق المالیّة الواجبة والمستحبّة
اشارة

لا شک أنّ خدمات الحکومة الإسلامیّة، أو أی حکومة أخری من قبیل تأمین الأمن، شق الطرق وبناء الجسور، والمشاریع العلمیّة والقضاء علی أنواع الأمراض، یؤثر کثیراً فی عوائد رؤوس المال، وهذا الأمر یحدد موقف رؤوس الأموال فی مقابل الحکومات، ویبیّن بالتالی الحکمة والغرض من أخذ أنواع الضرائب.

ومن جهة أخری یوجد فی المجتمعات البشریّة طبقة من الأفراد العاجزین عن العمل والذین یحتاجون إلی حمایة ودعم من قِبل المتمولین من جهة، والحکومات من جهة أخری، بالضبط من قبیل الید المشلولة، فربّما لا تستطیع هذه الید تقدیم أی خدمة لصاحبها بل یمکنها أن تکون کلّاً وعبأً علیه، ولکن علی أیّة حال بما أنّ هذه الید خدمته لسنوات مدیدة والآن عجزت عن إسداء أی خدمة له فینبغی رعایتها وإیصال الغذاء اللازم لها.

وبدیهی أنّه لو تمّ أخذ هاتین الفئتین من الحقوق المالیّة (حقّ بیت المال وحقّ المحتاجین) من المتمولین والأثریاء فإنّه سینعکس إیجاباً بشکل ملحوظ علی منع تکاثر الثروات وتراکم الأموال لدی فئة خاصّة.

وببیان آخر: إنّ من جملة الأسالیب التی لها أثر مباشر فی ضبط وتعدیل الثروات والحیلولة دون تمرکز الأموال وإکتنازها بید فئة معینة، جعل الحقوق المالیّة الواجبة والمستحبّة تحت عناوین مختلفة


1- کنز العمال، ج 6، ص 119، ح 15106.
2- عیون الأخبار، ج 2، ص 103.

ص: 427

کالخمس، الزکاة، القرض، النفقة الواجبة، الحقّ المعلوم، الصدقات، الوقف، النذورات والکفّارات المالیّة الواردة فی النصوص الدینیّة.

والتدقیق فی هذه الأبواب یشیر إلی أنّ الإسلام مع اهتمامه بزیادة الثروة العامّة فی المجتمع والتنمیة الاقتصادیّة بشکل عام، ولغرض الوصول إلی مرتبة الرقی والرفاه العام، من خلال التشویق علی العمل والسعی لکسب المال المشروع وزیادة الثروة، إلّاأنّه فی ذات الوقت ومن خلال إیجاد بعض القیود والمحدودیات من جهة وجعل المقررات المالیّة الواجبة والمستحبّة من جهة أخری، منع من ظهور تراکم الثروة فی القطاع الخاص.

ویتحدّث القرآن الکریم بعد بیان حکم الغنائم الحربیّة فی واقعة بنی النضیر عن البساتین والأراضی الزراعیّة والدور والأموال الأخری التی أضحت من نصیب المسلمین، ویشیر إلی فلسفة تقسیم الغنائم بآلیّة معینة:

«کَیْ لَایَکُونَ دُولَةً بَیْنَ الْأَغْنِیَاءِ مِنْکُمْ»(1).

وهذه الآیة الشریفة تبیّن الخط العام فی مسار الاقتصاد الإسلامی، وأنّ الإسلام فی ذات الوقت الذی یحترم الملکیّة الخاصّة، فإنّه من خلال تشریع أحکام اقتصادیّة ومقررات مالیّة کالخمس والزکاة والأنفال وبیت المال وأمثال ذلک ممّا أشرنا إلیه آنفاً، کان فی صدد منع تمرکز الثروة وحصر المنابع المالیّة بید فئة خاصّة.

وغنی عن البیان أنّ الالتزام الواعی بهذه العبادات المالیّة یؤمن من جهة حاجات الطبقة الضعیفة والمحرومة فی المجتمع، ومن جهة أخری یساهم فی کبح جماح الطبقة الثریّة فی تجمیع الأموال ویمنع من تراکم الثروة بید فئة خاصّة.

وفیما یلی نشیر إلی بعض الموارد من هذه العبادات المالیّة:

الأوّل: الضرائب علی الأرباح السنویّة (الخمس)

إنّ الإسلام یقرر لکلّ فرد أن یعیش حیاة متوسطة ومتعارفة بحسب شأن الأفراد، بحیث إنّ الشخص الذی یملک المقدار الکافی لتأمین نفقاته فی هذه الحیاة ومثل هذه المعیشة، فإنّ الخمس لا یتعلق بأمواله، ولکن إذا کانت عوائده المالیّة أکثر من مخارجه ونفقات السنویّة المتعارفة، فإنّه مشمول لضریبة الخمس.

وفی موارد أخری أیضاً یتعلق الخمس بالغنائم الحربیّة أو ما یستخرج من المعادن والکنز بشرط أن یصل إلی حدّ النصاب، فیترتب علیه الخمس.

ومعلوم أنّ الإسلام بتعینه لمقدار النصاب فی کلّ واحد من هذه الموارد، ساهم فی تعدیل وتقویم ثروة الأغنیاء من جهة، ولم یسلبهم الدوافع لمزاولة نشاطات اقتصادیّة أکثر من جهة أخری، فالإسلام فی الحقیقة راعی الطرفین فی هذه العملیّة، الغنی والفقیر.

ویعتبر «الخمس» أحد الدیون الشرعیّة فی الإسلام، ومن جملة العبادات، یقول القرآن الکریم:


1- سورة الحشر، الآیة 7.

ص: 428

«وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّنْ شَیْ ءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِی الْقُرْبَی وَالْیَتَامَی وَالْمَسَاکِینِ وَابْنِ السَّبِیلِ إِنْ کُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ»(1).

ویقول الإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام فی جوابه لأحد أصحابه الذی طلب منه أن یعفیه من حقّ الخمس:

«فإنّ إخراجه مفتاح رزقکم، وتمحیص ذنوبکم وما تمهدون لأنفسکم لیوم فاقتکم»(2).

ونقرأ فی روایة عن مجاهد فی تفسیر الآیة المذکورة:

«کان النّبی صلی الله علیه و آله وذو قرابته لا یأکلون من الصدقات شیئاً لا یحلّ لهم. فللنبی صلی الله علیه و آله خمس الخمس ولذی قراباته خمس الخمس وللیتامی مثل ذلک وللمساکین مثل ذلک ولابن السبیل مثل ذلک»(3).

وفی مدرسة أهل البیت علیهم السلام فإنّ کلمة «غَنِمْتُم» فی آیة الخمس لا تنحصر بالغنائم الحربیّة، بل تشمل کلّ فائدة وربح یحصل علیه الإنسان من طریق الکسب والتجارة والعمل و ....

ولا یخفی أنّ إجراء هذا الدستور الإلهی، مضافاً إلی تأثیره المباشر فی رفع الفقر والحرمان عن الطبقة الضعیفة فی المجتمع، فإنّه یساهم بشکل فاعل فی منع تراکم الثروة بید الأثریاء والحیلولة دون رکود المال والثروة وإعادتها إلی عجلة الإنتاج والسوق.

وفی الرؤیة الدینیّة فإنّ إجراء هذه الأحکام الإلهیّة إلی درجة من الأهمیّة أنّ الإمام الصادق علیه السلام یؤکد علی أنّ أشد حالات الإنسان یوم القیامة هو الوقت الذی یقوم فیه أصحاب الخمس ویطالبون بحقّهم:

«إنّ أشدّ ما فیه الناس یوم القیامة إذا قام صاحب الخمس فقال: یا ربّ خمسی»(4).

الثانی: الضرائب علی الأرباح (الزکاة)

«الزکاة» فی الإسلام تتمتع بمکانة رفیعة وممتازة، وقد ذکر القرآن الکریم مراراً موضوع الزکاة ولزوم الاهتمام بها وأنّها تمثّل عاملًا لتطهیر روح الإنسان وتنقیة قلبه من شوائب الدنیا(5).

فقد ورد فی روایة عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«الزکاة قنطرة الإسلام»(6)

بحیث ینبغی للوصول إلی حقیقة الإسلام عبور هذه القنطرة.

لی أساس ما ورد فی الروایات الشریفة فإنّ دفع الزکاة یعدّ معیاراً للتدین، قال رسول اللَّه صلی الله علیه و آله:

«یا علیّ من منع قیراطاً من زکاة ماله فلیس بمؤمنٍ ولا مسلمٍ ولا کرامةَ له»(7).

إنّ حفظ نفوس وأعراض المسلمین ودفع المجتمع الإسلامی باتّجاه الرقی والإزدهار یعتبر من جملة الحِکم الواردة فی الروایات الشریفة لوجوب الزکاة.


1- سورةالأنفال، الآیة 41.
2- الکافی، ج 1، ص 548، ح 25؛ وسائل الشیعة، ج 6، ص 375.
3- در المنثور، ج 3، ص 185.
4- وسائل الشیعة، ج 6، ص 386، ح 12698؛ بحار الأنوار، ج 93، ص 188، ح 18.
5- نقرأ فی الآیة 103 من سورة التوبة:« خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَکِّیهِمْ بِهَا».
6- کنز العمال، ج 6، ص 293، ح 15758. وکذلک نقلت هذه العبارة فی أمالی الطوسی، ص 522، عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله.
7- من لا یحضره الفقیه، ج 4، ص 367.

ص: 429

نقرأ فی حدیث جامع وعمیق المعنی عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال:

«بها حقنوا دمائهم»(1)

(أی بالزکاة).

وقد قرر الإسلام نصاباً معیناً للزکاة بحیث لا تتعلق بالزکاة إذا کان المال أقل من مقدار النصاب.

وإذا تملّک شخص أحد الموارد الذی تتعلق بها الزکاة فإنّه یجب علیه دفع زکاته، وإذا ملک موارد أخری أکثر فیجب علیه دفع الزکاة بعددها، وإذا إزداد ربح هذه الموارد عن مخارج سنته، فیتعلق بها الخمس، وهذا القانون یساهم فی تعدیل وضبط الأرباح والعوائد المالیّة، یعنی أنّ کلّ شخص یملک موارد أکثر من هذه الثروات، فإنّه یجب علیه خمس وزکاة أکثر.

ومعلوم أنّ العمل بهذه المقررات والأحکام الدقیقة، مضافاً إلی رفع حاجة الطبقة الضعیفة من المجتمع یساهم فی عدم تراکم الثروة بشکل غیر طبیعی بید الأغنیاء.

الثالث: الحقّ المعلوم

وأحد الحقوق المالیّة التی تساهم فی منع تراکم الثروة وإکتنازها، أنواع الإنفاق الخاص الذی یطلق علیه ب «الحقّ المعلوم» فی أموال الأثریاء، بمعنی أنّ الإنسان فی حیاته یقرر سهماً خاصاً فی أمواله للمحرومین والمساکین فی سبیل اللَّه (سوی الضرائب الشرعیّه) ویدفعها لهم بشکل مستمر، وقد ورد فی القرآن الکریم فی وصف المؤمنین أنّه:

«وَفِی أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ»(2).

یقول الإمام الصادق علیه السلام فی تفسیره «للحق المعلوم» أنّه لا یعنی الزکاة:

«... والحقّ المعلوم غیر الزکاة، هو شی ء یفرضه الرجل علی نفسه فی ماله یجب علیه أن یفرضه علی قدر طاقته وسعة ماله فیؤدّی الذی فرض علی نفسه إن شاء فی کلّ یوم وإن شاء فی کلّ جمعة وإن شاء فی کلّ شهر»(3).

وجاء فی حدیث آخر عن ابن عباس فی تفسیر هذه الآیة:

« (وفی أموالهم حقّ) قال: سوی الزکاة یصل بها رحماً أو یقری بها ضیفاً»(4).

وکذلک نقل عن مجاهد أنّ المراد من الحقّ المعلوم هو غیر الزکاة الواجبة(5).

ونقرأ فی حدیث عن إسماعیل بن جابر عن الإمام الصادق علیه السلام فی قول اللَّه عزّ وجلّ:

«وَفِی أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ»

أهو سوی الزکاة؟

قال علیه السلام:

«هو الرجل یؤتیه اللَّه الثروة من المال فیخرج منه الألف، والألفین، والثلاثة آلاف والأقلّ والأکثر، فیصل به رحمه ...»(6).

یقول رحمن الأنصاری: سمعت الإمام الباقر علیه السلام یقول: إنّ رجلًا جاء علی بن الحسین وقال له: أخبرنی عن قوله عزّ وجلّ:

«وَفِی أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ


1- الکافی، ج 3، ص 498، ح 8.
2- سورة المعارج، الآیة 24 و 25.
3- الکافی، ج 3، ص 498، ح 8.
4- در المنثور، ج 6، ص 113.
5- المصدر السابق.
6- نور الثقلین، ج 5، ص 417، ح 25.

ص: 430

وَالْمَحْرُومِ»

، ما هذا الحقّ المعلوم؟ فقال له علی بن الحسین علیه السلام:

«الحقّ المعلوم شی ء یخرجه من ماله لیس من الزکاة ولا من الصدقة المفروضین»

. فقال الرجل:

إذا لم یکن من الزکاة ولا من الصدقة فما هو؟ فقال علیه السلام:

«هوالشی ء یخرجه من ماله إن شاء أکثر وإن شاء أقلّ علی قدر ما یملک»

، فقال: فما یصنع به؟ فقال الإمام علیه السلام:

«یصل به رحماً ویقوی به ضعیفاً ویحمل به کلًاّ أو یصل به أخاً له فی اللَّه أو لنائبة تنوبه»

، فقال الرجل: اللَّه أعلم حیث یجعل رسالته (1).

الرابع: الوقف

لا ینبغی الغفلة عن هذه النقطة، وهی أنّ مسألة الوقف فی الإسلام تحظی بأهمیّة خاصّة، بحیث نجد فی جمیع البلدان الإسلامیّة الأراضی، الأماکن، المستشفیات، المدارس والجامعات الکثیرة وضعت فی خدمة الناس بالوقف، فالموقوفات هی الأموال التی تخرج عن ملکیّة الأشخاص وتلتحق بالملکیّة العامّة، وهذا الأمر من شأنه أنّ یحد کثیراً من تراکم الثروات فی ملک الأشخاص.

وکان أولیاء الدین من رواد عملیّة الوقف، فقد وردت روایات وأخبار کثیرة عن وقف الإمام أمیرالمؤمنین علی علیه السلام لموارد کثیرة من أمواله، سواءً ما حصل علیه من حصّته فی الغنائم الحربیّة أو ما أنتجه بکدّ یمینه فی إحیاء الأراضی الموات وحفر الأبار ممّا هو معروف فی سیرته وتاریخه، والکثیر من الأثریاء اتّبعوا هذه السنّة الحسنة وأوقفوا کثیراً من أموالهم فی سبیل اللَّه، وبذلک تمّ منع ظاهرة تکدس الأموال وتراکمها.

ونقرأ فی روایة أنّ رجلًا سأل النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله:

عن أرض من ثمغٍ، فقال صلی الله علیه و آله:

«احبس أصلها وسبّل ثمرتها»(2).

الخامس: الحقوق الاخری

ومضافاً إلی ما تقدّم بیانه، فإنّ الإسلام ومن خلال بث روحیّة الاخوة والتعاون وتشویق المسلمین علی رعایة حال الفقراء والمحتاجین فی المجتمع، أوصی أیضاً بالإنفاقات المندوبة من قبیل: الوصایا، الهبات والصدقات، وهذه الأمور تساهم بدورها فی منع تکدس الثروات الطائلة بید الأغنیاء.

ولا شک أنّ تأثیر هذه الإنفاقات فی لجم الثروات لیست بأقل من تأثیر الإنفاقات الواجبة.

إنّ تأکیدات القرآن الکریم والروایات الشریفة فی الترغیب بهذه الإنفاقات والوعد بالثواب الجزیل لأصحابها إلی درجة من الکثرة بحیث إنّ ترکها بشکل کامل والاکتفاء بالإنفاقات الواجبة یتنافی مع روح الدین.

ونقرأ فی حدیث عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«إنّ اللَّه عزّوجلّ فرضَ للفقراء فی مال الأغنیاء قدرَ ما یسعهم فإن منعوهم حتّی یجوعوا أو یعروا أو یجهدوا حاسبهم اللَّه حساباً شدیداً وعذّبهم عذاباً نُکراً»(3).


1- نور الثقلین، ج 5، ص 417، ح 25.
2- کنز العمال، ج 16، ص 634، ح 46150.
3- کنز العمال، ج 6، ص 310، ح 15823.

ص: 431

وفی نظر الدین فإنّ کلّ شخص یستطیع إقراض شخص محتاج ثمّ لا یقرضه، فإنّه لا یشمّ رائحة الجنّة قال النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله:

«من احتاج إلیه أخوه المسلم فی قرض وهو یقدر علیه فلم یفعل حرّم اللَّه علیه ریح الجنّة»(1).

وهذا المضمون ورد فی روایات مختلفة فی بیان بعض المسائل المهمّة، ویشیر إلی هذه الحقیقة وهی أنّ مثل هؤلاء لیس فقط محرومون من السعادة الاخرویّة والأبدیّة بل تفصلهم عنها فاصلة کبیرة، لأنّه ورد فی هذه الروایات:

«إنّ ریحها لتوجد من مسیرة خمسمائة عام»(2)

، وهؤلاء لا یشمّون رائحة الجنّة.

وکذلک ورد فی روایة عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«ما آمن بی من مات شبعان وجاره جائع»(3).

وهذه المسألة إلی درجة من الأهمیّة أنّه ورد فی بعض الروایات:

«ما من أهل قریة یبیت فیهم جائع ینظر اللَّه إلیهم یوم القیامة»(4).

ج) التعلیم

إنّ الإسلام هو دین العلم والمعرفة، والسر فی اتساع رقعة هذا الدین وإمتداده فی بلدان العالم یکمن فی حثه علی العلم والمعرفة، فمثل هذا الدین الذی یقرن کلامه بآلیات المنطق والحکمة، وأحکامه الحکیمة تعتمد علی بنیّة فکریّة وثقافیّة، ویصر علی


1- من لا یحضره الفقیه، ج 4، ص 15.
2- بحار الأنوار، ج 8، ص 186.
3- عوالی اللئالی، ج 1، ص 269، ح 74؛ الکافی، ج 2، ص 668.
4- الکافی، ج 2، ص 668.

ص: 432

حرکة الإنسان فی أعماله وعقائده من موقع التفکیر والتدبر ولا یبادر بوضع أحکام ومقررات إلّابعد إیجاد أرضیّة ثقافیّة لازمة لتجسیدها علی أرض الواقع.

ومن هذه الجهة فإنّ الإسلام فی موضوع «إکتناز المال» لم یکتف بذکر حرمة هذا العمل بل طرح عشرات المواضیع الأخری فی معرفة واقع الحیاة الدنیا وإماطة اللثام عن حقائق العالم المادی، من قبیل: بیان الآثار السلبیّة لحب المال، التکاسل وزوال النعم المادیّة، ذم عبادة الدنیا، التفکیر فی نهایة هذه الحیاة ولزوم استعداد الإنسان للحضور فی محکمة العدل الإلهی فی القیامة و ... الخ، إنّ الالتفات والتفکیر بالحیاة الاخرویّة وتعمیق هذا الشعور وإیجاد بنیّة ثقافیّة عمیقة فی أمور العقیدة الدینیّة من شأنها تعدیل العلاقة بین المالک والثروة.

ومن هذا المنطلق فقد ربط الإسلام بین أحکامه وبین العقائد والأخلاق برابطة وثیقة، فنری أنّ القرآن الکریم ذکرها مقترنة(1).

إن المواعظ البلیغة والحِکم الواردة من قِبل أولیاء الدین وخاصّة عن أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی هذا المجال من شأنها أن تثیر کلّ إنسان سلیم النفس وتعمل علی تجفیف جذور «حبّ المال» فی أعماق وجود الإنسان.

وفی الحقیقة أنّ کلمات الإمام أمیر المؤمنین علی علیه السلام فی هذا المجال حالها حال شفرة الطبیب والجرّاح الذی یستأصل غدة المیل للدنیا والتکاثر وإدّخار المال من أعماق وجود الإنسان ونفسه.

ونقرأ فی خطبة للإمام علی علیه السلام یقول:

«فلا یغرّنّک سوادُ الناس من نفسک، وقد رأیتَ من کان قبلَک ممّن جمع المال وحذرَ الإقلال ... کیف نزل به الموت فأزعجه عن وطنه وأخذَه من مأمنه ... أما رأیتمُ الذین یأملون بعیداً ویبنُون مشیداً ویجمعون کثیراً، کیف أصبحت بیوتهم قبوراً، وما جمعوا بوراً، وصارت أموالهم للوارثین وأزواجهم لقوم آخرین»(2).

ومثال آخر من الأحادیث النورانیّة لأهل البیت علیهم السلام ما ورد عن الإمام الصادق علیه السلام فی علاج حالة حبّ المال الذمیمة، والذی یؤثر تأثیراً عمیقاً علی روح الإنسان:

« (فإذا کان ذلک منک) فاذکر الموت ووحدتَک فی قبرک ... وانقطاعک عن الدنیا فإنّ ذلک یحُثُّک علی العمل ویُردِعُک عن کثیر من الحرص علی الدنیا»(3).

والالتفات إلی مثل هذه الکلمات الحکیمة لأولیاء الدین من شأنه أن یخلص الناس من حالات الحرص والطمع، وینقذهم من السقوط فی منزلقات التکاثر والإکتناز.

أضف إلی ذلک، ما نجده فی التعالیم الدینیّة من المحاسبة علی أعمال الإنسان یوم القیامة وحسرة المکتنزین للمال فی ذلک الیوم ممّا یزید فی عمق هذه الرؤیة وینقذ الإنسان من التورط فی شراک هذه الصفة الذمیمة.

ورد فی حدیث عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله فی تفسیر الآیة الشریفة:

«وَکَذَلِکَ یُرِیهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَیْهِمْ»(4)

قال صلی الله علیه و آله:

«هو الرجل یدع ماله لا ینفقه فی

طاعة اللَّه بخلًا ثمّ یموت»(5).

وقیل للإمام أمیرالمؤمنین علیه السلام: فمَن أکثر الناس حسرة؟ فقال الإمام علیه السلام:

«من رأی ماله فی میزان غیره وأدخله اللَّه به النار وأدخل وارثه به الجنّة»(6).

د) مسؤولیّة النخبة والعلماء

ومن جملة طرق مجابهة الإسلام لحالة «إکتناز المال» المسئولیّة التی وضعها الدین علی عاتق النخبة والعلماء فی المجتمع، فهؤلاء مکلّفون بمنع حدوث الفواصل الطبقیّة وتکدیس المال بید فئة خاصّة.

إنّ العلماء یتحمّلون مسؤولیّة منع تکدس الأموال بید فئة خاصّة من خلال الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر.

ومن هذه الجهة فإنّ أولیاء الدین کانوا یعیشون القلق من استلام الحکّام الجهلة مقالید الحکم وبذلک یقومون بالتلاعب بأموال الامّة وینفقونها فی شهواتهم ومطامعهم ولا یصرفونها فی ما یخدم الناس، کما أشارت إلیه الآیات القرآنیّة.

یقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام:

«ولکنّنی آسی أن


1- انظر: بحث« حاکمیة الأخلاق علی النظام الإقتصادی الإسلامی» فی هذا الکتاب.
2- نهج البلاغة، الخطبة 132.
3- بحار الأنوار، ج 76، ص 322، ح 5.
4- بقره، آیه 167.
5- الکافی، ج 4، ص 42، ح 2.
6- عدة الداعی، ص 93؛ بحار الأنوار، ج 70، ص 142، ح 21.

ص: 433

یلی أمر هذه الأمّة سفهاؤها وفجّارها، فیتخذوا مال اللَّه دولًا»(1).

ونقرأ فی حدیث آخر عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله یظهر قلقه بالنسبة لتسلط مثل هؤلاء الأشخاص علی الامّة الإسلامیّة قال:

«إذا بلغ بنو أبی العاص ثلاثین رجلًا اتّخذوا مال اللَّه دوَلًا وعباد اللَّه خولًا ودین اللَّه دغلًا»(2).

وعندما رأی الإمام الحسین بن علی علیه السلام أنّ النخبة فی الامّة ساکتة عن أفعال حکّام بنی امیّة وکان الناس یعیشون الخوف والاضطراب من جور هؤلاء الامراء قال:

«فأسلمتم الضعفاء فی أیدیهم، فمن بین مستَعبَد مقهور وبین مستضعف علی معیشته مغلوب»(3).

وفی دائرة الثقافة الإسلامیّة والالتزام الدینی فإنّ مسألة أخذ حقوق المستضعفین من أیدی المتمولین یقع علی عاتق العلماء، وسکوتهم عن هذا الأمر مذموم جدّاً.

یقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی حدیث له:

«... أخذ اللَّه علی العلماء أن لا یقارّوا علی کظَّة ظالم ولا سغب مظلوم»(4).

ه) مسؤولیّة الحکّام

نعلم أنّ أحد العوامل المهمّة لتکاثر الثروة وتراکمها، الامتیازات الخاصّة التی یضعها الحکّام بید أقربائهم وأصدقائهم، وبذلک تکون المنابع الطبیعیّة وغیرها من المال العام بید فئة خاصّة والتی ینبغی أن توزع علی عامّة الناس بشکل مساوٍ لیستفید منها جمیع أفراد المجتمع، ولکنّ هذه الفئة الخاصّة هی التی تعمل علی تقویة أرکان الحکومات الجائرة وتدافع عنها أمام أی هجوم من قبل الطبقات المسحوقة والفئات المحرومة.

ومثل هذه الامتیازات الخاصّة التی یعبّر عنها الیوم ب «الشأنیّة أو المحسوبیّة» موجودة فی کلّ عصر وزمان وفی سلوکیات الکثیر من الحکومات.

إنّ الإمکانات العامّة والمنابع الطبیعیّة فی المجتمع فی دائرة الثقافة الإسلامیّة تتعلق بجمیع الأفراد، وأفراد الامّة متساوون فی حقهم فی الاستفادة من هذه الإمکانات بعیداً عن الفوارق الظاهریّة، القومیّة، والعرق، والثقافة واللغة، وحتی الفضائل العلمیّة والمعنویّة و ... الخ التی تعدّ دلیلًا علی لزوم أن یکون لشخص سهم أوفر وحصّة أکبر منها، رغم أنّ البعض یستطیع ومن خلال سعیه وجهده وما یملکه من قابلیات أکبر أن یحصل منها علی مال أکثر، ولکن لیس من خلال أخذ امتیازات خاصّة وحرمان الآخرین منها.

ونقرأ فی حدیث عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«ربّ متخوّض فی مال اللَّه ورسوله، له النار یوم القیامة»(5).

ویقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام:

«فأنتم عباد اللَّه،


1- نهج البلاغة، الکتاب 62.
2- مستدرک الحاکم، ج 4، ص 480؛ مسند أحمد، ج 3، ص 80.
3- بحار الأنوار، ج 97، ص 80.
4- نهج البلاغة، الخطبة 3.
5- کنز العمال، ج 3، ص 184، ح 6067.

ص: 434

والمال مال اللَّه، یقسّم بینکم بالسویة، لا فضل فیه لأحد علی أحد، وللمتقین عند اللَّه غداً أحسن الجزاء وأفضل الثواب ولم یجعل اللَّه الدنیا للمتقین أجراً ولا ثواباً»(1)

،. (وهذه إشارة إلی أنّه لو کانت لأشخاص فضائل علمیّة وأخلاقیّة لا ینبغی لهم أن یتوقعوا امتیازات خاصّة فی الأموال العامّة).

وعن الإمام الصادق علیه السلام بالنسبة لتقسیم بیت المال قال:

«أهل الإسلام هم أبناء الإسلام، أسَوِّیِ بینهم فی العطاء وفضائلهم بینهم وبین اللَّه»(2)

، (یعنی أن الفضائل لا تدلّ علی امتیازهم علی الآخری فی بیت المال).

وعلی أساس هذا الأصل أی رفض الامتیازات الخاصّة فسوف یتمّ إیصاد أحد الطرق لتراکم الثروة وإکتناز المال بید طبقة خاصّة، ویتمّ الحیلولة دون حدوث ظاهرة الاستئثار وحصر الامتیازات وینفتح الطریق أمام الجمیع للتنمیة والتقلیل من الفواصل بین أبناء المجتمع فی مجالات الحیاة والمعیشة.

ونقرأ فی حدیث عن الإمام الکاظم علیه السلام أنّه قال:

«إنّ اللَّه لم یترک شیئاً من صنوف الأموال إلّاوقد قسّمه و أعطی کلّ ذی حقّ حقّه ... لو عدل فی الناس لاستغنوا»(3).

ومعلوم أنّه مع رسوخ مفاهیم العدالة وإشاعة ثقافة الانصاف والإخوة فی مفاصل المجتمع الدینی، فسوف لا یبقی مکان لتجمیع الثروة بید طبقة خاصّة من الناس.

و) الترغیب بالخصال الحمیدة
اشارة

وأحد الطرق المؤثرة کثیراً فی مجال منع تکدیس الأموال والثروة لدی فئة خاصّة ترغیب وتأکید الإسلام بالخصال الحمیدة والمثل الإنسانیّة السامیّة، وهنا نشیر إلی أهمها:

الأوّل: المروة

إنّ المروءة أو الفتوة والتی یمکن اختزالها بکلمة «الشخصیّة» هی صفة کمالیّة تدفع الإنسان للاهتمام بأمور الطبقة المحرومة فی المجتمع وتخرجه عن حالة اللامبالاة وتزرع فیه حسّ المسؤولیّة تجاه ما یراه من معاناة الآخرین.

ویقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی کلام له:

«مع الثروة تظهر المروّة»(4).

وفی کلام موجز عمیق المعنی یقول الإمام زین العابدین علیه السلام:

«استثمار المال تمام المروّة»(5).

ونقرأ فی حدیث آخر عن الإمام أمیرالمؤمنین علیه السلام یقول:

«أفضل المروّة مواساة الإخوان بالأموال»(6).

وکذلک ورد فی روایات أخری عن الإمام علی علیه السلام أنّ إکرام الضیف والاهتمام بأمور الأرحام والأقرباء والسعی فی الرفع حاجتهم تشکل المحور


1- بحار الأنوار، ج 32، ص 17، شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید، ج 7، ص 37، ذیل الخطبة 91.
2- تهذیب الأحکام، ج 6، ص 146، ح 255.
3- الکافی، ج 1، ص 542، ح 4.
4- عیون الحکم والمواعظ، ص 486.
5- الکافی، ج 1، ص 20، ح 12. وکذلک ورد هذا الحدیث فی تحف العقول بهذه العبارة:« واستنماء المال تمام المروّة»( تحف العقول، ص 283).
6- عیون الحکم والمواعظ، ص 125.

ص: 435

الأساس لصفة المروة والفتوة فی الإسلام:

«الضیافة رأس المروّة)(1)

، ونقرأ أیضاً:

«من أفضل المروّة صلة

الرحم»(2).

وبدیهی أنّ تقویة هذه الخصال الحمیدة فی وجود الإنسان یحول دون تراکم الأموال ویقضی حالة الحرص فی جمع الثروة، لأنّ مع تقویة هذه الصفة الأخلاقیّة الحمیدة فی واقع الإنسان فإنّ جذور الحرص والبخل ستجف وتنتهی، یقول الإمام أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی حدیثین منفصلین:

«لا مروّة مع شحٍّ»(3)

و

«الحرص یُزری بالمُروّة»(4).

الثانی: السخاء

إنّ صفة السخاء والکرم من شأنها أن تخلص الإنسان من الانجذاب نحو تکاثر الأموال وإدّخاره، فالإنسان السخی ببذله وإنفاقه لقسم من أمواله علی المحتاجین والمحرومین یمنع تراکم الثروة لدیه.

وفی إطار الرؤیة الدینیّة الأخلاقیّة، فإنّ السخاء یعتبر صفة الکرام من الناس، وهو علامة علی المروة والفتوة وقوّة الشخصیّة، یقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام:

«علی قدر المروّة تکون السخاوة»(5).

وفی هذه الرؤیة یقع «السخاء» فی النقطة المقابلة ل «البخل»، فالإنسان السخی وفی ظلّ هذه الصفة الحمیدة یتحرر من رذیلة البخل والتی تعتبر أهم وأقوی جذور الإکتناز المال وجمع الثروات.

وقد ورد فی حدیث عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«الجنّة دار الأسخیاء والذی نفسی بیده لا یدخل الجنّة بخیلٌ»(6).

وکذلک ورد عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أیضاً:

«السخی إنّما یجود من حسن الظنّ باللَّه والبخیل إنّما یبخل من سوء الظنّ باللَّه»(7).

ومعلوم أنّ الإنسان فی ظلّ صفة السخاء یعیش قوّة العلاقة مع أصدقائه وتشتد حالة التعاون والتکاتف بین أفراد المجتمع، ومضافاً إلی تأمین بعض حاجات الفقراء فإنّها تقلل من تجمع الثروة بید الأغنیاء.

الثالث، الإیثار

«الإیثار» صفة ممتازة جدّاً ولا یستطیع التحلی بها سوی أولیاء اللَّه والمؤمنون الخالصون والمخلصون، لأنّ الشخص الموثر، لیس فقط لا یفکر بادّخار المال لنفسه بل مع حاجته للمال فإنّه یرجح الآخرین علیه، ویعتبر النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله وصحابته الخاصین وکذلک أهل بیته علیهم السلام من النماذج الکاملة والمصادیق البارزة للإیثار، حیث ذکرهم القرآن الکریم بهذه الصفة الممتازة وأثنی علیهم:

«وَیُؤْثِرُونَ عَلَی أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ کَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ»(8)

ویقول:

«وَیُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَی


1- موسوعة أحادیث أهل البیت:، ج 6، ص 245، ح 7369.
2- المصدر السابق.
3- غرر الحکم، العدد 6646.
4- المصدر السابق، العدد 6638.
5- المصدر السابق، العدد 5512.
6- کنز العمال، ج 6، ص 392، ح 16216.
7- المصدر السابق، ح 16209.
8- سورة الحشر، الآیة 9.

ص: 436

حُبِّهِ مِسْکِیناً وَیَتِیماً وَأَسِیراً»(1).

الرابع: الزهد

«الزهد» وعدم الرغبة بزخارف الدنیا وعدم الإنجرار وراء الملذات الرخیصة من جملة الصفات التی ورد التأکید علیها والاهتمام بها فی تعالیم الإسلام، فالزاهد لا یجد فی نفسه رغبة لجمع المال وإدّخاره بل لا یجد فی نفسه حرجاً من بذل أمواله فی سبیل رفع حوائج الناس وبهذه الطریقة یجعل الدنیا مزرعة الأخرة ویدّخر ماله فی آخرته (2).

ز) التوصیات الأخلاقیّة
الأوّل: المواساة

تعتبر المواساة من جملة الأخلاق الإسلامیّة المتمیزة وعلامة علی خلوص الإیمان وشخصیة المؤمن السامیة، وتعد المواساة قطعاً من أفضل الطرق للحیلولة دون تجمیع وتکدس الثروة، لأنّها تعنی أنّ الإنسان یعتبر الآخرین شرکاء فی ماله وإمکاناته فی واقع الحیاة الدنیویّة(3).

والمواساة فی دائرة الثقافة الدینیّة تعتبر معیار التدین، وجاء فی روایة عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«من واسَی الفقیر من ماله ... فذلک المؤمن حقّاً»(4).

ویقول الإمام الصادق علیه السلام:

«خصلتان من کانتا فیه، وإلّا فاعزِبْ، ثمّ اعزِبْ، ثمّ اعزب، قیل: وما هما؟ قال:

الصلاة فی مواقیتها والمحافظة علیها والمواساة»(5).

وبهذه الصفة الأخلاقیّة یمکن تسریع الحرکة التکاملیّة فی المجتمع وتعمیق وشائج المودة وتقویة العلاقات الاجتماعیّة بین أفراد المجتمع الإسلامی، یقول الإمام علی علیه السلام:

«ما حُفِظت الأخوّة بمثل المواساة»(6).

وکذلک یمکن فی ظلّ هذه الفضیلة الأخلاقیّة التقلیل من حالات الفقر فی المجتمع والحیلولة دون تجمع الثروة بید الأغنیاء.

وفی نظر الدین فإنّ الإخوة الدینیّة تصل فی ظلّ «المواساة» إلی مراتب عالیة من الرقی والکمال بحیث یرضی أحدهم أن یأخذ الأخرون من ماله لقضاء حاجاته، ولو کان بدون علم منه، ونقرأ فی حدیث الإمام الباقر علیه السلام أنّه قال:

«یا ابن ارطاة کیف تواسیکم؟»

قلت: صالح یا أباجعفر، قال:

«یدخل أحدکم یده فی کیس أخیه فیأخذ حاجته إذا احتاج إلیه؟»

قلت: أمّا هذا فلا، فقال له:

«لو فعلتم ما احتجتم»(7).

إنّ وجود حالات الفقر فی المجتمعات الإسلامیّة یحکی عن هذه الحقیقة المرّة، وهی أنّ المواساة التی


1- سورة الإنسان، الآیة 8.
2- انظر: بحث« عدم التضاد بین الزهد الإسلامی والنشاطات الاقتصادیّة الواسعة» فی هذا الکتاب.
3- نقرأ فی کتاب لسان العرب فی تعریف المواساة:« المواساة: المشارکة والمساهَمة فی المعاش والرزق»( لسان العرب، مادة« مواساة»).
4- الکافی، ج 2، ص 147، ح 17، باب الانصاف و العدل.
5- الخصال، للصدوق، ص 47، ح 450.
6- عیون الحکم والمواعظ، ص 477؛ غرر الحکم، العد 9878.
7- بحار الأنوار، ج 75، ص 184، ح 12.

ص: 437

یراها الإسلام لم تتجاوز حدود الکلام فقط ولم تتجسد فی الواقع العملی من حیاة المسلمین، کما ورد فی وصیّة النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله لأمیرالمؤمنین علی علیه السلام:

«یا علی! ثلاث لا تُطیقها هذه الامّة: المواساة للأخ فی ماله ...»(1).

وعلی أیّة حال، فإنّ هذه الوظیفه المهمّة تقع علی عاتق المجتمع الإسلامی وخاصّة علی المتمکنین والمتمولین منهم، یقول: الإمام الصادق علیه السلام:

«یحقّ علی المسلمین ... المواساة لأهل الحاجة»(2).

الثانی: الإنفاق
اشارة

یحتل «الإنفاق» مساحة واسعة وعجیبة فی الآیات والروایات الشریفة ویعد أحد المفردات المعروفة جدّاً فی الأخلاق الإسلامیّة، وروح الإنفاق تتمثّل فی إخراج بعض مال الشخص وإعطائه للمحتاجین، وهذه المفردة تقترن عادة بعبارة فی «سبیل اللَّه» ویقال «الإنفاق فی سبیل اللَّه» الذی یملک مفهوماً شبیه بالعبادة.

إنّ تخلّق المسلمین بهذه الأخلاق الإسلامیّة یعدّ من أهم العوامل فی مجال الحیلولة دون تراکم الثروة وتجمیع المال ومن هذه الجهة فللإنفاق مکانة سامیة فی دائرة الثقافة الدینیّة.

«إنفاق» من باب «إفعال» وفی اللغة یعنی إخراج الشخص مبلغ من المال من دائرة ملکه، و «النفقة» تعنی ما یصرفه المرء فی حیاته ومعیشته الخاصّة، بالتالی تقلل من ثروة الإنسان وتخرج المال عن ملکه (3).

والمقصود من الإنفاق هنا هو هذا المعنی أیضاً، وذلک بأن یتحرک الإنسان فی مجال تملیک الآخرین من ماله وبإنفاق ثروته منع انحصار الأموال فی قبضته وینقذ نفسه من السقوط فی ورطة التکاثر المخیفة.

ونقرأ فی القرآن الکریم قوله:

«وَیَسْأَلُونَکَ مَاذَا یُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ»(4).

إنّ ثقافة الإسلام لا تقبل بحصر الأموال والإمکانات المالیّة بید طبقة خاصّة ویعیش إلی جانبهم محرمون ومحتاجون یعانون من الألم والمشقّة، ومن هذه الجهة فالمحتاجون والمحرومون فی نظر الإسلام هم شرکاء للأغنیاء فی أموالهم.

ویقرر القرآن الکریم أنّ الإنفاق مع تلاوة الکتاب (بوصفه برنامجاً عملیاً) وإقامة الصلاة بمثابة التجارة الرابحة التی لا یصیبها الخسران والضرر:

«إِنَّ الَّذِینَ یَتْلُونَ کِتَابَ اللَّهِ وَأقَامُوا الصَّلوةِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِیَةً یَرْجُونَ تِجَارَةً لَّنْ تَبُورَ»(5).

وکذلک نری فی الآیات القرآنیّة التهدید بالعذاب الشدید للأشخاص الذین لا ینفقون أموالهم فی سبیل اللَّه ویهتمون فقط بتجمیع الثروة وتکدیس الأموال:


1- الخصال، ص 125؛ ما جاء علی ثلاثة فی وصیة النّبی صلی الله علیه و آله لأمیرالمؤمنین علیه السلام.
2- الکافی، ج 2، ص 174، ح 15.
3- انظر: لسان العرب و مجمع البحرین، مادة« نفق».
4- سورة البقرة، الآیة 219.
5- سورة فاطر، الآیة 29.

ص: 438

«وَالَّذِینَ یَکْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا یُنفِقُونَهَا فِی سَبِیلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِیمٍ* یَوْمَ یُحْمَی عَلَیْهَا فِی نَارِ جَهَنَّمَ فَتُکْوَی بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا کَنَزْتُمْ لِانفُسِکُمْ»(1).

ویقول القرآن الکریم فی الآیة 195 من سورة البقرة بعد أمره المسلمین بالإنفاق:

«وَأَنفِقُوا فِی سَبِیلِ اللَّهِ»

یقول:

«وَلَا تُلْقُوا بِأَیْدِیکُمْ إِلَی التَّهْلُکَةِ»

أی بترک الإنفاق ستوقعون أنفسکم فی الهلکة ویستفاد من هذا التعبیر أنّ الإنفاق بشکل عام یتسبب فی إنقاذ أفراد المجتمع من السقوط بوادی الهلاکة، وبعکس ذلک أنّهم لو غفلوا عن مسألة الإنفاق وتجمعت الثروات بید طبقة خاصّة فإنّ ذلک یؤدّی إلی تشکل غالبیة محرومة وفقیرة فی جو المجتمع، ولا تنقضی مدّة إلّاویحدث إنفجار عظیم فی المجتمع یحرق بنیرانه نفوس وأموال الأثریاء والرأسمالیین، ومن هنا یتبیّن إرتباط مسألة الإنفاق والنجاة من الهلکة.

وعلی هذا الأساس فإنّ الإنفاق قبل أن یکون مفیداً بحال المحرومین فإنّه مفید للرأسمالیین والأثریاء أنفسهم، لأنّ تعدیل الثروه حافظ للثروه.

ومن جهة أخری نقرأ فی النصوص الدینیّة البشارة بالمثوبات الکثیرة والواسعة للإنفاق، وفی الحقیقة فإنّ هذه النصوص وبالاستفادة من عنصر التشویق تخلق فی نفوس الناس باعثاً أقوی وأشدّ علی الإنفاق.

وورد عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«من أعطی درهماً فی سبیل اللَّه کتب اللَّه له سبعمائة حسنة»(2).

جدیر بالالتفات أنّ اللَّه تعالی تعهد بأن یملأ الفراغ المالی الحاصل من الإنفاق:

«وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَیْ ءٍ فَهُوَ یُخْلِفُهُ»(3).

النتیجة:

یستفاد ممّا تقدّم بیانه فی هذا الفصل أنّ الإسلام سلک جمیع الطرق الممکنة لمنع وإعاقة تراکم الثروة بید طبقة خاصّة، فأحیاناً من خلال تشریع القوانین والمقررات، وأحیاناً أخری من خلال الاستفادة من عنصر التهدید بالعذاب الألیم، وثالثة بالاستفادة من آلیة البشارات والوعد بالثواب العظیم للإنفاق فی سبیل اللَّه، وفی بعض الموارد یتحرک الإسلام فی مواجهة حالة الإکتناز الأموال من طریق محاربة الصفات الأخلاقیّة الذمیمة مثل: حبّ الدنیا، البخل، الحرص، الحسد، الطمع و ... وأخیراً من خلال تقویة الإیمان فی نفوس الناس وإیجاد روحیة طلب الآخرة والتوصیة والتأکید علی لزوم التحلی بالصفات الحمیدة الإنسانیّة، وکلّ هذه الطرق تنتهی ضبط ظاهرة تراکم المال والحیلولة دون حصر الثروات بید فئة معینة.

3. فلسفة تحریم الإکتناز
اشارة

کما تبیّن فی البحوث السابقة فإنّ إکتناز المال یترتب علیه إفرازات وآثار سلبیّة کثیرة من قبیل: حبّ الدنیا، الطمع والحرص، والتی تؤدّی بشکل مباشر إلی


1- سورة التوبة، الآیة 34 و 35.
2- أمالی الطوسی، ص 183.
3- سورة سبا، الآیة 39.

ص: 439

إفساد روح الإنسان وتلویث قلبه، والقسم الآخر یؤدّی إلی فساد النظام الاجتماعی والسیاسی أو إرباک النظام الاقتصادی فی المجتمع وإنهدامه.

ومعلوم أنّ کلّ واحد من هذه الموارد یمکنه أن یکون حکمة وغایة من تحریم إکتناز المال، فنشیر هنا إلی أهم هذه الموارد:

أ) تحریر الإنسان

إنّ تشریع الأحکام فی دائرة المسائل المادیّة والاقتصادیّة یمتد بجذوره قطعاً إلی تربیة الروح وتهذیب النفس وطهیر باطن الإنسان، کما أشار القرآن الکریم إلی هذه النقطة الظریفة فی أخذ الزکاة تقول الآیة:

«خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَکِّیهِمْ بِهَا»(1).

ونستوحی من عبارة:

«تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَکِّیهِمْ بِهَا»

أنّ الزکاة لیست مجرّد إنفاقاً بسیطاً، بل تترتب علیها آثار روحیة ونفسیّة مهمّة وتؤدّی إلی تطهیر النفس من الرذائل الأخلاقیّة کحبّ الدنیا والبخل والشح، یعنی أنّ الإنسان بهذا العمل یزرع بذور الفضیلة فی أعماق وجود وروحه ویبعث علی تقویة حرکته فی خط التعالی والتکامل المعنوی.

ونقرأ فی حدیث عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«أخرج الزکاة من مالک فإنّها طهور یطهّرک اللَّه»(2).

إنّ فلسفة تحریم إکتناز المال تعود بالضبط إلی هذه النقطة المهمّة والحیویة، فإنّ اجتناب تجمیع المال یبعث علی الرشد المعنوی والتعالی الروحی للإنسان ویؤدّی إلی خلاصه من أسر الصفات الذمیمة ونجاته من زخارف الدنیا وحالات التجمّل والانخداع بها.

والقرآن الکریم فی بیان قبح البخل، وهو الأساس لجمع المال، یشیر إلی نکتة دقیقة فی هذا المجال ویقول: إنّ البخل یضر قبل کلّ شی ء بشخص البخیل ویعیقه عن سلوک طریق التعالی والتکامل:

«وَمَنْ یَبْخَلْ فَإِنَّمَا یَبْخَلُ عَنْ نَّفْسِهِ»(3).

ویقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام:

«الطمع رقٌّ مؤبَّد»(4).

ویستفاد من هذه التعابیر بصورة جیدة کما أنّ «إکتناز المال» یمتد بجذوره إلی صفات رذیلة کالبخل والحرص والوقوع فی أسر الملذات الرخیصة والمادیات، فإنّ التوقی منه یؤدّی إلی خلاص الإنسان من هذه الرذائل النفسانیّة المهمّة.

ونقرأ فی حدیث عن نبی الإسلام صلی الله علیه و آله قوله:

«برئ من الشحّ من أدّی الزکاة»(5).

ومعلوم أنّ الإنسان مادام یعیش أسیر هذه الرذائل النفسانیّة، فإنّه لا یستطیع تسلق مراتب السعادة والتکامل ولا یعیش حالة العزة والطمأنینة فی واقع الحیاة.

ب) الوقایة من الفواصل الطبقیّة الخطیرة

إنّ المجتمعات البشریّة عاشت علی إمتداد التاریخ حالة الطبقیّة وانقسام المجتمع إلی قطبین: طبقة


1- سورة التوبة، الآیة 103.
2- کنز العمال، ج 6، ص 295- 296، ح 15774.
3- سورة محمّد، الآیة 38.
4- نهج البلاغة، الحکمة 180.
5- کنز العمال، ج 6، ص 296- 297، ح 15780.

ص: 440

مستضعفة وفقیرة، وأخری غنیّة ومتمولة، وترتب علی هذه الفاصلة الطبقیّة أنّ المجتمع خرج عن حدّ الاعتدال وواجه مشاکل کثیرة فی حیاة الفرد والمجتمع، وبالتالی ابتلی بظهور انفجارات وثروات اجتماعیّة أربکت المجتمع البشری وجعلته یعیش مآزق وأزمات حادة.

والشعار الإسلامی المعروف المقتبس من هذه الآیة:

«کَیْ لَایَکُونَ دُولَةً بَیْنَ الْأَغْنِیَاءِ مِنْکُمْ»(1)

، کأنّه یشیر إلی أنّه لا ینبغی أن تکون الأموال والثروات فی المجتمع منحصرة بید الأثریاء من الناس یتناولونها من ید لأخری ویعیش باقی الناس الحرمان والمعاناة وشظف العیش.

ویقرر القرآن الکریم فی مکان آخر مع بیان ضرورة الإنفاق (والإحتراز من البخل وتجمیع المال) الحکمة من ذلک، وهی أنّه فی غیر هذه الصورة فإنّ المجتمع البشری سیتعرض لاضطرابات اجتماعیّة شدیدة تقوده إلی هوة الانفجار والثورة:

«هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِی سَبِیلِ اللَّهِ فَمِنْکُمْ مَّنْ یَبْخَلْ

...

وَإِنْ تَتَوَلَّوْا یَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَیْرَکُمْ»(2).

والتعبیر بجملة:

«یَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَیْرَکُمْ»

إشارة إلی بروز اضطرابات ومماحکات اجتماعیّة خطیرة وسقوط أقوام وإنهیار حضارات بسبب هذه الظاهرة، وکأنّ تجمیع المال وتکدیس الثروة بید فئة خاصّة یتسبب فی ظهور الثروات الاجتماعیّة وحرکة الطبقة الضعیفة ضد الطبقة المستکبرة الثریّة وفی نهایة المطاف یتمّ القضاء علی قوی الهیمنة والثروة وإزالتهم عن فضاء المجتمع وتحلّ بذلک طبقة أخری وقوماً آخرین محلّهم.

ج) تأمین حاجات المحرومین

فی نظر الإسلام لا یوجد فقیر یبتلی بالفقر والعوز إلّا إلی جانبه ثری یقوم بتجمیع المال والثروة لنفسه، ویمتنع من أداء حقوقه الاجتماعیّة للآخرین.

ونقرأ فی حدیث عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله قوله:

«إنّ اللَّه فرض للفقراء فی مال الأغنیاء قدر ما یسعهم فإن منعوهم حتّی یجوعوا أو یعروا أو یجهدوا حاسبهم اللَّه حساباً شدیداً وعذّبهم عذاباً نکراً»(3).

والجملة المعبّرة والجمیلة أخری ما ورد فی هذا المجال عن أمیرالمؤمنین علی علیه السلام حیث قال:

«ما رأیت نعمة موفورة إلّاوإلی جانبها حقّ مضیّع»(4).

البحث الثانی: الإکتناز (خروج الثروة من عجلة الإنتاج)

اشارة

کما رأینا سابقاً أنّ «الإکتناز» یعتبر أحد المصادیق ل «تجمیع المال» وهو عبارة عن الأموال


1- سورة الحشر، الآیة 7.
2- سورة محمّد، الآیة 38.
3- کنز العمال، ج 6، ص 310، ح 15823. وورد شبیه هذا المعنی فی روایة معروفة فی منابع الشیعة عن أمیرالمؤمنین علی علیه السلام أشرنا إلیها فیما سبق:« إنّ اللَّه سبحانه فرض فی أموال الأغنیاء أقوات الفقراء فما جاع فقیر إلّابما متّع به غنیّ واللَّه تعالی سائلهم عن ذلک».( نهج البلاغة، الحکمة 328).
4- روائع نهج البلاغة، جرج جرداق، ص 83.

ص: 441

الخارجة عن دائرة الإنتاج والاستهلاک، وبالتالی تکون راکدة.

أمّا فی اللغة وطبقاً لما ورد فی صحاح اللغة:

«الکنز: المال المدفون» وکذلک ورد فی قاموس اللغة للفیروزآبادی أنّه قال: «هو المال المدفون»، ودفن المال تحت الأرض ربّما یکون له غایات مختلفة، وهذه المفردة تارة تأتی بمعنی واسع وتشمل کلّ حرکة للمال مقترنة مع رکود المال وخروجه من دائرة الإنتاج، کما ورد فی الآیة الشریفة:

«الَّذِینَ یَکْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ...»

، وسیأتی مزید تفصیل الکلام فی هذا المعنی (1).

إنّ تجمید الأموال وجعلها راکدة مضافاً إلی أنّه یعتبر من مصادیق «إکتناز المال» وحاله حال الاستئثار بالأموال فیما یعدّ نوعاً من العمل المخالف للقیم، فإنّه یستتبع تضییع الحقوق العامّة فی المجتمع، لأنّ المال فی نظر الدین وسیلة لتدبیر وترتیب أمور الحیاة والمعیشة، کما ورد فی الحدیث عن الإمام الباقر علیه السلام حول الدرهم والدینار قال:

«بها یَستقیم شُؤُونهم ومطالبهم»(2).

وبهذه الرؤیة، إذا کانت الأموال حالها حال جریان الدم فی البدن وکانت تجری فی جمیع شرایین المجتمع ولا تنحصر بفئة خاصّة أو تکتنز وتجمع فی خزائن وصنادیق بشکل «کنز» و «دفینة» فإنّها تنحرف عن مسارها الطبیعی والإلهی، وتستخدم فی اتّجاه مخالف لغایاتها الوجودیّة، وبدیهی أنّ هذا العمل لیس فقط غیر نافع، فإنّه یعتبر مرضاً اقتصادیاً ویؤدّی إلی خروج الأموال بهذه الطریقة من ید المحتاجین وبالتالی یهدد المنافع الکلیّة للمجتمع للخطر، کما أن الدم لو اجتمع فی مکان معین من بدن فیمکن أن یتبدل إلی جلطة ویتوقف القلب أو الدماغ عن الحیاة والحرکة.

وبعبارة أوضح فإنّ المال والثروة فی نظر الإسلام وسیلة وأداة للحیاة والمعیشة ولها جهة طریقیة ولا ینبغی أن یکون بحدّ ذاته «هدفاً» ویملک موضوعیّة فی واقع الحال.

ویشیر الإمام الصادق علیه السلام فی کلام له إلی هذه النقطة بوضوح ویقول:

«إنّما أعطاکم اللَّه هذه الفضول من الأموال لتُوجّهوها حیث وجَّهها اللَّه ولم یُعطِکموها لتَکنزوها»(3).

والتعبیر ب «حیث وجّهها اللَّه» فی الحدیث المذکور تأکید علی ما سبقت الإشارة إلیه، وهی أنّ الأموال لیست هدفاً بحدّ ذاتها بل أداة ووسیلة للحیاة، ومن هذه الجهة فإنّ القرآن الکریم ینهی بشدّة عن هذا العمل ویهدد القائمین علیه بالعذاب الشدید:

«وَالَّذِینَ یَکْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا یُنفِقُونَهَا فِی سَبِیلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِیمٍ

* یَوْمَ یُحْمَی عَلَیْهَا فِی نَارِ جَهَنَّمَ فَتُکْوَی بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا کَنَزْتُمْ


1- انظر: روح المعانی( ج 10، ص 87)؛ یقول صاحب تفسیر البحر المحیط( ج 5، ص 34) ذیل آیة الکنز:« أصل الکنز اللغة بالضمّ والجمع ... ثمّ غلب استعماله فی العرف علی المدفون من الذهب والفضّة»؛ ونقرأ فی مفردات الراغب تحت عنوان مادة« کنز»:« الکنز: جعل المال بعضه علی بعض وحفظه».
2- بحار الأنوار، ج 70، ص 138.
3- الکافی، ج 4، ص 32.

ص: 442

لِانفُسِکُمْ فَذُوقُوا مَا کُنتُمْ تَکْنِزُونَ»(1).

وفی مجال بیان أبعاد هذه الآیة ورد فی الحدیث الشریف: عندما نزلت هذه الآیة قال النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله ثلاثاً:

«تبّاً للذّهب تبّاً للفضّة»

، ثقل ذلک علی الأصحاب فسأله أحدهم:

«أیّ المال نتّخذُ؟

فقال صلی الله علیه و آله:

«لِساناً ذاکراً، وقلباً شاکراً، و زوجةً مؤمنةً تُعین أحدَکم علی دینه»(2).

ویبدو فی الوهلة الاولی أنّ جواب النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله لا یرتبط بالسؤال المذکور لأنّ السؤال عبارة «أیّ المال نتّخذ؟» وفقال النّبی صلی الله علیه و آله فی جوابه بلزوم أن یکون للإنسان لساناً ذاکراً وقلباً شاکراً وزوجة مؤمنة.

ولکن یمکن تفسیر هذا الحدیث ببیانین: الأوّل:

أنّ النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله وضمن تصحیحه للسؤال المذکور أراد أن یلفت النظر إلی هذه النقطة، وهی أنّ الذهب والفضة لا یعتبران کنزاً واقعیاً لیکون لهما أهمیّة وقیمة للادّخار، بل إنّ الکنز الواقعی عبارة اللسان الذاکر والقلب الشاکر والزوجة الصالحة.

والتفسیر الآخر: إنّ النّبی صلی الله علیه و آله أراد إلفات النظر إلی هذه الحقیقة، وهی أنّ الإنسان لا ینبغی أن یعتبر للذهب والفضة قیمة ذاتیّة بحیث یخزنها ویحفظها وبالتالی تکون لها موضوعیّة مستقلة، بل یجب علی الإنسان المؤمن أن یصرفها فی مخارجه وینتفع بها فی مسیرة حیاته بدلًا من تجمیدها وجعلها راکدة، فینبغی أن یکون أمله باللَّه تعالی ویشکر اللَّه علی نعمه وما إلی ذلک.

ومفهوم هذا الکلام هو أنّ إکتناز الذهب والفضة مضافاً إلی کونه انحرافاً فی مسار رأس المال وإخراج المال عن مساره الطبیعی فی عملیّة الإنتاج والاستهلاک، فإنّه یمثّل نوعاً من سوء الظن باللَّه وکفران لنعم اللَّه تعالی علیه، لأنّ الذهب والفضة وإن لم یکن لهما قیمة ذاتیّة ولکنّهما فی الحقیقة من قبیل الأموال لکونها وسیلة لتقییم البضاعة والمنتوجات فی المبادلات الاقتصادیّة بواسطة الذهب والفضة یمکن فهم قیمة المعاملات المالیّة والتجاریّة.

وعلی هذا الأساس فلو أنّ شخصاً قام بادّخار وإکتناز هذین المعدنین وخزنهما فی زاویة من البیت فإنّه لم یشکر اللَّه علی هذه النعمة.

وفی کلام آخر یشیر القرآن إلی العذاب الشدید والمخیف لمن یکتنز الأموال ویجمعها یقول:

«کَلَّا إِنَّهَا لَظَی* نَزَّاعَةً لِّلشَّوَی* تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّی* وَجَمَعَ فَأَوْعَی»(3).

ونری فی هذه الآیات الشریفة أنّ القرآن یهدد بشدّة الشخص الذی یتحرک علی مستوی جمع الأموال وإدّخارها، لأنّ أکثر المفسرین فسّروا هذه


1- سورة التوبة، الآیة 34 و 35.
2- المعجم الاوسط، ج 2، ص 376؛ مستدرک الوسائل، ج 12، ص 171. وورد فی بعض منابع أهل السنّة حدیث آخر بهذا المضمون:« لمّا نزلت:« والذین یکنزون الذهب والفضة ...» قال أصحاب رسول اللَّه صلی الله علیه و آله: نزل الیوم فی الکنز ما نزل! فقال أبوبکر: یا رسول اللَّه ماذا نکنز الیوم؟ قال: لساناً ذاکراً وقلباً شاکراً وزوجة صالحة تعین أحدکم علی إیمانه».( درّالمنثور، ذیل الآیة 34 من سورة التوبة).
3- سورة المعارج، الآیة 15- / 18.

ص: 443

الآیة:

«وَجَمَعَ فَأَوْعَی»

أنّ المراد منها: «جمع المال حرصاً علیه فأوعی: جعله فی وعاء وکَنَزَه»(1) وبذلک یخرج المال عن عجلة الإنتاج والحرکة الاقتصادیّة.

إنّ موضوع تجمید الأموال وتجمیعها والتهدید بالعذاب الشدید علی هذا العمل ورد فی الروایات الشریفة بصورة واسعة، ومن ذلک ما نقرأه فی روایة الإمام الصادق علیه السلام أنّ جماعة من أهالی خراسان دخلوا علیه فقال لهم الإمام علیه السلام:

«مَن جمع مالًا یحرسه عذّبه اللَّه علی مقداره. فقالوا بالفارسیّة: لا نفهم العربیة، فقال علیه السلام لهم:

هر که درم اندوزد جزایش دوزخ باشد»(2).

فلسفة تحریم الإکتناز:
اشارة

إنّ الحکمة من تحریم الإکتناز لا تخفی علی أحد، وإذا لم یطلع الشخص بشکل تفصیلی علیها أو لم یتمکن من بیانها، فلا شک أنّه یعلم بها إجمالًا، فإکتناز الأموال وإدّخارها تترتب علیه مفاسد کثیرة، واجتناب الإکتناز فیه منافع للفرد والمجتمع، وقد تقدّم الکلام عن هذا الموضوع فی بحث «فلسفة جمع المال» وهو وجه آخر من وجوه الإکتناز، من قبیل:

تحرر وخلاص الإنسان من صفات ذمیمة مثل البخل والحرص وکذلک تأمین حاجات المحرومین ومنع ظهور الفاصلة الطبقیّة.

وهنا نشیر إلی نقطتین اخریین:

1. توفیر الأرضیّة لتشغیل رأس المال

منذ أن تشکلت المجتمعات البشریّة فإنّ التبادل فی المنتوجات المختلفة کان سائداً بین أفراد البشر، وکلّ شخص کان یعرض ما زاد عن حاجته من المحاصیل الزراعیّة والحیوانیّة وغیرها للبیع، ولکن بما أنّ النقد لم یکن متداولًا فی ذلک الوقت، فإنّ هذا التبادل کان بصورة مبادلة جنس بجنس آخر وترتب علی ذلک مشاکل کثیرة، لأنّ الکثیر من الأفراد الذین یریدون بیع ما زاد عن حاجتهم، ولکنّهم ربّما لم یکونوا محتاجین لشی ء آخر لیشترونه، وهنا فکر الإنسان بشی ء یجعله معیاراً لمعاملاته، ومن هذه الجهة طرح موضوع «النقد والمال».

وظهور «الفضة» والأهم منها «الذهب» زاد من قوّة هذه الفکرة حیث جعلهما الإنسان بمثابة المال وأحدهما رخیصاً والآخر غالیاً، وبهذه الطریقة إزدهرت المبادلات التجاریّة بین أفراد البشر.

وعلی هذا الأساس فالحکمة الأساسیّه من وجود المال هو تحرک وتسریع المبادلات الاقتصادیّة والمعاملات التجاریّة، وأمّا الأشخاص الذین یتحرکون من موقع إخفاء وإکتناز هذا المال، لیس فقط یتسببون فی رکود الاقتصاد، وبذلک یعرّضون منافع المجتمع للضرر، بل إنّ عملهم هذا یقف علی الضد من الحکمة فی ظهور المال (3).

والإسلام بتحریمه إکتناز الثروة، فإنّه فی الحقیقة


1- انظر: مجمع البیان، ج 10، ص 535؛ جامع البیان، ج 29، ص 49؛ روح المعانی، ج 15، ص 69. وجاء فی تفسیر مقاتل:« أی جمع ماله فأمسکه فی وعائه ولم ینفق منه للسائل والمحروم».( تفسیر مقاتل، ج 4، ص 439).
2- بحار الأنوار، ج 47، ص 119، ح 162.
3- انظر: التفسیر الأمثل، ج 7، ص 393؛ المیزان، ج 9، ص 261- 262.

ص: 444

فتح الطریق لتحریک الثروة فی شرایین المجتمع وبهذه الطریقة وفّر الظروف اللازمة لاستفادة الناس من هذه الموهبة الإلهیّة.

یقول العلّامة الطباطبائی ضمن کلام طویل له فی مجال الحکمة من ظهور النقدین وفی مقال له بعنوان «الکنز»:

«ومن هنا یظهر أنّ کنزهما إبطال لقِیَم الأشیاء وإماتة لما فی وسع المکنوز منهما من إحیاء المعاملات الدائرة، وقیام السوق فی المجتمع علی ساقه، وببطلان المعاملات وتعطّل الأسواق وتبطل حیاة المجتمع وبنسبة مالها من الرکود والوقوف تقف وتضعف»(1).

ثم یضیف:

«إنّما أعنی به کنزهما وجعلهما فی معزل عن الجریان فی المعاملات السوقیّة والدوران لإصلاح أی شأن من شؤون الحیاة، ورفع الحوائج العاکفة علی المجتمع، کإشباع جائع وإرواء عطشان وکسوة عریان وربح کاسب وانتفاع عامل ونماء مال وعلاج مریض وفک أسیر وإنجاء غریم والکشف عن مکروب والتفریج عن مهموم وإجابة مضطر والدفع عن بیضة المجتمع الصالح وإصلاح ما فسد من الجو الاجتماعی»(2).

ومن هذه الجهة فإن الإسلام یری أنّ المال مجرّد أمانة إلهیّة بید الإنسان لیصرفها فی مسارها الطبیعی کما تقدّم فی کلام الإمام الصادق علیه السلام:

«المال مال اللَّه جعله ودائع عند خلقه»(3).

وهو أمانة ینبغی استخدامها فی مجال الإنتاج والتوزیع لضمان سلامة البشر وعزّتهم وراحتهم، کما تقدّم ذکره من کلمات الإمام الصادق علیه السلام:

«إنّما أعطاکم اللَّه هذه الفضول من الأموال لتوجّهوها حیث وجّهها اللَّه ولم یعطکموها لتکنزوها»(4).

ولعل فلسفة تحریم استعمال آنیة الذهب والفضة فی الإسلام یعود إلی هذه النقطة، وهی أنّ هذا العمل یؤدّی إلی تجمید المال وإخراجه من دائرة الإنتاج والاستهلاک الطبیعی ویجعله یتحرک فی غیر مسیره العادی وإن کانت مخالفة الإسلام للحیاة التجملیّة تملک غایات أخری غیر هذا الحکم الشرعی.

وإذا کانت البشریّة فی الماضی لم تدرک أهمیّة هذا الحکم الإسلامی «تحریم الإکتناز» فإننا الیوم نستطیع فهم عمق هذه المسألة الحیویّة بصورة واضحة، لأنّ الاضطرابات المالیّة فی العالم المعاصر ومن خلال تجمید الأموال من قِبل قوی الثروة والاستکبار، أدّی إلی تورط البشریّة بالکثیر من الاضطرابات والحروب وسفک الدماء(5).

ونری من اللازم إلفات النظر إلی هذه النقطة المهمّة، وهی أنّ تجمیع الأموال فی عصرنا الحاضر بصورة کنز، قلّما یحدث الآن کما کان فی السابق، وغالباً یتمّ إدّخار المال فی البنوک علی شکل نقد ونعلم أنّ المبالغ المالیّة التی تودع فی البنوک


1- المیزان، ج 9، ص 262.
2- المصدر السابق.
3- مستدرک الوسائل، ج 13، ص 52، ح 14720.
4- الکافی، ج 4، ص 32، ح 5.
5- انظر: التفسیر الأمثل، ج 7، ص 393.

ص: 445

والمصارف تدخل عجلة الاقتصاد والمعاملات التجاریّة ویحصل صاحب المال علی ربح معین منها، وعلی هذا الأساس ربّما یتصور البعض أنّ أحکام الکنز لا تجری فی عصرنا الحاضر، ولکن لا ینبغی الغفلة عن أنّ الکنز فی هذا الزمان یحدث بأشکال خفیّة مثلًا الأشخاص الذین یستبدلون أموالهم بالأراضی أو الدور والعقارات ویترکونها دون الاستفادة منها، أو یشترون بها لوحات ثمینة وأشیاء تحفیّة وأمثال ذلک ممّا لا ینتفع منه الإنسان فائدة معقولة ولا تعود علی المجتمع بنفع معقول، والأشنع والأسوء من ذلک إدّخار هذه الأموال فی البنوک الخارجیّة بحیث لا ینتفع منه المجتمع الإسلامی أبداً وتعود أرباحها للأجانب.

2. العمران والتنمیة

إنّ المؤرخین الذین کتبوا عن الحضارة الإسلامیّة، شواءً من المؤرخین المسلمین أم غیر المسلمین، یشهدون بأنّ الإسلام کان له الفضل فی فتح أبواب التمدن والتحضر، وکان بصدد تجسید القیم الأخلاقیّة من طرق مختلفة والمساهم فی رقی ورشد المجتمعات الإسلامیّة، ومن هذه الجهة لا مجال لظهور الانحطاط والتخلف والرکود الاقتصادی فی هذه الرؤیة الدینیّة، فالعمل والسعی الدائم والمشارکة فی البرامج والسیاسات الاقتصادیّة، وإیجاد روحیة المحبّة والتعاون، وتفضیل المنافع الاجتماعیّة علی المنافع الشخصیّة، وأخیراً فی کلمة واحدة السعی لتنمیة وإحیاء المجتمعات الإسلامیّة فی مقابل المجتمعات الأخری من جملة القیم التی أثمرت فی ظلّ أمور من قبیل الاجتناب عن تجمید الثروة وإدّخار المال.

یقول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام:

«أوصیکم ...

بالاکتساب فی الفقر والغنی»(1).

والعمل فی هذه الرؤیة الدینیّة محترم لذاته، حتی لو لم یکن للشخص حاجة إلیه، وفی الحقیقة أنّ العمل فی الإسلام لیس من أجل المصرف والاستهلاک، بل تارة یکون لغرض نفع الآخرین.

وفی حدیث آخر للإمام أمیرالمؤمنین علی علیه السلام قال:

«المال ما أفاد الرجال»(2).

وفی کلام للإمام الصادق علیه السلام یقول فیه:

«ما یخلف الرجل بعده شیئاً أشدّ علیه من المال الصامت»

، قال الراوی قلت: کیف یصنع به؟ فقال:

«یجعله فی الحائط والبستان والدار»(3).

ومن هذه الجهة فإنّ تجمید الأرض الزراعیّة وإهمالها لا یجوز فی نظر الإسلام، لأنّ إهمال الأراض الزراعیّة وترکها بواراً یعدّ نوعاً من إخراج المال من عجلة الإنتاج.

ونقرأ فی القرآن الکریم:

«هُوَ أَنشَأَکُمْ مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَکُمْ فِیهَا»(4).

ونقرأ فی حدیث عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله:

«من کان


1- الحیاة، ج 5، ص 297.
2- عیون الحکم والمواعظ، ص 42.
3- وسائل الشیعة، ج 12، ص 44، ص 1.
4- سورة هود، الآیة 61.

ص: 446

له أرض فلیزرعها وإلّا فلیؤدّها أخاه ...»(1).

وعلی أساس هذه السیاسة المالیّة أوجب الإسلام الزکاة علی النقدین (الذهب والفضة) فی حال تجمیدهما، وکذلک أوجب الزکاة علی الإبل والبقرة المتروکة لمدّة سنة کاملة.

ومن هنا نری أنّ وضع هذه الأحکام الاقتصادیّة، مضافاً إلی أنّه یعتبر تشویقاً علی لزوم استثمار الأموال، فإنّه یبیّن أنّ الإسلام یخالف تجمید الإمکانات ورؤوس الأموال بأیة صورة.

یقول الإمام الصادق علیه السلام فی هذا المجال:

«إنّ من فناء الإسلام وفناء المسلمین أن تصیر الأموال فی أیدی من لایعرف فیها الحقّ ولایصنع فیها المعروف»(2).

العلاقة بین الإکتناز والزکاة:

رأینا فیما سبق، أنّ المستفاد من ظاهر آیة الإکتناز والروایات الناظرة لهذا المورد، أنّ خروج الأموال من عجلة الإنتاج والاستهلاک یعدّ فی نظر الدین کفراناً بالنعم الإلهیّة وانحرافاً فی استخدام المال، ویطلق علیه ب «إکتناز المال».

ولکن هل أنّ جمع الثروة وتجمیدها فیما هو زائد عن حاجات المعیشة یعتبر من «الإکتناز» وبالتالی هو حرام، أو أنّ أحکام الإکتناز ناظرة إلی زمان قبل تشریع الزکاة وبعد تشریع الزکاة رفع هذا الحکم؟ أو أنّ المقصود من إکتناز المال ناظر إلی الأموال التی لم یدفع المالک زکاتها؟ وعلی هذا الأساس فکلما جمع الشخص مالًا بعد دفع زکاته فإنّه لا یعدّ «کنزاً» وإن أخرج المال بهذا العمل من دائرة الإنتاج والاستهلاک.

ثمة خلاف بین علماء الإسلام فیما یتصل بهذه المسألة ناشی ء من اختلاف الروایات.

فقد ورد فی الکثیر من روایات أهل السنّة وکذلک علی أساس خبر واحد أورده الشیخ الطوسی فی الأمالی تصرّیح بهذا المعنی؛ أی أنّ کلّ مال دفع المکلّف زکاته فإنّ حفظ ما تبقی من المال وإدّخاره لا یعدّ «کنز» من ذلک:

1. ما ورد فی صحیح البخاری عن عبداللَّه بن عمر فی آیة الکنز: «من کنزها فلم یُؤدّ زکاتها فویل له: إنّما کان هذا قبل أن تنزل الزکاة، فلمّا أنزلت جعلها اللَّه طُهراً للأموال»(3).

وهذه الروایة تصرّح أنّ حکم الإکتناز کان قبل نزول آیة الزکاة.

2. ونقرأ فی روایة أخری عن ابن عباس: لما نزلت آیة:

«وَالَّذِینَ یَکْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ...»

، قال:

کبر ذلک علی المسلمین فقالوا: یا نبی اللَّه إنّه کبر علی أصحابک هذه الآیة فقال:

«إنّ اللَّه لم یفرض الزکاة إلّا لیطیّب بها ما بقی من أموالکم وإنّما فرض المواریث من أموال تبقی بعدکم»(4).

3. ویروی الشیخ الطوسی أیضاً فی الأمالی عن


1- انظر: کنز العمال، ج 15، ح 42053.
2- الکافی، ج 4، ص 25، ح 1.
3- صحیح البخاری، ج 2، ص 111؛ سنن ابن ماجة، ج 1، ص 570.
4- سنن أبی داود، ج 1، ص 375، ح 1664.

ص: 447

النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه عندما نزلت آیة الکنز قال:

«کلّ مال یُؤدّی زکاتُه فلیس بکنز وإن کان تحت سبع أرضین وکلّ مال لا یؤدّی زکاته فهو کنز وإن کان فوق الأرض»(1).

وفی مقابل هذه الروایات وردت نصوص أخری فی المصادر الإسلامیّة تقرر أنّ مطلق تجمید الأموال، سواءً دفع صاحبها زکاتها، هی من جملة «الکنز» ومن ذلک:

1. ما ورد عن أمیرالمؤمنین علی علیه السلام:

«ما زاد علی أربعة آلاف فهو کنز أدِّی زکاته أم لو تؤدّ»(2)

(أی أربعة آلاف درهم والظاهر أنّها تشیر إلی نفقة سنة).

2. وورد فی الکثیر من المصادر الإسلامیّة فی سیرة الصحابی الجلیل لنبی الإسلام صلی الله علیه و آله أبی ذر رحمه الله أنّه کان یغدو کلّ یوم (علی معاویة) وهو فی الشام فینادی بأعلی صوته: «بشّر أهل الکنوز بکیّ فی الجباه وکیّ بالجنوب وکیّ بالظهور أبداً حتّی یتردّد الحرّ فی أجوافهم»(3).

یقول العلّامة الطباطبائی بعد نقله لبعض روایات الکنز: وذلک أنّ الذی ذکره أبو ذر فی خطابه إلی معاویة وعثمان قوله: «إنّ تأدیة الزکاة فحسب لا یکفی فی جواز الکنز وعدم إنفاقه فی الواجب من سبیل اللَّه ...»(4).

وهذا هو القول الذی اختاره العلّامة الطباطبائی رحمه الله أیضاً.

آراء علماء أهل السنّة:

ینقل «النَوَوی عن أئمّة المذاهب الأربعة وجمهور علماء أهل السنّة أنّهم متّفقون علی أنّ:

«المراد من الکنز المال الذی لا تؤدی زکاته، سواء کان مدفوناً أم ظاهراً، وأمّا اوتیت زکاته فلیس بکنز»(5).

ثم أضاف: ابن جریر الطبری أیضاً، بعد ترجیحه لهذا القول: «الکنز المحرّم فی الآیة هو مال ننفق منه فی سبیل اللَّه فی الغزو، وقال: کلّ من الاعتراضین غلط، والصواب قول الشافعی یدلّ علیه الکتاب والسنّة وأقوال الصحابة»(6).

ویقول «الشوکانی» أیضاً ضمن تأییده للقول أعلاه: «واتفقّ أئمّة الفتوی علی القول الأوّل، أی فقال أکثرهم: هو مال وجبت فیه صدقة الزکاة، فلم یؤدّ، فأمّا ما اخرجت زکاته فلیس بکنز»(7).

وکما تری أنّ هذه الطائفة من علماء أهل السنّة یرون فی صدق الکنز عدم دفع الزکاة لا مجرّد الدفن تحت الأرض وإخراج مال من عجلة الإنتاج.

یقول ابن حجر العسقلانی فی فتح الباری أیضاً مع نسبته هذا القول للبخاری: «ما لم تجب فیه الصدقة لا


1- الأمالی، للشیخ الطوسی، ص 519، ح 1142؛ وسائل الشیعة، ج 6، ص 16.
2- بحارالانوار، ج 8، ص 243. ووردت الروایة فی منابع أهل السنة بهذه الصورة: عن علی بن أبی طالب علیه السلام قال: أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة و ما فوقها کنز.( المصنّف عبدالرزاق، ج 4، ص 109، ح 7150).
3- نور الثقلین، ج 2، ص 214.
4- المیزان، ج 9، ص 259.
5- المجموع، ج 6، ص 12.
6- المصدر السابق.
7- نیل الأوطار، ج 4، ص 173.

ص: 448

یسمی کنزاً لأنّه معفو عنه، فلیکن ما أخرجت منه زکاة کذلک لأنّه عفی عن باخراج ما وجب عنه فلا یسمی کنزاً»(1).

ویقول هؤلاء الفقهاء من أهل السنّة فی بیان وجه الجمع بین تلک الطائفتین من الروایات المختلفة:

الطائفة الاولی من الروایات تتعلق بالظروف العادیة والتی یعیش فیه المجتمع فی حالات جیدة ولا تواجهه مشکلة اقتصادیّة والناس یعیشون فیه حیاتهم العادیة، ففی هذه الصورة یکفی دفع الزکاة ولا یعتبر الباقی من الکنز.

ولکن الطائفة الثانیة من الروایات ناظرة إلی الظروف الحساسة التی لا یکفی فیها دفع الزکاة فی جواز الإکتناز وجمع المال، بل فی مثل هذه الظروف یجب الحضور فی المیدان بکلّ وجود الإنسان ویستثمر أمواله فی مسار حفظ منافع المجتمع وحلّ مشکلاته.

وقصّة أبی ذر أیضاً ناظرة إلی هذه الحالة الاقتصادیّة الاستثنائیّة(2).

آراء علماء مدرسة أهل البیت علیهم السلام:
اشارة

رغم أنّ بعض کبار علماء هذه الطائفة وبالاتفاق مع علماء أهل السنّة، ذهبوا إلی أنّ آیة الکنز ناظرة لتحریم منع الزکاة وفسّروا هذه الآیة بمعنی «مال تؤدّی زکاته»(3)، ولکنّ الکثیر منهم ذهب إلی اختیار القول الثانی، وأنّ «کنز المال» یعنی «مطلق تجمید المال» وبذلک رجحوا الطائفة الثانیة من الروایات (4).

ومن ذلک ما یستفاد من کلمات العلّامة الطباطبائی فی تفسیر المیزان أنّ اختار هذا القول أیضاً.

یقول العلّامة الطباطبائی، بعد أن قرر أنّ إدّخار النقدین یعنی تعطیل دورهما فی المعاملات والتجارات قال: «والآیة إنّما نهی عن الکنز لهذه الخصیصة التی هی إیثار الکانز نفسه بالمال من غیر حاجة إلیه علی سبیل اللَّه مع قیام الحاجة إلیه، وناهیک أنّ الإسلام لا یحدّ أصل الملک من الکمیّة بحدّ فلو کان لهذا الکانز أضعاف ما کنزه من الذهب والفضة ولم یتدخرها کنزاً بل وضعها فی معرض الجریان یستفید الوفاً الوفاً، ویقید غیره ببیع أو شراء أو عمل وغیر ذلک لم یتوجه إلیه نهی دینی ...».

ویقول: « «لیس من البعید أن یکون مطلقاً یشمل الإنفاق المندوب بالعنایة التی مرّت فإنّ کنز الأموال


1- فتح الباری، ج 2، ص 215، باب ما أدّی زکاته فلیس بکنز.
2- یقول« القرطبی» فی تفسیره بعد نقل أقوال الطرفین فی توجیه کلام أبی ذر أنّ الکنز ورد بشکل مطلق:« ویحتمل أن یکون محمل ما رُوی عن أبی ذرّ فی هذا، ما رُوی أنّ الآیة نزلت فی وقت شدّة الحاجة وضعف المهاجرین وقصر ید رسول اللَّه صلی الله علیه و آله عن کفایتهم ولم یکن فی بیت المال مایسعهم وکانت السنون الجوائج هاجمة علیهم، فنهوا عن إمساک شی ء من المال إلّاعلی قدر الحاجة ولا یجوز إدّخار الذهب والفضّة فی مثل ذلک الوقت.( تفسیر القرطبی، ج 8، ص 125).
3- ومنهم العلّامة الخوئی فی( کتاب الطهارة، ج 4، ص 323) بعدنقله آیة الکنز یقول: فهو ناظر إلی تحریم منع الزکاة. وقوی صاحب التفسیر الأمثل هذا القول مع شرائط وقیود.
4- مثل المحقّق الأردبیلی فی زبدة البیان، ص 180؛ والعلّامة الطباطبائی فی المیزان، ج 9، ص 260- 264 وکذلک الشیخ الطبرسی فی مجمع البیان.

ص: 449

رفعاً لموضوع الإنفاق المنذوب کالإنفاق الواجب لا مجرّد عدم الإنفاق مع صلاحیة الموضوع لذلک».

ثم یقول فی بیان آخر:

«وهی موارد لا تحصی واجبة أو مندوبة أو مباحة لا یتعدی فیها حدّ الاعتدال ... والمندوب من الإنفاق إن لم یکن فی ترکه مأثم ولا إجرام شرعاً وعقلًا غیر أنّ التسبّب إلی إبطال المندوبات من رأس والاحتیال لرفع موضوعها من أشدّ الجرم والمعصیة»(1).

یقول صاحب تفسیر مجمع البیان العلّامة الطبرسی أیضاً ضمن تقویته لهذا القول:

«أکثر المفسرین علی أن قوله:

«وَالَّذِینَ یَکْنِزُونَ»(2)

، علی الاستئناف، وأنّ المراد بذلک مانعو زکاة، من هذه الآیة، وقیل: إنّه معطوف علی ما قبله، والأولی أن یکون محمولًا علی العموم فی الفریقین»(3).

وقد اختار المحقّق الأردبیلی فی زبدة البیان أیضاً هذا القول (4).

وکأنّ فقهاء مدرسة أهل البیت علیهم السلام لم یتعرضوا لهذه المسألة من باب تصوّرهم أنّ موضوع الکنز لا یرتبط مع موضوع الزکاة.

النتیجة:

یستفاد من مجموع الروایات مع آیة الکنز، وخاصّة مع الالتفات إلی فلسفة تحریم الإکتناز، أنّ الأصح هو القول بأنّه إذا إدّخر شخص مالًا بقصد الکنز، یعنی بنیّة إخراجه من عجلة الإنتاج والمصرف، سواءً أدّی زکاته أم لم یؤدها فإنّه مشمول لآیة الکنز.

ولکن إذا إدّخر مالًا لمدّة قصیرة ولیس بقصد الکنز بل بعنوان الحفظ، وعلی أن ینتفع بهذا المال فی المستقبل وفی الفرص المؤاتیة فإنّه لا یکون مشمولًا لآیة الکنز، بل إنّ هذا العمل یعدّ فی بعض الموارد ضروریاً ولازماً، ومن هذه الجهة فما هو دخیل فی صدق عنوان الکنز، هو «قصد الکنز» وإلّا فإنّ دفع الزکاة أو عدم دفعها لا یؤثر فی هذا الموضوع.

وعلی هذا الأساس یقال تارة فیما یتصل بآیة الکنز: إنّ هؤلاء الأشخاص هم الذین یدّخرون ویجمعون المال من موقع عشقهم وحبّهم الشدید له ویخفونه عن أنظار الآخرین، وهذا هو الشی ء الذی لیس له مبرر عقلائی، ولکن إذا إدّخر شخص ماله لغرض أن ینتفع به فی زمان الشیخوخة أو فی حالات المرض والعجز، ومن موقع النظرة المستقبلیّة، فإنّه لا یکون مورد اللوم والتوبیخ (5)، کما ورد فی الآیة 82 من سورة الکهف التی تتحدّث عن قصّة موسی والخضر علیهما السلام:

«وَکَانَ تَحْتَهُ کَنزٌ لَّهُمَا»

، وفیه إشارة إلی هذا المعنی.

وعلی ضوء ذلک فإنّ محتوی الآیة الشریفة فی مورد الکنز واسع ویشمل کلّ أشکال الإکتناز المال،


1- المیزان، ج 9، ص 263.
2- سورة التوبة، الآیة 34.
3- مجمع البیان، ذیل آیه.
4- زبدة البیان، ص 180. ورجح الکثیرون من المعاصرین هذا القول، انظر: الفرقان، ج 13، ص 55. التفسیر لکتاب اللَّه المنیر، ج 4، ص 81؛ المعاییر الاقتصادیّة( معیارهای اقتصادی) بالفارسیّة، ص 364.
5- انظر: التفسیر لکتاب اللَّه المنیر، ج 4، ص 83.

ص: 450

رغم أنّ فقهاء أهل السنّة وبالاستناد إلی روایات ذهبوا إلی أنّ الکنز محدود بالأموال التی لم تدفع زکاتها، ولکن الوارد فی المصادر الروائیّة لأهل البیت علیهم السلام فی هذا الباب لیس فیه سوی خبر مرسل واحد.

مضافاً إلی أنّ الاعتبار العقلی والاجتماعی وروح التشریعات الإسلامیّة أیضاً یؤید هذا المعنی، لأنّه من البعید جدّاً مع وجود کلّ هذه الآیات والروایات التی تذم إکتناز الأموال بشکل مطلق، التکاثر، ترک الإنفاق، جمع المال، البخل و ...، القول بجواز إدّخار الأموال وإخراجها عن عجلة الإنتاج والمصرف بمجرّد دفع الزکاة.

أضف إلی ذلک فإنّ الأصل فی طرح الموضوعات کونه تأسیسیاً لا تأکیدیاً فی حین إذا قلنا بأنّ «الکنز» تأکید علی دفع الزکاة، فهذا یعنی أنّ الآیة الشریفة والروایات المتعددة التی وردت بعنوان «الکنز» بشکل مستقل کلّها وردت بعنوان التأکید علی «دفع الزکاة» وبالتالی غض النظر عنها.

والمؤیّد الآخر أنّه لو کان المراد من مطلقات باب الکنز، هو مسألة الزکاة فقط، فإنّ لازمه أن تقول آیة الکنز «ولا ینفقون منها» مع (من التبعیضیّة) بدلًا من

«وَلَا یُنفِقُونَهَا»

وکلمة

«وَلَا یُنفِقُونَهَا»

، توحی بأنّ نفس إکتناز المال حرام، ولا یمکن تغییر عنوان الکنز علیها بمجرّد دفع بعضها کزکاة.

أضف إلی ذلک أنّ الحِکم الواردة فی حرمة الجمع وإکتناز المال متوفّرة فی مطلق الإکتناز ولا یکون لدفع الزکاة وعدمه دور فی تغییر معنی الکنز، وفی الحقیقة فإنّ معیار حرمة الإکتناز، وارد حتی بعد دفع الزکاة ولا یوجد دلیل علی جوازه بعد ذلک.

ومع کلّ ما تقدّم فإنّ اعتراض أبی ذر، وهو الصحابی الجیل لنبی الإسلام صلی الله علیه و آله علی معاویة وأمثاله یعود إلی هذه النقطة بالذات، لأنّه کان یشاهد أنّ هؤلاء الحکّام وبدون حاجتهم إلی کلّ تلک الأموال والثروات، یتحرکون علی مستوی جمعها وإدّخارها من موقع الحرص والطمع الشدید، وبدون النظر إلی النفقات الحالیّة والمستقبلیّة لهم، فکانوا یدّخرون الأموال ویجمعون الثروات فی خزائنهم بقصد إکتنازها واحتکارها، فی حین أنّهم تغافلوا وأعرضوا عن جمیع الحقوق الإلهیّة فی هذه المسابقة علی الأمور المادیّة والدنیویّة.

***

المنابع والمصادر

1. القرآن الکریم.

2. نهج البلاغة، السید الرضی.

3. أمالی الشیخ الصدوق، محمّد بن علی بن الحسین بن بابویة، مؤسسة البعثة، الطبعة الاولی، 1417 ه ق.

4. أمالی الشیخ الطوسی، أبوجعفر محمّد بن الحسن الطوسی، دار الثقافة، الطبعة الاولی، 1414 ه ق.

5. بحار الأنوار، العلّامة محمّد باقر المجلسی، مؤسسة الوفاء، بیروت، الطبعة الثانیة، 1403 ه ق.

6. تحف العقول، الحسن بن علی الحرّانی، مؤسسة نشر

ص: 451

الإسلامی، قم، الطبعة الثانیة، 1404 ه ق.

7. تفسیر بحر المحیط، أبوحیان الأندلسی، دار الفکر، بیروت، الطبعة الثانیة، 1398 ه ق.

8. تفسیر روح المعانی، السید محمود الآلوسی، إدارة الطباعة المنیریة، مصر.

9. تفسیر القرطبی (الجامع لأحکام القرآن) محمّد بن أحمد القرطبی، مؤسسة تاریخ العربی، بیروت، 1405 ه ق.

10. تفسیر مقاتل، مقاتل بن سلیمان، دار إحیاء التراث، بیروت، الطبعة الاولی، 1423 ه ق.

11. التفسیر الأمثل، مکارم الشیرازی ومساعدیه، دار الکتب الإسلامیّة، طهران، الطبعة السابعة عشرة، 1374 ه ق.

12. التفسیر لکتاب اللَّه المنیر، محمّد الحویزی الکرمی، المطبعة العلمیّة، قم، الطبعة الاولی، 1402 ه ق.

13. التنقیح فی شرح العروة الوثقی، السید أبوالقاسم الخوئی.

14. تهذیب الأحکام، محمّد بن الحسن (الشیخ الطوسی)، دار الکتب الإسلامیّة، قم، الطبعة الرابعة، 1365 ه ش.

15. جامع أحادیث الشیعة، المعزّیّ الملایری، مطبعة مهر، قم، 1413 ه ق.

16. جامع البیان فی تفسیر القرآن، ابن جریر الطبری، دار الفکر، بیروت، 1415 ه ق.

17. جواهرالکلام، محمّد حسن النجفی، دار الکتب الإسلامیّة، الطبعة الثالثة، 1367 ه ش.

18. الحیاة، محمّدرضا، محمّد وعلی الحکیمی، دفتر نشر الثقافة الإسلامیّة، طهران، الطبعة الخامسة، 1408 ه ق.

19. الخصال، الشیخ الصدوق، مؤسسة النشر الإسلامی، قم.

20. در المنثور، جلال الدین السیوطی، دار الفکر، بیروت، الطبعة الاولی، 1403 ه ق.

21. روائع نهج البلاغة، جرج جرداق، مرکز الغدیر، الطبعة الثانیة، 1417 ه ق.

22. زبدة البیان، المقدس الأردبیلی، مکتبة المرتضوی، طهران، الطبعة الاولی.

23. سنن ابن ماجة، محمّد بن یزید القزوینی، دار الفکر، بیروت.

24. سنن أبی داود، أبوداود سلیمان بن الأشعث السجستانی، دار الفکر، بیروت.

25. سنن البیهقی، أحمد بن حسین بن علی البیهقی، دار الفکر، بیروت.

26. سنن الترمذی، محمّد بن عیسی الترمذی، تحقیق عبدالرحمن محمّد عثمان، دار الفکر، بیروت، الطبعة الثانیة، 1403 ه ق.

27. شرح نهج البلاغة ابن أبی الحدید، دار إحیاء الکتب العربیة، بیروت، الطبعة الاولی، 1378 ه ق.

28. صحاح اللغة، إسماعیل بن حمّاد الجوهری، تحقیق أحمد عبدالغفور عطّار.

29. صحیح ابن خزیمة، محمّد بن إسحاق النیسابوری، مکتب الإسلامی، الطبعة الثانیة، 1412 ه ق.

30. صحیح البخاری، محمّد بن إسماعیل البخاری، دار الفکر، بیروت، 1401 ه ق.

31. عدّة الداعی، ابن فهد الحلّی، مکتبة الوجدانی، قم.

32. عوالی اللئالی، محمّد بن علی بن أَبی جمهور

ص: 452

الاحسائی، سید الشهداء، قم، الطبعة الاولی، 1403 ه ق.

33. عیون أخبار الرضا علیه السلام، الشیخ الصدوق، مؤسسة أعلمی، بیروت، الطبعة الاولی، 1404 ه ق.

34. عیون الحکم والمواعظ، علی بن محمّد لیث الواسطی، دارالحدیث، قم، الطبعه الاولی.

35. غرر الحکم ودرر الکلم، عبدالواحد بن محمّد التمیمی الآمدی، انتشارات مکتب الإعلام، قم، 1366 ه ش.

36. فتح الباری، ابن حجر العسقلانی، دار المعرفة، بیروت، الطبعة الثانیة.

37. الفرقان، الصادقی الطهرانی، انتشارات الثقافة الإسلامیّة، قم، الطبعة الثانیة، 1365 ه ش.

38. فقه الرضا علیه السلام، منسوب إلی الإمام الرضا علیه السلام، المؤتمر العالمی للإمام الرضا علیه السلام، مشهد، الطبعة الاولی، 1406 ه ق.

39. الکافی، محمّد بن یعقوب الکلینی، دار الکتب الإسلامیّة، الآخوندی، قم، الطبعة الاولی، 1388 ه ق.

40. کنز العمال، المتّقی الهندی، مؤسّسة الرّسالة، بیروت، الطبعة الخامسة، 1405 ه ق.

41. لسان العرب، العلّامة ابن منظور، دار إحیاء التراث العربی، الطبعة الاولی، 1408 ه ق.

42. مجمع البحرین، فخر الدین الطریحی.

43. مجمع البیان، فضل بن الحسن الطبرسی، انتشارات ناصرخسرو، طهران، الطبعة الاولی، 1372 ه ش.

44. المجموع فی شرح المهذب، محیی الدین النووی، دار الفکر، بیروت.

45. مستدرک الوسائل، المیرزا حسین النوری الطبرسی، مؤسّسة آل البیت، قم، الطبعة الاولی، 1408 ه ق.

46. مسند أحمد، أحمد بن حنبل، دار الکتب العلمیّة، بیروت.

47. المصنّف، عبدالرزاق بن همام الصنعانی، تحقیق حبیب الرحمان الأعظمی، منشورات المجلس الأعلمی.

48. معانی الأخبار، الشیخ الصدوق، مکتبة الإمام صاحب الزمان، العراق، الکاظمیّة.

49. المعجم الأوسط، سلیمان بن أحمد الطبرانی، دار الحرمین، 1415 ه ق.

50. المعجم الوسیط، إبراهیم مدکور ومساعدیه.

51. معجم مقائیس اللغة، أحمد بن فارس، تحقیق:

عبدالسلام محمّد هارون.

52. المعاییر الاقتصادیّة فی تعالیم الرضویّة (معیارهای اقتصادی در تعالیم رضوی)، محمّد الحکیمی، آستان قدس رضوی، الطبعة الاولی، 1370 ه ش.

53. مفردات الراغب، الراغب الإصفهانی (حسین بن محمّد)، دار المعرفة، بیروت.

54. المکاسب، الشیخ مرتضی الأنصاری، دار الحکمة، قم، الطبعة الرابعة، 1370 ه ش.

55. المنجد، لویس معلوف.

56. میزان الحکمة، محمّدی الری شهری، دار الحدیث، قم، الطبعة الاولی، 1416 ه ق.

57. المیزان فی تفسیر القرآن، العلّامة السید محمّد حسین الطباطبائی، دار الکتب الإسلامیّة، طهران، الطبعة الثانیة، 1389 ه ق.

58. من لا یحضره الفقیه، الشیخ الصدوق، دارالکتب

ص: 453

الإسلامیّة، الطبعة الثالثة، 1388 ه ق.

59. موسوعة أحادیث أهل البیت، الشیخ هادی النجفی، دار إحیاء التراث العربی، بیروت، الطبعة الاولی، 1423 ه ق.

60. نورالثقلین، عبد علی بن جمعة العروسی، انتشارات إسماعیلیان، قم، الطبعة الرابعة، 1415 ه ق.

61. نیل الأوطار، محمّد بن علی بن محمّد الشوکانی، دار الجیل، بیروت، 1973 م.

62. وسائل الشیعة، محمّد بن الحسن الحرّ العاملی، مؤسسة آل البیت لإحیاء التراث، قم، الطبعة الثانیة، 1414 ه ق.

ص: 454

ص: 455

(4). عدم التضاد بین الزهد الإسلامی والنشاطات الاقتصادیّة الواسعة

اشارة

البحث الأوّل: تعریف الزهد الإسلامی

البحث الثانی: الآثار المعنویّة والمادیّة للزهد الإسلامی

البحث الثالث: الزاهد الإسلامی وعمله وسعیه

البحث الرابع: دور الزهد الإسلامی فی الإزدهار الاقتصادی

ص: 456

ص: 457

عدم التضاد بین الزهد الإسلامی والنشاطات الاقتصادیّة الواسعة

مقدّمة:

لا شک أنّ قوی الهیمنة والسیطرة فی العالم عملوا علی تحریف مقولة «الزهد الإسلامی» لهدف خاص مع تسدید وحمایة أصحاب السلطة الثقافیّة، وتصوّروا أنّ الزهد عامل من عوامل الرکود الاقتصادی فی المجتمع، وبهذه النظرة المسبقة أثاروا علامات الاستفهام فی مجال حضور الدین والإیمان ووجود اللَّه فی فضاء المجتمع، هؤلاء طرحوا هذه الشبهة، وهی: ألیس الزهد یتقاطع مع الرشد والتنمیة الاقتصادیّة؟ ألیس الزهد یؤدّی إلی رکود واهتزاز روحیة العمل والنشاط والسعی فی الإعمار والبناء؟

وإذا عاش الإنسان حالة الزهد ألا یدعوه ذلک إلی التکاسل واللامبالاة بالحیاة؟ ألا یدعو الزهد إلی إعراض الناس عن إعمار الدنیا؟

یقول أحد الکتّاب المعاصرین المعروفین «ماکس وِبِر» فی کتابه أخلاق البروتستانیّة وروح الرأسمالیّة:

«... ثمة مسائل فی التعالیم الإسلامیّة من قبیل:

الزهد، القناعة، القضاء وقدر و ... تعدّ عاملًا لتخلف المجتمعات الإسلامیّة ...»(1).

وهذه المقالة تتصدی للجواب عن الشبهات المذکورة وتطرح حقیقة الزهد فی نظر الإسلام، وفی هذا التحقیق نلفت النظر إلی هذه النقطة، وهی أنّ الزهد الإسلامی فی حقیقته یمثّل عدم الإرتباط القلبی بالأمور المادیّة ویدعو إلی معیشة بسیطة وحیاة سلیمة بعیداً عن کلّ أشکال الترف والبذخ والإسراف والتبذیر.

إنّ الزهد الإسلامی یستدعی أن یعیش الإنسان حالة القناعة المعقولة فی التمتع بالنعم فی حرکة الحیاة، وهذا النوع من الزهد لیس فقط لا یتقاطع مع تطویر الحیاة وإزدهارها، بل یستدعی الإزدهار الاقتصادی فی ظلّ هذا النوع من الزهد أیضاً، وفی الحقیقة ثمّة علاقة وملازمة بین الزهد الإسلامی والرشد والتنمیة الاقتصادیّة، لأنّه:

أوّلًا: إنّ الزهد الإسلامی یمنع الکثیر من حالات الطمع والإسراف فی الاستفادة من مواهب الحیاة فیما تفرض علی الإنسان نفقات باهظة وغیر ضروریّة، ویحول دون الکثیر من أشکال الإسراف والتبذیر والبذخ والمصروفات أللامعقولة، وبالتالی یؤدّی قهراً إلی بقاء ثروات المجتمع ویحول دون إهدارها وإتلافها.

ثانیاً: إنّ الزهد الإسلامی یمنع الکثیر من أشکال التخریب المالی، فالحروب غالباً تمتد فی جذورها إلی حالة الطمع والحرص وطلب الدنیا وتستنفذ الکثیر


1- انظر: الدین، الثقافة والتنمیة( دین، فرهنگ و توسعه). وجدیر بالقول إنّ قسماً من هذه المفاهیم طالتها ید التحریف، وأجبنا علیها فی بحث« الفقر وطرق مکافحته فی الإسلام» فی هذا الکتاب.

ص: 458

من طاقات المجتمع وثرواته، والزاهد الإسلامی یتجنب مثل هذه الحروب والسجالات الظالمة، وهذا الامتناع یتسبب فی بقاء الثروات والأموال، ومن خلال تزریقها إلی عجلة الاقتصاد فی المجتمع یتسبب فی تقدّم المجتمع ورخائه وإزدهاره.

ثالثاً: إنّ الزاهد الإسلامی وفی ظلّ حالة الزهد بالدنیا، یتسبب فی صفاء باطنه ونقاء قلبه ویثیر فی وجدانه حالات الحب للآخرین ومدّ ید المعونة إلیهم والاهتمام بأمورهم، وهذه المسألة تدعوه لمزید من العمل والسعی الاقتصادی لیتمکن بهذا الطریقة من تهیئة المقومات اللازمة لتقدیم مزید من الخدمة للآخرین والمجتمع، وفی ظلّ هذه الروحیّة یزدهر سوق العمل والسعی والعمران والإنفاق والخدمة لأفراد المجتمع.

وعلی أیّة حال فإنّ الزاهد الإسلامی ومن خلال الالتفات إلی الأصول الثلاثة التالیة، رغم أنّه یعیش الحدّ الأدنی من التمتع بالأمور الدنیویّة، ولکن هذا الأمر لا یمنع من أن تکون حیاته زاخرة بالنشاط والحیویة والنمو الاقتصادی السلیم:

1. الاعتقاد بالحساب یوم القیامة:

«... فی حَلالها حساب وفی حَرامها عقابٌ»(1).

2. تحمل المرارة والمعاناة والتعب فی الدنیا لأنّه یعتقد أنّ عاقبة کلّ هذه الأمور نیل رضوان اللَّه تعالی یوم القیامة، کما أنّ التمتع بالملذات المادیّة فی الدنیا یستتبع المرارة والمعاناة فی الآخرة:

«مرارة الدّنیا حلاوة الآخرة وحلاوة الدّنیا مرارة الآخرة»(2).

3

. إنّ حالة القناعة فی الدنیا وإمتلاک الحدّ الأدنی من وسائل المعیشة، یستتبع حالة الرضا والسعادة فی الحیاة الاخرویّة:

«یا بنیّة ما من رجلٍ طاب مَطعمه ومَشربه ومَلبسه إلّاطال وُقوفه بین یدی اللَّه عزّ وجلّ یوم القیامة»(3).

وبهذه المقدّمة التی ألقینا فیها نظرة عامّة علی هذا الموضوع، نواصل الکلام فی تفاصیل هذه المسألة فی أربعة بحوث:

البحث الأوّل: تعریف الزهد الإسلامی

اشارة

الزهد فی اللغة یعنی عدم الرغبة والمیل، یقول الراغب فی مفرداته: «الزهید، الشی ء القلیل، والزّاهد فی الشی ء الرّاغب عنه»(4).

وجاء فی لسان العرب «الزهد ضد الرغبة ...

والزّهادة فی الأشیاء کلّها ضد الرغبة»(5)؛ ولکن ذهب بعض العلماء إلی أنّ: «الزهد لغةً الاعراض عن الشی ء احتقاراً»(6).

أمّا الزهد فی الاصطلاح؛ أی فی دائرة الثقافة الإسلامیّة، فله هویة وحقیقة خاصّة تتجلی فی سنّة النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله والأئمّة المعصومین علیهم السلام، وفی هذه المساحة فإنّ الزهد لا یعنی التهرب من المجتمع وإعتزال الناس والرهبانیّة والتصوف، ولا یتقاطع مع العمل والسعی فی أمور المعیشة والکسب، بل یعنی عدم التعلق القلبی بالمادیات، وعدم الانخداع بزخارف الدنیا وملذاتها الرخیصة والاعتماد التام علی الباری تعالی فی هذه النعم، فی الحقیقة فإنّ الزاهد الإسلامی بدلًا من أن یعیش أسیر المواهب المادیّة، فإنّه یتعلق قلبه بخالق ورازق هذه المواهب والنعم، وهذه المسألة هی التی یمتاز بها الزاهد عن غیره من الناس.


1- بحار الأنوار، ج 42، ص 276( عن الإمام علی علیه السلام).
2- نهج البلاغة، الکلمات القصار، الکلمة 251.
3- بحار الأنوار، ج 42، ص 276( عن الإمام علی علیه السلام).
4- مفردات الراغب، مادة« زهد».
5- لسان العرب، مادة« زهد».
6- فیض القدیر شرح جامع الصغیر، ج 1، ص 615.

ص: 459

یقول النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله فی کلام جامع:

«الزَّهادة فِی الدنیا لیست بتحریم الحلال ولا إضاعَة المال ولکنَّ الزَّهادة فی الدُّنیا أنْ لا تکون بِما فی یَدَیک أوثق مِنکَ مِمّا فی ید اللَّه»(1).

والشاهد علی ذلک أنّ أمیرالمؤمنین علی علیه السلام یقول فی حقیقة الزهد الإسلامی:

«الزُّهد کلّه بَین کلمتین من القرآن قال اللَّه سبحانه:

«لِکَیلا تَأسَوا عَلی مَافاتَکُم وَلا تَفْرَحُوا بِما اتاکُم» ومَن لم یأسَ علی الماضی ولم یفرَحْ بالآتی فقد أخذ الزّهد بطرفَیْه»(2).

ویقول علیه السلام أیضاً:

«الزَّهادة قِصَرُ الأمل والشُّکر عند النِّعم والتَّورع عند المحارم»(3).

أمّا علماء الإسلام فهم بدورهم وعلی أساس هذه التعالیم الدینیّة، فسّروا الزهد بهذا المعنی أیضاً، یقول العلّامة الأمینی فی کلام موجز وعمیق المعنی:

«ومعلومٌ أنّ طلب الْمال غیر منافٍ للزَّهادة فانّ حقیقة الزُّهد أنْ لا یَمْلِکک المالُ لا أن لا تَملکَ المال»(4).

وبدیهی أنّ تحصیل المال لا یتقاطع مع روحیة الزهد فی الأمور الدنیویّة.

ونقل عن الزُهَری (التابعی المعروف) أنّه قال:

«الزّهد فِی الدّنیا ما لم یغلب الحرامُ صبرَک، وما لم یغلب الحلالُ شکرَک»(5).

ویقول الشاعر:

إذا المرءُ لَم یَعتَقْ مِنَ المالِ نَفْسَهُ تَمَلَّکَهُ المالُ الّذی هُو مالِکُهُ

ألا إِنّما مَالِی الَّذی أَنا مُنفِقُ وَلَیسَ لِی المالُ الّذی أنا تارِکُهُ

إذا کُنتَ ذامالٍ فَبادِرْ بِهِ الّذی یَحقُّ وَإلّا استَهلَکَتْهُ مَهالِکُهُ

وعلی ضوء ذلک فالزهد الإسلامی عبارة عن عدم الرغبة القلبیّة بالدنیا والتحلی بالقناعة فی مجال التمتع بالطیّبات فی أمور المعیشة الدنیویّة، وفی الحقیقة فإنّ عدم التعلق القلبی یمنع الإنسان من الوقوع فی ورطة الحرام أو یمد یده إلی ممتلکات الآخرین وأموالهم.

إنّ الإنسان الزاهد هو المالک والأمیر علی أمواله، لا أنّ المال والدنیا یتسلطان علیه وتکون نتیجته جمع المال وتکدیس الثروة والبخل والتجاوز علی حقوق الآخرین.

وجاء فی سیرة المقدّس الأردبیلی الذی لا یشک أحد فی زهده وورعه، أنّه کلّما جاؤوا إلیه بقماش ثمین لیجعل منه عمامة فکان لا یمانع من ذلک ویضع علی رأسه مثل هذه العمامة ویتوجه للزیارة وإذا طلب منه شخص قطعة من قماش هذه العمامة، فإنّه یقطع له منها قطعة تصلح له ویهبه له بحیث إنّه فی نهایة المطاف لا یبقی من عمامته إلّامقدار قلیل، فیضطر بعد رجوعه إلی داره أن یضع علی رأسه عمامة أخری (6).

وعلی أیّة حال، فالزهد فی مقابل الحرام واجب، یعنی یجب علی الإنسان أن یعرض عن الحرام ولا یجد فی نفسه میلًا إلیه، ولکنّه فی مجال الاستفادة من الحلال، فالزهد یعنی عدم الإرتباط القلبی بالشی ء، والاستفادة المعقولة من النعم الدنیویّة الحلال، مع اقترانه بشکر هذه النعم الإلهیّة، وفی الواقع أنّ الزاهد هو الذی یتجنب الحرام ویستفید من الحلال الإلهی


1- سنن الترمذی، ج 4، ص 3، ح 2443.
2- نهج البلاغة، الکلمات القصادر، الکلمة 439.
3- المصدر السابق، الخطبة 81.
4- الغدیر، ج 2، ص 91.
5- المصنّف لابن أبی شیبة، ج 8، ص 317.
6- انظر: أعیان الشیعة، ج 3، ص 81.

ص: 460

بشکل معقول بعیداً عن کلّ أشکال الإسراف والتبذیر والإفراط ویؤدّی شکر هذه النعم الإلهیّة بالمعنی الصحیح للکلمة.

الزاهد الکبیر، العامل الذی لا یصیبه الإرهاق

عندما یدور الحدیث عن الزهد فی تاریخ الإسلام فمن البدیهی أنّ المصداق البارز لحیاة الزهد هو ما نراه فی سیرة أمیرالمؤمنین علی علیه السلام، یقول ابن أبی الحدید عن زهد الإمام علی علیه السلام: «وأمّا الزهد فِی الدّنیا فهو سیّد الزُّهاد»(1).

وینقل الخوارزمی عن عمر بن عبدالعزیز أنّه قال:

«ما علمنا أنّ أحداً کان فی هذه الامّة بعد النبیّ أزهد من علیّ بن أبی طالب»(2).

وکذلک نعلم أنّ هذا الإمام علیه السلام کان یأکل خبز الشعیر وقلّما ینتفع بملذات الدنیا، وینقل ابن أبی الحدید فی شرحه لنهج البلاغة عن أحد أصحاب أمیرالمؤمنین علیه السلام عبداللَّه بن أبی رافع: دخلت إلیه یوم العید، فقدّم جراباً مختوماً، وجدنا فیه خبز شعیر یابساً مرضوضاً، فقدّم فأکل، فقلت: یاأمیرالمؤمنین فکیف تختمها قال:

«خفت هذین الولدین أن یلتاه بسمن وزیت»(3).

ولکنّ الإمام علی علیه السلام مع کلّ زهده فی حیاته الشخصیّة لم یترک دعوته للعمل والسعی، وکذلک سیرته العملیّة فی مجال النشاط الاقتصادی ملیئة بالدروس والعبر، یقول أمیرالمؤمنین علیه السلام:

«من وجد ماءً وتراباً ثمّ افتقر فأبعده اللَّه»(4).

وکذلک یقول هذا الإمام علیه السلام فی مطلع عهده لمالک الأشتر رحمه الله عندما یوصیه بإعمار البلاد وإحیائها:

«...

واستصلاح أهلها وعمارة بلادها»(5).

یقول الإمام الصادق علیه السلام فی مجال المساعی الاقتصادیّة لأمیرالمؤمنین علیه السلام:

«قال له رجل- ورأی وسق نوی- ما هذا یاأباالحسن؟ قال: مائة ألف نخل إن شاء اللَّه، فغرسه فلم یغادر منه نواة واحدة فهو من أوقاته، ووقف مالًا بخیبر وبوادی القری، ووقف مال أبی نیرز والبغیبغة وأرباحاً وأرینة ورغد ورزیناً وریاحاً علی المؤمنین، وأمر بذلک أکثر ولد فاطمة من ذوی الأمانة والصّلاح، وأخرج مائة عین بینبع وجعلها للحجیج، وهو باق إلی یومنا هذا، وحفر آباراً فی طریق مکّة والکوفة، وبنی مسجد الفتح فی المدینة، وعند مقابل قبر حمزة، وفی المیقات وفی الکوفة وجامع البصرة وفی عبادان وغیر ذلک»(6).

یقول المورّخ المعروف، البلاذری:

«إنّه کانَت غَلَّةُ عَلیّ أَربعین أَلف دیناراً فجعلها صدقةً»(7).

وکذلک ورد فی شرح سیرة هذا الإمام علیه السلام أنّه قال:

«تزوَّجْتُ فاطمة وَما کان لی فراشٌ، وَصَدَقَتی الیوم لو


1- شرح نهج البلاغة، لابن أبی الحدید، ج 1، ص 26.
2- مناقب خوارزمی، ص 117.
3- شرح نهج البلاغة، لابن أبی الحدید، ج 1، ص 26.
4- بحار الأنوار، ج 100، ص 65، ح 10.
5- نهج البلاغة، الکتاب 53.
6- بحار الأنوار، ج 41، ص 32.
7- بحار الأنوار، ج 41، ص 26.

ص: 461

قُسِّمَتْ علی بنی هاشم لَوَسِعَتْهُم»(1).

وعلی هذا الأساس فإنّ الحیاة الشخصیّة لزاهد کأمیرالمؤمنین علیه السلام تبیّن أنّ الزاهد الإسلامی لا یغفل عن العمل والسعی والإعمار وإزدهار المجتمع، ویفکر دوماً بخدمة الآخرین ورفاه معیشتهم، وإن کان لا ینتفع شیئاً من مواهب الدنیا، إذن الزهد الإسلامی لا یتنافی مع العمل والسعی، والزاهد الإسلامی یهتم بالعمل والسعی والحیاة وینتفع منها أیضاً، ولکنّه أحیاناً ومن أجل التوصل إلی مراتب عالیة من الکمال المعنوی أو لبعض الظروف الاجتماعیّة، فإنّه یسعی إلی التقلیل من انتفاعه بالأمور الدنیویّة إلی الحدّ الأدنی.

البحث الثانی: الآثار المعنویّة والمادیّة للزهد الإسلامی

أ) تقویة الروح والإرادة

إنّ الزهد وریاضة النفس تقویان فی الإنسان روح الإرادة بحیث یعیش الصبر والاستقامة فی مقابل المشاکل والتحدیات الصعبة، ومن هذه الجهة فإنّ أولیاء اللَّه یسعون للوصول إلی مراحل عالیة من الزهد، الذی یسمی ب «الریاضة».

وقد ورد فی أحد کتب أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی نهج البلاغة، أنّه قال ما خلاصته:

«وَإِنَّما هِی نَفْسِی أَرُوْضُهَا بِالتَّقْوَی لِتَأْتِیَ آمِنَةً یَوْمَ الْخَوْفِ الْأَکْبَرِ، وَتَثْبُتَ عَلَی جَوَانِبِ الْمَزْلَقِ ... فَمَا خُلِقْتُ لِیَشْغَلَنِی أَکْلُ الطَّیِّبَاتِ، کَالْبَهِیمَةِ الْمَرْبُوطَةِ، هَمُّهَا عَلَفُهَا؛ أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغْلُهَا تَقَمُّمُهَا، تَکْتَرِشُ مِنْ أَعْلَافِهَا، تَلْهُو عَمَّا یُرادُ بِهَا، أَوْ أُتْرَکَ سُدًی وَأُهْمَلَ عَابِثَاً، أَوْ أَجُرَّ حَبْلَ الضَّلَالَةِ، أَوْ أَعْتَسِفَ طَرِیْقَ الْمَتَاهَةِ!»(2).

ومن هذه الجهة ورد فی روایة أخری أنّ هذا الإمام علیه السلام قدم له طبق من الحلوی اللذیذة قال:

«إنّ الحلال طیّب وما هو بحرام، ولکنّی أکره أن اعوّد نفسی ما لم اعوّها، ارفعوه عنی فرفعوه»(3).

وورد فی روایة عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«ألزّهد فی الدّنیا یُریح القلب والجسد»(4).

إنّ الاستفادة بالحدّ الأقل من الدنیا یمنح الإنسان التحرر والنشاط وقوّة الإرادة وسمو الروح، بحیث یسیطر علی میوله النفسانیّة حتی بالنسبة إلی الحلال من الدنیا، فمثل هذا الإنسان یعیش الراحة وفراغ البال ویستطیع بیان ما یریده للناس بکلّ یُسر ولا یخاف من أشکال الحرمان التی ربّما تستتبع روحیته العالیة وکلامه الحقّ، ومن هذه الجهة فإنّ الزعماء الناجحین فی الدنیا یعیشون عادة نوعاً من الزهد وعدم التعلق القلبی بشی ء من المادیات والأمور الدنیویّة، یقول العلّامة المطهری رحمه الله:

«أی زعیم دینی أو سیاسی عاش التنعم والترف وصار مع ذلک منشأ لتحوّل فی العالم؟ وأی زعیم


1- المصدر السابق، ص 43.
2- انظر: نهج البلاغة، الکتاب 45.
3- وسائل الشیعة، ج 16، ص 508، ح 4.
4- مجمع الزوائد، ج 10، ص 286.

ص: 462

وسلطان استطاع أن یسلب مقالید السلطنة من غیره ونقلها إلی ذریّته وکان مع ذلک من أهل الترف والبذخ؟»(1).

ومعلوم أنّ الجهاد وکلمة الحقّ فی جمیع الظروف تتقاطع مع حالات الترف والرفاهیة، ومن هذه الجهة ونری أنّ بعض الناس یتوجهون نحو حیاة الزهد ویقنعون بالقلیل من الدنیا لیضمنوا لهم راحة نفسیّة وطمأنینة القلب وحریة الروح، ولئلا تعیقهم هذه الملذات المادیّة عن نیل المقاصد العالیة فی حرکة الحیاة.

یقول الإمام علی علیه السلام:

«لا تجتمع عَزیمة ووَلیمة»(2).

وقد ورد فی الحدیث الشریف عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله فی بیان آثار الزهد ومعطیاته:

«الزُّهْدُ فِی الدُّنْیا یُریحُ القَلْبَ وَالبَدَنَ ...»(3)

، وهذا الحدیث یبیّن هذه الحقیقة القیمة، وهی أنّ الإنسان إذا اعتاد علی القلیل من الأمور الدنیویّة وتطبعت علیه روحه وجسمه، فإنّه یعیش بعیداً عن حالات الحرص والحسد بالنسبة لأموال الآخرین ولا یتکالب علی زخارف الدنیا ومعیشة البذخ والترف، فلا یحسد الآخرین علی ما یملکونه من مال وثروة ولا یخطط لیجمع المال والثروة ولا یهتم ویغتم لعدم نیلها وتحصیلها، أمّا بدنه فقد اعتاد علی الطعام البسیط وقلّة المؤنة، ومن هذه الجهة فإنّه یواجه الظروف الصعبة فی الحیاة بسبب بعض الحوادث الطبیعیّة أحیاناً أو بعض الظروف الإجباریّة، بصبر ومتانة ویتحمل صعوبات الحیاة وشظف المعیشة بکلّ راحة وسعة صدر، بینما یعیش الآخرون حالات القلق والحزن لعدم توفر ما یطمعون ا لیه من مادیات الحیاة والمعیشة المرفهة والأطمعة اللذیذة، فأبدانهم لم تتعود علی مواجهة المشاکل ولم تتعود نفوسهم علی الصبر والاستقامة فی مواجهة التحدیات الصعبة، أمّا الزاهد فیعیش حیاته البسیطة بعیداً عن أشکال الحزن والقلق، لأنّ بدنه اعتاد علی الحیاة فی مثل هذه الظروف.

ب) الاعتقاد بالحساب یوم القیامة

رغم أنّ اللَّه تعالی خلق عالم الوجود ومواهب الطبیعة للمؤمنین کما ورد فی القرآن الکریم:

«قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِینَةَ اللَّهِ الَّتِی أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّیِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِیَ لِلَّذِینَ آمَنُوا فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا خَالِصَةً یَوْمَ الْقِیَامَةِ»(4)

، فیستطیع المؤمنون التنعم بهذه المواهب الإلهیّة فی عالم الطبیعة، ولکن بما أنّ جمیع هذه الموارد والنعم سیحاسب علیها الإنسان یوم القیامة فی کیفیّة جمعها وإنفاقها، فمن هذه الجهة فإنّ الزاهد یسعی للتقلیل من الاستفادة منها فی الدنیا لیضمن له الیُسر فی الحساب یوم القیامة ویتحرک علی مستوی إیصال هذه النعم إلی الآخرین وإنفاقها فی سبیل اللَّه تعالی.

وقد ورد فی روایة معروفة عن الإمام علی علیه السلام أنّه


1- سیاحة فی نهج البلاغة( سیری در نهج البلاغة بالفارسیّة، ص 229.
2- نهج البلاغة، الخطبة 241.
3- نهج الفصاحة، ح 86.
4- سورة الأعراف، الآیة 32.

ص: 463

کان ضیفاً علی ابنته فی أحد لیالی شهر رمضان المبارک، تقول امّ کلثوم بنت الإمام أمیرالمؤمنین علیه السلام:

لمّا کانت لیلة تسع عشر من شهر رمضان قدّمت إلیه إفطار، وطبقاً فیه قرصان من خبز الشعیر وقصعة فیها لبن وملح جریش، فلما فرغ من صلاته أقبل علی فطوره فلما نظر إلیه وتأمّله حرک رأسه وبکی بکاءً ...

وقال:

«بنیّة أتقدمین إلی أبیک إدامین فی طبق واحد؟

أتریدین أن یطول وقوفی غداً بین یدی اللَّه

...

یا بنیّة إنّ الدّنیا فی حلالها حساب وفی حرامها عقاب»(1).

ومثل هذا المضمون ورد فی روایة کنز العمال بتعابیر مختلفة، حیث ورد فی الروایة أنّ الإمام علی علیه السلام قال وهو یتحدّث عن الدنیا:

«حلالها حساب وحرامها عذاب فدعوا الحلال لطول الحساب ودعوا الحرام لطول العذاب»(2).

ولعل أقصر وأبلغ تعبیر فی هذا المورد ما ورد فی کلام آخر لأمیرالمؤمنین علیه السلام أنّه قال:

«تخفّفوا تلحقوا»(3).

وبالرغم من أنّ الأشخاص الذین یتنعمون فی هذه الدنیا من الحلال، لا یوجهون العقاب یوم القیامة، ولکن بما أنّهم سیحاسبون علی هذه النعم التی تنعموا بها فی الحیاة الدنیا، فإنّهم یقلّون من الانتفاع من هذه المواهب لأنفسهم ویرجحون إعطائها للآخرین لینتفعوا بها من أجل التخفیف عنهم یوم القیامة وتسهیل حسابهم لأنّه کما ورد فی المأثور:

«نجی المخفَّفون»(4).

ج) مواساة القادة للمحرومین

إنّ بعض المؤمنین من المتمکنین مالیاً، مضافاً إلی أنّهم یهتمون بالطبقة المحرومة وینفقون من أموالهم علی الفقراء والمحتاجین، فإنّهم أحیاناً یعیشون حالات الزهد والإعراض عن المادیات لأنّهم لا یجدون فی أنفسهم القدرة علی رفع جمیع حاجات المحرومین، وبذلک یحرمون أنفسهم أیضاً من التنعم بإمکاناتهم المادیّة لیقللوا من معاناة البؤساء المحرومین، لأنّ هؤلاء المحرومین عندما یجدون قادتهم وأئمّتهم یعیشون حالات الشظف والتقشف فی المعیشة یطیب خاطرهم وتسکن آلامهم، لأنّهم یعیشون کما یعیش قادتهم.

وببیان آخر: إنّ الطبقة المحرومة فی المجتمع تعیش مشکلتین: مادیّة ونفسیّة، فمن الجهة المادیّة یعیشون الحرمان والفقر والعوز کما هو واضح، ومن الجهة النفسانیّة فإنّهم یعیشون الشعور بالحقارة والدونیّة والتهمیش فی المجتمع، والمشکلة الاولی یجب حلّها من خلال التخطیط المدروس فی المجالات الاقتصادیّة وبسط العدالة الاجتماعیّة، أمّا المشکلة الثانیة فإنّه یمکن التقلیل من حدّتها بما ذکرنا آنفاً، وهذا هو ما ورد فی کلمات أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی حدیث معروف:

«إنّ اللَّه فرض علی أئمّة العدل أن


1- بحار الأنوار، ج 42، ص 276.
2- کنز العمال، ج 3، ص 719، ح 8566.
3- نهج البلاغة، الخطبة 21.
4- مکارم الأخلاق، ص 440( عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله). فی بحار الأنوار( ج 74، ص 55) ورد بدل المخفّون؛ یا علیّ نجی المخفّون وهلک المثقلون.

ص: 464

یقدّروا أنفسهم بِضَعَفَة النّاس کیلا یتبیّغ بالفقیر فَقْرُه»(1).

وکذلک ورد فی نهج البلاغة أنّ أمیرالمؤمنین علی علیه السلام کتب لعامله عثمان بن حنیف یقول:

«أأقنع من نفسی بأن یُقال: هذا أمیرالمؤمنین، ولا اشارکهم فی مَکاره الدّهر، أو أکون اسوة لهم فی جُشوبة العیش»(2).

وجاء فی روایة أخری عن المفضّل قال: کنت عند أبی عبد اللَّه (الإمام الصادق علیه السلام) بالطواف، فنظر إلیَّ وقال لی: یا مفضّل ما لی أراک مهموماً متغیّر اللّون، قال: فقلت: جعلت فداک وقع نظری إلی بنی العباس، وما فی أیدیهم من هذا الملک والسلطان والجبروت، فلو کان ذلک لکم لکنّا فیه معکم، فقال:

«یا مفضّل أما لو کان ذلک لم یکن إلّاسیاسةَ اللّیل وسیاحةَ النّهار وأکلَ الْجَشِب ولُبْسَ الخَشِن، شِبْهَ أمیرالمؤمنین علیه السلام وإلّا فالنّار، فَزُویَ ذلک عنّا، فصرنا نأکل ونشرب، وهل رأیت ظلامةً جعلها اللَّه نِعمةً مثلَ هذا»(3).

وقد ورد فی سیرة النّبی یوسف علیه السلام أنّه کان یعیش الجوع فی سنوات القحط والجفاف، فقیل:

«أتجوع وأنت علی خزائن مصر؟»

، فقال:

«أخاف أن أشبع فأنسی الجِیاع»(4).

ومن هذه الجهة فإنّ قادة المجتمع لابدّ أن یقنعوا بالحدّ الأدنی من المعیشة والتمتع بمواهب الحیاة مواساة للمحرومین ولعدم الغفلة عن الجیاع والبؤساء من الناس، لیقللوا من معاناة البؤساء والمحرومین فی المجتتمع ویسعوا ببذل مزید من الجهد لرفع حاجاتهم والتقلیل من معاناتهم.

البحث الثالث: الزاهد الإسلامی والعمل والسعی

اشارة

تقدّم فی الفصل السابق أنّ الزهد الإسلامی لا یعنی ععدم الاستفادة من المواهب الطبیعة، بل یستلزم الاکتفاء بالحلال وعدم التعلق الشدید بالأمور الدنیویّة، ورغم أنّ الزهد یعنی فی بعض الظروف الاستفادة فی الحدّ الأدنی من الأمور الدنیویّة ومواهب الطبیعة، ولکن الزاهد الإسلامی لا یرضا لنفسه حالات الکسل والباطلة ولا یترک العمل والسعی، لأنّ الإسلام یؤکد دوماً علی مسألة السعی وبذل الجهد والکسب فی أمور المعیشة والدنیا وینهی عن التکاسل والبطالة، ومن هذا المنطلق فإنّ الزاهد المسلم یتحرک علی مستوی المزید من بذل الجهد والعمل بالدوافع التالیة:

أ) النفور من البطالة فی الإسلام

إنّ العمل والسعی والنشاط الاقتصادی فی دائرة الثقافة الإسلامیّة والتعالیم الدینیّة من الأمور التی ورد التأکید علیها والتشویق إلیها کثیراً، وکذلک ورد الذم عن کلّ أشکال التکاسل وطلب الراحة وعدم استخدام القوی الطبیعیّة والقدرات والإمکانات العلمیّة فی مجال إعمار الحیاة الدنیا.


1- نهج البلاغة، الخطبة 209.
2- المصدر السابق، الکتاب 45.
3- بحار الأنوار، ج 52، ص 359، ح 127.
4- شرح نهج البلاغة، لابن أبی الحدید، ج 11، ص 236.

ص: 465

روی ابن عباس: کان رسول اللَّه صلی الله علیه و آله إذا نظر إلی رجل فأعجبه، قال:

«هل له حرفة؟»

فإن قالوا: لا، قال:

«سقط من عینی»(1).

ویقول الإمام الکاظم علیه السلام:

«إنّ اللَّه لَیُبغض العبدَ الفارغَ»(2).

ویقول الإمام الباقر علیه السلام:

«إنّی لَأبْغضُ الرّجل أن یکون کَسْلاناً عن أمر دُنیاه، ومن کَسِل عن أمر دُنیاه فهو عن أمر آخرته أکسلُ»(3).

ویقول أمیرالمؤمنین علیه السلام:

«مَنْ وجد ماءً وَتراباً ثمّ افتقر فابْعَدَهُ اللّه»(4)

، وذلک بسبب تقصیره فی الاستفادة الصحیحة من هذه النعم الإلهیّة.

والنتیجة أنّ الزاهد المسلم مع وعیه لهذه التحذیرات ورفض الإسلام للکسل والبطالة، لا یستطیع بذریعة الزهد فی الدنیا أن یترک العمل والسعی ویختار طلب الراحة والکسل فی أمور المعیشة.

ب) أهمیة العمل والسعی فی الإسلام

وقد ورد عن نبی الإسلام صلی الله علیه و آله قوله:

«طَلبُ الحَلال فَریضةٌ عَلی کُلّ مُسْلم وَمُسْلمة»(5)

، وجاء فی حدیث آخر:

«العِبادَةُ عشرةُ أجزاء؛ تِسعة أجزاء فی طلب الحلال»(6).

وفی حدیث ثالث عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أیضاً أنّه جعل السعی لکسب الحلال ردیفاً للجهاد فی سبیل اللَّه:

«الکادُّ عَلی عیاله کالمجاهد فی سبیلِ اللَّه»(7)

؛ وقال صلی الله علیه و آله أیضاً:

«مَن أکل مِنْ کَدِّ یده کان یوم الْقیامة فی عِداد الأنبیاءِ وَیَأخذ ثواب الأنبیاء»(8).

ونقرأ فی حدیث آخر أن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله عندما عاد من غزوة تبوک جاء إلیه سعد الأنصاری (وهو غیر سعد بن معاذ المعروف الذی استشهد فی معرکة الخندق) فرآی النّبی یده خشنة من شدة العمل، فقال له

«ما هذا الذی آری بیدک؟ قال: من أثر المرَّ والمسحاة أضرب وأنفق علی عیالی، فقبَّل صلی الله علیه و آله یده وقال: «تلک یدٌ لا تَمَسُّها النّارُ»(9).

وبالالتفات إلی ما تقدّم من أحادیث صریحة فی هذا الشأن یتبیّن أنّ العبادة لا تنحصر بالأعمال العبادیّة المعروفة حتی یحصر الزاهد همّه فی ممارستها لنیل الثواب الإلهی، ویترک السعی والعمل جانباً، فالعمل والکسب لحفظ ماء الوجه والکرامة وتأمین حاجات الاسرة ولغرض حفظ عزّة المسلمین وکرامة المجتمع الإسلامی له أجر عظیم عند اللَّه تعالی، بل وفقاً للروایات المذکورة أعلاه فإنّ الثواب المترتب علی العمل والکسب أکثر من سائر العبادات العادیّة، لأنّ المجتمع الذی یعیش العزّة والرفعة، والامّة التی تتحرک علی مستوی التقدّم والإزدهار والنشاط، فإنّها


1- انظر: بحار الأنوار، ج 100، ص 9، ح 38.
2- وسائل الشیعة، ج 12، ص 37، ح 4.
3- الکافی، ج 5، ص 85، ح 4.
4- بحار الأنوار، ج 100، ص 65، ح 10.
5- المصدر السابق، ص 9، ح 35. ورد هذا الحدیث فی مجمع الزوائد الهیثمی( ج 10، ص 291) بهذه الصورة:« طلب الحلال واجب علی کلّ مسلم».
6- المصدر السابق، ح 37.
7- مستدرک، ج 13، ص 55، ح 5.
8- بحار الأنوار، ج 100، ص 10، ح 42.
9- الاصابة، ج 3، ص 72؛ انظر: اسد الغابه، ج 2، ص 269.

ص: 466

ستکون ممّا یفتخر بها نبی الإسلام صلی الله علیه و آله وتتسبب فی عزّة الإسلام والدین، وفی ظلّ العمل والسعی والإزدهار تحفظ الامّة الإسلامیّة هویتها وإستقلالها فی مقابل سائر الامم وتصرّ علی حفظ کیانها وأصولها والسیر فی طریق تحقیق غایاتها وقیمها وبالتالی ثبتت صحة وأصالة دینها ومنهجها.

ج) زهد الاسوة
اشارة

بما أنّ الزاهد المسلم یتخذ من الأنبیاء والأولیاء الإلهیین قدوة واسوة له، ومن الطبیعی أنّه یقتدی بهم فی سیرته فی الحیاة، ونظراً لأنّ أولئک الأولیاء کانوا یشتغلون فی مسائل الکسب والعمل الاقتصادی ویأکلون من کدّ یمینهم ومن تعبهم، فالزاهد أیضاً یسعی لتأمین معیشته من خلال الکسب والعمل أیضاً.

ونری أنّ الکثیر من الأنبیاء الإلهیین کانوا یعملون فی الزراعة أو الرعی، فنقرأ فی حدیث شریف:

«وما بَعَثَ اللَّه نَبیّاً إلّازَرّاعَاً إلّاإِدریس إنّهُ کانَ خیّاطاً»(1).

وقد ورد فی بعض الروایات أنّ: «النّبی آدم کان مزارعاً، ونوح النجّاراً، وإدریس خیاطاً، وموسی راعیاً، وإبراهیم فلاحاً، وشعیب راعیاً، ولوط فلاحاً وصالح تاجراً»(2).

بل إنّ بعض الأنبیاء الذین کانوا یرتزقون من بیت المال، ورد توبیخهم من قِبل الباری تعالی، رغم أنّهم کانوا یعملون لقضاء حاجات الناس:

«فقد أوحی اللَّه إلی داود علیه السلام: «إِنّک نِعمَ العبد لولا أَنّک تأکل من بیت الْمال ولا تعمل بیدک شیئاً»

قال:

«فبکی داود علیه السلام أربعین صباحاً فأوحی اللَّه إلی الحدید، أن لن لعبدی داود، فألان اللَّه عزّ وجلّ له الحدید، فکان یعمل فی کلّ یوم درعاً فیبیعها ... واستغنی عن بیت المال»(3)

یقول أبی حمزة، عن أبیه: قال: رأیت أبا الحسن (الإمام الکاظم علیه السلام) یعمل فی أرض له قد استنقعت قدماه فی العرق، فقلت: جعلت فداک أین الرجال؟

فقال:

«یا علی! قد عمل بالید مَنْ هو خیرٌ منّی ومِن أبی فی أرضه

، فقلت: ومن هو؟ فقال:

«رسول اللَّه وأمیرالمؤمنین وآبائی کلُّهم کانوا قد عَمِلوا بأیدیهم وهو من عَمَل النّبیین والمرسلین والأوصیاء والصّالحین»(4).

وروی عن الإمام الصادق علیه السلام قال:

«کان علی بن الحسین علیه السلام إذا أصبح خرج غادیاً فی طلب الرزق ...»(5).

ویقول أبی عمر الشیبانی رأیت أبی عبداللَّه (الإمام الصادق علیه السلام) وبیده مسحاة وعلیه إزار غلیظ یعمل فی حائط له، والعرق یتصاب عن ظهره، فقلت:

جعلت فداک أعطنی أکفیک، فقال:

«إنّی احبّ أن یتأذّی الرّجل بحرّ الشّمس فی طلب المعیشة»(6).

الجواب عن سؤال:

أحیاناً یثار هذا السؤال: إذا کانت هذه سیرة


1- بحار الأنوار، ج 100، ص 69، ح 25.
2- درّ المنثور، ج 1، ص 57.
3- وسائل الشیعة، ج 12، ص 22، ح 3.
4- المصدر السابق، ص 23، ح 6.
5- وسائل الشیعة، ج 12، ص 43، ح 4.
6- المصدر السابق، ص 23، ح 7.

ص: 467

الأنبیاء والأولیاء فی العمل والکسب، فلماذا نری الکثیر من علماء الإسلام والفضلاء والاساتذة والطلّاب فی الحوزات العلمیّة یعتاشون علی بیت المال وهذه الحالة لا تقتصر علی الحوزات الشیعیّة، فالحوزات السنیّة أیضاً تسلک هذا المسلک؟ الجواب علی هذا السؤال واضح، فالأنبیاء والأولیاء لم تکن لهم حاجة لاکتساب العلم والمعرفة والدراسة، فی حین أنّ رجل الدین فی هذا العصر یجب أن یتحرک علی مستوی تحصیل العلوم الدینیّة لثلاثین سنة وبشکل متواصل لیصل إلی مقام الاجتهاد.

ولاسیما أنّ العلوم الإسلامیّة فی عصرنا الحاضر اتسعت بشکل کبیر إلی درجة أنّ الاحاطة بجمیع فروع المعرفة الدینیّة للعالِم الدینی غیر ممکن حالیاً، بل یضطر رجل الدین إلی اختیار فرع أو فروع من هذه العلوم لیکون متخصصاً وصاحب رأی فیها، فالحوزات العلمیّة حالها حال الجامعات، فهل یمکن أن نطرح هذا السؤال علی طلّاب وأساتذة الجامعات بأنّهم لماذا لا یتحرکون فی مستوی الکسب والعمل وطلب الرزق؟

وعلی ضوء ذلک فإنّ السؤال المذکور ناشی ء من رؤیة سطحیّة وعدم الاطلاع علی حال رجال الدین واساتذة الحوزات العلمیّة.

د) خیر الناس من لا یضع کَلّه علی الناس

ومعلوم أنّ الشخص الذی یترک العمل والکسب ولا یهتم لتأمین معیشته فإنّه ینتفع من جهود الآخرین وأتعابهم، ونعلم أنّ مثل هذا الشخص الذی یضع کَلّه علی الناس مذموم فی تعالیم الدین.

یقول النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله:

«خَیرکم مَنْ لم یترک آخرته لدنیاه ولا دنیاه لآخرته ولم یکن کَلًاّ علَی النّاس»(1).

وجاء فی حدیث آخر عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«ملعون مَنْ ألقی کَلَّهُ علَی النّاس»(2).

وطبیعی أنّ الزاهد المسلم ومن أجل أن لا یکون کَلّاً علی الآخرین ولا محتاجاً لهم أو یرتزق من أتعابهم، فإنّه یتوجه نحو العمل والکسب ویبتعد عن الکسل وطلب الراحة.

ه) التسول من الذنوب الکبیرة

ویعتبر التسول وسؤال الناس فی دائرة الثقافة الإسلامیّة (سوی فی موارد ضروریّة جدّاً) مذموم بشدّة وفی مقابل ذلک ورد تجلیل ومدح المؤمنین الذین یعیشون العفاف وعدم السؤال لحفظ کرامتهم وماء وجههم مع شدّة حاجتهم للمال، ولا یکشفون عن فقرهم:

«یَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِیَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ»(3).

یقول الإمام علی علیه السلام فی ذم طلب من الناس:

«اتَّبِعوا قَول رسول اللَّه، فانَّه قال: مَن فتح عَلی نَفْسه بابَ مسْألةٍ فتح اللّهُ علیه بابَ فقرٍ»(4)

، بل جاء فی


1- کنز العمال، ج 3، ص 238، ح 6336.
2- وسائل الشیعة، ج 12، ص 18، ح 10.
3- سورة البقرة، الآیة 273.
4- بحار الأنوار، ج 93، ص 152، ح 14. وجاءت هذه الروایة عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله بهذا الصورة أیضاً:« لا یَفْتح الإنسان علی نفسه باب مسألة إلّافتح اللَّه علیه باب فقر»( مسند أحمد، ج 2، ص 418).

ص: 468

حدیث آخر عنه صلی الله علیه و آله أنّه یفتح له سبعون باباً من الفقر:

«فتح اللَّه علیه سبعین باباً من الفقر لا یَسُدُّ أدناها شی ء»(1).

وجاء فی روایة أخری عن أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی طلب المعونة المادیّة من الناس:

«ألسّؤال ... یمحق الرّزق»(2).

والأحادیث فی هذا الباب کثیرة، ونختم هذا البحث بحدیثین آخرین:

الأوّل: قال النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله:

«إنّ اللَّه یحبّ الحییّ المتعفّف ویبغض البذیّ السائل الْملحِف»(3).

والثانی: ورد فی حدیث آخر عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال:

«رحم اللَّه عبداً عفّ وتعفّف وکفّ عن المسألة، فانّه یعجّل الذلّ فی الدّنیا والآخرة»(4).

جدیر بالذکر أنّ الفقراء والمحتاجین رغم لزوم اجتنابهم لطرح حاجتهم علی الأثریاء من الناس ولکن هذه المسألة لا تتنافی مع سعی الأثریاء للتعرّف علی حاجات الطبقة المحرومة فی المجتمع والتحرک علی مستوی رفعها، ویجب علی المؤمنین المتمکنین والمتمولین أن یتعرّفوا علی حاجات الفقراء والمحتاجین فی المجتمع ویتحرکوا لرفع حاجاتهم بصورة محترمة وبما یحفظ لهم کرامتهم وماء وجههم.

و) ذم الرهبانیّة

الرهبانیّة من مادة «رَهْب» وفی الأصل تعنی الخوف المقترن بالقلق والورع، ومفردة «ترهب» تعنی التعبد، والرهبانیّة تعنی شدّة التعبد(5)، وفی المسیحیّة یوجد نوع من الرهبانیّة فیما یتصل بتحریم الزواج بین الرجال والنساء التارکین للدنیا والذی یستلزم العزلة الاجتماعیّة وترک النشاطات الدنیویّة واختیار الصوامع والدیر البعیدة للتفرغ للعبادة، بعیداً عن مشاغل الحیاة وضوضاء المحیط الاجتماعی (6).

والإسلام یخالف هذا النمط من الحیاة، وقد ورد فی شأن نزول الآیة 87 و 88 من سورة المائدة أنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله کان یتحدّث للناس یوماً فی وصف حالات یوم القیامة ممّا أبکی الناس، بعد ذلک اجتمع بعض الصحابة فی منزل عثمان بن مظعون وتعاهدوا بینهم أن یصومون النهار ویقومون اللیل ولا یتناولوا من لحوم الحیوانات ولا یقاربون نساءهم ولا یتعطروا ولا یلبسون الخشن من الثیاب ویترکون الدنیا ویعیشون کالرهبان.

وهذا الخبر وصل إلی مسامع رسول اللَّه صلی الله علیه و آله فجمع النّبی صلی الله علیه و آله الناس وخطب فیهم ووبخ هؤلاء علی عزمهم وقال:

«أما إنّی لستُ آمرکم أن تکونوا قِسّیسین ورُهبانا ... وإنّ سیاحة امّتی الصوم ورَهبانیّتهم


1- وسائل الشیعة، ج 6، ص 306، ح 8.
2- غرر الحکم، ج 1، ص 361، ح 8183.
3- بحار الأنوار، ج 93، ص 149، ح 1؛ ومثله فی: مجمع الزوائد، ج 8، ص 169.
4- المصدر السابق، ص 154، ح 19.
5- انظر: مفردات الراغب،« رهب».
6- انظر: شرح وتفسیر مفردات القرآن اقتباساً من التفسیر الأمثل( شرح و تفسیر لغات قرآن بر اساس تفسیر نمونه) بالفارسیّة، ج 2، ص 214.

ص: 469

الجهاد»(1).

وکذلک ورد عن أنّ ابناً لعثمان بن مظعون مات، فحزن علیه عثمان کثیراً واعتزل الناس واختار لنفسه زاویة واشتغل فی العبادة، فوصل خبره إلی رسول اللَّه صلی الله علیه و آله؛ فقال له:

«إنّ اللَّه تعالی لم یکتُبْ علینا الرَّهبانیّة، إنّما رَهبانیَّةُ امَّتی الجهادُ فی سبیل اللَّه»(2).

وعلی أیّة حال فقد وردت ذم کثیر فی تعالیم الإسلام وفی النصوص للرهبانیّة وترک المعاش والسعی، وتحث الزاهد المسلم علی معاشرة الناس والعمل والسعی.

ز) السعی لرشد وتنمیّة المجتمع الإسلامی

لا شک أنّ الإسلام دین «التنمیة» وتمتد هذه التنمیة لتستوعب جمیع الحیاة الفردیّة والاجتماعیّة، المادیّة والمعنویّة، فبالنسبة للحیاة الفردیّة والأمور المعنویة المتعلقة بالفرد یقول الإمام الصادق علیه السلام:

«من استوی یَوْماهُ فهو مغبونٌ»(3)

، ومعلوم أنّ المجتمع الذی یعیش حالة التوقف والرکود ولا یکون یومه أفضل من أمسه، فإنّه لا یصل إلی مراتب العزّة والرفعة والإزدهار، وبالتالی فهو مغبون، فالعزّة والاقتدار والإزدهار یتوقف علی اتساع رقعة الإعمار والتنمیة


1- انظر: تفسیر مجمع البیان، ذیل الآیة 87- 88 من سورة المائدة؛ مستدرک الوسائل، ج 16، ص 55.
2- بحار الأنوار، ج 79، ص 114، ح 1.
3- المصدر السابق، ج 68، ص 173، ح 5.

ص: 470

والتطور فی جمیع العلوم والفنون المختلفة، والزاهد المسلم لا یمکنه أن یغض النظر عن هذه الأمور، وخاصّة مع تأکید القرآن الکریم فی هذا المجال:

«هُوَ أَنشَأَکُمْ مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَکُمْ فِیهَا»(1).

وکذلک یقول القرآن الکریم:

«هُوَ الَّذِی جَعَلَ لَکُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِی مَنَاکِبِهَا وَکُلُوا مِنْ رِّزْقِهِ»(2).

ورغم أنّ اللَّه تعالی سخر الأرض للإنسان وجعلها ذلولًا له لینتفع من مواهبها الطبیعیّة بکلّ یُسر، ولکن التعبیر ب

«فَامْشُوا فِی مَنَاکِبِهَا»

یوحی بهذه الحقیقة وهی «ما لم تتحرکوا فی مجال کسب الرزق والسعی فی إعمار الدنیا، فإنّکم لا تنالون شیئاً من رزقها»(3).

وفی الحقیقة إنّ الأمر بالعمل والسعی والمشی فی مناکب الأرض هو أمر بالعمل علی استثمار المواهب الطبیعیّة التی جعلها اللَّه تعالی فی هذه الأرض لننتفع بها.

ونقرأ فی کتاب أمیرالمؤمنین علیه السلام المعروف لمالک الأشتر- والذی یستحق أن یسمی «دستور السیاسة والتنمیة والإعمار» أنّ من جملة الأمور التی یأمر بها الإمام أمیرالمؤمنین علیه السلام وإلیه مالک الأشتر فی هذا الکتاب إعمار البلاد:

«... وعمارة بلادها»(4).

ویقول علیه السلام فی سیاق هذا الکتاب لمالک الأشتر:

«... وَلْیَکُن نَظَرُک فی عِمارة الْأرض أبلغ مِنْ نظرک فِی اسْتجلابِ الْخَراج، لأنّ ذلک لا یُدْرک إلّا بِالْعِمارة».

نستوحی من التعالیم الواردة أعلاه أنّه لا ینبغی لأی مسلم أن یقف موقف المتفرج من مواهب الطبیعة بل ینبغی أن یتحرک علی مستوی الاستفادة الصحیحة من خزائنها ومعادنها ویعمل علی إحیاء الأراضی والقری ولا یجعل من الزهد «بالمعنی المحرف» ذریعة لترک العمل والکسب.

ح) تأمین السعادة الاخرویّة عن طریق إعمار الدنیا!
اشارة

إنّ التعالیم الإسلامیّة تأذن، بل تشوق المسلم علی الاستفادة من مواهب الطبیعة والسعی لتحصیل الملذات الحلال فیما ینسجم مع شأن کلّ مسلم، ویتحرک علی مستوی الاستفادة من قابلیاته وطاقاته لإعمار الدنیا لغرض توفیر أسباب وعوامل السعادة فی الآخرة.

ونستوحی من خلال التدقیق فی مفاد الآیات الشریفة، کالآیات التی سنستعرضها، أنّ الاستفادة المعقولة والبعیدة عن أشکال الإسراف والتبذیر للمواهب الدینویّة لیس فقط أنّها غیر مذمومة لجمیع الناس ومنهم المتقین والزهاد، بل مطلوبة أیضاً، لأنّ المائدة الإلهیّة التی جعلها اللَّه تعالی فی عالم الطبیعة لعباده إنّما هی لغرض انتفاع الناس بها وأداء شکر هذه النعمة من خلال الاستفادة منها بوصفها مقدمة لتحصیل الکمالات المعنویّة:

«یَا بَنِی آدَمَ خُذُوا زِینَتَکُمْ عِنْدَ کُلِّ مَسْجِدٍ وَکُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا»(5).

«قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِینَةَ اللَّهِ الَّتِی أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّیِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِیَ لِلَّذِینَ آمَنُوا فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا»(6).

والشاهد علی هذا الکلام ما ورد فی کلمات أمیرالمؤمنین علی علیه السلام أنّه قال:

«واعلموا عِباداللَّه أنّ المتّقین ذَهَبوا بعاجِل الدّنیا وآجل الآخرة، فشارَکوا أهلَ الدُّنیا فی دنیاهم، ولم یُشارِکُوا أهلُ الدُّنیا فی آخرتهم، سَکنوا الدُّنْیا بِأفضل ما سُکِنَتْ وأکلُوها بِأفْضل ما اکِلَتْ»(7).

ونستنتج ممّا تقدّم أنّ الإستفادة من مواهب الدنیا من شأنه أن یساهم فی توفیر الزاد والمتاع للزاهد المسلم لبناء الذات وتهذیب النفس والوصول إلی مقام القرب الإلهی والعرفان الحقیقی، ولا یبعد أنّ اقتران «الأمر بالعمل الصالح» بعد «الأمر بأکل الطیّبات» فی الآیة

«یَا أَیُّهَا الرُّسُلُ کُلُوا مِنَ الطَّیِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً»(8)

إشارة إلی هذه النقطة.

والشاهد علی هذا المدعی ما نراه من فعل أمیرالمؤمنین علی علیه السلام أنّه کان یقسّم ساعات یومه إلی ثلاثة أقسام:

«للمؤمن ثلاث ساعات: فساعة یناجی فیها ربّه وساعة یرمّ معاشه وساعة یخلّی بین نفسه وبین لذّتها فیما یحلّ ویجمل»(9)

، وورد فی ذیل حدیث مماثل عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال:

«فإنّها عون علی


1- سورة هود، الآیة 61.
2- سورة الملک، الآیة 15.
3- انظر: التفسیر الأمثل، ج 15 ذیل الآیة مورد البحث.
4- نهج البلاغة، الکتاب 53.
5- سورة الأعراف، الآیة 31.
6- سورة الأعراف، الآیة 32.
7- نهج البلاغة، الکتاب 27.
8- سورة المؤمنون، الآیة 51.
9- نهج البلاغة، الکلمات القصار، الکلمة 390.

ص: 471

تلک الساعتین»(1).

والتجربة أیضاً تشیر إلی أنّ وجود برامج ترفیهیّة سلیمة فی واقع الحیاة تزید من النشاط والفاعلیّة وکذلک تزید فی الشوق والنشاط للعبادة.

ومع الالتفات إلی ما ورد من تعالیم فی الآیات والروایات المذکورة أعلاه فإنّ الزاهد المسلم، فی عین زهده، یتحرک نحور التمتع بالملذات الحلال والمواهب الإلهیّة المباحة ویلتزم بالعمل والسعی ویبتعد عن کلّ أشکال الکسل وطلب الراحة، فالزاهد یعمل لتوفیر ما یحتاجه من أمور الدنیا، وفی ظلّ هذه الإمکانات یزید من نشاطه وقدراته وفاعلیّته فی مجال تأمین الزاد لآخرته، وطبعاً فالزاهد المسلم ربّما یترک الاستفادة من مواهب الدنیا أو یقلل الانتفاع بها لأسباب ودوافع ثانویّة کما تقدّم ذکره.

النتیجة:

یستفادة ممّا تقدّم من استعراض الدوافع للزهد فی هذا الفصل عدّة أمور:

1. إنّ المؤمن فی الرؤیة الإسلامیّة یجب علیه العمل والسعی فی حرکة الحیاة وأن یری سعیه وعمله عبادة وخدمة لخلق اللَّه، سواءً أراد الاستفادة من نتیجة عمله من موقع الزهد، أو الاستفادة منها بشکل واسع (وفی الحدود المعقولة).

2. یجب علیه الابتعاد عن کلّ أشکال الکسل


1- الکافی، ج 5، ص 87.

ص: 472

والبطالة وطلب الراحة التی ورد ذمها بشدّة فی النصوص الدینیّة.

3. إنّ ترک الدنیا والتوجه إلی «الترهب» والتصوف مذموم فی الإسلام.

4. إنّ الإنفاق والجهاد المالی وحلّ مشاکل الناس، والذی یقوم علی العنصر المالی، یحظی بأهمیّة خاصّة عند اللَّه تعالی، وطبیعی أنّ الاهتمام بهذا العمل یدعو کلّ مسلم إلی تقویة قدراته المالیّة وبالتالی (فی صورة الإمکان) یفضی ذلک إلی تقویة البلد الإسلامی.

5. مع الالتفات إلی أنّ حالة المسلم الفاعل والعامل، فی ظلّ العمل والکسب، تزدهر وتشتد، ومثل هذا الإزدهار یمکن أن یجرّه نحو منزلقات حبّ الدنیا والتمتع بملذاتها بشکل مفرط، یتبیّن هنا ضرورة الاهتمام والتوجه للزهد الإسلامی بالمعنی الصحیح.

وهذا یعنی أنّ الزهد الواقعی وهو (عدم التعلق القلبی بزخارف الدنیا والمتع المادیّة)، من شأنه أن یسخر رأس المال والإمکانات المتحصلة عن العمل والسعی فی الاتّجاه الصحیح وبالتالی یمنح الإنسان الناشط والعامل والمتمکن من الناحیة المالیّة النجاة من مرض (حبّ الدنیا) ویحیا فی وجدانه عناصر الصلاح والمیل للاستفادة الأفضل من هذه الثروة فی مجالات الخدمة للمجتمع والسیر فی خط المسؤولیّة والعبودیّة للَّه تعالی.

وبدیهی أنّ الزهد الواقعی، یتجلّی علی حیاة هؤلاء الأشخاص وأنّ «حالة الممانعة فی واقع الزهد الإسلامی» تتجلّی فی حرکة مثل هؤلاء الأشخاص فی مسارهم المعنوی أیضاً.

البحث الرابع: دور الزهد الإسلامی فی إزدهار الاقتصاد

اشارة

إنّ الزهد بالمعنی الصحیح للکلمة لیس فقط لا یتنافی مع النشاطات الاقتصادیّة علی مستوی الفرد والمجتمع، بل بعکس ذلک بإمکانه أن یکون مصدراً للتأثیرات الإیجابیّة فی تقویة وإزدهار الاقتصاد فی المجتمع الإسلامی، لأنّه من جهة نری تأکید الإسلام علی الزهد والمعیشة الزاهدة یمنع المجتمع الإسلامی من السقوط فی هوة النشاطات الاقتصادیّة غیر السلیمة التی تتسبب فی تخلف المجتمع، ومن جهة أخری فتعالیم الدین فی مجال العمل والسعی تفعّل الوجدان العملی لدی المسلم بأفضل وجه وتمنحه الدافع والباعث علی الدخول فی المجالات الاقتصادیّة، وبالتالی تکون نتیجة العمل والسعی فی هذا المحیط الثقافی والاجتماعی بأفضل حالة.

وتوضیح ذلک: إنّ الزاهد الإسلامی وبالاستلهام من الآیة الشریفة:

«لِیَبْلُوَکُمْ أَیُّکُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا»(1)

وکما ورد فی تفسیرها عن الإمام الصادق علیه السلام:

«لیس یعنی أکثر عملًا ولکن أصوبکم عملًا»(2)

فإنّه یتوجّه إلی «أحسن العمل» و «أحسن العمل» هذا یتطلب خصوصیات معینة، منها:

1. «النظم والتخطیط المدروس» وهو ما ورد التوصیة بها فی التعالیم الدینیّة، من قبیل ما ورد عن أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی وصیّته لولدیه وهو علی فراش الشهادة والاحتضار:

«اوصیکما وجمیع ولدی وأهلی ومن بلغه کتابی بتقوی اللَّه ونظم أمرکم»(3).

2. المعرفة والتخصص، لأنّه بدون هذه المعرفة لا یمکن تحقیق «أحسن العمل» فی واقع الحیاة، وکما ورد فی القرآن الکریم فانّ شرط مثل هذا العمل أن یکون الإنسان «حفیظاً وعلیماً»(4).

3. رعایة الإتقان والإستحکام، وببیان آخر:

رعایة الضوابط العالمیّة اللازمة فی العمل، وهذا شرط آخر لنیل «أحسن العمل» إلی درجة أنّ النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله عندما فرغ من دفن ولده إبراهیم رأی خللًا فی القبر وأصلحه بیده المبارکة وقال للحاضرین:

«إنّ اللَّه تعالی یحبّ إذا عمل أحدکم عملًا أن یُتْقِنَه»(5).

أجل، فالزاهد الإسلامی من استلهامه من هذه الأصول والتی لها أثر کبیر فی عملیّة الإزدهار الإسلامی، یتحرک فی هذا المسیر ویکون زهده مصدر برکة وخیر للاقتصاد الإسلامی.

وجدیر بالذکر أنّ «حسن العمل» یتحقق أحیاناً بإخلاص النیّة، مثل حسن العمل فی العبادات، وأحیاناً أخری من طریق إستحکام العمل وإتقانه وحسن التخطیط والنظم فی حرکة الحیاة، من قبیل قوّة الإدارة والتدبیر فی مشاریع التنمیة الخیرة کبناء الجسور،


1- سورة الملک، الآیة 2.
2- الکافی، ج 2، ص 16، ح 4.
3- نهج البلاغة، الکتاب 47.
4- « قَالَ اجْعَلْنِی عَلَی خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّی حَفِیظٌ عَلِیمٌ». سورة یوسف، الآیة 55.
5- مجمع الزوائد، ج 4، ص 98؛ ومثله فی: بحار الأنوار، ج 6، ص 220.

ص: 473

السدود، المستشفیات والمصانع وما إلی ذلک.

نتیجة البحث:

مع الالتفات إلی ما تقدّم بیانه فإنّ الزهد الإسلامی یتضمّن فی ذاته الحرکة والسعی والنشاط الفردی والاجتماعی، وعلی هذا الأساس فإنّ الأشخاص الذین یعیشون التظاهر بالزهد بسب انعدام القدرة لدیهم علی الحیاة الطیبة، أو إنعدام الجرأة والشجاعة فیهم للحرکة من أجل تحصیل الحیاة الکریمة وبالتالی یعیشون حالات الکسل والضجر وترک العمل والسعی ویقعون فی ورطة الفقر والعوز ویجعلون من الزهد مبرراً لطلب الراحة والعافیة، هؤلاء ینبغی فصلهم عن الزهاد الحقیقیین من المسلمین، والزهد فی هذه الطائفة هو زهد الضعفاء وما نعبّر عنه بالزهد السلبی، ولکن زهد الزهاد الإسلامیین هو زهد إیجابی وهو زهد المؤمنین.

ومع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ الزاهد الإسلامی یری فی زهده وسیلة لنیل مقام «القرب من اللَّه تعالی» فإنّه یعلم أنّ:

«أصلُ الزُّهد حسن الرَّغْبة فِیما عنداللَّه»(1)

، ویتوجّه للعمل لإعمار الدنیا ویعتبرها مزرعة للآخرة:

«الدُّنیا مزرعة الآخرة»(2)

، وبذلک یکون إعمار الدنیا والاستفادة الأفضل من خیراتها ومواهبها یحظی فی نظره بمکانة خاصّة.

ومن جهة أخری فإنّ ضعف المنتوجات الاقتصادیّة علی مستوی الکیفیّة والکمیّة لا مسوغ له سوی الحرص والطمع بمزید من الربح، علی أساس «النفقة الأقل والربح الأکثر»، ولکن عندما یتمّ ضبط حالات الحرص والربح غیر المشروع من خلال تقویّة روحیة الزهد، فإنّ کیفیّة المنتوج وکمیّته ستکون أفضل وأوفر.

وعلی أیّة حال فإنّ الزاهد الإسلامی ومن خلال استیحائه من تعالیم الإسلام وقوّة الإیمان وما یتخذه من اسوة وقدوة فی سیرة أولیاء اللَّه فی الحیاة فإنّه من جهة یتحرک علی مستوی زیاده النشاط وبذل الجهد فی الأعمال المفیدة والصالحة من جهة، ومن جهة أخری یهتم بإتقان العمل وجودته، وکلّ هذه الأمور تساهم فی نمو وإزدهار الاقتصاد فی المجتمع الإسلامی وتزید من المنتوج القومی وتزید من قوّة وقدرة البلد الإسلامی بما یملکه من رصید مالی مطمئن.

***

المنابع والمصادر

1. القرآن الکریم.

2. نهج البلاغة (مع تحقیق الدکتور صبحی صالح).

3. اسد الغابه، ابن الأثیر، انتشارات اسماعیلیان، طهران.

4. أعیان الشیعة، سید محسن الأمین، دار التعارف، بیروت، الطبعة الاولی.

5. الاصابة فی تمییز الصحابة، ابن حجر العسقلانی،


1- مستدرک الوسائل، ج 12، ص 47، عن الإمم علی علیه السلام.
2- عوالی اللئالی، ج 1، ص 267، ح 66. عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله.

ص: 474

تحقیق الشیخ عادل عبد الموجود، دار الکتب العلمیّة، بیروت، الطبعة الاولی، 1415 ه ق.

6. بحار الأنوار، العلّامة محمّدباقر المجلسی، مؤسسة الوفاء، بیروت، الطبعة الثانیة، 1403 ه ق.

7. الدین، الثقافة والتنمیة (دین، فرهنگ و توسعه) بالفارسیّة، میثم الموسائی، منظمة الإعلام الإسلامی.

8. سنن الترمذی، محمّد بن عیسی الترمذی، دار الفکر، بیروت، الطبعة الثانیة، 1403 ه ق.

9. سیاحة فی نهج البلاغة (سیری در نهج البلاغه) بالفارسیّة، العلّامة مرتضی المطهری، انتشارات صدرا، طهران، الطبعة الثالث والثلاثین، 1384 ه ش.

10. شرح نهج البلاغة، ابن أبی الحدید، مکتبة آیة اللَّه المرعشی، قم، 1404 ه ق.

11. شرح وتفسیر اللغوی لکلمات القرآن اقتباساً من التفسیر الأمثل (شرح و تفسیر لغات قرآن بر اساس تفسیر نمونه) بالفارسیّة، التدوین جعفر الشریعتمداری، انتشارات قدس الرضوی، الطبعة الاولی، 1372 ه ش.

12. عوالی اللئالی، ابن أبی جمهور الاحسائی، مطبعة سید الشهداء، قم، الطبعة الاولی، 1403 ه ق.

13. الغدیر، العلّامة الشیخ عبدالحسین الأمینی، دار الکتب الإسلامیّة، طهران، الطبعة الثانیة، 1366 ه ش.

14. فیض القدیر شرح جامع الصغیر، محمّد بن عبدالرؤوف المناوی، تحقیق أحمد عبدالسلام، دار الکتب العلمیّة، الطبعة الاولی، 1415 ه ق.

15. الکافی، محمّد بن یعقوب الکلینی، دار صعب- دارالتعارف، بیروت، الطبعة الرابعة، 1401 ه ق.

16. کنز العمّال، المتقی الهندی، مؤسّسة الرساله، بیروت، 1409 ه ق.

17. لسان العرب، ابن منظور.

18. مجمع البیان فی تفسیر القرآن، أمین الإسلام الطبرسی، مؤسسة الأعلمی، بیروت، الطبعة الاولی، 1415 ه ق.

19. مجمع الزوائد، نورالدین الهیثمی، دار الکتب العلمیّة، بیروت، 1408 ه ق.

20. مستدرک الوسائل، الحاج المیرزا حسین النوری، مؤسسة آل البیت، قم، الطبعة الاولی، 1407 ه ق.

21. مسند أحمد، أحمد بن حنبل، دار صادر، بیروت.

22. مصنف ابن أبی شیبة، ابن أبی شیبة الکوفی، تحقیق سعید محمّد اللّحام، دار الفکر، بیروت، الطبعة الاولی، 1409 ه ق.

23. مفردات فی غریب القرآن، الراغب الإصفهانی.

24. مکارم الأخلاق، الحسن بن فضل الطبرسی، منشورات الشریف الرضی، قم، الطبعة السادیة، 1392 ه ق.

25. مناقب الخوارزمی، موفق بن أحمد محمّد الخوارزمی، النشر الإسلامی المتعلق بجماعة المدرسین فی الحوزة العلمیّة، قم، الطبعة الاولی، 1411 ه ق.

26. وسائل الشیعة، الشیخ الحر العاملی، دار إحیاء التراث، بیروت، الطبعة الرابعة، 1391 ه ق.

27. در المنثور، جلال الدین سیوطی، دارالمعرفة، بیروت.

28. غرر الحکم، عبدالواحد الآمدی، انتشارات مکتب الإعلام الإسلامی، قم، 1366 ه ش.

29. التفسیر الأمثل، آیة اللَّه مکارم الشیرازی ومعاونوه، دار الکتب الإسلامیّة، الطبعة الثانیة عشر، 1374 ه ش.

ص: 475

30. دیوان الشیخ البهائی مع مقدمة الاستاد سعید النفیسی، انتشارات زرین، الطبعة الاولی، 1382 ه ش.

ص: 476

ص: 477

(5). الأساس الثقافی للاقتصاد الإسلامی

اشارة

المسجد الجامع وبیت المال

علاقة السوق الإسلامی مع المسجد، المدرسة، المکتبة

إرتباط السوق مع المسجد الجامع والجمعة و 12 مدرسة ومسجد

مسجد الجمعة، معبر السوق

ساعة مسجد الجمعة تذکر بساعة القضاء

إرتباط السوق الإسلامی مع المدارس العلمیّة

وجوب التذکیر بأحکام التجارة

أسواق العرض والمسائل العلمیّة

أمر القرآن الکریم بالموعظة للنشطاء الاقتصادیین

نماذج من تعلیمات الإمام علی علیه السلام للتجّار والکسبة

ص: 478

ص: 479

الأساس الثقافی للاقتصاد الإسلامی

مقدّمة:

ثمّة علاقة وثیقة جدّاً فی الإسلام بین الصلاة والزکاة من جهة، والمسجد والاقتصاد وصلاة الجمعة والسوق (المرکز الاقتصادی للجتمع فی عصرنا الحالی) من جهة أخری، بحیث إنّ أکثر الآیات القرآنیة تقرن الزکاة:

«اتُوا الزَّکَاةَ»

إلی جانب

«أَقِیمُوا الصَّلَاةَ»(1)

، ونقرأ فی سورة الجمعة أنّ القرآن الکریم یطلب من التجّار والکسبة أن یترکوا معاملاتهم لمدّة ساعة ویتوجهوا لصلاة الجمعة، ونری من خلال تأثیر القرآن الکریم وتعالیم النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله والإمام علی علیه السلام کیف أنّ مساجد صلاة الجمعة التصقت بسوق بحیث إنّ مساجد الجمعة فی جمیع المدن الإسلامیّة بمثابة قلب المدینة والسوق بمثابة العمود الفقری لها، فالمسجد من جهة یقوم بتأمین التجّار والکسبة فی حالات الافلاس بدفع الزکوات لهم بوصفهم «والغارمین» ومن جهة أخری فالمسجد یقوم بدور الحسبة ومراقبة التجّار الکسبة ویعمل علی حلّ الاختلافات فیما یتصل بالجهة القضائیّة بینهم، ویقوم إمام المسلمین وزعیمهم کالإمام علی علیه السلام بالطواف کلّ یوم علی التجّار والکسبة فی السوق قبل القیام بحلّ مشاکل البلد الإسلامی الکبیر(2).

أضف إلی ذلک فإنّ المسجد الجامع وسائر المساجد تقوم إلی جانب السوق بوضع برامج الموعظة والتعلیم والخطابة فی صلاة الجمعة لغرض رفع المستوی الثقافی للأهل السوق واطلاعهم علی المسائل الحقوقیّة والسیاسیّة والاقتصادیّة.

إنّ صفوف صلاة الجمعة والجماعة تضمّ فی صفوفها الغنی والفقیر، المعطی للزکاة والمستلم لها، وتجمع الأموال فیما یتصل بالنذورات والکفّارات والصدقات وزکاة الفطرة وتدفعها إلی المستحقین، وبالنتیجة تتبدل روح العداوة والخصومة والحسد وعدم الثقة إلی أجواء الاعتماد المتقابل والصفاء والتعاون والإیثار، وفی الحقیقة أنّ هذا العمل من شأنه أن یرتفع بواقع الناس من التجارة الدنیویّة إلی التجارة الاخرویّة.

ونری فی الغالب أنّ الأسواق الإسلامیّة تقع علی مقربة من المدارس الدینیّة، وأنّ التجّار والکسبة یخصصون بعض أوقاتهم لتعلّم آیات القرآن والمسائل الفقهیّة وخاصة فیما یتصل بالتجارة الإسلامیّة.

إنّ الإسواق الإسلامیّة نظمت بشکل تکون فیها المساجد والجوامع معبراً ومدخلًا إلیها، لعل أهل السوق بهذه الحالة یدخلون السوق وهم یذکرون اللَّه تعالی ویشتغلون بالتجارة والکسب أثناء النهار وعند


1- سورة البقرة، الآیة 43.
2- انظر: الکافی، ج 5، ص 151، ح 3.

ص: 480

عودتهم من متاجرهم یقیمون الصلاة فیها.

وهکذا نری الإرتباط الوثیق فی الإسلام بین المسجد والاقتصاد، فالجو الإسلامی الحاکم علی السوق والتجارة ینفخ الروح الإسلامیّة فی معاملات السوق، وهذا الجو الدینی من شأنه أن یقلل إلی حدود کبیرة من مظاهر عدم العدالة فی المعاملات الاقتصادیّة، کما قال أمیرالمؤمنین علی علیه السلام:

«سوق المسلمین کمسجدهم فمن سبق إلی مکان فهو أحقّ به إلی اللّیل»(1).

وتوضیح ذلک: أنّ الأسواق فی الماضی لم تکن لها حجرة وحانوت للکسبة، بل کانت من قبیل البسطات علی الأرض فی هذا العصر، ویجتمع الباعة فیه وکلّ شخص بإمکانه أن یضع متاعه وبساطه فی السوق ثمّ یقوم بجمعه فی اللیل ویتوجّه إلی داره، یقول الإمام علیه السلام: کما أنّ الشخص الذی یدخل إلی المسجد ویحتل مکاناً معیناً منه فإنّه أولی به من غیره، فکذلک سوق المسلمین فکلّ من یحتل مکاناً ومحلًا فیه أسرع من الآخرین فإنّه یملک الأولویّة علی غیره بذلک المکان.

ورغم أنّ هذا الحدیث ناظر إلی مسألة «السبق» ولکن مع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ هذه القاعدة لا تنحصر بالمسجد والسوق، بل تشمل جمیع الأنفال وأمثالها، فاختیار التشبیه بالمسجد یوحی بوجود رابطة قویة وجلیّة بین المسجد والسوق.

المسجد الجامع وبیت المال:

فی بعض المساجد الإسلامیّة کالمسجد الجامع فی دمشق فی صدر الإسلام کان جزء من المسجد یخصص ببیت المال، حیث یتمّ استلام الأموال من الصدقات والزکوات وغیرها وتحفظ فیه، فإذا أفلس بعض التجّار أو نفذت أمواله فی سفره، فإنّه یتمّ دفع مبلغ من المال له من سهم «الغارمین» و «ابن السبیل».

علاقة السوق الإسلامی بالمسجد، والمدرسة، والمکتبة

تقع فی بدایة سوق طهران مدرسة للعلوم الدینیّة وکان الکسبة فی الماضی وقبل افتتاح السوق فی کلّ صباح یشترکون فی تلقی الدروس الفقهیّة والقرآنیّة، وعندما تدخل إلی مسجد السوق من البوابة الشمالیّة «جلوخان» ثمّ تدخل السوق من الجهة الغربیّة أو الشرقیّة مع ذکر اللَّه تعالی، وعند حلول وقت الصلاة یتوجّه التجّار والکسبة إلی المساجد الواقعة فی نقاط مختلفة من السوق لإقامة الصلاة، وفی أیّام الجمعة یتوجّهون أیضاً لإقامة صلاة الجمعة، وضمناً فإنّ بیت إمام الجمعة وبعض رجال الدین یقع إلی جانب السوق ممّا له دور مؤثر فی إرشاد أهالی السوق بشکل عملی.

ومن جهة أخری یقول القرآن الکریم

«قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَیْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَیْرُ الرَّازِقِینَ»(2)

، یعنی أنّ کلمات القرآن الحکیمة تعرض علیکم فی خطبة صلاة الجمعة وهی أفضل لکم من اللهو والکسب والتجارة.


1- الکافی، ج 5، ص 155، ح 1.
2- سورة الجمعة، الآیة 11.

ص: 481

وعلی هذا الأساس ینبغی الاسراع إلی ذکر اللَّه والصلاة وإلی رسول اللَّه صلی الله علیه و آله بدلًا من التوجه لزخارف الدنیا واللهو واللعب.

وعلی أساس تعالیم هذه الآیات الکریمة فإنّ الإسلام إلی جانب اهتمامه بنشر الثقافة الدینیّة فی جو المجتمع وخاصّة فی أیّام شهر رمضان وأداء البرامج العبادیّة فی أیّامه ولیالیه وخاصّة فی لیالی القدر ومنع التجاهر بالإفطار فی الملأ العام وإغلاق المطاعم طیلة نهار شهر رمضان، فإنّه اهتم بنشر الثقافة الدینیّة فی فضاء السوق الإسلامی کما هو الحال فی مسجد الجمعة والجماعة وعلی أساس من قوله:

«فَاسْعَوْا إِلَی ذِکْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَیْعَ»

، فی المدارس والمساجد والأسواق.

إنّ المسجد والسوق الإسلامی فی الماضی کان یتضمنّ دائرة «الحسبة» من قِبل الحکومة، ویسمی المأمورون علی هذه المهمّة ب «المحتسب»، فهؤلاء وضمن إشرافهم علی عمل الکسبة والتجارة ومنع أی شکل من أشکال الظلم والإجحاف والإحتکار والغلاء، فإنّهم عند الأذان یقومون بمراقبة أهالی السوق ومؤاخذة کلّ شخص یشتغل بالکسب والمعاملة ولا یتوجّه لإقامة الصلاة(1).

وحالیاً یوجد مسجد فی کلّ قسم من السوق الإسلامی یتوجّه إلیه کلّ یوم الکسبة والتجّار لإقامة الصلاة والعمل بمقتضی قوله تعالی:

«رِجَالٌ لَّا تُلْهِیهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَیْعٌ عَنْ ذِکْرِ اللَّهِ»(2).

یقول الإمام الصادق علیه السلام فی تفسیر هذه الآیة:

«إنّهم قوم إذا حضرت الصلاة ترکوا التجارة وانطلقوا إلی الصلاة وهم أعظم أجراً ممّن لم یتجّر»(3).

والنتیجة أنّ مثل هذا السوق الذی یعیش فضاء التعالیم الإسلامیّة، یعمل علی تجسید قوانین الاقتصاد الإسلامی السلیم بشکل فعّال وتلقائی وبالتالی یعیش التجّار والکسبة روح التعاون والمعنویّة فی معاملاتهم بعیداً عن روح التکاثر والجمع الثروات، لأنّهم یعلمون أنّ هذه المعاملات تقوم علی أساس التقوی وأحکام الشرع، وأنّ عملهم فی السوق عبادة، وأنّ سوقهم کالمساجد، ومن هذه الجهة ورد فی الحدیث: «وکان (النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله) جالساً مع أصحابه ذات یوم فنظر إلی شاب ذی جلد وقوّة وقد بکر، فقالوا: ویح هذا لو کان شبابه وجلده فی سبیل اللَّه؟ فقال صلی الله علیه و آله:

«لا تقولوا هذا فإنّه إن کان یسعی علی نفسه لیکفها عن مسألة أو یغینها عن الناس فهو فی سبیل اللَّه»(4).

إرتباط السوق مع مسجد الجامع والجمعة و 22 مدرسة ومسجد:

فی مدینة اصفهان یقع مسجدین کبیرین للجمعة والجماعة علی جانبی السوق وتوجد فیها أکثر من 22 مدرسة دینیّة ومسجداً علی طول السوق ویوجد رواق کبیر یدعی «رواق نظام الملک» فی مدخل السوق (محل إقامة صلاة الجمعة) ممّا حوّل سوف إصفهان


1- انظر: معالم القربة فی أحکام الحسبة.
2- سورة النور، الآیة 37.
3- من لا یحضره الفقیه الصدوق، ج 3، ص 119، ح 3720.
4- المحجة البیضاء، الفیض الکاشانی، ج 3، ص 140.

ص: 482

إلی سوق إسلامی (1)، وتحققت بذلک وصیّة النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله: «سوق المسلمین کمجسدهم فمن سبق فی مکان فهو أحقّ به إلی اللیل»(2) والحقیقة أنّ الإنسان عندما یدخل مثل هذا السوق یشعر وکأنّه دخل المسحد.

بقول الفیلسوف روجه غارودی صاحب کتاب «مسجد، مرآة الإسلام»(3):

«المسجد یعنی المحلّ الذی یسجد فیه الإنسان للَّه، وکل مکان یمکنه أن یکون صالحاً للسجود، ومع ذلک، فالإسلام لیس دیناً فردیاً، والمسجد فی الإسلام رمز الامّة، وفی عصر عظمة الإسلام کان المسجد یتولّی جمیع شؤون الحیاة الاجتماعیة، فکانت العقود التجاربّة تعقد فی المسجد وتتخذ فیه القرارات ذات الطابع العام من قبل إمضاء معاهدات الصالح أو الذهاب إلی میادین القتال والجهاد، لأنّ الإسلام لا یعرف التمییز بین ا لمقدّس (ercas) وغیر المقدّس (enaforp)، (وفی الحقیقة فإنّ کلّ عمل نافع یعتبر مقدساً فی نظر الإسلام)، وتطبیق الشریعة یعنی أنّ الإنسان یقف 24 ساعة فی اللیل والنهار فی محضر اللَّه تعالی، وکلّ عمل یعمله تحت نظر اللَّه، ومن هذه الجهة فإنّ کلّ عمل له بعد قدسی (elarcas) وصلاة تواصل وصیرورة تسیغ علی اللحظات معنی، الصلاة تعمل علی فتح آفاق الباطن لیدرک الإنسان ذاته الحقیقیة وتسمح لی أنّ أفهم ما حولی وأدرک معنی جمیع أعمالی، ومع ذلک فالصلاة لا تنفصل عن سائر أعمالی.

إنّ انحطاط المسلمین فی هذا العصر یعود إلی أنّ الصلاة تعتبر شیئاً منفصلًا عن سائر الأعمال، وهذا التعبیر ناشی ء من الانحراف عن المفاهیم الأولیّة للإسلام بسبب رسوخ الفکر الثنوی الیونانی (مقدّس/ مدّنس)، وبذلک فقد المسجد دوره الأساسی فی الحیاة واقتصر علی البعد الروحانی فی الإنسان، والإسلام أبتعد عن البعد الاممی (eriatuanummoc) وتبدل إلی دین عبادة (citsilauriR)، فالصلاة فی هذه الصورة تمثّل عملًا عبادیاً لا أکثر (Rituel).

ولکن المسجد فی بدایة أمره کان یقع فی مرکز المدینة، بل یعد فی الواقع مرکز المدینة- ولکن هذا المرکز- حاله حال الروح والبدن، لم یکن فی مواجهة الأقسام الأخری»(4).

ویقول کریستین نفاح فی مقالته «المسجد مرکز النشاطات فی المجتمع الإسلامی» می نویسد:

إنّ المساجد بمثابة مرکز الإرتباطات للمؤسسات الاجتماعیّة کالمستشفیات والمصحات، والجامعات والمدارس وأمثال ذلک، أمّا استقرار هذه المساجد فی مرکز المدینة بحیث یحیط به من کلّ جهة السوق وأهل الحرف والمهن المتعددة، ممّا یشیر إلی


1- وأشار ابن عساکر أیضاً فی تاریخ دمشق( ج 2، ص 290) فی باب« ذکر معرفة مساجد البلد» إلی عشرات المساجد الموجودة فی أسواق دمشق.
2- الکافی، ج 5، ص 155، ح 1.
3- المسجد مرآة الإسلام(malsI'I ed rioriM ,eeuqsoM ).
4- المسجد فی مرآة الإسلام( مسجد آئینه اسلام)، نقلًا عن الاسبوعیة ژوز آفریک، ترجمة سعید شهرتاس، حدیث آخر فی دائرة الثقافة والأدب، ص 427، طهران، انتشارات کویر، الطبعة الاولی، 1377 ه ش.

ص: 483

ضرورة هذه المساجد ودورها العام فی تحقیق هذا الانسجام فی جمیع مفاصل الحیاة المجتمعیّة فی جمیع البلدان الإسلامیّة فی العالم»(1).

ولحسن الحظ فإنّ الخطابات القرآنیّة والتی تقرأ فی کلّ جمعة لیل نهار ترکت أثرها الکبیر فی التجّار والکسبة المسلمین بحیث إنّهم جعلوا من أسواقهم تجسیداً لهذه الخطابات الدینیّة، وعلی سبیل المثال إذا نظرنا إلی الأسواق الإسلامیّة فسوف نری:

إنّ السوق ینتهی فی الغالب إلی مسجد الجمعة مثل طهران، إصفهان وشیراز، أو المسجد الجامع مثل گوهرشاد فی مشهد حیث تشیر إلی البعد الاقتصادی والتجاری للمسلمین، یعنی أنّ الهدف من جعل النشاطات الاقتصادیّة فی المجتمع هی المحور والطریق للوصول إلی اللَّه وبلوغ الکمال الإنسانی والمعنوی.

کما ذکر المهندسون فی بناء المدن، أنّ السوق بمثابة العمود الفقری للإنسان وهذا هو التعبیر الذی ورد فی القرآن الکریم للمال:

«أمْوَالُکُمُ الَّتِی جَعَلَ اللَّهُ لَکُمْ قِیَاماً»(2)

ومسجد الجمعة أو الجامع بمنزلة رأس المدینة(3).

إنّ القبة والمآذن للمساجد تشبه الرجل العابد الذی یضع قلنسوة علی رأسه ویفتح یدیه للتسبیح والدعاء والعبادة إلی السماء، والسقف تحت القبة بمثابة السماء، والمصلون فی حال تسبیحهم یشارکون تسبیح الموجودات فی السموات والأرض:

«یُسَبِّحُ للَّهِ مَا فِی السَّماوَاتِ وَمَا فِی الْأَرْضِ الْمَلِکِ الْقُدُّوسِ الْعَزِیزِ الْحَکِیمِ»(4).

وعند إقامة صلاة الجمعة یندمج أهالی المدینة وکأنّهم یصلون من الکثرة إلی الوحدة ویشکلون إنساناً کبیراً یصلون صلاة الوحدة فیرکعون ویسجدون سویة ویسبحون اللَّه ویعبدونه.

إنّ مسجد الجمعة أو الجامع فی مدینة یتمّ تشییده فی مرکز المدینة أو فی بدایة السوق لکی یترک الناس والکسبة معاملتهم وتجارتهم عند الظهر من یوم الجمعة ویتوجّهون إلی صلاة الجمعة عند سماعهم لصوت المؤذن:

«إِذَا نُودِیَ لِلصَّلَاةِ مِنْ یَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَی ذِکْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَیْعَ»(5).

النتیجة أنّ هذا الفضاء الثقافی الإسلامی للسوق، دفع الزمخشری وصدرالمتألّهین فی تفسیریهما لسورة الجمعة إلی القول: «وکانت الطرقات فی أیّام السلف وقت السحر وبعد الفجر مغتصة بالمبکرین إلی الجمعة یمشون بالسرج»(6)، وبهذه النسبة کانت قلوب الناس والکسبة مفعمة بالصدق والصفاء المحبّة وثقة المتبادلة.


1- نداء یونسکو( پیام یونسکو)، شهر آذر 1369 ه ش، العدد 242، سنة 22، ص 35.
2- سورة النساء، الآیة 5.
3- الرؤیة الإسلامیّة وظاهرة الجغرافیة( بینش اسلامی و پدیده های جغرافیایی) بالفارسیّة، مشهد، بنیاد پژوهش های اسلامی، 1368، ص 108.
4- سورة الجمعة، الآیة 1.
5- سورة الجمعة، الآیة 9.
6- تفسیر الکشاف، طبعة دار الکتاب العربی بیروت، ج 4، ص 533؛ تفسیر القرآن الکریم، انتشارات بیدار، قم، الطبعة الثانیة 1366 ه ش، ص 229.

ص: 484

مسجد الجمعة، معبر السوق:

«لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُکَارَی حَتَّی تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُباً إِلَّا عَابِرِی سَبِیلٍ»(1).

وهذا یعنی أنّکم لا ینبغی أن تدخلوا المساجد وأنتم سکاری أو علی جنابة إلّافی حال مرورکم من باب وخروجکم من باب آخر.

وما تقدّم أعلاه یعتبر أحد التفاسیر للآیة الشریفة.

وکما ورد فی الآیة المذکورة آنفاً وانعکس فی الفقه الإسلامی فإنّ إرتباط السوق والمسجد فی البلدان الإسلامیّة إلی درجة من الشدّة والمکانة أنّ مسجد الجمعة کان یمثلّ معبراً عاماً لأهالی السوق، وذلک لغرض أن یعیش المسلمون وخاصّة الکسبة ذکر اللَّه والآخرة وعدم الغفلة عن اللَّه فی واقع الحیاة(2)، وعند مرورهم بالمسجد یتذکرون اللَّه تعالی ولا یتعلق قلبهم بشی ء من متاع الدنیا وأن یذکروا اللَّه عند معاملاتهم وتجارتهم، وعندما یحین وقت الصلاة یلتحقوا بصفوف المسلمین ویعملوا بقوله تعالی:

«وَارْکَعُوا مَعَ الرَّاکِعِینَ»(3)

، وفی سائر الموارد یذکرون اللَّه تعالی کما أمرهم فی سورة الجمعة لیکونوا من المفلحین:

«وَاذْکُرُوا اللَّهَ کَثِیراً لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ»(4).

ساعة المسجد الجامع تذکر بساعة یوم القیامة:

«إِنَّ السَّاعَةَ آتِیَةٌ أَکَادُ أُخْفِیهَا لِتُجْزَی کُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَی»(5).

توجد علی سطوح بعض المساجد الجامعة کجامع الإمام الخمینی قدس سره فی طهران ساعة کبیرة کتب علیها هذه الآیة:

«إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِیَةٌ»(6)

، أی «ساعة القیامة»، وهذا یشیر إلی دعوة الناس وأهل السوق إلی تذکر یوم القیامة عند دخولهم السوق من باب المسجد ومع رؤیتهم لهذه الآیة الشریفة وسماعهم صوت دقات الساعة یتذکرون ساعة یوم القیامة والحساب وممّا یقلل من علاقتهم وانشدادهم للمادیّات وتدعوهم لالتزام التقوی والورع فی مقابل حالات الکذب والغش والغلاء والإحتکار، وکأنّ ساعة المسجد الجامع تتزامن وتتناسق مع خاطب هذه الآیة الشریفة من سورة الجمعة المبارکة التی تقول:

«قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِی تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِیکُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَی عَالِمِ الْغَیْبِ وَالشَّهَادَةِ فَیُنَبِّئُکُمْ بِمَا کُنتُمْ تَعْمَلُونَ»(7).

إنّ اختیار اسم هذا الجهاز الذی یشیر إلی الوقت ب «ساعة» والتی وردت فی کلمات القرآن بمعنی یوم القیامة ویوم الحساب، یشیر إلی تأثیر الثقافة القرآنیّة


1- سورة النساء، الآیة 43.
2- انظر:« دراسة التاریخ الثقافی والفنی لمدینة اصفهان( بررسی تاریخچه فرهنگی- هنری شهر اصفهان» بالفارسیّة فی مجلة العمران والفن الإیرانی( معماری و هنر ایرانی) بالفارسیّة، العدد 2، شتاء 1366 ه ش، ص 14 وکتاب الرؤیة الإسلامیّة ومظاهر الجغرافیّة العامّة( بینش اسلامی و پدیده های عمومی جغرافیایی) بالفارسیّة، ص 108.
3- سورة البقرة، الآیة 43.
4- سورة الأنفال، الآیة 45.
5- سورة طه، الآیة 15.
6- سورة غافر، الآیة 59.
7- سورة الجمعة، الآیة 8.

ص: 485

فی جمیع أبعاد الحیاة للمسلمین.

وأحد معانی الساعة فی نظر أصحاب اللغة:

الساعة الوقت الذی تقوم فیه القیامة، والساعة اسم للوقت الذی یصعق فیه العباد، والوقت الذی یبعثون فیه وتقوم فیه القیامة، سمّیت ساعة لأنّها تفجأ الناس فی ساعة فیموت الخلق کلّهم عد الصیحة الاولی التی ذکر اللَّه عزّ وجلّ:

«إِنْ کَانَتْ إِلَّا صَیْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ»(1)»(2).

إرتباط السوق الإسلامی بالمدارس العلمیّة:

یجب أن تکون للنشطاء الاقتصادیین فی نظر الإسلام علاقة وثیقة بالأحکام الإلهیّة، فالإمام علی علیه السلام یخاطب التجّار والکسبة فی السوق ویقول:

«یا مَعشَر التُّجّار الفِقه ثمَّ المتجَر، الفقه ثمّ المتجَر، الفقه ثمّ المتجَر ...»(3).

وعلی أساس توصیات القرآن الکریم ورسول اللَّه صلی الله علیه و آله و أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی مجال تعلّم الأحکام والمسائل الدینیّة، فقد بنیت آلاف المدارس الدینیّة إلی جانب الأسواق الإسلامیّة لتعلیم القرآن والأحکام الإلهیّة وخاصّة أبواب المکاسب والمتاجر فی الفقه حیث أخذ الکسبة والتجّار یتعلمون أحکام الدین فی هذه المدارس.

وجوب تعلّم أحکام التجارة:

إنّ فقهاء الإسلام ومنذ البدایة ولحدّ الآن یؤکدون علی لزوم تعلّم أحکام المعاملات التجاریّة والبیع والشراء.

ونقرأ فی کتاب تحریر الوسیلة للإمام الخمینی قدس سره:

«یجب علی من یباشر التجارة وسائر أنواع التکسب تعلم أحکامها والمسائل المتعلقة بها لیعرف صحیحها عن فاسدها، ویسلم من الربا، والقدر اللازم أن یکون عالماً ولو عن تقلید بحکم التجارة والمعاملة التی یوقعها حین إیقاعها»(4).

وذکر بعض المفسّرین القدماء أمثال سعید بن جبیر و الحسن البصری والمکحول أنّ المراد من قوله:

«وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ»

فی الآیة الشریفة:

«فَإِذَا قُضِیَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِی الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ»(5)

، هو طلب العلم (6).

ولعله من هذه الجهة کان کتاب التجارة والمکاسب المحرمة فی الفقه الإسلامی والذی یدرّس فی الحوزات العلمیّة والمدارس الدینیّة وخاصّة المدارس الدینیّة فی السوق، شائعاً وأکثر تداولًا من سائر الأبواب والکتب الفقهیّة الأخری.

الأسواق مکان عرض المسائل الدینیّة:

منذ قدیم الأزمان کانت الأسواق وموقع التقاطع فی الطرق والمراکز العامّة، تعتبر محلّاً للتعلیم والتربیة


1- سورة یس، الآیة 29.
2- لسان العرب، مادة« سوع».
3- الکافی، ج 5، ص 150، ح 1؛ من لا یحضره الفقیه، ج 3، ص 194، ح 3731.
4- تحریر الوسیلة، ج 2، ص 10.
5- سورة الجمعة، الآیة 10.
6- تفسیر القرآن الکریم، صدرالمتألهین، ص 239.

ص: 486

کما کانت أسواق عکاظ، المجنّة، ذی المجاز والطائف والتی وردت فی کتب السیر والتاریخ والأدب بوصفها مراکز عرض روائع أشعار العرب، وفی العصر الأموی ورد ذکر مجالس مَرْبد وحلقاتها فی البصرة واستفادة أهالی البادیة منها ونقل أخبار وأحادیث القبائل والأنساب.

وفی العصر العباسی استمرت هذه الظاهرة وإزدادت قوّة فی الأسواق العلمیّة وکان الکثیر من روّاد اللغة والنحو کالأصمعی، وأبو عمر بن علاء، قُطْرب، الکسائی، خلیل، سیبویه وغیرهم یحضرون فی هذه المراکز العلمیّة لیسمعوا من أهالی البادیّة کلام العرب ویتطلعون علی وضع الأسواق العامّة ویحصلون علی معلوماتهم فی مجالات العلوم الأدبیّة، ومن هذه الجهة کانوا یدخلون فی مناظرات جمیلة جدّاً فی مقابل العلماء والناس العادیین (1).

وکان بعض العلماء وأهل الخبرة أیضاً یشترکون فی تلک المجالس التی کانت تعقد فی المسجد الجامع فی السوق کما ورد عن ابن بطوطة المؤرخ الإسلامی المعروف أنّه اشترک فی مجلس درس للحدیث فی مسجد الجمعة فی شیراز وقال إنّه حضر فی تلک الحلقة فی ذلک المسجد(2).

أمر القرآن بموعظة النشطاء الاقتصادیین:

«قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَیْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَیْرُ الرَّازِقِینَ»(3).

وقد ورد عن الإمام الباقر علیه السلام قال:

«کان أمیرالمؤمنین علیه السلام بالکوفة عندکم یغتدی کلّ یوم بکرة من القصر فیطوف فی أسواق الکوفة سوقاً سوقاً ومعه الدرّة علی عاتقه ... فیقف علی أهل کلّ سوق فینادی:

یا معشر التجّار اتّقوا اللَّه عزّ وجلّ، فإذا سمعوا صوته ألقوا ما بأیدیهم وارعوا إلیه بقلوبهم وسمعوا»(4).

وجاء فی بعض المصادر الحدیثیّة: إنّ الناس بعد أن ینهی الإمام کلامه قالوا (سمعنا وأطعنا یا أمیرالمؤمنین!)(5).

وجاء فی بعض المصادر الروائیّة الأخری أنّ شوق الکسبة والتجار لمواعظ أمیرالمؤمنین علیه السلام بلغ حدّاً أنّهم لا یملّون من تکرار مواعظه علیهم (6).

نماذج من تعلیمات الإمام علی علیه السلام للتجّار:

1. خطب الإمام علی علیه السلام للتجّار والکسبة

1. ... إعلموا أنّ أفحش الظلم، ظلم الحاکم للمحکوم، والقوی للضعیف، والمحتکر لعامّة الناس (7).

2.

«یا مَعشَرَ التُّجّار! أَلا إنّ التّجّار هُمُ الفجّار إلّا من اتّقی ربّه وصَدَق وبَرَّ ووَصَلَ وأدّی الأمانَةَ


1- الاعتصام الشاطبی، ج 1، ص 272، نقلًا عن الإسلام والتعلیم والتربیة( اسلام و تعلیم وتربیت) بالفارسیّة، الدکتور السید محمّد باقر الحجتی، ج 2، ص 40 و 41.
2- رحلة ابن بطوطة، ج 2، ص 83 و 110.
3- سورة الجمعة، الآیة 11.
4- الکافی، ج 5، ص 151، ح 3؛ من لا یحضره الفقیه، ج 3، ص 193، ح 3726.
5- انظر: بحار الأنوار، ج 41، ص 104 و 105، ح 5.
6- علی إمام المتقین، عبدالرحمن الشرقاوی، ج 2، ص 299.
7- المصدر السابق.

ص: 487

والتّاجِرُ الصّدوقُ مَعَ النَّبیّینَ والشُّهداء»(1).

2. تعلیم القرآن للتجّار والکسبة

ونقرأ فی حدیث آخر عن الإمام علی علیه السلام أنّه کان یسیر فی الأسواق أیام خلافته الظاهریة، فیرشد التائهین إلی الطریق ویساعد الضعفاء، وکان یمرّ علی الباعة والکسبة ویتلو الآیة الکریمة،

«تلک الدار الآخرة نجعلها للذین لا یریدون علوّاً فی الأرض ولا فساداً»(2).

ثمّ یضیف سلام اللَّه علیه:

«نزلت هذه الآیة فی أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من الناس»(3).

3. تعلیم فنون التجارة
اشارة

کان الإمام علی علیه السلام یقول فی السوق وفی المسجد وفی کلّ مکان یجتمع فیه الناس:

«العُلومُ أربَعَةُ: الفقهُ للْأدْیان، والطِّبُّ للَابدان، والنّحوُ لِلّسان، والنّجُومُ لمعرفَةِ الأزمان».

ثم یرغب التجّار لتعلیم الحساب ویمنع الأشخاص الذین لیس لدیهم خبرة بالتجارة من هذا العمل (4).

وقال علی علیه السلام سمعت رسول اللَّه صلی الله علیه و آله یقول:

«السّماح وجه الرِّباح»

قال علی علیه السلام ذلک لرجل یوصیه ومعه سلعة یبیعها(5).

النتیجة:

من الآثار والبرکات الکبیرة للإرتباط بین النشطاء الاقتصادیین وصلاة الجمعة، والمواعظ الیومیّة للنبی الأکرم علیه السلام و أمیر المؤمنین علی علیه السلام وسائر أولیاء الدین، هو أنّ المدارس الدینیّة والمساجد والمکتبات تأسست إلی جانب الأسواق الإسلامیّة والمراکز التجاریّة، والکثیر من هؤلاء الکسبة والتجار کانوا مظهر العلم والمعنویّة والأمانة والصدق والنظم والتقوی، وعندما کانوا یسافرون إلی البلدان الأخری فإنّهم یمثّلون بسلوکیاتهم الإسلامیّة أفضل مبلّغ دینی لنشر الإسلام، کما هو الحال فی بلدان کاندونسیا وبلدان شرق آسیا کمالیزیا، برونئی، اندونسیا، فیلیبین، جاکارتا، سوماترا، فیتنام، کامبوج، تایلند وسواحل أفریقا وکذلک بوسنی و هرزه گوین فی أوربا التی وقعت تحت تأثیر صدق وأمانة المسلمین وأخلاقهم الإسلامیّة فاعتنقوا الإسلام منذ ذلک الوقت (6)، وکان الناس یثقون دائماً بالأسواق الإسلامیّة وکان السوق لیس محلّ المعاملات التجاریّة، بل یعتبر


1- المصدر السابق.
2- سورة القصص، الآیة 83.
3- کنز العمال، ج 13، ص 180، ح 36538.
4- علی إمام المتقین، عبدالرحمن الشرقاوی، ج 12، ص 300.
5- من لا یحضره الفقیه، ج 3، ص 196، ح 3735. نقلت هذه الروایة عن الإمام الصادق علیه السلام وعن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله بهذه الصورة:« السماحة من الرّباح»( وسائل الشیعة، ج 12، ص 288، ح 4).
6- انظر: کتاب أطلس الادیان، سامی المفلوث، طبع العبیکان، 1428 ه، ص 466 و 467 وکتاب علّموا أولادکم محبّة آل بیت النّبی صلی الله علیه و آله، محمّد عبده البمانی، ص 36.

ص: 488

محل إکتساب العلم والمعرفة والثقافة أیضاً.

ونأمل أن تتجدد هذه السنّة الحسنة الیوم فی جمیع البلدان الإسلامیّة ویکون التجّار والکسبة کما فی الماضی مظهراً للعلم والأخلاق والأمانة والصدق فی المعاملة وبذلک یکونون مبلّغیین إسلامیین عملیاً وبهذه الطریقة ینفتح غیر المسلمین علی الإسلام ویعتنقوا هذا الدین الحنیف.

وبدیهی أننا لا نستطیع إحیاء الاقتصاد الإسلامی من خلال الثقافة المادیّة الغربیّة فقط، بل ینبغی نشر الاقتصاد الإسلامی بتلک الطریقة التی اتّخذها المسلمون الأوائل فی القرون الماضیة، لکی نحصل علی النتیجة المطلوبة.

وبعبارة أخری، لا یمکن تقبل الثقافة الأجنبیّة فی مجال الاقتصاد وفی ذات الوقت نتوقع تجسید البرامج الاقتصادیّة للإسلام، بل یجب أن نتحرک من أجل تأسیس ثقافة دینیّة مقبولة فی نظر الإسلام لیتقبل المجتمع الإسلامی بسهولة ملامح الاقتصاد الإسلامی، کما أنّ تجسید الأخلاق الإسلامیّة والسیاسیة والحکومة الإسلامیّة والاسرة وأمثال ذلک لا ینسجم أبداً مع قبول الثقافة الأجنبیّة المادیّة بل غیر ممکن.

***

المنابع والمصادر

1. القرآن الکریم.

2. نهج البلاغة (تحقیق الدکتور صبحی صالح).

3. الإسلام والتعلیم والتربیّة (اسلام و تعلیم و تربیت بالفارسیّة، الدکتور السیّد محمّدباقر الحجتی، مکتب نشر الثقافة الإسلامیّة، طهران، 1370 ه ش.

4. الاعتصام، أبواسحاق الشاطبی، تصحیح عبدالرزاق المهدی، بیروت، دار الکتاب العربی، 1417 ه ق.

5. بحار الأنوار، العلّامة محمّد باقر المجلسی، مؤسّسة الوفاء، بیروت، الطبعة الثانیة، 1403 ه ق.

6. دراسة التاریخ الثقافی- والفنی لمدینة الإصفهان فی مجلة المعماری والفن الإیرانی (بررسی تاریخچه فرهنگی- هنری شهر اصفهان در مجله معماری و هنر ایرانی) بالفارسیّة، العدد 2، الشتاء 1366 ه ش.

7. الرؤیة الإسلامیّة ومظاهر الجغرافیّة (بینش اسلامی وپدیده های جغرافیایی) بالفارسیّة، الدکتور عباس السعیدی الرضوانی، مشهد، بنیاد پژوهش های اسلامی، 1368 ه ش.

8. رسالة یونسکو (پیام یونسکو) بالفارسیّة، العدد 242، السنة الثانیة والعشروین.

9. تاریخ دمشق، ابن عساکر، دار الفکر للطباعة والنشر، بیروت، 1415 ه ق.

10. تحریرالوسیله، الإمام الخمینی قدس سره، مطبعة الآداب، النجف الأشرف، 1390 ه ق.

11. تفسیر القرآن الکریم، صدرالمتألهین الشیرازی، انتشارات بیدار، قم، الطبعة الثانیة، 1366 ه ش.

12. تفسیرالکشاف، جاراللَّه محمود الزمخشری، دار

ص: 489

الکتاب العربی، بیروت، 1407 ه ق.

13. رحلة ابن بطوطة، محمّد بن عبداللَّه، ترجمة محمّد علی موحّد، نشر آگاه، طهران، 1376 ه ش.

14. علی إمام المتقین، عبدالرحمن الشرقاوی، مکتبة غرب، القاهرة، 1985 م.

15. الکافی، أبو جعفر محمّد بن یعقوب الکلینی، دار صعب- دار التعارف، بیروت، الطبعة الرابعة، 1401 ه ق.

16. کنز العمال، المتقی الهندی، دار الرسالة، بیروت، 1405 ه ق.

17. لسان العرب، ابن منظور الأفریقی، دار صادر، بیروت، الطبعة الاولی، 1997 م.

18. معالم القربة فی أحکام الحسبة، ابن الاخوة القرشی، تصحیح روبن لیوی، مطبعة دارالفنون، 1937 م.

19. من لا یحضره الفقیه، الشیخ الصدوق، انتشارات جماعة المدرسین، قم، 1413 ه ق.

20. وسائل الشیعة، الشیخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملی، دار احیاء التراث العربی، بیروت، الطبعة الرابعة، 1391 ه ق ..

12. Garaudy, Roger: Mosque'e miroir deI'Islam./ The Mosque, mirror of Islam/( 3 language book in arabic language )Edition Jaguar, 5891, in 4 t, 953 p.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.